في مفهوم الحضارة
السبت 15 نوفمبر / تشرين الثاني 2014 - 17:18
د. جيلالي بوبكر
استاذ جامعي / الجزائر
- الحضارة في اللّغة الفرنسية Civilisation.
- الحضارة في اللّغة الإنجليزية Civilization.
الحضارة في اللّغة العربية تعني الإقامة في الحضر، بخلاف البداوة التي تعني الإقامة في البوادي.
قال القطامي: "ومن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا".
ومع أن استعمال هذا اللفظ قديم، فإن أول من أطلقه على معنى قريب من معناه هو "عبد الرحمن ابن خلدون"، فميّز بين العمران البدوي والعمران الحضري، وجعل أجيال البدو والحضر طبيعية في الوجود، فالبداوة أصل الحضارة، والبدو أقدم من الحضر،لأنهم يقتصرون على ممارسة الزراعة والقيام على تربية الحيوان لتحصيل ما هو ضروري لمعاشهم، أما الحضر فإن اشتغالهم بالصناعة والتجارة جعل مكسبهم أكثر من مكسب أهل البدو وأحوالهم في المعاش زائدة على الضروري منه، وإذا كانت البداوة أصل الحضارة وسابقة عليها، فإنّ الحضارة غاية البداوة ونهاية العمران.
للحضارة عند المحدثين معنيان، أحدهما موضوعي مشخّص والآخر ذاتي مجرد، أما المعنى الموضوعي فهو إطلاق لفظ الحضارة على جملة من مظاهر التقدم الأدبي والفني والعلمي والتقني التي تنتقل من جيل إلى في مجتمع واحد أو عدة مجتمعات متماثلة، فتقول الحضارة الهندية، والحضارة العربية، والحضارة الأوروبية، وهي بهذا المدلول متفاوتة فيما بينها، ولكل حضارة نطاقها وطبقاتها ولغاتها.
فنطاق الحضارة هو حدودها الجغرافية، وطبقاتها هي آثارها المتراكمة بعضها فوق بعض في مجتمع واحد أو عدة مجتمعات، ولغاتها هي الأداة الصالحة للتعبير عن الأفكار السياسية والاقتصادية والتاريخية والعلمية والفلسفية.
أما الحضارة بالمعنى الذاتي المجرد فتطلق على مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني المقابلة لمرحلة التوحش والهمجية، أو تطلق على الصورة الغائية التي تستند إليها في الحكم على صفات كل فرد أو جماعة، فإذا كان الفرد متصفا بالخلال الحميدة المطابقة لتلك الصورة الغائية قلنا أنه متحضر، وكذلك الجماعات فإن تحضرها متفاوت بحسب قربها من هذه الصورة الغائية أو بعدها عنها، ومع أن الصورة الغائية للحضارات مختلفة باختلاف الزمان والمكان، فإن اختلافها لا يمنع اشتراكها في عناصر واحدة.
تتشكل العناصر المشتركة بين الحضارات في عصرنا من التقدم العلمي والتقني، وانتشار أسباب الرفاهة المادية وعقلانية التنظيم الاجتماعي، والميل إلى القيّم الروحية والفضائل الأخلاقية، فالكلام عن الحضارة بهذا المعنى لا يخلوا من التقدير والتقويم من خلال رد الحضارة إلى القيّم العليا المتصورة في الأذهان، ويدل هذا المثل على اتجاهها إلى الاشتراك في عناصر مشابهة لسرعة انتقال الأفكار من إقليم حضاري إلى آخر. >&éééé"""""""""""'''(((((((((((((((((-------èè___çààà))=والحضارة بمعنى آخر مرادفة للثقافة لكن اللفظيين لا يدلان على مدلول واحد لدى العلماء ،فبعضهم يطلق لفظ ثقافة على الحضارة بمعنى آخر مرادفة للثقافة لكن اللّفظين لا يدلان على مدلول واحد لدى العلماء، فبعضهم يطلق لفظ ثقافة على تنمية العقل والفكر والذوق، والبعض الآخر يطلقه على نتيجة هذه التنمية، أي على مجموع عناصر الحياة ومظاهرها وأشكالها في مجتمع من المجتمعات .
