الأمْنُ الفكريّ
3/4


في ضوء ذلك يتبين أنّ الشارع ألزم الناس أن يحترموا حقّ الغير في إعتقاد ما يشاء، فليس لأحد أن يكره غيره على إعتناق عقيدة أو تركه أخرى. ومن جهة أخرى ألزم صاحبَ العقيدة نفسه أن يعمل على حماية عقيدته وألا يقف موقفا سلبيا، ولو أدّى الأمر إلى أن يهاجر إلى بلد آخر يكفل حرية العقيدة ويستطيع فيه إعلان عقيدته، فإن لم يهاجر وهو قادر فقد ظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره، وارتكب إثما عظيما، وحقت عليه كلمت العذاب([1])، أما إذا كان عاجزا عن الهجرة فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {إنّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً}([2])
وممّا يؤكد رعاية الإسلام لحرية العقيدة ونفي الإكراه فيه أنّ معظم أئمة التفسير([3]) على أنّ سبب النزول في قوله تعالى: { لا إكراه في الدينّ } هو أنّ المرأة من الأنصار تكون مقلاة - لا يكاد يعيش لها ولد- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لاندع أبناءنا، فنزلت، فقال النبي - النبيّ صلى الله عليه وسلم - : ((قد خيّر الله أصحابكم فإن اختاروهم فهم منهم، وإن اختاروكم فهم منكم )) فهذا دليل على ردّ الإسلام للإكراه الديني ولو كان ذلك في سبيل اعتناق عقيدته، كل ذلك يعضد أنّ حرية الإعتقاد في الإسلام لاسيطرة لأحد عليها سواء أكان حاكماً أم مرشدا أم معلما أم زعيماً أم ربّ أسرة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا }([4])، وبذلك هدم الإسلام بناء السلطة الدينية للفرد ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله وجود، إذ أنّ الشريعة الإسلامية لم تدَع لأحد من سلطان على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، حتى الرسول – صلى الله عليه وسلم - إذ كان مبلّغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، {فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمصيطر}([5]) .
ولمّا كانت الحريات في الإسلام ليست مطلقة إنما هي مفتوحة ومضمونة بالقدر الذي يحقق مصلحة الفرد كاملة ولكنها توقف عندما تشكل مفسدة ظاهرة للجماعة حماية لمصلحة الجماعة، وعليه فإنّ حرية العقيدة مقيّدة بعدم الردة عن الإسلام ، ذلك أنّ الردة عن الإسلام ليست حرية في العقيدة وإنما هي جريمة قبيحة بحق الجماعة لأنّ معناها الوحيد إعطاء الآخرين حرية الإساءة إلى الإسلام وإهانة عقيدته والإحتيال على شريعته ، فإنّ الإسلام واجه أناسا يدخلون فيه خداعا ويخرجون منه ضرارا، فهل ينتظر من دين ـ هو بطبيعته عقيدة قلبية وشريعة إجتماعية ـ أن يقابل هذا المسلك ببلاده؟! كلا، لقد أباح لليهود والنصارى أن يعيشوا إلى جواره في مجتمع واحد لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، فلماذا يترك هؤلاء وأولئك دينهم ويدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ؟!([6]) تجد الجواب في قوله تعالى: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}([7]) أي (ليفتتنوا)([8])، لذا حسماً لهذه المفسدة، ووقفاً لهذا الضرر الظاهر على الجماعة قرّر الشارع عقوبة رادعة على الردة وهي القتل([9])، بانياً عقوبته على أساسين([10]):
الأساس الأول: إخلال المسلم في الوفاء بالتزام ، إذ هو بإسلامه مختاراً يكون قد رتب على نفسه الإلتزام بعقيدة الإسلام وشرعته بمحض إرادته، وبارتداده يكون قد أخلّ بالتزامه فضلا عن إساءته للدولة بتجرئه على عقيدتها عامدا، لأنّ ردته لا تعرف إلا بإعلانها من قبله، وفي ذلك خروج على النظام العام للدولة، وبذا يجرّ صاحبه على نفسه العقوبة، حيث إنّ الإخلال بالتزام يترتب عليه جزاء.
أما الأساس الثاني: فدرء المفسدة عن المجتمع الإسلامي لما ذكر آنفا من التشويش على عقائد الناس والإضرار بهم، وما قد يجلبه من إيقاع للفتنة بينهم.
وإلا فالله الذي خلق الناس أحرارا في تفكيرهم لم يكرههم على أن يؤمنوا به ويعبدوه، لأنّ معنى العبادة الحقة ومعنى التكليف المعقول لا يتلاءمان مع الإكراه الذي يجعل من الإنسان الحرّ المفكر المدعو في القرآن إلى الإيمان بعد التفكير السديد قطعة من حجر أو فلذة من حديد... فالأحكام الشرعية التي قرّرها الإسلام في حرية العقيدة ترتكز كلها على أساس مفهوم الحرية عنده...
فكل عقيدة لاتصطدم بالحق والخير، من حيث كونها تنبثق في أصلها وأساسها من الإيمان بوجود الله الخالق الديان ـ بقطع النظر عن ملابسات التفكير الجانبية الخاطئة التي طرأت عليها ـ هي في نظر الإسلام عقيدة يصان أهلها عن كل إكراه، وإنما اكتفى الإسلام بعرض وجهة نظره في الوحدانية الحقة المبرّأة من كلّ شائبة عرضا عقلياً جدلياً مهذبا([11])، فلم يجر الله أمر الإيمان على القسر والإجبار، ولكن على التمكين والاختيار.

