جدل النصر والهزيمة في لبنان وفلسطين
عبد الستار قاسم
1/9/2014
سارع لبنانيون عام 2006 إلى رفض إعلان حزب الله عن الانتصار، وأصروا على أن حزب الله قد هُزم، وأن إسرائيل هي التي انتصرت. بدأت زوبعة الاتهامات والاتهامات المضادة في إسرائيل حول فشل الحرب على حزب الله، وتشكلت لجان تحقيق حول إخفاقات الجيش الإسرائيلي، ولبنانيون يصرخون من الطرف الآخر للحدود الاستعمارية قائلين لإسرائيل إنها انتصرت ويجب إيقاف مهزلة التحقيقات بنتائج الحرب. إسرائيل تقر بهزيمتها، ولبنانيون ينادون بهزيمتهم. ذات الشيء يتكرر في فلسطين فيما يخص حرب تموز/2014 على غزة. إسرائيل تجر أذيال الخيبة ورئيس وزرائها يعلن عن سحب قواته البرية من غزة خوفا، وفلسطينيون يصرخون به بأنه انتصر وأن المقاومة الفلسطينية هي التي هُزمت. وينشغل فلسطينيون كثر في البحث عن الهزيمة ومستعدون لخوض جدل واسع وطويل حول أقوالهم بهزيمة المقاومة.
جدل الهزيمة
يقول اللبنانيون والفلسطينيون المنادون بالهزيمة إن النصر والهزيمة مرتبطان بالخسائر، والمهزوم هو الذي يتكبد الخسائر الأكبر، بينما لا يتكبد المنتصرخسائر كثيرة. ويضيفون بأن الجانب العربي سواء كان اللبناني أو الفلسطيني تكبد خسائر كبيرة في النفوس والممتلكات في حربي عام 2006 و2014، وبالمقارنة تكبد الجانب الإسرائيل خسائر قليلة سواء في النفوس أو الممتلكات. فلسطين قدمت أكثر من ألفي شهيد، وأكثر من عشرة آلاف جريح، وهدمت البيوت والمساجد والمدارس، وتشرد آلاف الفلسطينيين؛ وفي لبنان وقعت خسائر كبيرة ودمرت قرى ومنشآت ضخمة في حارة حريك، ولا يجوز مع كل هذه الخسائر والأحزان والآلام التي لحقت بالشعبين أن يدعي أحد النصر. لقد كانت الهزيمة بينة وواضحة كأشعة الشمس والمكابرة تضر في النهاية ولا تنفع.
هذه جدلية لا تتناسب مع جدليات أخرى كان يروج لها ذات الأشخاص أو من وافقهم في النظرة نحو الصراع العربي الإسرائيلي في حروب سابقة. فمثلا كان مذيع صوت العرب المصري يقول إن مصر انتصرت في حرب عام 1967 لأن المصريين والعرب عموما اكتشفوا حقيقة أنفسهم. أما مذيع دمشق فأعلن الانتصار لأن النظام السياسي لم يسقط. وانتصرنا أيضا في حرب تشرين في حين أن الجيوش العربية لم تحقق أهداف الحرب والمتمثلة بإزالة آثار العدوان. توغلت إسرائيل في الأراضي المصرية والسورية، وعجزت القوات العربية عن طردها. أما في حرب عام 1982 فقد خرج المقاتلون الفلسطينيون من بيروت وهم يرفعون أصابعهم بإشارة النصر. لقد طُردت منظمة التحرير من لبنان وبيروت ومع ذلك بقيت مصرة على النصر.
الخسائر لا تقرر النصر أو الهزيمة
لا تقاس نتائج الحروب بالضرورة بالخسائر البشرية والمادية التي يتكبدها كل طرف. من المحتمل أن تدخل الخسائر في الميزان عندما تندلع مناوشات بين طرفين متخاصمين أو تراشقات بالأسلحة، لكنها تبقى على هامش الميزان في الحروب الرئيسية المصيرية. والتاريخ يشهد على مجتمعات أو شعوب حققت انتصارات في حين كانت خسائرها أضعاف خسائر الطرف الآخر مثل الجزائر وفييتنام. من المتوقع دائما أن تكون خسائر الشعوب المقهورة أو المستعمرة أو الواقعة تحت الاحتلال كبيرة وأكبر بكثير من خسائر المستعمرين والمحتلين ويعود ذلك إلى أن الدول الاستعمارية أو الاحتلالية تملك قدرات عسكرية ضخمة، وطاقات تدميرية هائلة، وتستطيع تدمير البيوت على أصحابها وإعمال القتل الجماعي بالناس. الشعوب المقهورة لا تملك وسائل قتالية متطورة، ولا قدرات تدميرية هائللة، وغالبا ما تملك وسائل قتالية بدائية وعلى مستى تقني غير متطور، لكنها تملك إرادة قتالية صلبة ، وعزيمة جامحة على الاستمرار حتى التحرير. عادة تتحمل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال الخسائر في سبيل قهر إرادة العدو وإجباره على الانسحاب والتخلي عن استعماره. الدول الاستعمارية تملك طاقة تدميرية ضخمة تستخدمها من أجل كسر شوكة المقاومة وقتل إرادتها. إنها تستعمل تدمير البيوت وقتل الناس كوسيلة لإخضاع إرادة المقاومة. ولهذا يتطلع المحللون عادة إلى إرادة الأطراف المتحاربة وليس إلى الخسائر على الرغم من أن الخسائر تسبب الكثير من الآلام والأحزان.
تحقيق أهداف الحرب هو المقياس الحقيقي للنصر والهزيمة. في الحالتين اللبنانية والفلسطينية، إسرائيل هي التي بدأت الحرب وليس المقاومة. المقاومة في كلتا الحالتين وقفت مدافعة عن نفسها وعن شعبها. إسرائيل كانت تحدد أهداف حروبها، بينما كانت المقاومة تعلن أنها ستصمد وستصد العدوان وستفشل العدو. ولهذا يبقى تحقيق الأهداف معيارا أساسيا في الحكم على النصر أو الهزيمة. في كلا الحربين فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها، وتنازع الإسرائيليون سياسيون وعسكريون فيما بينهم بسبب فشلهم. صحيح أن المقاومة لم تحرر فلسطين، لكن مجمل الأعمال العسكرية تشير إلى تطور نوعي كبير في أداء المقاومة، وإلى انخفاض كبير في مستوى الأداء العسكري الإسرائيلي.
قال أحد السياسييين البريطانيين بعد حرب عام 2006 إن العرب انتصروا في كل هزيمة لحقت بهم، لكنهم رفضوا القبول بانتصارهم الوحيد عام 2006. هذا جدل عربي عجيب. هل يبحث العرب عن الهزائم؟ وهل يعشقون الهزيمة ، ولا يجوز لأي طرف عربي أن يتحدث عن نصر ولو محدود؟ بإمكان اللبنانيين والفلسطينيين أن يتحدثوا على الأقل عن الصمود والبسالة في القتال والوقوف بمنعة ضد الجيش الإسرائيلي، لكنهم لا يلتفتون إلى إنجازات المقاومة ويصرون على أن الهزيمة كانت من نصيبهم. أو من الممكن أن يتحدثوا عن فشل الجيش الإسرائيلي وإخفاقه في إنجاز أي هدف من أهدافه، لكنهم يصرون على انتصاره. لماذا هذا السوك العجيب وهذه الجدليات التي تحمل في داخلها الضغائن والأحقاد؟ هذا سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى أبحاث مكثفة من قبل فريق من الباحثين المختصين. الإجابة بالتأكيد ليست سهلة ولا بسيطة، ومن المهم أن تتناول مراكز أبحاث هذه المسألة لأنها تتعلق بالتركيبة التربوية والنفسية للإنسان العربي، والإجابة عنها ستساعد صاحب القرار العربي إن كان معنيا في وضع البرامج الثقافية والتربوية الضرورية لرؤية الأمور ليس كيفما يشتهي الفرد وإنما كما هي. إنما في هذا المقال أحاول أن ألمس على بعض النقاط التي قد تكون جزءا من إجابة:
استدخال الهزيمة
تعرض الإنسان العربي بفضل الأنظمة العربية لهزائم متكررة في مختلف مجالات الحياة، وقلما شهد نجاحا في نشاطات عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، الخ. حياة العربي مليئة بالهزائم إلى درجة أن الهزيمة أصبحت صفة ملازمة لحياته على مختلف مراحلها. منذ ولد العربي وحياته زاخرة بالتراجع والتخلف وهيمنة الآخرين الذين يتجبرون به. فشل العرب مرارا أمام إسرائيل وأمام الهيمنة الاستعمارية البريطانية والأمريكية، وفشلوا في الخروج من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والأمية، ولم ينجحوا في إحداث التماسك الاجتماعي ولا بتأسيس هوية مشتركة تجمعهم جميعا، ولا بإقامة منظومة قيمية أخلاقية يجمعون عليها، وتشكل معيارا للسلوك العربي الملتزم والمتمتع بالانتماء. أنا واحد من هؤلاء العرب الذين لم يشتموا رائحة الانتصار إلا مؤخرا على أيدي المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين. حياتنا مزدحمة بالهزائم والفشل والإحباطات، وقادة العرب رسخوا كل هذه الأمور بسلوكهم غير المسؤول بسياساتهم الداخلية وتبعيتهم لأسيادهم الغربيين في سياساتهم الخارجية.
مع الزمن، أصبحت الهزيمة جزءا من التركيبة التربوية والنفسية للإنسان العربي. لقد ولد في الهزيمة وعاش في الهزيمة، فأصبح طعم الحياة الاعتيادي بنكهة الهزيمة، بل الحياة نفسها هزيمة. بات العربي يظن أن الحياة هزيمة، والنصر هو الشاذ فيها، وإذا غابت الهزيمة ولم تحصل يشعر أن شيئا مهما في حياته قد غاب، ولا بد من استعادته لكي تعود الحياة إلى رتابتها وإلى عهده بها. هذا بالضبط شبيه بمن اعتاد الحذاء فوق عنقه وفقده فجأة، فيبدأ بالبحث عن الحذاء بدل أن يختفي باحثا عن حياة جديدة. الهزيمة أصبحت جزءا من تركيبنا النفسي والتربوي وذلك لأن الأصحاب والأصدقاء ينصحون المتمرد عادة بعدم التمرد لأنه لن يقوى على عمل شيء أو تغيير شيء. إنهم ينصحون المتمرد بأنه لن يقيم الدين في مالطا، وأن عليه ألا يحمل السلم بالعرض. المعنى التربوي لهذا يعني أن على المرء ألا يحاول لأن الهزيمة ستكون نصيبه. الهزيمة تنتقل الآن تربويا من الكبار إلى الصغار، ومن المجرب إلى قليل التجربة، ومن الأب إلى الابن فيستدخل الشخص الهزيمة على أنها نمط حياة لا يتغير. فإذا حصل أن قال أحد أنه انتصر فإن ذلك يثير الاستغراب والتهكم والاستهزاء، ويجب العمل على إعادته إلى رشده. يعني أن حزب الله أصيب بالخرف عام 2006، وكذلك المقاومة الفلسطينية في غزة عام 2014.
العداوات الداخلية
ربما يكون عداء العربي لعدوه أو منافسه الداخلي أشد بكثير من عدائه لعدو خارجي بخاصة عندما تتبلور علاقة ما بينه وبين العدو. إذا تحدثنا عن المعارضة اللبنانية لحزب الله نجد أن عداء هذه المعرضة للحزب أشد بكثير من عدائها لإسرائيل، وأكبر دليل على ذلك مادة التثقيف السياسي والاجتماعي والحزبي التي تتبناها هذه المعارضة. وإذا نظرنا إلى القوى الفلسطينية المعارضة للمقاومة نجد أنها أشد عداء للمقاومة منها لإسرائيل، والأدلة على ذلك كثيرة ومنها التثقيف الحزبي والتعاون مع العدو. التنسيق الأمني بين فلسطينيين وإسرائيل قائم ومستمر أثناء الحرب بينما تستمر المنابزات والغمز واللمز ضد المقاومة.
المشكلة في الساحة العربية أن العدو الخارجي يهيمن على الجميع فالجميع متساوون في الذل والمكانة المهينة، أما المنافسات الداخلية فلها وقع مختلف. قد يقبل العربي الهيمنة الخارجية لكنه مستعد أن يحارب منافسه الداخلي القبلي أو المذهبي لسنوات، ولنا في حروب الجاهلية عبر كثيرة عايشناها في عدد من البلدان العربية في العصر الحديث. لا مانع أن يسود الأجنبي أحيانا لكن سيادة ابن الشعب المنافس مرفوضة لأن هذا يهز مكانة المنافسين الداخليين ويقلل من شأنهم. والمهم في صراعاتنا الداخلية ألا يحقق المنافسون إنجازات يحمدون عليها أو يسجلها لهم التاريخ. ولهذا ننشغل كثيرا في أعمال إفشال وإسقاط الأطراف المحلية التي تريد أن تكون أكثر طولا، وأعلى جاها. هذا ينطبق حتى على مستوى مجلس قروي في أغلب القرى العربية. تسعى القبيلة المنافسة في القرية إلى إفشال رئيس المجلس لأنه من قبيلة أخرى، ولا يجوز لتلك القبيلة تحقيق نجاحات تسجل لها. يجب أن يفشل الجميع حتى نكون جميعا راضين وعلى مستوى واحد. ربما لا تكون الأمور بهذه القسوة لكنها موجودة.
وعليه من الصعب أن تتحمل معارضة حزب الله في لبنان انتصاره. انتصاره هزيمة لها، وكذلك الحال بالنسبة لمقاومة قطاع غزة بالنسبة لمعارضي المقاومة. ولهذا تعمل المعارضة دائما على تتفيه الإنجاز العسكرية، وعلى البحث عن مبررات لتغير معالم الإنجاز وتحوله إلى هزيمة. لقد قام "عباقرة" لبنانيون بالتنظير لهزيمة عام 2006، كما يقوم الآن عباقرة "فلسطينيون" على فلسفة هزيمة المقاومة في غزة.