« إعــدام المكتبـــات » ! - 26/07/2007
للكتاب دور كبير منذ القدم، وله مكانته وقيمته وأهميته باعتباره القناة الوحيدة لنقل العلم والمعرفة والفنون والآداب بين الناس، وثقافة الكتاب باقية مهما أخرج لنا العلم الحديث من اختراعات واكتشافات وتقنيات، وأينما يكون العلم لا بد أن يكون الكتاب موجوداً محترماً ومقدراً، فمن دون الكتاب والكلمة والحرف، لا وجود للحياة، ففي البدء كانت الكلمة، وواقعنا الذي نعيشه يؤكد أن الحرف مازال سيد الكلمة، وأن الكلمة المكتوبة والمطبوعة مازالت تحتل مكان الصدارة في حياتنا. ومع كل الأهمية والمكانة التي حظيها الكتاب، لم يسلم من نكبات ومصائب وقعت عليه، وعلى مدى العصور كلها، حيث نال الكتاب أكبر نصيب من الحرق والإتلاف والنهب. فمنذ العصور القديمة، وخلال مراحل مختلفة من مسيرته الحافلة بالتنوير وإضاءة دروب البشرية، تعرض لملاحقات واسعة، وحالات من الاضطهاد المنظم، والاستهداف المقصود، المتمثل بالحرق والغسل والمحو والتمزيق والدفن،
والمصادرة كما هو في عصرنا الراهن. وغالباً ما تشير أصابع الاتهام إلى السلطة، عندما يتعلق الأمر بتحديد من يقف وراء ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولأسباب غالباً ما تكون سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. وسنتناول في حديثنا هذا عن نوعين من حرق المكتبات، الأول ظاهرة حرق المؤلفين لمكتباتهم بشكل عام أو لمؤلفاتهم بشكل خاص، والثاني التعصب الأعمى والحقد الذي صب على الكتاب صباً، فأحرق وقد يحرق معه مؤلفه أو طابعه. 1-مؤلفون يحرقون مكتباتهم ومؤلفاتهم تروي المصادر أن بعض المؤلفين قد قاموا بإعدام مكتباتهم، إما حرقاً أو محواً أو غرقاً أو إخفاءً في مكان ما، ومن الطبيعي أن نقول أن تصرفهم هذا غريب، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "إني لم أر أي منطق في حرق الكتب".
والباحث يعثر في بطون أمهات كتب التراث على عدد كبير من العلماء الذين ارتكبوا مثل هذه الأعمال، فقد شاعت خلال عصور تاريخية مختلفة ظاهرة إحراق عدد من العلماء والمؤلفين كتبهم بأنفسهم، أو كلفوا من يقوم بذلك نيابة عنهم، وقد فعل ذلك عدد قبل التوحيدي واحتج بهم في فعلته. فمنهم أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه، وداوود الطائي الذي ألقى كتبه في النهر، ويوسف بن أسباط الذي حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه ثم سد بابه، وأبو سليمان الداراني الذي ألقى كتبه في تنور، وأضرم فيها النار، كذلك فعل سفيان الثوري الذي قال: "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك"، أما أبو سعيد السيرافي فقد أوصى ابنه بأن يجعلها طعمة للنار، وقد فعل ذلك. وكذلك فعل عبيدة السلماني، وأبو قلابة، ويونس بن اسحاق وكلهم أحرقوا كتبهم، أما شعبة بن الحجاج فقد أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت، وورد أن بشر الحافي دفن ثمانية عشر صندوقاً من الكتب، ويروي صاحب الحلية أن أحمد بن أبي الحواري حمل كتبه إلى شط الفرات وغسلها كلها، أما عروة بن الزبير فقد أحرقها كما جاء في الطبقات الكبرى، كذلك يؤكد ابن سعد في طبقاته أن الحسن البصري أحرق كتبه قبل موته سنة 110 هـ، ويروي الخطيب البغدادي في تاريخه أن محمد بن عمر الجعابي أوصى بأن تحرق كتبه،
