أولا: خدعة مقولة "الفصل بين السلطات" في الديمقراطية الليبرالية
يعتبر مبدأ "الفصل بين السلطات" واحدا من أهم المبادئ في توصيف "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، إلى درجة أن الكثيرين إن لم نقل الجميع، يغفلون عن حقيقة "الفصل" المقصودة في هذا المبدأ، فيعيشون حالة من تصور أن "الفصل مضموني"، في حين أنه في واقع الأمر "شكليٌّ" ليس إلا.
إن عدم التفريق بين "الشكل" و"المضمون"، أو بين "المظهر و"الجوهر"، أو بين "الإجراء" و"الأداء"، في ممارسة السلطة من جهة أولى، وفي العلاقة التفاعلية بين ما يُعتبر "سُلُطاتٍ" من جهة ثانية، جعل الكثيرين يقعون ضحية ضربٍ من "التضليل التوصيفي" الذي يمكن لمصطلح "الفصل بين السلطات" أن يوقعَهم فيه.
فالسلطات الثلاث المتعارف عليها في الديمقراطيات الليبرالية التي أفرزتها الحضارة الأوربية عشية بزوغ عصر النهضة وبدء ظهور الدول القومية الحديثة، والتي هي "السلطة التشريعية"، و"السلطة التنفيذية"، و"السلطة القضائية"، هي في حقيقة الأمر، ومن حيث الجوهر والمضمون "سلطة واحدة"، تمَّ التعبير عنها وتجسيدها عبر ثلاث مؤسسات، يُفترض فيها أن تخدمَ الفلسفةَ نفسَها، والفكرةَ نفسَها، والبرنامجَ نفسَه، وهذه المؤسسات الثلاث هي التي أطلق عليها خطأً أو تجاوزا أو تضليلا "السلطات الثلاث".
فالحقيقة في أيديولوجية "الديمقراطية الليبرالية الأوربية"، ليست بعيدة عن واقعة أن هناك سلطة واحدة تمارسُ رؤيتَها وبرنامجَها، وبالتالي ذاتَها، عبر ثلاث مؤسسات هي، "القضاء"، و"البرلمان"، و"الحكومة".
فإذا تجاوزنا حقيقة أن "مؤسسة القضاء" – التي تعشقُ الديمقراطيات الليبرالية الغربية أن تطلقَ عليها اسم "السلطة القضائية" – ليست لا سلطة ولا هم يحزنون، لأن السلطة تُسَمَّى سلطة عندما تمارسُ القيادة والسياسة، بأصالةٍ كاملة إرادةً وإدارةً، دونما حاجة لسلطة أو جهة أخرى تؤسس لها قواعد إدارتها وقيادتها وسياستها، أو مُكَوِّنات إرادتها. وأنها إذا هي احتاجت لغيرها كي يؤسِّسَ لها دورَها السلطوي، فإنها لا تغدو سلطة، بل أداة في يد السلطة الحقيقية التي أسَّسَت لها ذلك الدور وأسندته إليها، لا تستطيع الخروج عنها وعن فلسفتها وعن رؤيتها للأمور. وهو ما يجعل "القضاء" أبعد ما يكون عن أن يتصف بأنه "سلطة"، ليتجلى لنا أنه مجرد أداة تنفذ إرادة السلطة القائمة، عبر تطبيق قوانينها وتشريعاتها، وبالشكل الذي تريده تلك السلطة أن يُطَبَّق..
نقول.. إذا تجاوزنا هذه الحقيقة الدامغة في جوهر المؤسسة القضائية في الديمقراطية الليبرالية الأوربية، ما يجعلنا نستثنيها أصلا من إمكان اعتبارها مؤسسة سلطوية، فليس بوسعنا اعتبار أن أيَّ دولة ديمقراطية وفق المعايير الأوربية للديمقراطية الليبرالية، فيها سلطتان منفصلتان هما "السلطة التشريعية" و"السلطة التنفيذية"، إلا على صعيد الشكل والإجراء والمظهر، وليس على صعيد المضمون والأداء والجوهر.
فلو أجرينا مقارنةً بين مؤسسة القضاء في "الديمقراطية الليبرالية" وبين نظيرتها لدى المسلمين القدماء، لوجدنا اختلافا جوهريا في جوهر الوظيفة القضائية عند الطرفين. فقد كانت مؤسسة القضاء عند المسلمين في دولة "الخلافة" الأقرب إلى "الثيوقراطية" من منظور "الديمقراطية الليبرالية"، أكثر استقلالا مما يُرَوَّج له حول استقلال القضاء في الديمقراطية الأوربية نفسِها، على وجه الحقيقة، ومن حيث الجوهر والمضمون، وليس من حيث الشكل والإجراء فقط.
فالقاضي في دولة الخلافة لم يكن يستند في إصدار أحكامه على الوقائع والمنازعات التي كانت تعرض أمامه، حتى لو كان الخليفة أو أحد أفراد عائلته أو سلطته طرفا فيها، إلى أيِّ قاعدة قانونية مثبَّتَة ومدونة وملزمة – باعتبارها كذلك – من وضع مؤسسة خاصة بوضع التشريعات والقوانين نظير "البرلمان" في الديمقراطية الليبرالية، حتى يقال أنه – أي القاضي – كان ينفِذُ إرادةَ غيرِه الذي قد يكون هو تآلفٌ محتملٌ بين المُشَرِّع والمنفِّذ، كُلِّف القاضي بتمرير حيثياته كما هو الحال في الديمقراطية الليبرالية.
