سُنّة الاختلاف بين نقمة التعصب ونعمة التسامح
أضف تعليق12:16 ص
الدكتور جيلالي بوبكر


من حكم الله وسننه الماضية في خلقه حكمة التواصل بين أجزاء الكون الفسيح، بين الله ومخلوقاته وبين المخلوقات بعضها مع بعض، وسنّة التواصل في حياة الإنسان لها ما يميزها عما هي عليه في بقية الكائنات، فهي عند الإنسان واعية وذات مسعى حركي اجتهادي دءوب، ليست حركة أعجمية رتيبة، بل هي عملية في قمّة الوعي الإنساني، تجمع بين النظر والعمل وفق إستراتيجية تربط الهدف بأصوله وبالمناهج والوسائل المؤدية إليه، وتجمع بين أبعاد الإنسان في الزمان، فتحفظ الماضي في الحاضر وتخترق المستقبل، وفي هذا تكمن قوّة هذه الحركة باعتبارها خاصية إنسانية أسست لسلطة الإنسان في الوجود، وسمحت له بتحريك دواليب التاريخ وببناء الحضارة وبتحقيق التوازن والتعايش في وفاق وسلام، وهي شروط لا تستقيم الحياة إلا بها.




وإذا كان التواصل الإنساني المفعم بالوفاق والوئام والتفاهم حكمة إلهية كونية منتهاها التعايش في سلام، فإنّ الأمر لا يكون دوما كذلك، لأنّ الصراع بين التواصل والفرقة وبين السلام والحرب وبين التفاهم والاختلاف هو الآخر ماض فيما خلق الله وأبدع وصوّر، والسرّ في الصراع هو قدرة التواصل الإنساني باعتباره حركة جمعت بين الفطرة والاجتهاد والكسب في التغلب على أسباب ومظاهر الفرقة والحرب والتعصب والاختلاف المؤدية إلى العنف، والظفر بحياة يملؤها التعايش في تماسك وتفاهم وسلام.


ومما خصّ به الله مخلوقاته الاختلاف، فعلى الرغم من التشابه بين أفراد النوع الواحد وبين سائر الأنواع في الكون، فإنّ التباين قد يقلّ أو يكثر، يزيد أو ينقص بين جميع الموجودات، وبين أفراد النوع البشري في اللّون واللّسان والحجم والفكر والاجتماع وسائر الأحوال. قال تعالى:"ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين". هود22. وقال تعالى:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم".هود118.


فالتواصل والاختلاف والصراع وغيرها من السنن الكونية لم تقم صدفة أو عبثا أبدا بل لغائية أرادها الله، ولحكمة يعلمها، وبالناس رأفة ورحمة، أمام الكثرة والوحدة، وفي اتجاه الثبات والتغير والتراكمية اجتهادا في النظر والعمل، فكان الاختلاف في المنظور والمقول والمعمول وفي كل ما يتصل بالإنسان وبحياته عامة، اختلاف في الأفكار والتصورات، وفي الأذواق والميول والرغبات، وفي سائر الأحاسيس والمشاعر، وفي الاتجاهات الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسة والفلسفية وغيرها، الاختلاف في حياة الإنسان ارتبط كما لاحظنا من قبل بالتواصل وبقيم إنسانية واجتماعية أخرى لا تستقيم الحياة الاجتماعية إلاّ بها، أبرزها الحوار والتماسك والتفاهم والسلام والتعايش وغيرها في مقابل التشتت والتعصب الإقصائي المتبادل والعنف والاقتتال والتناحر، ويسجل القرآن الكريم و كل من التاريخ والواقع صور الحالتين المرتبطتين بالاختلاف معا، ما ارتبط بالاختلاف صوب الحوار والتسامح والسلام والإبداع والحضارة، وما اتصل به نحو التطرف والإقصاء والعنف والسقوط في الهاوية.