فأحرقت جميعها كما أحرقت معها الكتب التي كانت عنده وهي ليست له. ووضع أبو حيان التوحيدي الأعذار بعد حرقه لمؤلفاته، وقد بينها في رسالته التي بعثها للقاضي أبي سهل علي بن محمد رداً على كتابه الذي عذله فيه على صنيعة إحراق كتبه، وهي وثيقة مهمة تبين الظلم الذي وقع عليه.. وكل الذين أحرقوا كتبهم وضعوا لأنفسهم الأعذار والمبررات لفعلتهم، والتوحيدي لم يحرق إلاّ مؤلفاته وقد ذكر في رسالته أن له قدوة بمن قبله، وقد عدد بعض الأسماء السابقة. 2- إحراق الكتب من قبل المتعصبين إن إحراق الكتب إعدام للفكر، ولكن هل هذا الحرق يلغي الفكر بعينه، أم أنه سيبقى مدى التاريخ؟ إن ما حصل لابن رشد ولابن حزم ولجون ميلتون وغيرهم كثير، يبين لنا أنه لو أحرقت كتبهم ولو سجنوا ولو أحرقوا مع مؤلفاتهم مثل ما حصل للمؤلفين الصينيين، سيبقى فكرهم متوقداً وسيولد من جديد. ابن حزم الأندلسي: الفقيه القاضي المجتهد والشاعر الأديب، الذي عده كثير من المستشرقين المؤسس الحقيقي لعلم مقارنة الأديان، ابن حزم كان سياسياً حاد اللسان في التعرض لفقهاء عصره الجاحدين المنتفعين من مناصبهم، استطاع هؤلاء أن يؤلبوا عليه المعتضد بن عباد أمير إشبيلية،
فاصدر قراراً بهدم دوره ومصادرة أمواله وحرق كتبه، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده منت ليشم من ناحية لبلة، وألا يفتي أحد بمذهب مالك أو غيره، كما توعد من يدخل إليه بالعقوبة، وهناك توفي سنة 1069م، ولما فعلوا ذلك بكتبه تألم كثيراً فقال: دعوني من إحراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري ابن رشد: هؤلاء الجامدون الذين ظنوا أنفسهم أنهم حراس للدين، وما هم إلاّ أناس غُلفت عقولهم بطبقة من الإكليروس العفن، هم الذين جعلوا المنصور بن أبي عامر الشغوف بعلوم الفلسفة، يخرج كتب الفلسفة من مكتبة الحكم المستنصر في قرطبة وأحرقوها كلها في محرقة شهدها معظم الناس، أحرقوا أروع أنواع الإبداع في الفكر الإنساني، وكذلك فعلوا بكتب ومؤلفات ابن رشد، فيلسوف وطبيب الإسلام، الذي هربت بعض مؤلفاته إلى أوروبا فكانت من أسباب نهضتها، لأنها تدعو إلى إعمال العقل، ونبذ التعصب وتحارب الجمود. عبد السلام بن جنكي: يروي القفطي في كتابه أخبار العلماء بأخيار الحكماء، أن ابن المارستانية وشى في بغداد بالعالم عبد السلام بن جنكي دوست للخليفة، أنه يعلم الناس الضلال بعلوم ما أنزل الله بها من سلطان، فأقيم محفل عام في بغداد لحرق كتبه، يحمل ابن المارستانية كتاباً في علوم الهيئة لابن الهيثم، ويشير إلى الدائرة التي مثل بها الفلك وهو يقول: "وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء"، ثم يخزقها ويلقيها إلى النار، وهكذا فعل بكل الكتب العلمية التي وجدت في مكتبة ابن جنكي، هذه الفعلة لا تدل إلاّ على الجهل والتعصب، فهل في علوم الهيئة والفلك كفر؟ إن هذا العلم طريق إلى الإيمان بالله ومعرفة قدرته فيما أحكمه وأبدعه ودبره، لكنه الجهل والتعصب الأعمى والحقد والغايات الخاصة.
جون ميلتون: الشاعر المتمرد، صاحب ملحمة الفردوس المفقود في القرن السابع عشر الميلادي، لأسباب سياسية وعدائية منعت مؤلفاته التي كتبها حول الحرية في كل أوروبا فضلاً عن موطنه بريطانيا، وصودرت أشعاره، وفي سنة 1660م حكم عليه بالإعدام، لكنه نجا بأعجوبة، وأحرقت مكتبته ومؤلفاته، وصودرت أملاكه، وأحرق بيته في لندن، وعندما علمت السلطة أن بعض المطابع طبعت خفية كتابه حق الملوك والحكام القضائيين، أعدم صاحب المطبعة، نسخ كتابه (دفاعاً عن الشعب الأنغليكاني) فقد أحرقت في فرنسا سنة 1652. مارتن لوثر: أحرقت كتب مارتن لوثر في البلاد الكاثوليكية في أوروبا، لأنه كان من دعاة الإصلاح، وكان يفضح بكتبه ألاعيب رجال الدين، فقد أمر البابا ليون العاشر سنة 1521م بحرق كتب لوثر، وكذلك فعلت كلية اللاهوت في جامعة باريس. ماركانتون دومينين: كان ماركانتون أسقفاً ثم رئيس أساقفة، وهو عالم ومؤلف رائع، كتب الكثير مما جعله يتورط كثيراً مع محاكم التفتيش بسبب أفكاره، فأوقف وهو شيخ كبير ومريض، وسجن في القلعة الملائكية في روما، وتعرض للتحقيق، لكنه توفي قبل أن يدافع عن نفسه في المحاكمة، ومع ذلك لم توقف