بل هو كان يستند إلى فهمه الخاص واجتهاده الذاتي، اللذين لا يتدخل فيهما أحد، ولا حتى الخليفة نفسه – ليس ضعفا من هذا الأخير بل افتقارا إلى سلطة التدخل أصلا – لمجموعةٍ من النصوص التي تحظى بالقداسة لديه ولدى كافة أطراف السلطة الأخرى، والتي هي نصوص "القرآن" و"السنة الصحيحة"، بصرف النظر عن مدى صحة وموضوعية هذه القداسة. وهذه النصوص ليست لا من وضع الخليفة ولا أيِّ جهة سلطوية في الدولة أيا كانت. فالقاضي كان يلجأ إليها مباشرة باعتبارها هي مصدر القواعد القانونية ومصدر الأحكام التي سيصدرها في قاعة المحكمة في الواقعة التي تكون معروضة عليه.
وبتعبير أكثر دقة، كان القاضي – من بين كافة مؤسسات الدولة الأخرى – هو المُشَرِّع الحقيقي بالمفهوم المدني المعاصر، مادام يلجأ إلى نصوصٍ لم يضعها بشر مثله من جهة أولى، ومادام يملك سلطة مطلقة في قراءتها بالشكل الذي يمليه عليه عقله ووعيه وضميره، دون أيِّ إلزام بالرجوع حتى لغيره ممن قرأها في وقائع ونوازل مماثلة. وهي في النهاية وبصرف النظر عن كلِّ الظروف التاريخية التي رافقت سيرورَتها التقديسية، غدت ملزمة للجميع، بمن فيهم كافة رجالات السلطة، حتى لو لم يعجبهم منها نص هنا ونص هناك، أو حكم هنا وحكم هناك.
وبالتالي، فالقاضي إن شاء أن يكون نزيها، ولم نسمع في تاريخ المسلمين عن قضاة مهمين كانوا على غير النزاهة، فإن أحدا لا يستطيع أن يفرض عليه قاعدة قانونية مسبقة تكون من تكوين هذا الغير وتخليقه، لأن القاعدة القانونية المسبقة التي أصدرتها جهة ما تشريعية الاختصاص، لم تكن موجودة أصلا، بسبب العقيدة السائدة التي كانت ترفع شعار "لا مشرِّعَ إلا الله"، وتشريع الله يتجلى في نصوص كتابه ونصوص سنة نبيه الصحيحة.
والأهم من ذلك كله، وخاصة في القرون الأربعة الأولى، أن هذا التجلي لم تكن له صفة ملزمة للجميع، بل إن الاجتهاد والاختلاف فيه كان مفتوحا على كل المصاريع لكل مسلم، بلا قيد أو شرط غير المُكْنَة، والمُكْنَة ليست لها شروط مسبقة من أيِّ نوع، لأنها تتجلى من خلال تفاصيل الفعل الاجتهادي نفسِه. ولقد كان مرفوضا من قبل أهل العلم، أن تلجأ الدولة إلى تبني اجتهاد من تلك الاجتهادات دون الأخرى، وتعتبره بمثابة فقهها القانوني الخاص، لأن التفكير والاجتهاد وفهم النصوص المرجعية للدين لم يكن حكرا على مسلم دون آخر. ولم يحصل هذا الاحتكار في الفهم إلا في وقت لاحق، وتحديدا بعد القرن الرابع الهجري، ليكون هذا النزوع غير المبرر إلى احتكار الاجتهاد والمعرفة، بداية السقوط في كلِّ نواحي الإبداع في دولة الخلافة، وبداية فعلية لظهور اللاهوت الديني عند المسلمين، أو إلى استفحاله إذا افترضنا أنه كان قد ظهر لديهم منذ وقت مبكر من خلال سيرورة مُخرجات ما اصطلح عليه بـ "الفتنة الكبرى".
لقد كانت القاعدة القانونية إذن، تتشكل ميدانيا وفي جلسة المحاكمة، وعبر الحالة نفسها، من خلال قراءة القاضي نفسه في نصوصٍ مرجعية ليست ولم تكن من صنع أحد ولا من صياغته ولا من تقريره. لا بل حتى "الفهم الآخر المختلِف" للنصوص، لم يكن القاضي ملزما به، حتى لو أراده صاحب سلطة فهما تستنير به المحكمة ويستنير به القاضي قبل إصدار حكمه. فالقاضي هو صاحب الحق في تحديد أدواته في التعامل مع النص المرجعي، ولا أحد يملك سلطة إلزامِه بأداة دون أخرى.
فباب التفكير والاجتهاد أمام القاضي كان مفتوحا على مصاريعه وبلا أيِّ تدخل من أحد، لأن أيَّ تدخل كان يوصف على الفور بأنه محاولة من المتدخل لِلَيِّ عنق النص المرجعي وتجييره لصالحه ولحسابه، وهو الأمر الذي كان يُعتبر أبشع أنواع المساس بقداسة هذا النص المرجعي عبر الضغط على القاضي ليحكم بغير إرادة الله ورسولة التي يجسدها فهم القاضي للنصوص المقدسة. وما على الطرف المعني في المنازعة المعروضة عليه إلا أن ينتظر تجسيد إرادة القاضي على شكل حكم لا يُرد ولا يُنازع.
طبعا هذا لا يعني أن رجالات السلطة لم يكونوا يحاولون زج المؤسسة القضائية إلى زوايا تُجبر القضاة على إصدار الأحكام التي تخدم مصالحهم وتمرر إراداتهم في أحيانٍ كثيرة. لكن هذا شيء، والاعتراف باستقلال مؤسسة القضاء على وجه الحقيقة عند مقارنة هذا الاستقلال بذلك المزعوم في الديمقراطية الليبرالية شيء آخر مختلف. فنحن لم نكن نناقش مسألة خضوع القضاة أو عدم خضوعهم للضغوطات الممارسة ضدهم من قبل أفراد السلطة التنفيذية لإصدار أحكامٍ تناسب هؤلاء، بل كنا نناقش مدى توفر المؤسسة القضائية على سلطة حقيقية تتسم بالأصالة المنفصلة عن إرادة "المشرِّع" أو "المنفذ" في الدولة.