أخطر ما في الإنسان توجّها في الفكر والسلوك والحياة عامة ويرتبط بالاختلاف ويقف في وجه التفاهم ويمنع الحوار والتسامح والتعايش التعصب على المستويين المعرفي والسوسيولوجي، حيث يتجه العقل إلى المطلق أو التابو الفكري والديني والاجتماعي وغيره، ونحو إقصاء الآخر ورفض فطرة التباين وسنّة التغيير والنقد، وتعطيل الحركة الاجتهادية التي وجد العقل لأجلها، والسقوط في الدوجما والانغلاقية، وحالة التعصب هذه تنبعث في الإنسان وعيا وكثيرا ما يدفع بها اللاوعي الذي يكشف عن عجز الإنسان الكامل عن التغلب على التابو فتسيطر القوى الدوغماتية الدفينة واللاّمعقولة في اللاّوعي الإنساني، وينتقل التعصب عبر مستويات تختلف في الدرجة والخطورة، فمن الاضطلاع بالمطلق فكرا وتاريخا واجتماعا والانغلاق على ذلك، يشتد عند معارضته ويتصلب فيصير استعبادا مفضيا إلى الدفاع باستعمال كل ما هو متاح مع شرعنة العنف وإقصاء الآخر وتصفية كل ما ينتج عنه فكريا ودينيا واجتماعيا.


تزداد درجة الولاء الإنساني للتابو مهما كان نوعه وتزداد معها المواقف تصلبا وتحجرا كلما اشتدت المعارضة وتلقّى التابو النقد وكثُر خصومه في الطبيعة من فطرة وعقل ووحي وغيرها، ويتحول التعصب إلى العنف في أشكال شتى ويأخذ طريقه علنا وخفية تحطيما للآخر لا لشيء سوى فرض الأحادية وإلغاء التعددية التي من صميم الفطرة ومن الروح الكونية، من دون اعتبار منهج منطق العقل الراشد وقوانينه وأحكام الفطرة في حياة الإنسان، وهي أحكام مؤيدة كلها لضرورة العيش المشترك في وفاق ووئام في جميع مستويات الحياة، على أساس أن مخالفة الفطرة في أي صعيد ليس من وجوه الحق، وثبت ذلك بالقصص القرآني خاصة في جانب العقيدة وفي صلة الإنسان بالسماء، وتأكد في التاريخ، فمحاكمة التعصب لثورة الحق هي التي خلّدت نكبة سقراط للأجيال تتدارسها وتستلهم منها العبر وأعدمته ليكون شهيد التعصب وشاهدا عليه، والتعصب هو الذي صنع أتون حرب دامت أكثر من أربعين سنة بين قبيلتين عربيتين في العصر الجاهلي هما عبس وذبيان، وحروب كثيرة شهدتها الإنسانية على مرّ التاريخ ومازالت تشهدها في الحاضر، والعصبية الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية هي وراء أباحة الوقوف إلى جانب الباطل والظلم ونصرة الاستبداد في وجه العدل والحق واحترام الآخر، فما ما كان من وراء ذلك سوى التشدد في المواقف والفرقة والشقاق بين الأفراد والجماعات، كل حزب بما ليدهم راضون بل متعصبون، لا مكان للفطرة السليمة، للحوار والتسامح والتعاون والأمن والسلام والتعايش، بل للعنف والحرب التي تأكل الأخضر واليابس، وتنتهي بإخفاق الإنسان تماما وخيبة أمله كليا في تحقيق القوامة وأداء الرسالة وتجسيد الخلافة التي لولاها ما عرف نور الحياة.


إنّ روح التعصب في كل الحالات روح سلبية خالية من الإيجابية التي هي من صميم الروح العلمية ومن أسسها فطرية تطور الحياة الإنسانة ببذل الوسع، ونسبية الفكر والمعرفة لدى الإنسان في مقابل رفض الطبيعة والفطرة للفراغ والسكون وتأييد حركة العقل الواعي والوجدان السليم بعيدا عن كل ما من شأنه يزرع بذور العصبية، وهي دوغماتية شرسة لا يهمّها سوى تقديس التابو والاضطلاع بأدوار سلبية غاية في الخطورة على الإنسان وعلى العالم الذي يعيش فيه، أبرز هذه الأدوار تعطيل الفطرة الإلهية والسنن الكونية التي تجعل من الاختلاف ضرورة وحتمية لا تقوم ولا تستقيم الحياة إلا بها، الاختلاف بين الموجودات وفي الأفكار والاتجاهات وغيرها، التنوع يضفي على الحياة زينة ورونقا يكسر النمطية والأحادية التي تتجه إليها العصبية، وتُحطم على صخرة التعصب كل قوى العقل وتُعطل ملكاته في التفكير والإبداع وجوهر ذلك فطرة التغيير، التغيير الثقافي والتنوع الفكري والتحول الاجتماعي والحراك التاريخي والبناء الحضاري والاجتهاد والإبداع في كل ذلك، كل هذا عرفته الإنسانية عبر تاريخها الطويل ومازال قائما لم يكن بالدوغماتية بل باعتبار الاختلاف مصدرا للتوجيه على سبيل الاجتهاد والحوار والتسامح لا سبيل الاستبداد وقمع الآخر وممارسة العنف المشحون بالتعسف والكراهية.


