منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    الشعر الغزلي للفقهاء

    الشعر الغزلي للفقهاء
    محمد عيد الخربوطلي
    عرف التاريخ العربي الكثير من شعراء الغزل، ففي العصور الماضية عرف عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة وقيس بن الملوح، وفي عصر نهضتنا الحديثة عرفت نخبة من أفذاذ الشعراء، وفي مقدمتهم شوقي وأحمد رامي وبشارة الخوري والأخطل الصغير وعمر أبو ريشة ونزار قباني، كما عرف في المهجر القروي وفرحات وفوزي المعلوف وشفيق المعلوف وجورج صيدح وإيليا أبو ماضي وغيرهم.. وكلهم لهم شعر غزلي راقٍ يدعو إلى الإعجاب، فللشعر الغزلي في كل زمان ومكان نفحة سحرية تشد القارئ وتأسره، وتطرب السامع وتجذبه، وتملأ القلب نشوةً وادعة محببة.
    الشعر أعذبه الغزل
    وأرقُهُ وصف المقل
    والناظر لدواوين شعرائنا القدامى يجدها مملوءة بالأشعار الغزلية المعبرة عن مشاعرهم الصادقة وحبهم العميق، وبعض هذا الشعر بديع من الغزل الرفيع المسكر.
    وكما عرف تاريخنا العربي أطباء شعراء، وعلماء شعراء، وفلكيين شعراء، ومهندسين شعراء، وأمراء شعراء، عرف نوعاً ليس غريباً عن الجميع، عرف الفقهاء الشعراء، وهم كثيرون في تاريخنا العربي، ولكن بعض الفقهاء عرفوا بشعر الغزل وهذا ما أقصده في دراستي هذه.
    فكثير من الفقهاء كالشعراء، إذا قاموا في السَحر، أحسوا نسيم الليل الناعم وسكونه الناطق، وجماله الفاتن، عند ذلك يشعرون بعاطفة لا يشعر بها غيرهم ولا يستطيع أحد وصفها، خاصة إذا سمعوا في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنٍ حاذق قد خرجت من قلبه فهزت مشاعرهم، وحركت منهم وتر القلب، ومسَّت حبَّة الفؤاد.
    يحدث هذا لهم إذا بعدوا عن ضجيج الحياة وصخب الأسواق وعن القيل والقال، عند ذلك يدركون معنى الجمال الذي هو أسُّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون، عند ذلك يتدفق الشعر من أفئدتهم على ألسنتهم فيدهش سامعيه، إنه الشعر جمال القول وفتنة الجمال، إنه الشعر لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب، وهو صورة النفس فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً، وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً ولم يرج مستقبلاً ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً فليس بإنسان.
    والفقهاء أدرى من غيرهم بالشعر فهم يميزون حرمة الشعر ومذمته من حيث هو كلام جميل يصف شعراً نبيلاً، أو إذا كان قبيحاً إذا اشتمل على باطل.
    والعلماء والفقهاء لم يترفعوا عن هذا الشعر الذي وصفناه، وهذه كتبهم مليئة بشعرهم الجيد في الحب والغزل ووصف النساء.
    وهل نستطيع أن ننكر ما قاله كعب بن زهير من غزل في قصيدته بانت سعاد أمام الرسول الكريم.. وقد جاء بغزل وصف به سعاد وسمعه الرسول الكريم وصحابته ولم يعترض عليه أحد ألم يقل:
    وما سعاد غداة البين إذ برزت
    هيفاءُ مقبلةً عجزاء مُدبرةً
    كأنها مَنْهل بالراح معلول
    لا يشتكي قصر منها ولا طول
    أبعد هذا يأتي معترض وينكر على الفقهاء غزلهم، يا للعجب ألم يعلموا أن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغزليين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره..؟
    ألم يستشهد الحسن البصري في مجالسه بقول الشاعر:
    اليوم عندك دَلها وحديثها
    وغداً لغيرك كفها والمعصم
    وسمع سعيد بن المسيب مغنياً يغني:
    تضوَّع مسكاً نعمان إن مشت
    به زينب في نسوة خفرات
    فضرب سعيد برجله وقال:"هذا والله مما يلذ استماعه"، ثم قال:
    وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
    وعالت فتات المسك وخفاً مُرَجَّلاً
    وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت
    وأبدت بنان الكف للجمرات
    على مثل بدر لاح في الظلمات
    برؤيتها من راح من عرفات
    والذي يغوص في كتب التراث يحظى بكثير من الشعر الرقيق وبعضه أرق من النسيم إذا سرى وأصفى من شعاع القمر إذا بدر، وأعذب من ماء الوصال، وهؤلاء كانوا أعلاماً وأئمة في الدين، فهذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث وهو أحد شيوخ الإمام مالك يقول:
    إن التي زعمت فؤادك ملها
    فبك الذي زعمت بها وكلاكما
    ويبيت بين جوانحي حبُّ لها
    ولعمرها لو كان حبك فوقها
    وإذا وجدت لها وساوس سلوة
    بيضاء باكرها النعيم فصاغها
    منعت تحيتها فقلت لصاحبي
    قلنا فقال، لعلها معذورة
    خُلقت هواك كما خلقت هوى لها
    يبدي لصاحبه الصبابة كلها
    لو كان تحت فراشها لأقلها
    يوماً وقد ضحيت إذن لأظلَّها
    شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
    بلباقة فأدقها وأجلها
    ما كان أكثرها لنا واقلها
    من أجل رقْبتها، فقلت: لعلها.
    أثرت هذه الأبيات في النفوس المتذوقة للشعر وسارت بين الناس كسير النار في الهشيم حتى بلغ من إعجاب أبي السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل.
    إنه شعر عروة بن أذينة ذلك الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً وصار يغلي كالمرجل ولا يطفئ هذه النار إلا الوصال، فلنقرأ ما قاله في ذلك:
    إذا وجدت أوار الحب في كبدي
    هبني بردت ببرد الماء ظاهره
    عمدت نحو سقاء الماء أبترد
    فمن لحر على الأحشاء يتَّقد..؟
    وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، هذا الرجل الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، لمجلس من عبيد الله لو كان حياً أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إنه عبيد الله ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:
    شققت القلب ثم ذررت فيه
    تغلغل حب عشمة في فؤادي
    تغلغل حيث لم يبلغ شراب
    هواك فليم فالتام الفُطور
    فباديه مع الخافي يسير
    ولا حزن ولم يبلغ سرور
    إن المتأمل لهذا الشعر لا يجد أعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب، ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب يسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: لا بد للمصدور من أن ينفث، فلا ينكر عليه ابن المسيب، وكيف ينكر عليه وهو القائل:
    كتمت الهوى حتى أضرَّ بك الكتم
    ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم
    وزادك إغراء بها طول نجلها
    فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرةً
    ألا من لنفس لا تموت فينقضي
    تجنبت إتيان الجيب تأثماً
    فذق هجرها إن كنت تزعم أنه
    ولامك أقوام ولو مهم ظلم
    عليك الهوى قد نم لو نفع النم
    عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
    على إثر هند أو كمن سقي السم
    شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
    ألا إن هجران الحبيب هو الاثم
    رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
    أما أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى 622هـ فيقول شعراً ترقص منه القلوب وتطرب لـه الألباب، فألفاظه مليئة بالحلاوة، وبراعة المعنى وحسن الأسلوب، فمن قصيدة غزلية قالها:
    وهواك ما خطر السلو بباله
    ومتى وشى واش إليك بأنه
    أو ليس للكلف المُعنىَّ شاهد
    جددتِ ثوبَ سقامة، وهتكت
    أفزلَّة سبقتْ لـه أم خَلسة
    ولأنت أعلم في الغرام بحاله
    سال هواك فذاك من عذابه
    من حاله يغنيك عن تَسْآله
    ستر غرامه، وصرمتِ حبل وصاله
    مألوفة من تيهه ودلاله
    أما الشهرزوري الفقيه الصوفي فيقول:
    فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفة
    وغابت شموس الوصل عني وأظلمت عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
    مسالكه حتى تحيرت في أمري
    أما ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه فيجود بما تتفجر به نفسه فيقول:
    وإني لأبدي في هواك تجلدا
    فلا تحسبن أني سلوت فربما
    وفي القلب مني لوعة وغليل
    ترى صحة بالمرء وهو عليل
    وهذا أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية وهو فقيه وإمام في التفسير والحديث ومن الأعلام الكبار لا يغفل عما يجول في قلبه، من حب فتفجر الشعر على لسانه عند وداع من يحب فقال يصف تلك الساعة:
    لو كنت ساعة بيننا ما بيننا
    لعلمت أن من الدموع محدثاً
    ورأيت كيف تكرر التوديعا
    وعلمت أن من الحديث دموعا
    وهذا قاضي المالكية الفقيه المشهور عبد الوهاب المتوفى سنة 422هـ، وصاحب المؤلفات المهمة يقول في قصيدة يتغزل فيها بلغة الفقه والفقهاء، فجاء شعره مرقص مطرب حيث يقول:
    ونائمة قبَّلتها فتنبهت
    فقلت لها إني فديتك غاصب
    خذيها وكفي عن أثيم ظلامة
    فقالت قصاص يشهد العقل أنه
    فباتت يميني وهي هميان خصرها
    فقالت ألم تخبر بأنك زاهد؟
    وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ
    وما حكموا في غاصب بسوى الرد
    وإن أنت لم ترضى فألفاً على العهد
    على كبد الجاني ألذ من الشهد
    وباتت يساري وهي واسطة العقد
    فقلت: بلى مازلت أزهد في الزهد
    أما القاضي الجرجاني علي عبد العزيز مؤلف كتاب الوساطة يقول في غزله السهل الحلو:
    مالي ومالك يا فراق
    يا نفس موتي بعدهم
    أبداً رحيل وانطلاق
    فكذا يكون الاشتياق
    وقال:
    قد برح الحب بمشتاقك
    لا تجفه وارع لــه حقه
    فأَوْلِهِ أحسن أخلاقك
    فإنه آخرُ عشاقك
    وهذا القاضي سوار الأصفر عبر عما جرى لـه من الحب بأبيات رقيقة في القرن الثالث الهجري فقال:
    سلبت عظامي لحمها فتركتها
    وأخليت منها مخَّها فكأنها
    إذا سمعت باسم الفراق ترعدت
    خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري
    وليس الذي يجري من العين ماءها
    عوارى في أجلادها تتكسر
    أنابيب في أجوافها الريح تصفر
    مفاصلها من هول ما تتحذر
    بكى جسدي لكنني أتستر!
    ولكنها روح تذوب فتقطر
    وهذا محمد بن داود الظاهري مؤلف كتاب الزهرة، وكان فقيهاً على مذهب أبيه داود وكان شاعراً، قال في الحب أبياتاً عبر بها كيف يصون حبه ونفسه من الخطأ فقال:
    أثره في روض المحاسن مقلتي
    وأحمد من ثقل الهوى مالو أنه
    وأمنع نفسي أن تنال محرما
    يصب على الصخر الأصم تهدما
    ولمن أراد الاستزادة من أشعار الفقهاء الغزلية فإنه يجد الكثير منه في المصادر التراثية ما لو جمع لبلغ عدة مجلدات، فهل سيقول قائل إن الفقهاء كرهوا الشعر وتنزهوا عنه، ولكن الجامدين منهم هو الذين خفقت أصواتهم وكلت أقلامهم عندما أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب وحقروا الشعر، وذهبت أذواقهم لذلك كانت مجالستهم جافة وكتبهم مملة، وسيرتهم زهد الأدباء بها، وبعد الناس عنها.