ومن الواضح أن المؤسسة القضائية في دولة "الخلافة" كانت بالفعل سلطة مستقلة تنشئ قواعدَها القانونية وتشريعاتها الخاصة التي لا يتدخل فيها غيرها على وجه الحقيقة، بصرف النظر عن مدى قناعتنا بمقولة "لا مشرِّع إلا الله"، أو بالمرجعية المطلقة والدائمة للقرآن والسنة الصحيحة في إصدار الأحكام واستخلاص القواعد القانونية.
ولكن مرة أخرى، ما معنى عدم الفصل الجوهري بين السلطات في الديمقراطية الليبرالية (؟!)
تُقِرُّ الديمقراطية الليبرالية الأوربية الحديثة بأن "الشعب هو مصدر السلطات"، فهو الذي يختار "السلطة التنفيذية"، و"السلطة التشريعية" في النظام الرئاسي، وهو الذي يختار "السلطة التشريعية" التي تُشتَقُّ منها "السلطة التنفيذية" كما الجنين من الرحم، في النظام البرلماني.
ولأن الشعب الذي يختار "السلطة التشريعية"، يختار غالبا إن لم يكن دائما "سلطةً تنفيذية" متناغمة معها، إن لم تكن من فصيلتها نفسها، فهذا يعني في واقع الأمر أننا أمام "سلطة واحدة" تمارس التشريع والتنفيذ معها، عبر مؤسستين يتم الفصل بينهما وضمان عدم التداخل في أدوارهما ومهماتهما في السياق التنظيمي والإجرائي فقط، في حين أنهما مؤسستان تخدمان الأيديولوجية نفسَها والبرنامجَ نفسَه والرؤيةَ نفسَها.
فالسلطة إذا كانت هي كلُّ ما يمكنه أن يَنْتُجَ في الممارسة، عن رؤيةٍ أيديولوجيةٍ واحدة، في السياسة والاقتصاد والقانون والإعلام والثقافة.. إلخ، وهي بالفعل كذلك، فإن أيَّ مؤسسة من مؤسسات السلطة، هي دائما وأبدا جزءٌ من تلك السلطة، من حيث الأيديولوجية والرؤية والبرنامج. فالبرلمان يُشَرِّع ما تريده الحكومة، والحكومة تمارس تفاصيل تنفيذية يجب أن يوافق عليها البرلمان، أو على الكثير منها على الأقل.
ونحن هنا نتحدث – كي لا يقال أننا نخلط بين المؤسسات كشخوص اعتبارية، وبين من يتولون أمور تلك المؤسسات ويمارسون السلطة من خلالها – عن البرنامج السلطوي الذي يتم تمريره عبر تلك المؤسسات. فالبرلمان بما هو مجرد مؤسسة اعتبارية مهمتها احتواء المشرعين ليمارسوا دورَهم التشريعي تحت قبتها، ليست له قيمة سلطوية من هذه الحيثية، بل هو يكتسب قيمَتَه الحقيقية من خلال الممارسة التشريعية التي تُمَرَّر عبره. والممارسة التشريعية هي في نهاية المطاف السلطة الحقيقية التي استثمرت اعتباريةَ البرلمان، لتجسيد سلطة محددة رؤيةً وبرنامجاً وأيدولوجيةً.
كما أن مختلف مؤسسات الحكومة، وبما هي مجرد مؤسسات اعتبارية مهمتها احتواء المنفذين ليمارسوا دورَهم التنفيذي من خلالها، ليست لها قيَمٌ سلطوية من هذه الحيثيات، بل هي تكتسب قيَمَها الحقيقية من خلال الممارسة التنفيذية التي تُمَرَّر عبرها. وهذه الممارسة التنفيذية هي في نهاية المطاف السلطة الحقيقية التي استثمرت اعتباريةَ مؤسسات الحكومة، لتجسيد سلطة محددة رؤيةً وبرنامجاً وأيديولوجيةً، هي ذاتها الشقيق التنفيذي للشقيق التشريعي.
وإذن فعن أيِّ سلطتين منفصلتين نتحدث من حيث الجوهر (؟!)
نفهم جيدا أن الفصل بين السلطتين أو بتعبير أدق بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية، يعني ألا يتدخل رئيس الدولة أو رئيس الحكومة في عمل البرلمان أو العكس. وربما ألا يتقلَّد عضو المؤسسة التشريعية عضوية المؤسسة التنفيذية في الوقت ذاته وبالعكس. وأيضا أن تمتلك كل من المؤسستين قوانينَها الخاصة الناظمة لمهماتها وأدوارها بحسب ما تؤطره الوثيقة الدستورية. لكننا لا نفهم أبدا كيف يمكن لبرلمان تشكلُ أغلبيتَه قوى سياسية معينة، تنبثق عنها سلطة تنفيذية متناغمة معها في كلِّ شيء، أن يكون وعلى وجه الحقيقة سلطةً أخرى منفصلة تماما عن سلطة الحكومة التي ستنال ثقتَه هو، بناء على برنامجها المتناغم مع برنامج الأغلبية فيه (!!)
فهذا كلام لا معنى له على الإطلاق. لأن كلَّ برلمان في العالم، يُشَرِّع بالتناغم مع توجهات حكومةٍ يرضى عنها ويقبلها، ليُكَلَّف القضاء بعد ذلك بتجسيد المشاهِد التي تخصه من هذه المسرحية التي لا دور له في صياغة مشاهدها وسيناريوهاتها وحواراتها بشكل أصيل (!!)
إذن فنحن ابتداء لسنا بصدد "سلطات" متعددةٍ تعددَ أصالةٍ في البناء والتأسيس والتقرير وممارسة كامل حيثيات الإرادة والإدارة، نتحدث عن الفصل بينها، بل نحن بصدد "مؤسسات" خادمة لسلطة واحدة تتصف بتلك الأصالة الجوهرية الكاملة. وبالتالي فالحديث عن الفصل، إنما هو حديث عنه بين مؤسساتِ سلطة واحدة، وهو ما يجعله يتخذ شكلا إجرائيا ومظهريا ليس إلا. ونحن بالتالي دائما وأبدا، أمام سلطة واحدة أصيلة، ولا وجود لأيِّ شكل من أشكال التعدُّد في السلطات على وجه الحقيقة.
كما أن هذه الجهة السلطوية الأصيلة الوحيدة في ممارسة السلطة، تتخذ وجهين عبر مؤسستين هما "البرلمان" و"الحكومة". أي أن "مؤسسة القضاء" لا علاقة لها بالسلطة، ولا تمثل وجها ثالثا لممارستها من حيث أصالة الممارسة، وهي مجرد أداة تطبق إرادة "مؤسسة السلطة الوحيدة" سالفة الذكر، شكلا ومضمونا. لذلك فإن أول ما تفعله الثورات المُنْجَزَة، هو أنها تنشئ مؤسساتِها، سواء ما كان منها أصيلا، أو ما كان منها يمثل مجرد أداة. فيظهر "مجلس قيادة الثورة" كمؤسسة تنفيذية وتشريعية، وتظهر "المحكمة الثورية"، أو "المحاكم الثورية" كمؤسسة قضائية.
ما الذي اخترعه الأوربيون بإفرازهم للديمقراطية الليبرالية الحديثة إذن، إذا كانت كلُّ شعوب الأرض منذ عرفت المدنية والحضارة من أدنى مستوياتها تعقيدا وتشابكا، إلى أكثرها تعقيدا وتشابكا، تمتلك "مُشرعا" يضع القانون، و"مُنفذا" يوضع القانون لتمرير إرادته، و"قاضيا" يحكم بذلك القانون عند الاختلاف بين فرقائه (؟!!!)
في واقع الأمر لم تخترع أوربا شيئا جديدا من حيث الجوهر، ولا هي صدَّرت للعالم ابتكارا لم يسبقها إليه أحد، من حيث كونه يرتكز إلى العناصر الثلاثة نفسها "المشرع" و"المنفذ" و"القاضي"، وهي عناصر إدارة الجماعة التي عرفها البشر منذ القدم. وإنما هي ابتكرت وصدَّرت ثقافتَها الجديدة حول هذه العناصر الثلاثة، وهي الثقافة التي جعلت هذه الآلية التنظيمية القديمة الحديثة المتجددة باستمرار، تأخذ في الإفراز الأوربي الحديث شكلا مختلفا هو "الديمقراطية الليبرالية"، دون أن ينطوي هذا الشكل حتما وبالضرورة، على قدرٍ من العدالة وحقوق الإنسان بل والحرية أيضا، أكثر من ذلك الذي كانت تنطوي عليه نماذج سابقة منه. لكنه انطوى رغم ذلك على قدرٍ من السَّطْوَة والإبهار والجنوح إلى الاستسلام أمام قوته الصادمة، جعله يتحول من ثقافة مُنْتِج إلى ثقافة مٌسْتَهلِك.
أي أن الأوربيين، وبناء على التطورات التي شهدتها قارتهم عقب انتهاء الحروب الصليبية في جولتها التاريخية الأولى الصادمة لهم، في مفاصلها الثلاثة: "الأندلس"، و"سوريا الكبرى"، و"المغرب العربي عبر المعبر الصِّقِلِّي". وبعد أن أوصلتها جولة البحث عن ذاتها داخليا إلى إصلاحاتها الدينية الشهيرة وتداعياتها المهولة على صعيد إنتاج "أوربا الصهيونية"، وجولة البحث عن ذاتها خارجيا إلى الكشوفات الجغرافية التي مهدت لإنتاج "أوربا الاستعمارية"..
نقول.. إن الأوربيين بعد تلك الحروب الصليبية وما نتج عنها، بدأت تتخلَّق في قارتهم ثقافةٌ جديدة لم يكن هناك من حلٍّ لاحتوائها، سوى "ظهور الدولة القومية الحديثة"، ثم "ظهور الصهيونية المسيحية"، ثم "ظهور الشركات الاستعمارية العابرة للقارات"، بدءا بشركتي "الهند الغربية" و"الهند الشرقية"، ثم "ظهور الديمقراطية الليبرالية" بشكلها الذي نعرفه اليوم، ثم "ظهور الثورة الصناعية"، ثم "ظهور موجة الاستعمار العالمي بأبشع صوره".
إذن فقد ظهرت الديمقراطية الأوربية الليبرالية الحديثة، كمكوِّنٍ من مُكونات الحراك التاريخي للقارة الأوربية، مكونٌ جاء ناظما لشكل العلاقات الداخلية بين القوى الجديدة التي راحت ترسم لنفسها مساراتٍ عميقةً للسيطرة على مستقبل تطور القارة، في تفاعلاتها القارية والكوكبية الجديدة. وكان من الطبيعي بسبب هذه النقلة النوعية العميقة التي بدأت تسيطر على حراك القارة الخارجي من جهة، وحراكها الداخلي المتجاوب معه والمؤسِّس له من جهة أخرى، أن تأتي هذه الثقافة الديمقراطية الليبرالية في سياقٍ ثنائيِّ الأبعاد. فهو من جهة أولى سياق تأَصَّل على رغبةٍ حقيقية في حلِّ مشكلاتٍ داخلية تعوق الانطلاق إلى آفاق مرحلةٍ أصبحت مفروضة على الأوربيين، عقب فشلهم المدوي بعد مائتي عام من الحروب الصليبية. وهو من جهة ثانية سياقٌ جاء مؤصِّلا لما سينتج في المراحل القادمة من إصلاحات دينية، ومن عهود استعمارية، ومن انقلابات طبقية غير مسبوقة في المجتمعات الأوربية.
أي أن ديمقراطية الفصل بين السلطات، والتعددية الليبرالية القائمة على قداسة "اقتصاد السوق"، وطوطمية المبدأ "السميثي" الشهير "دعه يعمل، يدعه يمر"، ومصدرية الشعب للسلطات بشكلها الليبرالي ذاك، هي نتاج مرحلة كانت تحاصر الأوربيين فيها قوميات تتشكَّل، وأديان تتغير أشكالها ومواقع هيمنتها على الحياة، وعلم يتطور لينتج صناعة ستقفز بالحضارة والمدنية إلى آفاقٍ غير مسبوقة، ومجتمعات يعاد تشكلُّها على أسسٍ طبقية جديدة راحت تفرضها فلسفات اقتصادية جديدة كانت تتخلَّق لتغيِّرَ وجه الكوكب.. إلخ.
أي أن "الديمقراطية الليبرالية الأوربية"، هي جزء من ثقافة أوربية معظمها لم يكن نابعا من شروط إنسانية طبيعية، بل من واقع موضوعي مَثَّلَ ردةً فعل تاريخية، تمهيدا للخروج من المأزق الذي أدى إلى ردة الفعل تلك، وفق النزعة العدوانية التسلطية ذاتها التي فشلت في نقاط التماس الصليبي مع العرب المسلمين.
لقد تحرك العقل الجمعي الأوربي اللاواعي نحو كَنْسِ كلِّ مُكَوِّنات الثقافة الأوربية التي أفشلت المشروع الاستعماري الصليبي، لتبدأ بالتأسيس على أنقاضها لثقافة جديدة، تصلح لإنجاح مشروع استعماري جديد. وبقدر ما كانت "الصهيونية المسيحية" هي البوابة الدينية للثقافة الجديدة، كانت "الكشوفات الجغرافية"، هي البوابة الاقتصادية لها، لتكون "الديمقراطية الليبرالية" هي البوابة السياسية الداخلية لها.. إلخ. وبالتالي فهي – أي الديمقراطية بشكلها الليبرالي الأوربي المعروف – ليست قَدَرا لا لأوربا نفسها ولا للعالم غير الأوربي. وهي في جوهر سياق تكوُّنِها التاريخي، مُكَوِّن من مكونات أوربا "الاستعمارية، الصهيونية"، ومتطلبا من متطلبات تشكل أوربا على هذا النحو الجديد.
ولعل الأوربيين أنفسَهم قد اكتشفوا أن ديمقراطيتَهم الليبرالية هذه كانت هي سبب ما آل إليه وضع أوربا المزري إنسانيا منذ منتصف القرن التاسع عشر، لجهة معادلة تحريك "العدالة" لصالح تثبيت "الحرية"، فراحوا ينقلبون عليها بظهور نزعة تدفع باتحاه تغيير الثوابت والمتحركات في الحراك المجتمعي الأوربي، من ثنائية "الحرية" ثابتا و"العدالة" متحركا، إلى ثنائية "العدالة" ثابتا و"الحرية" متحركا.
ما معنى هذا الكلام (؟!!!)


ثانيا: "الحرية" و"العدالة" بين الثابت والمتغير في الثورات الإنسانية
دعونا نجهدُ أنفسَنا بشيء من قراءة التاريخين الحديث والمعاصر، فيما يتعلق بمساحة التجاذب بين "الحرية" و"العدالة"، عبر الأدوات الثورية التي كانت تستهدفهما، الأولى حينا، والثانية حينا آخر، في قلب السيرورة الأوربية، معقل "الليبرالية" ونقيضتها "الشمولية".
في مقابل الثورات التي جلبت وبال "الشموليات" – التي أنتجت الدكتاتوريات – على شعوبها، فإن هناك ثورات جلبت الحريات وحقوق الإنسان وفق المنظور الديمقراطي الليبرالي الأوربي. مثل الثورة الفرنسية، والثورة الإنجليزية، والثورة الأميركية قديما. ومثل الكثير من الثورات في أميركا اللاتينية، وجنوب إفريقيا، وبعض دول جنوب شرق آسيا حديثا. فالثورة في ذاتها ليست معيارا على الديمقراطية أو عدمها. بل هي مجرد أداةٍ للخروج من واقع إلى واقع آخر، استجابة لأزمة قائمة تناضل الثورة من أجل تفكيك مُكَوِّناتها.
إن الثورة التي تنطلق من أجل الديمقراطية والحرية، من الصعب أن تتراجع إلى الوراء، لأن الشعب الذي كسر حاجز الخوف من الدكتاتورية ومن الشمولية فثار عليها وضحى لأجل حريته، من الصعب العودة به الى دكتاتورية وشمولية جديدة وخداعِه بها عبر إخافته منها. وفي هذا السياق يجب أن نفرق بين ثلاث أنواع من الثورات كأدوات للتغيير:
1 – النوع الأول، هو الثورات التي تندلع ضد الظلم الاجتماعي الاقتصادي الطابع في واقع سياسي فيه الكثير من الحرية، أي الثورات التي تنطلق من الاعتقاد بمركزية قيمة "العدالة". هذا النوع من الثورات يَرْبِط أيديولوجيا بين الظلم الاجتماعي الاقتصادي والحرية القائمة أساسا، والتي يعتبرها زائفة، فنرى قادة هذه الثورات يركزون على الاقتصاد وعلى "العدالة الاجتماعية" بوصفها هي الثابت المطلق الذي يجب أن تدور حيث دار كافة القيم الأخرى التي ستبقى عندئذ "متحركة" لأنها مجرد "وجهات نظر"، وينفضون أيديهم من "الحرية" التي ارتبطت لديهم بـ "البرجوازية الرأسمالية"، فينزلقون إلى أشكالٍ مختلفة ومتخلفة من الدكتاتوريات ومن الشموليات، فتكثر الدماء في الداخل، أي في داخل الدولة.
ومن هذ النوع، تلك الثورات التي نشعر بالخوف منها ومن مردودها الشمولي الدكتاتوري الدموي، مثل ثورة "البلاشفة" في روسيا القيصرية، وثورة "الماويين" في الصين، وثورة "الخمير الحمر" في كمبوديا، وكـ "الثورة الكوبية"، ولا تخرج عن هذا الإطار "ثورة 23 يوليو" في مصر، وثورة إيران "الإسلامية".. إلخ. فكلُّ هذه الثورات اندلعت في دول فيها هوامش معقولة من الحرية الديمقراطية أكثر نسبيا مما جاء لاحقا عليها. ولكنها اندلعت لأجل القضاء على الظلم والفساد والفقر، وهي المظاهر المجتمعية التي يرى صانعو تلك الثورات أن الحرية الهامشية المتاحة كانت في واقع الأمر تخدم فئاتٍ محددة من أصحاب المال والثراء لتكريسها. فثاروا على الظلم، وعلى ما يتصورون من ثمَّ أنه أداته التي خدمته وساعدته وهي تلك "الهوامش من الحرية"، فكانت ثوراتٌ تُثَبِّت "العدالة" وتُحَرِّك "الحرية"، أو لنكون أكثر دقة، كانت ثوراتٍ يفترض أنها جاءت لتثبِّت العدالة ولتحرك الحرية.
2 – أما النوع الثاني من الثورات، فهو عندما يثور الناس ضد الدكتاتورية والفاشية والفردية والشمولية وانعدام "الحرية". فهذه الثورات لن تنزلق حتما إلى الدكتاتورية والشمولية من جديد أو هكذا نفترض، حتى وإن طالت المراحل الانتقالية التي تحدث فيها الاضطرابات والقلاقل حتى تهدأ فيها الأمور وتستقيم الحال. وهنا نجد أنفسنا بإزاء ثورات تركز على "الحرية الديمقراطية الليبرالية" التي تعتبرها ثابتا، فيما تتعامل مع "العدالة" باعتبارها "وجهة نظر" خلافية وقيمة "متحركة".
وفي هذه الحالة يمكن لأصحاب أجندات الظلم الاجتماعي الاقتصادي أن يعودوا لإنتاج منظوماتهم الثقافية والاقتصادية مستفيدين من هامش الحرية الذي أتاحه الانقضاض على الدكتاتورية. ومن نماذج هذه الثورات كل من الثورة الفرنسية والإنجليزية والأميركية قديما، ومعظم الثورات الديمقراطية الليبرالية الحديثة والمعاصرة، وإن كانت الثورة الأميركية بالذات قد تداخل فيها عنصر الثورة الاجتماعية مع عنصر الثورة ضد الاحتلال.
3 – أما النوع الثالث من الثورات، فهو ذلك الذي يندلع ضد الدكتاتورية وضد الظلم الاقتصادي معا. هذا النوع من الثورات لا يتعامل مع الحرية باعتبارها "وجهة نظر" و"قيمة متحركة" لحساب العدالة كقيمة ثابتة ومحورية تدور حولها الحرية، ولا مع قيمة "العدالة" باعتبارها "وجهة نظر" متحركة لحساب "الحرية" كثابت وكقيمة مركزية. بل هو نوع من الثورات يَعْتَبِر الأمرين بمثابة ثوابت يجب أن يصار إلى التعاطي مع حلولها في قلب الفعل الثوري ومنه وبه.
وهذا النوع من الثورات هو الذي ستشهده البشرية في المراحل المقبلة، وهو ما بدأ تدشينه حاليا بمعالم الربيع العربي المضطرب وغير واضخ المعالم من جهة أولى، وهبَّة الشعوب الأوربية ضد النماذج الرأسمالية التي تخلقت وتطورت واستفحلت في حواضن "الديمقراطية الليبرالية" في قلب القارة العجوز من جهة ثانية، وهي الهبَّة التي سوف تتفاقم لتتلاقح مع هبات الشعوب العربية على مدى العقود القادمة، لتغيير العالم الذي لن يتغير، وكما كان أمره دائما إلا من هذه المنطقة الحية وهي أوربا والمنطقة العربية.
وبالمناسبة، فإن النوع الأول من الثورات وهو الذي أشرنا إلى أنه تعامل مع العدالة باعتبارها الثابت، ومع الحرية باعتبارها هي وجهة النظر المتحركة، كان قد جاء على أنقاض المرحلة التاريخية التي بنتها وأسستها الثورات الأوربية والغربية التي قامت على الفكرة المقابلة، وهي فكرة أن الحرية هي الثابت وأن العدالة هي وجهة النظر المتحركة. أي تلك التي قامت على الديمقراطية الأوربية الليبرالية برجوازية المنبت، وهي الديمقراطية التي رسمت نوعا من السلطة ومن الحرية السلطوية تناسب ما ذكرناه سابقا من تحولات عميقة كانت تجتاح القارة الأوربية، مهدت لأخطر مُكَوِّنين لها هما "المكوِّن الصهيوني" و"المكوِّن الاستعماري".
أي وبتعبير أدق فإن القرون الثلاثة التي بدأت بالإصلاحات الدينية وبنشأة الدول القومية الحديثة في أوربا، ثم تواصلت بالثورة الصناعية في أوربا، سادتها ثورات "الحرية" على حساب "العدالة". أي أن "الديمقراطية الليبرالية" هي ذلك النوع من الديمقراطية الذي يضع حلولا لمعضلة الحرية دون العدالة، وبالتالي فليس هو النوع المناسب من الديمقراطيات لحل مشكلات البشرية المتمثلة في غياب الحرية والعدالة معا.
ولأن هذه الثورات أنتجت قهرا وظلما وفقرا واستعمارا عالميا ولدته الرأسمالية، وما كانت إلا لتولده حتما بحسب طبيعتها، فقد جاءت المرحلة الأوربية التالية التي بدأت بالقرن العشرين لتحاول إعادة صياغة العالم على أساس تثبيت "العدالة" وتحريك "الحرية"، وهو ما مثلت رائدته الثورات الشيوعية والاشتراكية في العالم.
ومعنى ذلك أن أوربا الجديدة التي نشأت بعد الحروب الصليبية "صهيونيةً استعماريةً"، جرَّعت العالم سمومَ تجربتيها المريرتين في تجاذبات العدالة والحرية. تجربة "الديمقراطيات الليبرالية" التي حرمتنا العدالة تحت مظلة الوهم بأن "الحرية ثابت" وبأن "العدالة متحرك". ثم ما أسمته تجربة "الديمقراطيات الشعبية" التي حرمتنا الحرية تحت مظلة الوهم بأن "العدالة هي الثابت" وبأن "الحرية هي المتحرك". فكانتا تجربتين فاشلتين داميتين، حرمنا بسببهما من القيمتين معا: "الحرية" و"العدالة".
ولأن البشرية بفعل العديد من التطورات، اكتشفت أن العدالة والحرية ثابتان متلازمان لا يمكن لأحدهما أن يقوم بغير الآخر، دون أن تحدث اختلالات في الواقع الموضوعي. فقد شهد هذا العقد من القرن الحادي والعشرين، وتحديدا بدءا بأزمة عام 2008 العالمية، بداية الشعور الإنساني بعد تغوُّل الرأسمالية، وتحولها إلى أبشع صورها وهي "الإمبريالية المالية"، بضرورة الثورة لصياغة مجتمعات إنسانية جديدة لا تتنازل عن حريتها لأجل لقمةِ عيشها، ولا عن لقمة عيشها لأجل حريتها، لأن التنازل عن أيٍّ منهما سيضرب الثانية لاحقا وقطعا وحتما، وذلك ما أثبتته القرون الأربعة الأخيرة من عمر الحضارة تحت قيادة الثقافة الأوربية، سواء وهي تتصهين لتستعمر، متدثرة لتحقيق ذلك بالديمقراطية الليبرالية، أو وهي تنقلب على نفسها لتنقذَ نفسَها من تغول ديمقراطيتها الليبرالية هذه، متدثرة لتحقيق ذلك بالديمقراطية الشعبية. فدعاة الحرية ومحيِّدي العدالة، استغلوا الحرية لتكريس الظلم. كما أن دعاة العدالة ومحيِّدي الحرية، عادوا ليظلموا بعد أن أتاحت لهم بيئة اللاحرية إعادة إنتاج هذا الظلم.
احتاجت البشرية إلى أربعة قرون من التجاذب الفلسفي والسياسي والثقافي اجتاحت الساحة الأوربية، أُهْدِرَت خلالها أرواح مئات الملايين من البشر، قبل أن تكتشف أن حرية بلا عدالة هي حرية منقوصة تقضي على نفسها، وأن عدالة بلا حرية هي إعادة إنتاج للظلم وللقهر وللجوع والحرمان والتخلف بكلِّ أشكاله. وأن الثورة القادمة هي تلك الثورة التي تجعل مطلب الحرية لا ينفصل عن مطلب العدالة. وبالتالي فالبشرية لم تعد تحتاج إلى "ديمقراطية ليبرالية" تؤصل "الحرية" وتتجاهل "العدالة"، ولا هي بحاجة إلى بدعة "الديمقراطية الشعبية"، التي قامت بتأصيل "العدالة" متجاهلة "الحرية".
ولأن الجمع بين هذين المطلبين "الحرية والعدالة" في مشروع ثوري واحد، ليس له سوى معنى واحد ووحيد، هو مقاومة "المشروع الاستعماري العالمي" الذي أنتجته أوربا، ومقاومة "المشروع الصهيوني العالمي" الذي أنتجته أوربا أيضا. ولأن المشروع الاستعماري والصهيوني العالمي انحسر منذ النصف الثاني من القرن الماضي ليكون هو أداة "المشروع الإمبريالي الأميركي". فإن هبَّة الشعوب الأوربية إذ تلتقي وتتلاقح مع هبَّة الشعوب العربية، فإنهما معا على مدى العقود القادمة هما من ستصنعان الثورة العالمية لإسقاط المشروع الإمبريالي الأميركي، ممثلا في رأسي حربته "الاستعمار الأميركي الحديث"، و"العنصرية الصهيونية المقيتة"، على قواعد ديمقراطية جديدة، ليست هي "الديمقراطية الليبرالية" التي دمرت العالم بتحييد العدالة، ولا هي "الديمقراطية الشعبية" التي دمرته هذه المرة بتحييد الحرية.