محكمة التفتيش التحقيق بشأنه، بل حكمت عليه بعد موته بالفضيحة الأبدية، وبحرق كتبه بشكل علني، فأحرق مع كتبه ولوحاته في ساحة الزهور في روما سنة 1624م. وليم تيندل: ترجم وليم تيندل العهد الجديد إلى الإنكليزية وهو من جماعة لوثر، وأرسلها خفية إلى بريطانيا، صودرت وأحرقت كلها وكان عددها 6000 نسخة، وذلك من قبل رجال اللاهوت الغاضبين، وفي سنة 1536م أحرق تيندل نفسه مع كتبه في بلجيكا. إن حريق الكتب كان دائماً الوسيلة المرغوبة للتخلص من الكلمة المكتوبة، كذلك هو إرهاب للمؤلف والناشر والبائع والقارئ في آن واحد، ففي بلادنا كلما كان يظهر كتاب تنويري يحرق، كذلك حصل في أوروبا خاصة في العصور الوسطى، فكانت الكتب تحرق في كل مكان، خاصة كتب الليبراليين، وكان الدومينيكاني جيرولا موسافونا في القرن الخامس عشر الميلادي يعتقد أن هذه الكتب مسؤولة عن فساد العالم، فكان في خطبه النارية يدعو إلى حرقها، فيندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء ليجمعوا اللوحات الفنية والكتب ويضعونها في الساحات، ويجمعون أكوام الحطب ويلقونها فوق ألسنة النيران، ففي هذه الساحات أحرقت كتب أوفيد وبوكاشيو، واللوحات الفنية، وكان سافونا يطالب الحكام بإصدار قرارات بطرد الشعراء من بلاده، وحرق كتبهم، لكن عندما تغير الوضع حكم مجلس مدينة فيرنسا على سافونا بالموت سنة 1498م، فأحرق في الساحة التي كان يحرق فيها الكتب، ولكنه أحرق مع كل ما كتبه، وكذلك فعل اللوثريون سنة 1525م خلال الحرب الفلاحية في ألمانيا، فقد أحرقوا مكتبات بكاملها، وكذلك حصل في بريطانيا وفرنسا. وأحرقت نسخ كتاب رسائل إلى ريفي لباسكال لأنه مس سلطة الدولة فيها، كما أحرق الفرنسيون الكثير من مؤلفات فولتير، وقد أمر راعي الأدب وصديقه ملك بروسيا فردريك الكبير بحرق كتابه خزعبلات الدكتور أكاكيا بعد خلاف ثار بينهما، وهكذا نرى أن كتب فولتير تعرضت للحرق أكثر من غيره في القرن الثامن عشر، وذلك من قبل الكنيسة والدولة معاً. وأحرق بشكل علني في باريس سنة 1762م كتاب روسو (إميلي) الذي ألفه عن التربية، وكان ذلك بقرار من البرلمان الفرنسي، هذا البرلمان هو الذي قرر في سنة 1774م حرق (مذكرات بومارشيه) بزعم أنها تمس الدولة وأمرت بحبسه. وأخيراً لقد عبر بعض الغربيين عن مأساة حرق الكتب عن عمد وعن نتيجة ذلك، فها هو هيرُيش هايتي يقول: "هناك، حيث يحرقون الكتب، يحرقون البشر في النهاية". ويقول فرانكليون روزفيلت: "إننا جميعاً نعرف أن الكتب تحترق، بيد أننا نعرف أكثر أن الكتب لا يمكن أن تقتل حرقاً، إن الناس يموتون، لكن الكتب لا تموت أبداً، فليس في وسع أي شخص أو أية قوة أن تلغي الذكرى.. ونحن نعرف في الحرب أن الكتب هي أسلحة". هذا غيض من فيض مما جاء في إحراق الكتب، وكل ما ذكرناه كان حول إحراق الكتب بشكل فردي، من صاحب الكتب نفسه، أو من قبل أعداء الكتاب المتعصبين الحاقدين، ولكن هناك جرائم بحق الكتاب أكبر من كل ما ذكرناه، فهناك استعمار وعدوه الأول الكتاب، فأول ما يفعله عند دخوله البلاد يضرم النار في المكتبات، والعراق ليس ببعيد عنا، وهذا له دراسة خاصة، كذلك حريق المكتبات من غير قصد كعوامل طبيعية. :وغالباً ما تشير أصابع الاتهام إلى السلطة، عندما يتعلق الأمر بتحديد من يقف وراء ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولأسباب غالباً ما تكون سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. وسنتناول في حديثنا هذا عن نوعين من حرق المكتبات، الأول ظاهرة حرق المؤلفين لمكتباتهم بشكل عام أو لمؤلفاتهم بشكل خاص، والثاني التعصب الأعمى والحقد الذي صب على الكتاب صباً، فأحرق وقد يحرق معه مؤلفه أو طابعه. 