  2. #2
    لك لشكر والتحية أستاذ محمد عيد , مقالة مفيدة جداً , وبها تطبيقات عملية من الشعر في مختلف المراحل , وأعتقد أن علماء الدين لهم رأي واضح بذلك , هل تسمح لي ولك وللأعضاء الكرام بالعودة إلى الرابط الآتي , لكي يستفيد القراء منه , تحياتي:

    هل شعر الغزل حرام - منتديات النور الإسلامي





    منتدى فرسان الثقافة

    http://omferas.com/vb/t53317/#post210209

  3. #3
    معلومات وأشعار غزلية يحتاجها اللغوي والعروضي , ولكن قد يكون المبالغة بها يجلب اللهو , وقد نهى الإسلام عن ذلك . كل الشكر لكم .

المواضيع المتشابهه

  1. الشعر الغزلي للفقهاء
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-04-2015, 01:00 PM
  2. حول الشعر الغزلي / حرام أم حلال ـــ آمنة أم وليد
    بواسطة آمنه أم وليد في المنتدى فرسان الافتاءات
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-14-2014, 05:58 PM
  3. الشعر الغزلي للفقهاء
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-28-2012, 03:00 AM
  4. استمع لتلاوة وإنشاد /المعتصم بالله العسلي
    بواسطة عبد الرحمن سليمان في المنتدى فرسان الفلاشات والصوتيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-27-2012, 10:12 PM
  5. زيوت من بذور القرع العسلي
    بواسطة عبد الرحمن سليمان في المنتدى فرسان الغذاء والدواء
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-18-2012, 07:50 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •