لم يكن سيِّد البلاد أكثر استياء على مدى عقودِ وهمه التي قاربت على إتمام ثالثها، مما كانه في تلك اللحظة، حين أسرَّ له مستشاره المقرَّب بأن عليه أن يذروَ بعضَ الرماد في العيون، كي لا يقالَ أنه أبقى على حرسه الخاص الذي كان يشكِّلُ خمسَ جيش الدولة من حيث تعداده، والذي كان أكثره كفاءةً من حيث تدريبه، متحلِّقا حولَه ليحميَه من الذباب والبعوض الذي كثر على غير العادة في ذلك العام، وليشعِرَه بأنه ملكٌ حقيقي لا يكتفي فقط بالجلوس على العرش وحمل الصولجان، بل يقف له العسكر إجلالا، ويرفعون أيديهم تحية واستقبالا، وينظفون بساطيرهم ليرى وجهه في بريق سوادها المصقول لمعانا، مثلما كان يراه في مرايا جناح نومه، بينما الأزمة تعصف بالمنطقة كلِّها، منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور.
فهو لم يكن ذلك الأحمق الذي يقبل بالتَّخَفُّف من "هيلمان" المُلْكِ الذي كان أوان قطف ثمر الإحساس به قد حلَّ وأهلَّ، عبر الزَّجِّ بخيرة تشكيلات جيشه في حربٍ أخبره بناةُ قصره، بسببها وشكلها ومجرياتها، بل وبعدد الرصاصات المسموح إطلاقها فيها، وبكلِّ تفاصيل خوضها بما في ذلك نتائجها.
وكان حتى لحظة ما قبل إسرارِ ذلك المستشار له بما أجبره على تغيير خطته، اقتناعا بما ليس منه بد، قد اكتفى بإرسال بعض تشكيلات ووحدات جيشه البعيدة، التي لم تكن في يوم من الأيام مَعْنِيَّة بملاحقة الذباب والبعوض في قصره ومن حولِه، فاقدة بذلك أهميتَها في ذلك الجيش، وجاعلة المقامرة بها في حربٍ عرَفَ عنها كلَّ ما يلزم مسبقا من بُناة قصره، أمرا لا يشكِّل تلك الخسارة الكبيرة حتى لو أبيدت تلك التشكيلات والوحدات عن بَكرة أبيها، فاستبدالها والاستعاضة عنها في مملكة النمل الميت سهل ومتاح.
لكن مستشارَه نغَّصَ عليه فرحته بقرب ما قضى سنين من عمره يحلم به، عندما اقترح عليه ناصحا أن يختارَ كتيبة يطلق عليها اسم "كتيبة القوات الخاصة"، على أن يشكِّلَها من خيرة ضباط، وضباط صف، وجنود حرسه المقربين الذين كان ينتقيهم على "الفرازَة" هو وجواسيس قصره، ويرسل بها إلى تلك الحرب، كي تزدادَ شعبيتُه التي راحت تتآكل بسبب تلك الحرب نفسها.
ولا بأس بفقدان تلك الكتيبة في الحرب إن حصل ذلك، فلكل حربٍ خسائرُها. ومن البطولة أن يقال عندئذٍ أن من أهم "خسائر تلك الحرب" هذه الباقة من خيرة أفراد الحرس الملكي المنتقين والمصطفين الأخيار، "ذروا للرماد" في عيون هؤلاء الذين ما فتئوا يُخَوِّنون سيِّد البلاد ويتهمونه هو وحاشيته بأنه يعزِّز ويرسخ أركان دولةٍ لا يُراد لها سوى أن تكون في خدمة الأعداء الذين جاءوا عندما جاءوا على أسِنَّةِ الرماح الشقراء محتلين، والذين غادروا عندما غادرو وهم ما يزالون محتلين، وفي خدمة صنائعهم الذين أصبحو حلفاءَهم.
اقتنع سيُّد البلاد على مضَضٍ بمقترح مستشاره، بسبب ما رآه في الاقتراح المُنَغِّص من قدرةٍ مرتقبة على امتصاص النقمة التي راح يتحسَّسُ أشباحَها، فيما سيُقال وسيُفْعَل بعد أن تنتهي تلك الحرب بتلك النتيجة الرهيبة التي يعرفُها جيدا، لأنه يعرف دورَه فيها على نحو لن يخطِئَ أيا من تفاصيله المرسومة.
فأمَرَ قائدَ حرسه بتشكيل "كتيبة القوات الخاصة" من خمس مائة من ضباط وضباط صف وجنود حرسه الخاص يختارهم بعناية. ووجَّهه بتعليماته السامية إلى الحرص على اختيار الأفراد الأقل أهمية من بين جميع حرسه، كي لا تكون خسارتهم المُرَجَّحَة في الحرب أمرا يضطَرُّ إلى أن يعضَّ عليه الأنامل من الغيظ.
وقع سيِّد البلاد على أمر تشكيل الكتيبة، وعندما سأله قائد حرسه عن التكييف الذي سوف يغادر فيه أفراد هذه الكتيبة أماكن عملهم في حراسه جلالته، لم يضطر إلى التفكير طويلا قبل أن يجيبَه:
"فليوقعوا على إجازات من الخدمة في حراسة القصر الملكي، بسبب تكليفهم بخوض حرب قومية خارج حدود الدولة" (!!)
وتشكَّلَت الكتيبة، وانطلقت بقدِّها وقديدها متجهة نحو الغرب لتعبرَ النهر على وجه السرعة.
ولو سُئِلَ أيٌّ من أفراد الكتيبة في تلك اللحظات الحماسية عما هو ذاهب لأجله، لكان الرَّدُّ موحَّدا عند الجميع:
"التضحية بأرواحنا فداء لأوامر سيِّد البلاد، وقد قدمنا لأجل ذلك مهمة الحرب خارج حدود الدولة لأسباب قومية، على حماية جلالته من البعوض والذباب المنتشر بشكل ملفت في هذا العام" (!!)
قبل غروب الشمس، وعندما أطلَّ النهر الحزين من بعيد، فوجِئت "كتيبة القوات الخاصة" بحاجز عسكري يقف عنده جنديان من جنود الاحتلال الذي ما يزال احتلالا، ويوجهان لها الأمر بالتوقف للتفتيش، وهو أمرٌ معتاد في البلاد في تلك الحقبة من الزمن، فجندي أو جنديان من جنود الاحتلال الذي ما يزال احتلال كانا يملكان صلاحية تغيير مسارِ فرقة، أو لطعها تتنظر لساعات طويلة في عزِّ الحر للتأكد من وجهتها وأسلحتها وسبب تحركها وغير ذلك من الأمور العسكرية التي يعرفها أهل الصنعة "العسكرتجية" (!!)
ولأن أفراد هذه الكتيبة لم يتعودوا على توجيهات غير توجيهات سيِّد البلاد، ولا تصوروا أن هناك مكانا في الكون يوجد فيه أحد غيره يحق له أن يأمرهم، ظنا منهم أنه مركز الكون بعد خالق الكون، فقد شعر الكثيرون منهم بالاستياء وهم يرون أن حرس "سيد البلاد" الأشاوس يُؤْمَرون بالتوقف من قِبَلِ جندي أشقر، يحمل أسفل جبهته عيونا زرقاء، ويخفي فخذيه في "شروت عسكري".
لكن قائد الكتيبة الذي لم يكن بعيدا عن إدراك تفاصيل اللعبة، أمرهم بتحمُّلِ المهانة لأجل الحفاظ على كرامة سيِّد البلاد الذي تهون لأجل كرامته كلُّ الصعاب، وتلبيةً لإرادته السامية التي تُسْتَرْخَصُ لأجلها كلُّ الغوالي. فإذا كان هو قد تنازل عن حقه في أن يحظى بالأمن والأمان والحراسة المشدَّدة في عزِّ الأزمة التي تعصف بالبلاد، ورغم مخاطر البعوض والذباب، فأرسل بهم لمهماتٍ خارج حدود الدولة الفتيَّة التي لم يشتد عودها بعد، ومنحهم إجازات لأجل ذلك، فليس هناك شرفٌ أولى بالعمل على الحظوة به، من شرف تقبُّل المهانة في سبيل المهمة التي انتدبَهم إليها جلالته، ولذلك أناخوا كما تفعل "البعارين" حين يوقفها راعيها ويأمرها بالنَّخِّ، منتظرين ما سوف يفعله بكتيبة من خمس مائة ضابط وضابط صف وجندي من "الجيش العربي"، جنديان لم يقتنع أحد من جنود الكتيبة بأنهما ليسا مُخَنَّثَيْن، ما جعلهم يتهامسون متحسرين على زمن يتحكم فيه المخنثون بالرجال، بعدما بدا لهم أن الرجولة تكمن فقط فيما بين السيقان، وليس فيما هو داخل الجماجم (!!)