1-مؤلفون يحرقون مكتباتهم ومؤلفاتهم تروي المصادر أن بعض المؤلفين قد قاموا بإعدام مكتباتهم، إما حرقاً أو محواً أو غرقاً أو إخفاءً في مكان ما، ومن الطبيعي أن نقول أن تصرفهم هذا غريب، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "إني لم أر أي منطق في حرق الكتب". والباحث يعثر في بطون أمهات كتب التراث على عدد كبير من العلماء الذين ارتكبوا مثل هذه الأعمال، فقد شاعت خلال عصور تاريخية مختلفة ظاهرة إحراق عدد من العلماء والمؤلفين كتبهم بأنفسهم، أو كلفوا من يقوم بذلك نيابة عنهم، وقد فعل ذلك عدد قبل التوحيدي واحتج بهم في فعلته. فمنهم أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه، وداوود الطائي الذي ألقى كتبه في النهر، ويوسف بن أسباط الذي حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه ثم سد بابه، وأبو سليمان الداراني الذي ألقى كتبه في تنور، وأضرم فيها النار، كذلك فعل سفيان الثوري الذي قال: "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك"، أما أبو سعيد السيرافي فقد أوصى ابنه بأن يجعلها طعمة للنار، وقد فعل ذلك. وكذلك فعل عبيدة السلماني، وأبو قلابة، ويونس بن اسحاق وكلهم أحرقوا كتبهم، أما شعبة بن الحجاج فقد أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت، وورد أن بشر الحافي دفن ثمانية عشر صندوقاً من الكتب، ويروي صاحب الحلية أن أحمد بن أبي الحواري حمل كتبه إلى شط الفرات وغسلها كلها، أما عروة بن الزبير فقد أحرقها كما جاء في الطبقات الكبرى، كذلك يؤكد ابن سعد في طبقاته أن الحسن البصري أحرق كتبه قبل موته سنة 110 هـ، ويروي الخطيب البغدادي في تاريخه أن محمد بن عمر الجعابي أوصى بأن تحرق كتبه، فأحرقت جميعها كما أحرقت معها الكتب التي كانت عنده وهي ليست له. ووضع أبو حيان التوحيدي الأعذار بعد حرقه لمؤلفاته، وقد بينها في رسالته التي بعثها للقاضي أبي سهل علي بن محمد رداً على كتابه الذي عذله فيه على صنيعة إحراق كتبه، وهي وثيقة مهمة تبين الظلم الذي وقع عليه.. وكل الذين أحرقوا كتبهم وضعوا لأنفسهم الأعذار والمبررات لفعلتهم، والتوحيدي لم يحرق إلاّ مؤلفاته وقد ذكر في رسالته أن له قدوة بمن قبله، وقد عدد بعض الأسماء السابقة. 2- إحراق الكتب من قبل المتعصبين إن إحراق الكتب إعدام للفكر، ولكن هل هذا الحرق يلغي الفكر بعينه، أم أنه سيبقى مدى التاريخ؟ إن ما حصل لابن رشد ولابن حزم ولجون ميلتون وغيرهم كثير، يبين لنا أنه لو أحرقت كتبهم ولو سجنوا ولو أحرقوا مع مؤلفاتهم مثل ما حصل للمؤلفين الصينيين، سيبقى فكرهم متوقداً وسيولد من جديد. ابن حزم الأندلسي: الفقيه القاضي المجتهد والشاعر الأديب، الذي عده كثير من المستشرقين المؤسس الحقيقي لعلم مقارنة الأديان، ابن حزم كان سياسياً حاد اللسان في التعرض لفقهاء عصره الجاحدين المنتفعين من مناصبهم، استطاع هؤلاء أن يؤلبوا عليه المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فاصدر قراراً بهدم دوره ومصادرة أمواله وحرق كتبه، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده منت ليشم من ناحية لبلة، وألا يفتي أحد بمذهب مالك أو غيره، كما توعد من يدخل إليه بالعقوبة، وهناك توفي سنة 1069م، ولما فعلوا ذلك بكتبه تألم كثيراً فقال: دعوني من إحراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري ابن رشد: هؤلاء الجامدون الذين ظنوا أنفسهم أنهم حراس للدين، وما هم إلاّ أناس غُلفت عقولهم بطبقة من الإكليروس العفن، هم الذين جعلوا المنصور بن أبي عامر الشغوف بعلوم الفلسفة، يخرج كتب الفلسفة من مكتبة الحكم المستنصر في قرطبة وأحرقوها كلها في محرقة شهدها معظم الناس، أحرقوا أروع أنواع الإبداع في الفكر الإنساني، وكذلك فعلوا بكتب ومؤلفات ابن رشد، فيلسوف وطبيب الإسلام، الذي