كذلك يطلق لفظ الحضارة على اكتساب الخلال الحميدة، وقد يطلق اللفظ على نتيجة هذا الاكتساب أي على حالة من التقدم والازدهار في حياة المجتمع بكاملها، وإذا كنا نجد من يطلق لفظ الحضارة على بعض المظاهر المادية، ولفظ الثقافة على المظاهر العقلية والأدبية فإن البعض يرى عكس ذلك.
يدل لفظ الثقافة لدى الأنثروبولوجيين"علماء الثقافة والإنسان" على مظاهر الحياة في كل مجتمع متخلفا كان أو متقدما،على حين أن لفظ الحضارة عندهم يدل على الحياة في المجتمعات المتقدمة وحدها .
لتحديد معنى كل من الثقافة والحضارة، إطلاق كلمة الثقافة على مظاهر التقدم الفكري وهي ذات طابع فردي، وإطلاق لفظ الحضارة على مظاهر التقدم الفكري والمادي معا، وهي ذات طابع اجتماعي.
بعد ما تعرّضنا لمعاني الحضارة كما هي في القواميس اللّغوية والفكرية نتعرض لمعناها في فكر "مالك بن نبي"، هذا الفكر الذي تجلّى في كتابات وبحوث جاءت كلها في إطار سلسلة فكرية وثقافية عنوانها: مشكلات الحضارة، الأمر الذي يدل على الحيز الكبير الذي تشغله الحضارة كموضوع بحث ودراسة لدى المفكر وفي حياته الفكرية، إذ تمكن من تحليل الموضوع بكثير من العناية والدقة والعمق والاجتهاد إلى درجة الإبداع والتجديد فوضع نظرية في الحضارة هذا ما نقف عليه فيما بعد.
لقد ربط "مالك بن نبي" الحضارة بالإنسان عامة كفرد ومجتمع معا، الإنسان الذاتي النفسي والإنسان الموضوعي الاجتماعي وربطها بالعلاقات بين الاثنين في إطار تاريخي يراعي معطيات الماضي وتفاصيل الحاضر وأبعاد المستقبل، هذا ما نجده في معظم كتاباته وكتبه ومحاضراته مثل كتاب "شروط النهضة"، وكتاب "مشكلة الثقافة" وكتاب "بين الرشاد والتيه" وكتاب "وجهة العالم الإسلامي" وغيره.
لا يهمنا معنى الحضارة اللّغوي أو معناها عند الفلاسفة والأنثروبولوجيين، والذي تميّز بالتعدد والاختلاف، بل يهمنا معناها عند "مالك بن نبي" في إطار فكره الذي تميّز بطابعه العلمي وبأسلوبه في التحليل الذي تميّز بالدقة العلمية والصرامة المنطقية، وهذا ما نكتشفه من خلال عرض معنى الحضارة في هذا المطلب، ومعنى الثقافة في صلتها بالحضارة كما نرى في مطلب آخر.
في علم الإنسان "الأنثروبولوجيا" تمثل "الحضارة كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية". ففي أي مجتمع من المجتمعات نامي أو متخلف، يوجد نوع من الحضارة وهو تصور يعتبره "مالك بن نبي" عاما ولا يهمه في فكره وفلسفته لأنه المعنى الذي يريده هو المرتبط بشعوب غارقة في مصاعب التخلف والضعف، إذ يستوي التحضر مع التخلف في البلاد المستعمرة والقابلة للاستعمار حسب المعنى الأنثروبولوجي للحضارة.
ينبغي بناء معنى الحضارة بوجود عالم كادح يعاني التخلف والقابلية للاستعمار وعالم متقدم محتل، وبالتركيز على مصطلح التخلف ومصطلح النمو، فالتخلف يعني الانحطاط والتدهور في ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الفكرية، أما النمو فيمثل التقدم والازدهار في جميع جوانب الحيات فكريا وعلميا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
ففي هذه النظرية يحدد مفهوم الحضارة خاصة "بالنسبة إلى النمو الذي يشمل داخل إطراده جميع هذه الوقائع، والذي أصبحنا اليوم نحدد عن طريق المقابلة معه مجموع المشاكل التي نشير إليها بكلمة التخلف".
فالحضارة تبعا لظروف العالم المتخلف وسمات العالم المتقدم هي الأداة التي تعطي للمجتمع النّامي المالك لقدرات اقتصادية "إرادة استخدام هذه القدرة في حل المشاكل وخاصة المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلف كما أن الحضارة هي التي تشكل هذه القدرة وهذه الإرادة اللتين لا تقبلان الانفصال عن وظيفة المجتمع النّامي".
فالحضارة هي شرط إيجاد الإرادة والقدرة على تجاوز التخلف، "فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذلك من أطوار نموه".
إنّ الحضارة ليست كل نمط من أنماط التنظيم للحياة الإنسانية لأي مجتمع كان، إنّها "شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية، بحيث يجد هذا الشكل نوعيته في استعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة".
إنّ الحضارة ليست مجرد تكديس لمنتجات فكرية ومادية، إنّها قدرة على البناء والخلق والإبداع، ضمن محيط له شروط وعوامل، وفي إطار منهج يحدد نقطة الانطلاق ونقطة الوصول كما يرسم بوضوح الطريق ويحدد الوسائل والأهداف ضمن رؤية شاملة وواضحة تتميز بالدقة والعمق.
إنّ انتهاج أسلوب التكديس لغرض التحضر يغرق المجتمع في الشيئية والتبعية بعيدا عن التحضر والاستقلال، فالحضارة هي التي تلد منتجاتها لا العكس، وقدرة الإنسان على بلوغ الحضارة حضور الإرادة التي تلازم جوهر الحضارة، وتتكون القدرة شيئا فشيئا من خلال القيّم التي آمن بها المجتمع والأهداف التي اعتنقها، ضمن منظور واعي ينبذ العفوية والفوضى والارتجال ويتخذ الدقة والعمق والعلم والمنطق أسسا له.
إنّ مفهوم الحضارة عند "مالك بن نبي" الذي يشمل جميع جوانب المشكلة التي هي مشكلة الحضارة في حياة الإنسان، تعني بالدرجة الأولى ناتج انسجام وتكامل الجهود الإنسانية مع قوانين الآفاق والتطلعات، وجملة الشروط النفسية والاجتماعية والروحية الدينية والمادية، من أجل النمو والازدهار في الجوانب الفكرية والروحية والسلوكية والاقتصادية والاجتماعية والمادية في الواقع المعاش.
جاء مفهوم الحضارة عند "مالك بن نبي" بعد مناقشات طويلة وتعاليق كثيرة لفلاسفة الحضارة وعلى رأسهم "توينبي" وغيره من فلاسفة الحضارة والتاريخ في العصر الحديث والمعاصر وتوصل بعد الدراسة والبحث والتعمق إلى نظرية مفادها أن الحضارة وعي لا انبهار وتكيّف لا تبعية وإبداع لا استيراد، وبناء لا تكديس، تصنعها ظروف ومعطيات كثيرة تتداخل وتنسجم فيما بينها، "فهي عملية بناء صعبة تتطلب أساسا فكريا معينا وجهودا في عالمي الأشخاص والأشياء، ولكن ذلك لا يتم إلا في صورة برنامج تربوي يهدف لتغيير الإنسان من الداخل وفق شروط معينة، حتى يتمكن من أداء وظيفته الاجتماعية ويحقق البناء في المجتمع المتحضر".
فالحضارة بحسب المعطيات المذكورة سابقا ليست مجرد أفكار ومعارف تظهر لدى فرد أو مجموعة من الأفراد داخل المجتمع، ولا هي مجرد منتجات صناعية تباع وتشترى، بل هي فاعلية بشرية تتم بتوفير جملة من العوامل والشروط التقنية والاجتماعية والروحية والمادية، وبتوفر الإرادة والقدرة على إبداع المعرفة وإنتاج الأشياء، واستغلال ذلك لخدمة الإنسان وضمان راحته، ولتمييز الحضارة الحقيقية عن الحضارة المزيفة المشبوهة، فالأولى تصنع منتجاتها الفكرية والثقافية والمادية، أما الثانية فتكتفي باستيراد منتجاتها الفكرية والثقافية والمادية وتستثني كليا في هذا الحساب ظاهرة التعاون والتفاعل والتواصل بين الحضارات الإنسانية.


الدكتور جيلالي بوبكر