أما المبدأ الثاني الذي قرره الإسلام حيال الحرية الدينية فهو: حرية المناقشات الدينية([12])، فقد كفل الإسلام حرية النقاش الديني، ومقارنة ومقارعة الحجة بالحجة وصولا إلى الحقيقة حتى تكون العقيدة نابعة عن إقتناع كامل حر، ولذلك أرسل الله تعالى الرّسل مبشرين ومنذرين، معلمين ومبيّنين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً}([13]) وكانت هذه سبيل الأنبياء جميعا، فهذا إبراهيم ـ عليه السلام ـ يبطل دعوى ألوهية البشر بوسائل الإقناع { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، والله لايهدي القوم الظالمين}([14])
ولقن الله نبيّه محمّداً – صلى الله عليه وسلم - الحجّة البالغة ليصدع بها على مسامع المعاندين { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات آئتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين}([15])
وبقول الحق تبارك وتعالى: { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون }([16]) ويقول: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}([17]) ويقول أيضا: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}([18]) وكذلك قوله: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لاأتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}([19])
وهكذا كان أسلوب المناقشات الدينية كما بيّنه القرآن الكريم ليكون الإيمان عن تفكير واقتناع.
وعليه جاء نصح الله تعالى لعباده المؤمنين بإلتزام جادّة العقل والحكمة في مناقشاتهم مع أهل الأديان الأخرى، وأن يكون عمادهم الإقناع ومقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان فقال سبحانه: { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }([20]) وقال أيضا: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم }([21]).
ولم يقف القرآن الكريم عند هذا الحدّ في الحضّ على إشاعة الأجواء العلمية في المناقشات والمناظرات بل عمد إلى إغراء المشركين للمناظرة وتحريضهم عليها بإرخاء العنان لهم، فيقول تعالى: { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}([22]) .
قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ ( عطف على الإستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية توقع الخصم في شرك المغلوبية، وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال، لأنّ حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر تبين موافقة الحق وعدمها، تعيّن أنّ أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما، ولذلك جيء بحرف (أو) المفيد للترديد المنتزع من الشك، وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف، وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيّظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة)([23])



([1]) عودة ، عبد القادر: التشريع الجنائي الإسلامي1/31 ـ 32 .

([2]) سورة النساء: الآيتان 97 ـ 98.

([3]) انظر الشوكاني : فتح القدير 1/349، وابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم 2/492.والطبري: جامع البيان 3/14، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/682، والسيوطي: الدر المنثور 2/582، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 3/280.

([4]) سورة لقمان آية 15.

([5]) سورة الغاشية آية 21 ـ 22.

([6]) الغزالي، محمد: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ص 100وما بعدها.

([7]) سورة آل عمران آية 73.

([8]) الشوكاني: فتح القدير 1/446.

([9]) لقوله الصلاة والسلام : (من بدّل دينه فاقتلوه) أخرجه البخاري في " كتاب الجهاد في استتابة المرتدين " عن عكرمة

([10]) أنظر: البياتي: النظام السياسي الإسلامي ص 129 ـ 130.

([11]) انظر: التوجيه الإجتماعي في الإسلام 1/170 ( من بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية، 1391هـ ـ 1971م).

([12]) انظر: العيلي: عبد الحكيم حسن، الحريات العامة ص 393 وما بعدها

([13]) سورة النساء آية 165 .

([14]) سورة البقرة آية (258) .

([15]) سورة الأحقاف آية (4).

([16]) سورة الأنعام آية (148).

([17]) سورة النمل آية (64).

([18]) سورة سبأ آية (46).

([19]) سورة الأنعام الآيات (56 ـ 57).

([20]) سورة النحل آية (125).

([21]) سورة العنكبوت آية (46).

([22]) سورة سبأ آية 24.

([23]) ابن عاشور: التحرير والتنوير 22/192.