هربت بعض مؤلفاته إلى أوروبا فكانت من أسباب نهضتها، لأنها تدعو إلى إعمال العقل، ونبذ التعصب وتحارب الجمود. عبد السلام بن جنكي: يروي القفطي في كتابه أخبار العلماء بأخيار الحكماء، أن ابن المارستانية وشى في بغداد بالعالم عبد السلام بن جنكي دوست للخليفة، أنه يعلم الناس الضلال بعلوم ما أنزل الله بها من سلطان، فأقيم محفل عام في بغداد لحرق كتبه، يحمل ابن المارستانية كتاباً في علوم الهيئة لابن الهيثم، ويشير إلى الدائرة التي مثل بها الفلك وهو يقول: "وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء"، ثم يخزقها ويلقيها إلى النار، وهكذا فعل بكل الكتب العلمية التي وجدت في مكتبة ابن جنكي، هذه الفعلة لا تدل إلاّ على الجهل والتعصب، فهل في علوم الهيئة والفلك كفر؟ إن هذا العلم طريق إلى الإيمان بالله ومعرفة قدرته فيما أحكمه وأبدعه ودبره، لكنه الجهل والتعصب الأعمى والحقد والغايات الخاصة. جون ميلتون: الشاعر المتمرد، صاحب ملحمة الفردوس المفقود في القرن السابع عشر الميلادي، لأسباب سياسية وعدائية منعت مؤلفاته التي كتبها حول الحرية في كل أوروبا فضلاً عن موطنه بريطانيا، وصودرت أشعاره، وفي سنة 1660م حكم عليه بالإعدام، لكنه نجا بأعجوبة، وأحرقت مكتبته ومؤلفاته، وصودرت أملاكه، وأحرق بيته في لندن، وعندما علمت السلطة أن بعض المطابع طبعت خفية كتابه حق الملوك والحكام القضائيين، أعدم صاحب المطبعة، نسخ كتابه (دفاعاً عن الشعب الأنغليكاني) فقد أحرقت في فرنسا سنة 1652. مارتن لوثر: أحرقت كتب مارتن لوثر في البلاد الكاثوليكية في أوروبا، لأنه كان من دعاة الإصلاح، وكان يفضح بكتبه ألاعيب رجال الدين، فقد أمر البابا ليون العاشر سنة 1521م بحرق كتب لوثر، وكذلك فعلت كلية اللاهوت في جامعة باريس. ماركانتون دومينين: كان ماركانتون أسقفاً ثم رئيس أساقفة، وهو عالم ومؤلف رائع، كتب الكثير مما جعله يتورط كثيراً مع محاكم التفتيش بسبب أفكاره، فأوقف وهو شيخ كبير ومريض، وسجن في القلعة الملائكية في روما، وتعرض للتحقيق، لكنه توفي قبل أن يدافع عن نفسه في المحاكمة، ومع ذلك لم توقف محكمة التفتيش التحقيق بشأنه، بل حكمت عليه بعد موته بالفضيحة الأبدية، وبحرق كتبه بشكل علني، فأحرق مع كتبه ولوحاته في ساحة الزهور في روما سنة 1624م. وليم تيندل: ترجم وليم تيندل العهد الجديد إلى الإنكليزية وهو من جماعة لوثر، وأرسلها خفية إلى بريطانيا، صودرت وأحرقت كلها وكان عددها 6000 نسخة، وذلك من قبل رجال اللاهوت الغاضبين، وفي سنة 1536م أحرق تيندل نفسه مع كتبه في بلجيكا. إن حريق الكتب كان دائماً الوسيلة المرغوبة للتخلص من الكلمة المكتوبة، كذلك هو إرهاب للمؤلف والناشر والبائع والقارئ في آن واحد، ففي بلادنا كلما كان يظهر كتاب تنويري يحرق، كذلك حصل في أوروبا خاصة في العصور الوسطى، فكانت الكتب تحرق في كل مكان، خاصة كتب الليبراليين، وكان الدومينيكاني جيرولا موسافونا في القرن الخامس عشر الميلادي يعتقد أن هذه الكتب مسؤولة عن فساد العالم، فكان في خطبه النارية يدعو إلى حرقها، فيندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء ليجمعوا اللوحات الفنية والكتب ويضعونها في الساحات، ويجمعون أكوام الحطب ويلقونها فوق ألسنة النيران، ففي هذه الساحات أحرقت كتب أوفيد وبوكاشيو، واللوحات الفنية، وكان سافونا يطالب الحكام بإصدار قرارات بطرد الشعراء من بلاده، وحرق كتبهم، لكن عندما تغير الوضع حكم مجلس مدينة فيرنسا على سافونا بالموت سنة 1498م، فأحرق في الساحة التي كان يحرق فيها الكتب، ولكنه أحرق مع كل ما كتبه، وكذلك فعل اللوثريون سنة 1525م خلال الحرب الفلاحية في ألمانيا، فقد أحرقوا مكتبات بكاملها، وكذلك حصل في بريطانيا وفرنسا. وأحرقت نسخ كتاب رسائل إلى ريفي لباسكال لأنه مس سلطة الدولة فيها، كما أحرق الفرنسيون الكثير من مؤلفات فولتير، وقد أمر راعي الأدب وصديقه ملك بروسيا فردريك الكبير بحرق كتابه خزعبلات الدكتور أكاكيا بعد خلاف ثار بينهما، وهكذا نرى أن كتب فولتير تعرضت للحرق أكثر من غيره في القرن الثامن عشر، وذلك من قبل الكنيسة والدولة معاً. وأحرق بشكل علني في باريس سنة 1762م كتاب روسو (إميلي) الذي ألفه عن التربية، وكان ذلك بقرار من البرلمان الفرنسي، هذا البرلمان هو الذي قرر في سنة 1774م حرق (مذكرات بومارشيه) بزعم أنها تمس الدولة وأمرت بحبسه. وأخيراً لقد عبر بعض الغربيين عن مأساة حرق الكتب عن عمد وعن نتيجة ذلك، فها هو هيرُيش هايتي يقول: "هناك، حيث يحرقون الكتب، يحرقون البشر في النهاية". ويقول فرانكليون روزفيلت: "إننا جميعاً نعرف أن الكتب تحترق، بيد أننا نعرف أكثر أن الكتب لا يمكن أن تقتل حرقاً، إن الناس يموتون، لكن الكتب لا تموت أبداً، فليس في وسع أي شخص أو أية قوة أن تلغي الذكرى.. ونحن نعرف في الحرب أن الكتب هي أسلحة". هذا غيض من فيض مما جاء في إحراق الكتب، وكل ما ذكرناه كان حول إحراق الكتب بشكل فردي، من صاحب الكتب نفسه، أو من قبل أعداء الكتاب المتعصبين الحاقدين، ولكن هناك جرائم بحق الكتاب أكبر من كل ما ذكرناه، فهناك استعمار وعدوه الأول الكتاب، فأول ما يفعله عند دخوله البلاد يضرم النار في المكتبات، والعراق ليس ببعيد عنا، وهذا له دراسة خاصة، كذلك حريق المكتبات من غير قصد كعوامل طبيعية. وغالباً ما تشير أصابع الاتهام إلى السلطة، عندما يتعلق الأمر بتحديد من يقف وراء ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولأسباب غالباً ما تكون سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. وسنتناول في حديثنا هذا عن نوعين من حرق المكتبات، الأول ظاهرة حرق المؤلفين لمكتباتهم بشكل عام أو لمؤلفاتهم بشكل خاص، والثاني التعصب الأعمى والحقد الذي صب على الكتاب صباً، فأحرق وقد يحرق معه مؤلفه أو طابعه. 1-مؤلفون يحرقون مكتباتهم ومؤلفاتهم تروي المصادر أن بعض المؤلفين قد قاموا بإعدام مكتباتهم، إما حرقاً أو محواً أو غرقاً أو إخفاءً في مكان ما، ومن الطبيعي أن نقول أن تصرفهم هذا غريب، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "إني لم أر أي منطق في حرق الكتب". والباحث يعثر في بطون أمهات كتب التراث على عدد كبير من العلماء الذين ارتكبوا مثل هذه الأعمال، فقد شاعت خلال عصور تاريخية مختلفة ظاهرة إحراق عدد من العلماء والمؤلفين كتبهم بأنفسهم، أو كلفوا من يقوم بذلك نيابة عنهم، وقد فعل ذلك عدد قبل التوحيدي واحتج بهم في فعلته. فمنهم أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه، وداوود الطائي الذي ألقى كتبه في النهر، ويوسف بن أسباط الذي حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه ثم سد بابه، وأبو سليمان الداراني الذي ألقى كتبه في تنور، وأضرم فيها النار، كذلك فعل سفيان الثوري الذي قال: "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك"، أما أبو سعيد السيرافي فقد أوصى ابنه بأن يجعلها طعمة للنار، وقد فعل ذلك. وكذلك فعل عبيدة السلماني، وأبو قلابة، ويونس بن اسحاق وكلهم أحرقوا كتبهم، أما شعبة بن الحجاج فقد أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت، وورد أن بشر الحافي دفن ثمانية عشر صندوقاً من الكتب، ويروي صاحب الحلية أن أحمد بن أبي الحواري حمل كتبه إلى شط الفرات وغسلها كلها، أما عروة بن الزبير فقد أحرقها كما جاء في الطبقات الكبرى، كذلك يؤكد ابن سعد في طبقاته أن الحسن البصري أحرق كتبه قبل موته سنة 110 هـ، ويروي الخطيب البغدادي في