راح أفراد الكتيبة يراقبون من بعيد حِوارا لم يسمعوه بين قائد الكتيبة وبين جنديَّيْ الحاجز، بدا فيه قائدهم "الغضنفري" عليهم عندما يكونون في قصر سيِّد البلاد، "نَعْجَويا" بشكل ملفت، وهو يتحدث كالتلميذ الصاغر مع الجنديين.
ثم بعد وقت قصير من الحوار الذي فهم جميع أفراد الكتيبة من ظاهره الماثل أمام أعينهم أنه انطوى على قدرٍ من القبول بالذل والمهانة يليق بكرامة سيِّد البلاد، ويليق بإكرامه بالفوز بالاشتراك في تلك الحرب القومية، عاد قائدهم برفقة أحد الجنديين، فيما اختفى الآخر داخل كشك حجري يبدو أنه كان غرفة قيادة للحاجز (!!)
وقف الجندي على مسافة من الكتيبة كافية لجعلهم يشعرون بحميمية الخصوصية بينهم وبين قائدهم الذي تُرِكَت له الفرصة كي يتقدمَ نحو مَقوديه ليشرحَ لهم المطلوب منهم على وجه التحديد قبل أن يُسْمَحَ لهم بالمرور (!!)
حاول قائد الكتيبة التظاهر بعدم الشعور بالمهانة مما جرى ويجري، والأهم مما سيجري بعد لحظات، مؤكدا لجنوده وضباطه وضباط صفه، أنهم في مهمة وطنية شريفة إكراما لسيِّد البلاد وتبجيلا واحتراما لإرادة جلالته السامية، وبالتالي فإن تحمُّلَ المهانة لأجل ذلك ليس فيه ما يعيب، فلا يعيب الأوطان وشرفاء الأوطان تحمُّلُ الذُّلِّ والمهانة لأجل ملوكهم وتيجان رؤوسهم (!!)
علم أفراد الكتيبة من قائدهم أن الجندي الواقف خلفه يجب أن يَمُرَّ بنفسه للتفتيش عليهم فردا فردا، ليتأكد مما إذا كانوا قد التزموا – ماداموا في مهمة وطنية بأمر من سيد البلاد – بقواعد النظافة المُتَّبَعة في الجيش، من حلقٍ لِلِّحى، وحفٍّ للشوارب، وتقليمٍ للأظافر، وتلميعٍ للبساطير وأزرار البِزَزِ العسكرية التي يرتدونها (!!)
ثم بصوت حاول أن يخفي رائحة المهانة التي تفوح منه، أخبرهم بأن المهمة التالية للجندي ستكون هي التفتيش على سلاح الكتيبة، للتأكد مما إذا كانت تحمل معها قطعا من السلاح الممنوع انتقالُه من الثكنات إلى أيِّ مكانٍ خارجها، ومما إذا كان عدد الرصاص الذي في حوزة كل جندي ليس زائدا عما أقرته اللوائح الداخلية للجيش عندما يكون الجنود في مهمات خارج مواقعهم العسكرية المعتادة (!!)
أما ما بُحَّ صوت القائد قبل إخبار جنوده به وكأنه داخل لتوِّه في لطمة "بَرْدٍ شُعَبِيَّة" حادة ومدمِّرة أفقدته النطق وهشَّمت أحباله الصوتية، فهو ما حاول أن يفسِّرَ لهم به السر وراء اختفاء الجندي الثاني في داخل ذلك الكشك الحجري. فهو يعلم أن جرعةَ المهانة التي سيلقيها على مسامع أفراد كتيبته "البواسل" ستتجاوز قدرتَهم على الاحتمال إذا لم تُرْفَق بجرعةٍ مضادة من التبرير تكافئها، وتتعلق بالفضاءات الغامضة وغير المفهومة والربانية المغلَّفَة بالغيبية لكرامة سيِّد البلاد.
لم يَطُل الوقت بأفراد الكتيبة قبل أن يعلموا أن ذلك الجندي الذي حيَّرَهم اختفاؤه الطويل في قلب كشكٍ حجري غدا لهم لغزا تناوشتهم وراودتهم بشأنه هواجس امتدت في أذهانهم من تَصَوُّرِه مكانا للنوم، انتهاءً بتَصَوُّرِه مكانا للاتصال بالقيادة العسكرية لجيش الاحتلال الذي ما يزال احتلالا، مرورا بتَوَقُّعِ أن يكون مكانا مناسبا لتناوب دَوْرَيْ "الخنوثة" بين الجنديين العالقين في هذه "الشورتات العسكرية القصيرة"..
لم يطل الوقت بهؤلاء الملطوعين في الشمس قبل أن يعلموا من قائدهم الذي بُحَّ صوته فعلا هذه المرة، عندما أخبرهم بأن الجندي المخنَّث إياه لم يعترف بموافقة "سيِّد البلاد" على منح أفراد الكتيبة إجازات من الخدمة في مواقعهم العسكرية الثابتة، لأداء مهمات لها طبيعة عسكرية خارج حدود الدولة، بسبب أن صلاحيات سيِّد البلاد على جنود جيشه عامة، وعلى أفراد حرسه خاصة لا تتجاوز حقَّه في منحهم الإجازات من الخدمة لزيارة أهلهم في القرى والحضر والمضارب بدون حملهم لأيِّ أسلحة. أما صلاحية منحهم إجازات من مهمة هم على رأسها، لتكليفهم بمهمة أخرى تتطلب حمل سلاحٍ خارجَ حدود الدولة، فليست من صلاحيات جلالته، بل هي من صلاحيات قيادة جيش الاحتلال الذي ما يزال احتلالا وحده.
وأخبر القائد أفراد كتيبته وهو يطمئنهم على كرامة سيِّد البلاد التي لن يَسْمَحَ بأن تُمَسَّ في موقف كهذا، بأنه طلب من الجندي "وليم" الذي نطق اسمَه أمام جنده باستعلاء أضاف بموجبه اسم الإشارة "هذا" أمام اسمه قائلا: "هذا الوِلْيَم"..
أخبرهم بأنه أجبرَ الجندي على أن يطلب من قيادة جيشه النظر بعين الاحترام لمولانا الملك، والقبول بإرادته في منح إجازات لحرسه لأداء مهمات عسكرية خارج حدود الوطن، مادام سيحمي بهذه المهمة العسكرية الخارجية أمن واستقرار الدولة داخليا.
لكن القائد لم يُخْبِر جنوده بتكملة طلبه الذي برَّرَ به للجندي أهمية عدم إحراج جلالة الملك أمام جنده، خاصة وأن قيادته – أي قيادة الجندي نفسِه – تعلم يقينا بأن هذه الحرب شكلية ولا قيمة لها ومحسومة النتائج مسبقا، وأن هذه الحركة هي فقط نوع من استباق كوارث يتوقعها جلالته، وأنه يريد أن يكون في يديه سلاح يتباهى به أمام البعوض والذباب المتربِّص به مع نهاية الحرب، عندما يجد في حوزته سجلا بدماء العشرات أو ربما المئات من أفراد حرسه الخاص يبكيهم أمام الجميع.
بلعَ جميع أفراد الكتيبة الأمر دون أن يفهموا شيئا، لكنهم حاولوا أن يتفهموا القصة عبر تفهم أن الأمر لم يعد يمس كرامة مولاهم سيِّد البلاد.
ساعات طويلة ومديدة بحجم أعمار بعضهم رأى أفراد الكتيبة الوقت الذي انقضى قبل السماح لهم بالتقدم نحو هدفهم غرب النهر من قبل الجنديين اللذبن تمنيا لهم العودة سالمين، وللقائد النجاح في المهمة التي كلفه بها سيِّد البلاد.
فالتفتيش تمَّ على أكمل وجه، كما يتم عادة في الطوابير الصباحية في الثكنات وفي مواقع الخدمة العسكرية.
والمصادقة على منح سيد البلاد إجازات لهؤلاء الأشاوس لأداء مهمة عسكرية خارج حدود الدولة، وصلت أخيرا رغم تأخُّرها، إذ يبدو أن اتصالات على أعلى مستوى جرت بين قيادة جيش الاحتلال الذي ما يزال احتلالا وبين سيَّد البلاد هناك في العاصمة قبل أن تتمَّ الموافقة على السماح للكتيبة بالمرور الآمن.
تجاوزت الكتيبة الخاصة كلَّ مظاهر المهانة التي انتابت أفرادَها على الحاجز العسكري الذي فتَّشَ أفرادَها فردا فردا، وتمَّمَ على أسلحتهم فشَكَة فشَكة، بعدما رأى الضباطُ وضباطُ الصف والجنود أنفسَهم يقتربون من النهر، ثم يعبرونَه، ثم يخلِّفونَه وراءهم.
ففي سبيل كرامة "سيِّد البلاد" التي فَهِموا أنها وكرامةَ الوطن سيان، تهون كلُّ المذلات والإهانات التي يتعرَّض لها العباد.
هاهم يقتربون من العدُوِّ ومعسكراتِه ومفارزِه، وفي ساحات الوغى سيُثْبِتون أن كلَّ ما تحمَّلُوه من مهانةٍ كان له ما يبرِّرُه.
هكذا راح كلُّ فردٍ من أفراد الكتيبة يمسحُ عن روحه وَخَمَ عارِ التفتيش المذِلِّ الذي تعرَّضوا له على أرض دولةٍ قيلَ لهم أنها دولتُهم، وأُفْهِموا أنها ذات سيادة، وصاحبة دستور وحدود ومَلِكٍ مُتوَّج على شعبٍ حرٍّ مستقلٍّ (!!)
بدا قائد الكتيبة غارقا في تفكيرِ الحيرة وهو يقترب بهؤلاء العساكر الحالمين بالجهاد والاستشهاد، من مواقع عدوٍّ مسلحٍّ بأسلحةٍ أفضل من أسلحتهم، ومسنودِ الظَّهرِ بمستودعاتٍ لا تنضب من الذخيرة، إذا ما قيسَ الأمرُ بما يَعْلَمُه يقينا من حقيقةٍ أُخْبِرَ بها قبل أن يغادرَ العاصمة بكتيبته، وهي أن عليه ألا يُبِدِّدَ ذخيرةَ الجيش وسلاحَه، وأن يعود منتصرا سالما غانما، منقذا ما لا يقلُّ عن نصف سلاحِه، ومحتفظا بما لا يقل عن ثلاثة أرباع ذخيرته، لحربٍ أخرى متوقعة بأسرع مما أتاحت له مخيِّلَتُه أن يتصوَّر، حتى لو اضطر لأجل تحقيق ذلك أن يُضحي بنصف أفراد كتيبته، لأن الرصاصة – كما علم – ستصبحُ شحيحة في مُقْبِل الأيام، إلى درجة أنها ستكون أهمَّ من البندقية التي تُطْلِقُها، وأن البندقية ستصبح بدورها أهمَّ من الجندي الذي يحملها (!!)
ولقد كان مردُّ حيرته في ظل واقعةٍ يعلمُها، مفادُها أن هؤلاء الجنود المتحمسين للجهاد والاستشهاد، لا يعرفون عن طبيعة المعركة التي سيخوضونها شيئا أكثر من أنها معركةٌ محسومةٌ لصالح جند "سيِّد البلاد" قبل أن يوقِّع على إجازاتِهم، ولا عن طبيعة العدو الذي سيقاتلونه شيئا أكثر من أنه يهوديٌّ كافرٌ جبانٌ، سيفِرُّ من أرض المعركة عند أول رصاصة يطلقونها عليه..
لقد كان مردُّ حيرة قائد الكتيبة في ظل ذلك الواقع، إلى أن عليه من موقع المسؤولية إيجاد الوسيلة المُثلى لتعديل الميزان المختل في القوة، بين كتيبته، ومن يتوقع مواجهتَهم بعد أيام أو ربما بعد ساعات، لضمان رفع المعنويات في صفوف جنده، حتى إذا صدمتهم الحقيقة المرَّة على الأرض، صمدوا بقوة الدَّفع الذاتي الكامنة في شُحنةِ المعنويات المرتفعة التي دخلوا بها المعركة، قبل أن تفقدَ قوةُ الدفع تلك زخمَها لتحُلَّ محلَّها الحقائق التي ترسمها على الأرض فوَّهاتُ البنادق وأعداد الفَشَكات غير الفارغات في الأمشاط (!!)
فما وجد بعد طول تفكير استغل لأجل الغرق فيه، انشغالَ أفرادِ كتيبته بالسفر في عوالمهم التي راح كلٌّ منهم يرسم لوحاتِها في خياله من وحي آماله وآلامه، وهو يغذُّ السير باتجاه ساحة معركةٍ اقتنع الجميع بأنها ما تزال بعيدة نسبيا مادام أزيز الرصاص ودوي المدافع وهدير الطائرات لم يشنِّفْ آذانَهم بعد، إلا أن يأمرَ الكتيبة بالتوقف ليلقيَ شيخُها وفقيهُها على مسامع أفرادها موعظةً جهاديةً حماسيةً تجعلهم يستعجلون لقاء العدو طلبا للجنة بدل استمهال ذلك وتحري تأخيره (!!)
لم يُطِلْ قائد الكتيبة الكلام، مع أن المدة التي قضاها يتحدث وهو يمهِّد لواعظ الكتيبة قبل استلامه زمام الحديث، إذا ما قورنت بتلك التي قضاها الواعظ نفسُّه في إلقاء موعظته فإنها تمثلُّ دهرا، وأسرعَ إلى مطالبة الشيخ الفقيه الواعظ بإلقاء كلمته في الجند، ليُظْهِرَ لهم كراماتِ المجاهدين والشهداء، ومزايا الثابتين في القتال للدفاع عن الوطن وإغاثة الإخوة في الدين، تنفيذا لإرادة "سيِّد البلاد"، باعتباره وليَّ الأمر واجبِ الطاعة بنص الأمرِ الإلهي، حتى في حالات الدَّعَة والراحة، فكيف بحالات الحرب والقتال (!!)
لو أن أحدا من المهتمين بالأرقام القياسية، وبالبحث عن الطرائف والنوادر التي يتهافت البشر على تدوينها في موسوعة "غينيس" أتيحت له الفرصة ليكون متواجدا في الكتيبة الخاصة في ذلك اليوم وفي تلك الساعة، ليستمعَ إلى خطبة الواعظ، لما تردَّد لحظة في افتتاح الموسوعة بخبرِ ونصِّ هذه الموعظة التي كانت الأقصر بين كلِّ المواعظ التي ألقاها أو تلك قد يلقيها واعظ في تاريخ الإنسانية كلِّها (!!)
نهض الواعظ من مجلسِه، وراح يبحث عن مكانٍ يقف فيه يكون مناسبا لمواجهة كلِّ أفرادِ الكتيبة، وعندما وجدَه واجه الجندَ منه، وراح يحدِّقُ فيهم بنظراتٍ جعلت أنفاسَ الجميع تتلاحق بوجلٍ في انتظار ما سيقذف به من حمَمٍ كانوا يتوقعونها بل ينتظرونها كي يلتهبوا بها، فيتحولون إلى شُهُبٍ من النار يواجهون بها العدو الرابض منتظرا متربصا وراء التلال البعيدة (!!)
أطال الواعظ الوقوف بهيئته تلك، إلى درجةٍ أحرجت قائدَ الكتيبة، وأثارت القلقَ في صفوف الجميع. وعندما بدا أن الحجرَ والشجرَ والنملَ العابرَ، وكلَّ صراصير الصبار، وجنادب البرِّيَّة، وشحارير كروم التين والزيتون، ارتبكت من هول صمت الواعظ، وشنَّفَت آذانها لتصغي إلى ما استطاع أن يستحِثّ لسماعه كلَّ حبَّة تراب ممتدة على مرمى البصر، نطقَ، بلا بسملةٍ وبلا حمدٍ، وبلا صلاة على النبي أو تسليم، وبلا أيِّ مقدمة من تلك التي يُزوِّق بها الواعظون والخطباء ديباجاتِ خطبِهم ومواعظِهم، وقال خمس كلمات لم يزد عليهن حرفا واحدا:
"أيها الجيشُ ليتَك كنتَ لنا" (!!)
ثم انسحب وعاد إلى مكانه دون أن يفهمَ أيٌ من الجند معنىً لكلامه، خلافا لقائد الكتيبة الذي وبسبب أنه فهمَ بوضوحٍ أكثر، ما كان يفهمه على استحياء أصلا، حاول الخروجَ من تداعيات الموقف، بأن راح يصرخُ ويُرْعِدُ ويُبْرِق بخطبةٍ عصماء اضطره إلى إيقافها فجأة دَوِيُّ قذائف مدفعية رجَّت الأفق (!!)
صدرت التعليمات من القائد بشكل الانتشار والتخندق والاستعداد، وبطريقة المواجهة وتوقيتها، وبهيئة الانسحاب والتقدم والالتفاف والتراجع، وكَمُنَ الجميع ينتظرون عدوا راح يقترب، تشي بقرب وصوله أصواتُ الانفجارات التي كانت تزحف نحو المكان (!!)
الصمت والتركيز والترقُّب كانت لتلك اللحظة الفارقة في حياة كلِّ أفراد الكتيبة سِمَة (!!)
"أيها الجيش ليتك كنت لنا"..
هي الكلمات الخمس الوحيدة التي كانت تتقاذفها متاهات التفكير والتخيُّل والذاكرة والتحليل والتركيب، في أدمغةٍ سكنَتْ كلَّ جماجم أفراد الكتيبة في تلك اللحظات العصيبة.
كانت الكلمات الخمس تدوي كدوي المدافع التي يسمعونها على مرمى آذانهم، ولكن في داخل ضمائرهم، بل مع كلِّ صوت انفجار كان يزحف نحوهم، كان الصمت يَضُجُّ بأسئِلَةٍ يتراقص في أعماق الجميع:
"لمن الجيش إذن، إن لم يكن لنا" (؟!)
"مَنْ سيقاتل مَنْ إذن، إذا لم نكن "نحن" الجيش العربي سنقاتل "هم" اليهود" (؟!)
"لصالح من ستُحسَمُ المعركة إذن مادام الجيش ليس جيشُنا" (!!)
غابت هذه الأسئلة عن واجهة المساحات المتعاركة في أدمغةٍ كانت تائهة تشعر بالضياع، بعد أن اشتد وطيس المعركة، وبعد أن حميت نارُها (!!)
فأَجَّلَ القلقُ الذي قذَفَتْ به إلى أركانِ الانتظار تفاصيلُ معركةٍ مفاجئة، وإن يَكُنْ إلى حين، مسحَ رذاذِ الحيرة الذي كان يتساقط على الأرواح، ويَخِزُ هالاتِ الضمائر الموجوعة، كبرَدِ الحديد الصَّدِئ، محوِّلا الآلام التي وُلِدَت في رحم موعظة الشيخ "أيها الجيش ليتك كنت لنا"، إلى صديدٍ تقيَّحَت بسببه أرواحٌ أربكها رصاصٌ تطلقه القلوب باتجاه عدوٍّ تكرهُه تلك القلوب، بعد أن أصبحت تشكُّ في أن الرصاصَ خادمٌ أمينٌ للقلب واتجاهاتِ مشاعره، أم أن القلبَ قد خُدِع ليحبَّ ما لا تحبُّه البندقية، وليكرهَ ما راحت تعشقُه البندقية (!!)
كل العائدين بعد الحرب عرفوا ما لم يفهموه، وفهموا ما لم يعرفوه، وخضعوا لما أنكروه، وأنكروا ما تحدَّوْه، واقتنعوا بما لم يشاهدوه، ولم يقتنعوا بما شاهدوه، عندما وصلتهم الأخبار التي لا تخفي إلى الأبد وهم في مواقع حراستهم في قصر "سيِّد البلاد" أن "الواعظ" قد أُعْفِيَ من مهامه، وأن جميع شهداء الكتيبة قد تمَّ ترفيعهم وزيادة تقاعدات وارثيهم، لأنهم كانوا ضحايا التهوُّر الذي تسبَّبَ فيه أحياءٌ عائدون عوقبوا على تهوُّرِهم، وآخرون حوسبوا على تبديد "الفَشَك" بعد أن أكَّد مدققو حسابات "سيِّد البلاد" أن العَدَد المتبقي منه نقص عن الثلاثة أرباع التي كان من المفروض أن يعودوا بها كي يتمَّ ادخارها لحروبٍ قادمة (!!)