وفي جو العنف والعنف المضاد تتسع أفاق الأحقاد والضغائن وتختفي مظاهر النظام والتواد والتراحم والتعاون وفي ذلك خروج عن الفطرة السليمة التي ارتضاها الله لخلقه، خروج يحيل بيئة الإنسان إلى تجمع حيواني متوحش شرس القوي فيه يأكل الضعيف، وأبرز مظاهر هذا الجو الحرب بمختلف صورها، حتى أنّ الدول المعاصرة جميعا لم يعد يهمها بالدرجة الأولى سوى أمنها القومي، وكل دولة تجدها خرجت من الحرب ضعيفة منهكة أو في حالة حرب أهلية أو خارجية تنخر كيانها أو تجدها تستعد للدخول في الحرب بالحرص على التسلّح والاستقواء العسكري على حساب حاجات ومطالب شعبها الأساسية، وهو الأمر ذاته مع الطوائف المختلفة التي تتغذى على العصبيات القبلية والعشائرية والعرقية والدينية والمذهبية وغيرها.


وبفعل التعصب اتجه العالم المعاصر بعد توقف الحرب الباردة نحو القطبية الأحادية والتمركز لصالح جهة بعينها، على الرغم من النجاح الذي حققه الإنسان في مجال العلم والتقنية أي تفسير الكون وتسخيره لخدمة مصالح الإنسان، مازالت المركزية والأحادية تفرض النمطية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بقوّة الحديد والنار مع تجاهل ظاهرة التعدد والتنوع في الأفكار والأديان والثقافات وغيرها، وأنّ هذا التنوع والاختلاف طبيعي لا تستوي الحياة إلا به، والإخلال به نتائجه عكسية، فنقمة التعصب ورم غاية في الخبث ينخر جسم المجتمع البشري ويفكك روابطه مهما بلغت من القوّة والمتانة بعد تحطيم دور العقل في الوعي والترشيد وإماتة كل أمل في التسامح قبل ميلاده
إنّ اجتهاد الإنسان في الحياة من دون توقف وتعصب هو صمام أمان التغيير الإيجابي بعيدا عن السلبية والموت، وهو شرط البناء التاريخي والتطور الاجتماعي والأساس الذي يقوم عليه هذا التطور وهذا البناء هو فعل التغيير وحركة التحوّل التي تجري في النفس الإنسانية أولا. يقول تعالى في سنّة التغيير: "لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". الرعد:11. والتاريخ إنتاج الإرادة الإنسانية والوجود الإنساني تعكسه حياة متغيرة بصورة دائمة، والحياة نضال مستمر، وحركة التاريخ لا تتوقف دأبا على التحول وحفظا لذلك وتسجيلا له، وهي حركة لا تتوقف عند نهاية العالم بل تستمر وتتواصل إلى ما بعد نهاية العالم، وقدرة الإنسان على التغيير تعني القيام بالبناء الأول تغيير الأنا ثم البناء الثاني تغيير العالم والربط بين الاثنين، ولا ينبغي الفصل بينهما لأنّ في ذلك منع للحركة التاريخية والاجتماعية والحضارية.


فالصلاحية التاريخية والحضارية كما تدل عليها أحكام الفطرة في العقل والوحي وبالمسار الحركي الاجتهادي في مستوى الذات الإنسانية وكل ما يخص هذا المستوى ومستوى الوجود الخارجي تختل عند الركون إلى التعصب بسائر درجاته وأنماطه ومجالاته، وتفسد عند سيطرة أحد الطابوهات بمختلف أشكالها وهو الأمر الذي يُفسد على التاريخ مساره المستقيم في عمارة الأرض وتدوين العمران البشري ضمانا للاقتداء والتأسي والاعتبار وعلى الحضارة تكوينها المبدع الرائع وعلى الوجود تحرّكه الإيجابي وعلى الأنا ما وجد ويسعى لأجله، ويصوّر لنا القرآن الكريم هذه الوضعية في الآية الكريمة:"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولىّ سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد". البقرة:204-205. إنّ الإنسان الذي يقوم على تغيير الذات والوجود بمقتضى السنن المقررة في العقل والوحي وعلى تحريك التاريخ وفق هذه السنن وعلى بناء الحضارة بعدما يضمن لنفسه تحقيق التكامل بين عناصر وجوده بروح التواصل والحوار والتسامح وبعيدا عن للاستسلام لمنطق العصبية والعنف وتجاهل الآخر هو خليفة الله في الأرض.
إنّ المتأمل في الصورة النقيضة للتعصب وما يحدثه وللدغماتية وما تنتجه وللجمود وما يفرزه من مظاهر سلبية شتى تشمل حياة الإنسان ككل والطبيعة وجميع مظاهر الكون، هي صورة التواصل من غير صراع سلبي، وصورة التعايش من غير اختلال في العلاقات ومن دون انتهاك للفطرة، وصورة التماسك والترابط والوحدة والتكتل من غير شقاق وفرقة، وصورة الاختلاف والائتلاف من غير رغبة في إتلاف الغير أو الانتقام منه، وصورة الحوار بين الأنا وذاته وبين الأنا وأنا الآخر وبين الأنا وسائر الموجودات في الكون الفسيح من دون سقوط في الأحادية والتشدد والإقصائية والعنف والعدوان وسائر مظاهر العصبية السلبية، وصورة السلام التي تلف جميع صور الحياة والطبيعة والكون ككل، فتخترق إرادة الإنسان المألوف في النظر والعمل لتقفز عليه وصولا إلى الإبداع شرط الحضارة والرقي والازدهار، الإبداع الذي ينتجه الاختلاف في الفكر والنظر وسائر الأعمال ثراء وغنى على خطى التواصل والتلاقح والتكامل، لا على دعم التباين لذاته المفضي إلى السكون والجمود التخلف.


لقد ثبت للإنسان عقلا وتاريخا ووحيا وواقعا معيشيا أنّ أيّة حركة في الوجود الفردي أو الاجتماعي أو في الكون عامة تصدر عن الإنسان تضاد الفطرة وتسير في التيار المعاكس للتاريخ في إيجابيته لا تجلب سوى الهلاك، فتحويل سنّة الاختلاف عن مسارها الطبيعي الذي وجدت به ولأجله دوما أبدا وهو الاجتهاد وبذل الوسع بدون توقف في إطار التنوع والثراء ابتغاء التغيير والتطور والازدهار والحضارة للجميع إلى طريق لا يعرف سوى الأنانية ورفض الغير وركوب موجة الاستبداد والتوجّه صوب العنف الفتّاك بكل أمل في النجاة من جحيم الفتنة وهي أشدّ من القتل، هذا التحوّل البشري السلبي المفسد لسنّة الاختلاف والخالي من كل ما ترضاه النفوس والعقول السليمة، منتهاه بالضرورة ولا محالة فساد الحياة ككل وعجز الإنسان عن القيام بعمارة الأرض والخلافة عليها، وهو لا يعرف الحياة الدنيا إلا مرة واحدة، فيتخلّف عن أداء الرسالة المنوطة بوجوده وكما أرادها له ربه الذي خلقه وكلّفه ويحاسبه، إما فوز ورضوان وإما غضب وخسران.قال تعالى: "وأنّ ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى". النجم: 40، 39. وقال تعالى:"إنّ الأبرار لفي نعيم وإنّ الفجّار لفي جحيم". الانفطار:13،14.
يمكن التأكيد على أنّ سبيل صرف سنّة الاختلاف عن نقمة التعصب وما ينجر عنها من مهالك وتوجيهها بالحوار في سياق التواصل الإيجابي والتعايش في سلام هو التسامح بمعناه الواسع. فالتسامح عدل ورفق ورحمة ورأفة وعفو ومغفرة وحلم وكرم وغيره من الله سبحانه وتعالى نحو عباده، يقبل توبة المذنب ويعفو عن المجرم ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه وينصف المظلوم ويدعو إلى الصلح والصفح والألفة، وإلى كل ما يدفع البغضاء ويجلب المودّة والخير للناس جميعا، ويحث على الجماعة ترسيخا للغيرية في النفوس ودرءا للأنانية والفردية الضيقة ولكل مظاهر العصبية، وهو غني عن العالمين.


التسامح من صميم الذات الإلهية تحملها أغلب صفات الله وتحتويها أسماؤه حتى الأسماء والصفات التي اقترنت بالقهر إحقاقا للحق والعدل والإنصاف، وتتجلى بقوّة في الإبداع والنظام والجمال في الكون، على الرغم من الاختلاف بين أجزاء الكون وموجوداته ليس فيه اختلال وتفاوت أو فساد، ويقوم الصراع في الكون على التوازن لا على الحرب ومنطق الإفناء، والتوازن من روح التسامح الذي هو من روح العدل الإلهي، وتكوين الخلق وبنيته وحراكه لم يكن ذلك كله على نحو الصدفة والعبث، بل يجري وفق نظام محكم مطرد لا يتخلف ولا يتبدل نحو حكمة ارتضاها الله له، والنظام والحكمة والجمال في الكون من العدل الإلهي، عدل شمل الحياة ووسع كل شيء فيها وزيّنه بالتسامح صبغة الله في الكون والإنسان.


إذا كان التسامح فطرة في الكون الفسيح فهو في عالم الإنسان مستمد من التسامح الرباني، تضمّن معانيه الوحي الإلهي ونشر قيّمه سائر الأنبياء والمرسلين، كما دعا إليه العقل السويّ وتمثّله الوجدان الطيّب والذوق السليم واتجهت إليه الروح المطمئنة التواقة دوما إلى الأفضل والأكمل، فالتسامح روحاني يستمد روحانيته من الخير الأعلى المطلق الذي لا ينضب بنضوب حياة الإنسان، لكنه يبعث الأمل الدائم في النفوس للاجتهاد في طلب التسامح وتمثله إيمانا وفكرا ووجدانا وعملا في الحياة الفردية والاجتماعية، وتقديمه على كل أسباب ومظاهر اللاتسامح من بغض وكره وعنف واستبداد وانتقام وعصبية قاتلة، ولمّا كانت روح الإنسان الخيّرة في أصلها وبفطرتها السليمة قد أولت العناية الكاملة للعفو والصفح والرفق والصلح على الانتقام والغلظة والفظاظة والشدّة في القول والعمل والمعاملة، ونموذج قمّة التسامح مع الاختلاف النموذج المحمدي في شخص النبي عليه الصلاة والسلام وفي نبوته قبل البعثة وبعدها، فأخلاقه صلّى الله عليه وسلم في معاشرته الناس من أصحابه وغيرهم من أخلاق ربه، إذ ينعته ربه بعظمة الأخلاق وطيب ولين المعاملة ولو كان ذا فظاظة وغلظة ما بقي معه أحد.


لم يتحول اختلاف الناس في حياتهم الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية وغيرها واختلافهم في الألسن والأجناس والألوان وتباينهم في التاريخ والجغرافيا إلى مصدر للشحناء والبغضاء والتعصب والعنف بل إلى منبع للتسامح والعيش المشترك في وفاق وسلام، وإلى مصدر للاجتهاد وإعمال العقل وللثراء الفكري والعلمي وللتنوع الثقافي والإبداع الحضاري في سياق التعاون والتكامل، واستطاع الإنسان أن يسمو على أنانيته وعلى كل مظاهر الروح الانتقامية، ويعيش التسامح في أبعد صوره ومعانيه من خلال مشاهد إنسانية كثيرة رواها القصص القرآني ودوّنها التاريخ وعرفها واقعنا المعاش على مستوى الأفراد والجماعات، فنموذج دولة النبوة المحمدية كفيل بإبراز دور التسامح في سياق الاختلاف، اختلاف عميق ومتعدد عرف انصهارا كاملا في الجسم الإسلامي وروحه، انصهار أنتج الوحدة من الكثرة، والإبداع والتغيير والتجديد من الجمود والثبات والتقليد، وروح التسامح من العصبية والنعرة القبلية، والنظام والعدل من الظلم والاستبداد والفوضى، وأنشأ الحضارة والمدنية والتقدم والازدهار من البداوة والتوحش والانحطاط، وبفعل التسامح أنسن الإنسان وجوده ككل.


يمكن القول بأنّ التعصب في سياق الاختلاف ضعف أمام قوّة الحجة وعجز عن استيعاب الثراء في النظر والعمل وسلب لحق الغير في التواجد والعطاء وانتهاك حرمة خلق السامح وتعطيل للاجتهاد والحركة نحو التعايش والحضارة وإبطال لصبغة الله. أما التسامح فقوّته وعظمته من قوّة وعظمة الله تعالى. يزداد به المرء قوّة وتمكينا في الأرض، قوّة الفرد بسماحته وعطائه واقتصاده وسبقه إلى الخير، وقوّة المجتمع بنظامه وازدهاره لما ينطوي عليه أفراده من تسامح وسماحة. 06 رمضان 1432 /06 أوت 2011م.