تاريخه أن محمد بن عمر الجعابي أوصى بأن تحرق كتبه، فأحرقت جميعها كما أحرقت معها الكتب التي كانت عنده وهي ليست له. ووضع أبو حيان التوحيدي الأعذار بعد حرقه لمؤلفاته، وقد بينها في رسالته التي بعثها للقاضي أبي سهل علي بن محمد رداً على كتابه الذي عذله فيه على صنيعة إحراق كتبه، وهي وثيقة مهمة تبين الظلم الذي وقع عليه.. وكل الذين أحرقوا كتبهم وضعوا لأنفسهم الأعذار والمبررات لفعلتهم، والتوحيدي لم يحرق إلاّ مؤلفاته وقد ذكر في رسالته أن له قدوة بمن قبله، وقد عدد بعض الأسماء السابقة. 2- إحراق الكتب من قبل المتعصبين إن إحراق الكتب إعدام للفكر، ولكن هل هذا الحرق يلغي الفكر بعينه، أم أنه سيبقى مدى التاريخ؟ إن ما حصل لابن رشد ولابن حزم ولجون ميلتون وغيرهم كثير، يبين لنا أنه لو أحرقت كتبهم ولو سجنوا ولو أحرقوا مع مؤلفاتهم مثل ما حصل للمؤلفين الصينيين، سيبقى فكرهم متوقداً وسيولد من جديد. ابن حزم الأندلسي: الفقيه القاضي المجتهد والشاعر الأديب، الذي عده كثير من المستشرقين المؤسس الحقيقي لعلم مقارنة الأديان، ابن حزم كان سياسياً حاد اللسان في التعرض لفقهاء عصره الجاحدين المنتفعين من مناصبهم، استطاع هؤلاء أن يؤلبوا عليه المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فاصدر قراراً بهدم دوره ومصادرة أمواله وحرق كتبه، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده منت ليشم من ناحية لبلة، وألا يفتي أحد بمذهب مالك أو غيره، كما توعد من يدخل إليه بالعقوبة، وهناك توفي سنة 1069م، ولما فعلوا ذلك بكتبه تألم كثيراً فقال: دعوني من إحراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري ابن رشد: هؤلاء الجامدون الذين ظنوا أنفسهم أنهم حراس للدين، وما هم إلاّ أناس غُلفت عقولهم بطبقة من الإكليروس العفن، هم الذين جعلوا المنصور بن أبي عامر الشغوف بعلوم الفلسفة، يخرج كتب الفلسفة من مكتبة الحكم المستنصر في قرطبة وأحرقوها كلها في محرقة شهدها معظم الناس، أحرقوا أروع أنواع الإبداع في الفكر الإنساني، وكذلك فعلوا بكتب ومؤلفات ابن رشد، فيلسوف وطبيب الإسلام، الذي هربت بعض مؤلفاته إلى أوروبا فكانت من أسباب نهضتها، لأنها تدعو إلى إعمال العقل، ونبذ التعصب وتحارب الجمود. عبد السلام بن جنكي: يروي القفطي في كتابه أخبار العلماء بأخيار الحكماء، أن ابن المارستانية وشى في بغداد بالعالم عبد السلام بن جنكي دوست للخليفة، أنه يعلم الناس الضلال بعلوم ما أنزل الله بها من سلطان، فأقيم محفل عام في بغداد لحرق كتبه، يحمل ابن المارستانية كتاباً في علوم الهيئة لابن الهيثم، ويشير إلى الدائرة التي مثل بها الفلك وهو يقول: "وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء"، ثم يخزقها ويلقيها إلى النار، وهكذا فعل بكل الكتب العلمية التي وجدت في مكتبة ابن جنكي، هذه الفعلة لا تدل إلاّ على الجهل والتعصب، فهل في علوم الهيئة والفلك كفر؟ إن هذا العلم طريق إلى الإيمان بالله ومعرفة قدرته فيما أحكمه وأبدعه ودبره، لكنه الجهل والتعصب الأعمى والحقد والغايات الخاصة. جون ميلتون: الشاعر المتمرد، صاحب ملحمة الفردوس المفقود في القرن السابع عشر الميلادي، لأسباب سياسية وعدائية منعت مؤلفاته التي كتبها حول الحرية في كل أوروبا فضلاً عن موطنه بريطانيا، وصودرت أشعاره، وفي سنة 1660م حكم عليه بالإعدام، لكنه نجا بأعجوبة، وأحرقت مكتبته ومؤلفاته، وصودرت أملاكه، وأحرق بيته في لندن، وعندما علمت السلطة أن بعض المطابع طبعت خفية كتابه حق الملوك والحكام القضائيين، أعدم صاحب المطبعة، نسخ كتابه (دفاعاً عن الشعب الأنغليكاني) فقد أحرقت في فرنسا سنة 1652. مارتن لوثر: أحرقت كتب مارتن لوثر في البلاد الكاثوليكية في أوروبا، لأنه كان من دعاة الإصلاح، وكان يفضح بكتبه ألاعيب رجال الدين، فقد أمر البابا ليون العاشر سنة 1521م بحرق كتب لوثر، وكذلك فعلت كلية اللاهوت في جامعة باريس. ماركانتون دومينين: كان ماركانتون أسقفاً ثم رئيس أساقفة، وهو عالم ومؤلف رائع، كتب الكثير مما جعله يتورط كثيراً مع محاكم التفتيش بسبب أفكاره، فأوقف وهو شيخ كبير ومريض، وسجن في القلعة الملائكية في روما، وتعرض للتحقيق، لكنه توفي قبل أن يدافع عن نفسه في المحاكمة، ومع ذلك لم توقف محكمة التفتيش التحقيق بشأنه، بل حكمت عليه بعد موته بالفضيحة الأبدية، وبحرق كتبه بشكل علني، فأحرق مع كتبه ولوحاته في ساحة الزهور في روما سنة 1624م. وليم تيندل: ترجم وليم تيندل العهد الجديد إلى الإنكليزية وهو من جماعة لوثر، وأرسلها خفية إلى بريطانيا، صودرت وأحرقت كلها وكان عددها 6000 نسخة، وذلك من قبل رجال اللاهوت الغاضبين، وفي سنة 1536م أحرق تيندل نفسه مع كتبه في بلجيكا. إن حريق الكتب كان دائماً الوسيلة المرغوبة للتخلص من الكلمة المكتوبة، كذلك هو إرهاب للمؤلف والناشر والبائع والقارئ في آن واحد، ففي بلادنا كلما كان يظهر كتاب تنويري يحرق، كذلك حصل في أوروبا خاصة في العصور الوسطى، فكانت الكتب تحرق في كل مكان، خاصة كتب الليبراليين، وكان الدومينيكاني جيرولا موسافونا في القرن الخامس عشر الميلادي يعتقد أن هذه الكتب مسؤولة عن فساد العالم، فكان في خطبه النارية يدعو إلى حرقها، فيندفع أتباعه المتعصبون إلى بيوت الأغنياء ليجمعوا اللوحات الفنية والكتب ويضعونها في الساحات، ويجمعون أكوام الحطب ويلقونها فوق ألسنة النيران، ففي هذه الساحات أحرقت كتب أوفيد وبوكاشيو، واللوحات الفنية، وكان سافونا يطالب الحكام بإصدار قرارات بطرد الشعراء من بلاده، وحرق كتبهم، لكن عندما تغير الوضع حكم مجلس مدينة فيرنسا على سافونا بالموت سنة 1498م، فأحرق في الساحة التي كان يحرق فيها الكتب، ولكنه أحرق مع كل ما كتبه، وكذلك فعل اللوثريون سنة 1525م خلال الحرب الفلاحية في ألمانيا، فقد أحرقوا مكتبات بكاملها، وكذلك حصل في بريطانيا وفرنسا. وأحرقت نسخ كتاب رسائل إلى ريفي لباسكال لأنه مس سلطة الدولة فيها، كما أحرق الفرنسيون الكثير من مؤلفات فولتير، وقد أمر راعي الأدب وصديقه ملك بروسيا فردريك الكبير بحرق كتابه خزعبلات الدكتور أكاكيا بعد خلاف ثار بينهما، وهكذا نرى أن كتب فولتير تعرضت للحرق أكثر من غيره في القرن الثامن عشر، وذلك من قبل الكنيسة والدولة معاً. وأحرق بشكل علني في باريس سنة 1762م كتاب روسو (إميلي) الذي ألفه عن التربية، وكان ذلك بقرار من البرلمان الفرنسي، هذا البرلمان هو الذي قرر في سنة 1774م حرق (مذكرات بومارشيه) بزعم أنها تمس الدولة وأمرت بحبسه. وأخيراً لقد عبر بعض الغربيين عن مأساة حرق الكتب عن عمد وعن نتيجة ذلك، فها هو هيرُيش هايتي يقول: "هناك، حيث يحرقون الكتب، يحرقون البشر في النهاية". ويقول فرانكليون روزفيلت: "إننا جميعاً نعرف أن الكتب تحترق، بيد أننا نعرف أكثر أن الكتب لا يمكن أن تقتل حرقاً، إن الناس يموتون، لكن الكتب لا تموت أبداً، فليس في وسع أي شخص أو أية قوة أن تلغي الذكرى.. ونحن نعرف في الحرب أن الكتب هي أسلحة". هذا غيض من فيض مما جاء في إحراق الكتب، وكل ما ذكرناه كان حول إحراق الكتب بشكل فردي، من صاحب الكتب نفسه، أو من قبل أعداء الكتاب المتعصبين الحاقدين، ولكن هناك جرائم بحق الكتاب أكبر من كل ما ذكرناه، فهناك استعمار وعدوه الأول الكتاب، فأول ما يفعله عند دخوله البلاد يضرم النار في المكتبات، والعراق ليس ببعيد عنا، وهذا له دراسة خاصة، كذلك حريق المكتبات من غير قصد كعوامل طبيعية.
• المصدر: الثورة ـــ الملحق الثقافي.
• بقلم محمد عيد الخربوطلي.