العرب سيتحررون من أنظمة "اللاحرية" و"اللاعدالة"، والأوربيون سيتحررون من أنظمة "اللاعدالة" للتأسيس معا لثورة عالمية جديدة، تخلق ديمقراطية جديدة، تصيغُ علاقاتٍ جديدة بين الثلاثي الأزلي: "المُشَرِّع" و"المُنَفِّذ" و"القاضي"، من وحي وحدة الثنائي الثابت الذي لا ينفصم: "الحرية والعدالة". على أن يكون واضحا أن "الإسلام السياسي" لن يكون هو البديل الثوري الذي سيحرر العرب والعالم، لسبب بسيط سوف نثبته لاحقا، هو أنه لا يمتلك مؤهلات اضطلاعه بهذه المهمة العالمية، إن لم يكن هو أصلا أحد أسباب عرقلتها والدفع باتجاه إفشالها.


ثالثا: لماذا نريد "تداول الثروة" و"تداول السلطة" كمتلازمتين حتميتين في أيِّ ديمقراطية قادمة؟!
ما فتئ الناس ينادون بمبدإٍ في الحكم يقوم على "تداول السلطة"، بصفتها نتاجا مُحَتَّما للحياة الديمقراطية الليبرالية، القائمة على الحرية والتعددية السياسية من جهة أولى، وعلى الفصل بين السلطات التي يجب أن تعود إلى مصدرها الحقيقي الذي هو الشعب من جهة ثانية. وفي ظل الهيمنة الثقافية الطاغية لأيديولوجية "الديمقراطية الليبرالية" وما ينتج عنها وما يرتبط بها من مبادئ في الحرية وفي الحكم وفي الحياة الدستورية، يقف على رأسها جميعها مبدأ "تداول السلطة"، غاب وما يزال يغيب مبدأٌ آخر مرتبطٌ بمبدأ "تداول السلطة" ارتباط قيامٍ ووجود، ألا وهو مبدأ "تداول الثروة"، إلى الحدِّ الذي لم نلمسْ معه لهذا المبدإ أيَّ وجود على صعيد الاعتراف بمشروعيته وتأصيله، وشرح ارتباطاته وعلاقاته بالسلطة، في أيٍّ من النظريات والفلسفات التي عالجت موضوع "تداول السلطة"، وأشبعته قراءة ودراسة ومناقشة وتحليلا.
وإنه إذا كان مبدأ "تداول السلطة" وما يسبِّبُه وما ينتجُ عنه من مكوِّناتٍ مجتمعية، هو التجسيد العملي لقيمة "الحرية" في مجتمعٍ ماَّ، فإن مبدأَ "تداول الثروة" وما يسبِّبُه وما ينتج عنه من مكوِّناتٍ، يعدُّ بمثابة التجسيد العملي لقيمة "العدالة" في ذلك المجتمع. وبالتالي فأيُّما نظرية أو فلسفة أو أيديولوجية لم تستطع أن تكتشف تفاصيل العلاقة العضوية والوجودية بين هذين المبدأين، "تداول السلطة" و"تداول الثروة"، على نحوٍ يوضِّح أن أياًّ منهما لا يقوم في المجتمع ولا ينهدم، دون أن يقيمَ معه أو يهدمَ المبدأَ الآخر، هي في المحصِّلة نظرية أو فلسفة أو أيديولوجية قاصرة، تعجزُ من ثمَّ عن الإلمام بحيثيات قيمتي "الحرية" و"العدالة" وبفضاءاتهما في البُنيَة المجتمعية على الصُّعُدِ كافة.
ولأننا رأينا أن الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من مُنَظِّري ومُؤَصِّلي ومُؤَسِّسي وأتباع "الديمقراطية الليبرالية الغربية"، وعلى مدى أكثر من أربعة قرون من الزمن، لا يعتبرون أن في ديمقراطيتهم هذه، جوهرة أغلى وأثمن من مبدإ "تداول السلطة"، تستحق منحها صفة "درَّة تاج الديمقراطية الليبرالية" كمجسِّدٍ لقيمة الحرية، دون أن نرى في أيٍّ من تأصيلاتهم ذِكرا لحتمية "تداول الثروة"، كمجسِّدٍ لقيمة العدالة، وكنتيجة لا مفر منها لتجسيد مبدأ "تداول السلطة"، فقد كان من الطبيعي أن نضع كل علامات الاستفهام على "نوع" و"مدى" و"سقف" "الحرية" التي تجسِّدُها "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، لتحول بينها وبين استحضارَ شقيقَتَها المُحَتَّمَة، ألا وهي "العدالة" (؟!!)
الثقافة الأوربية نفسُها، ومن قلب السيرورة التاريخية للرأسمالية واقتصاديات السوق المرتكزة إلى "السميثية" و"الميركانتيلية" التاريخيتين، عاشت مأساةَ غياب قيمة "العدالة" على أوسع نطاقٍ، رغم شيوع "الديمقراطية الليبرالية" على أوسع نطاق أيضا. وقد تجلَّى غياب العدالة ذاك، عبر ما مثلته "الدولة الحارسة" في ظل هكذا نظام ليبرالي من راعية لِلاَّعدالة ولأبشع أنواع الفرز الطبقي داخل المجتمعات الأوربية، ومن راعية للاستعمار بأبشع أشكاله وبأقسى تداعياته خارج القارة الأوربية، تحت مظلة تلك "الديمقراطية الليبرالية" نفسها وما تدعيه من تحرير للمجتمعات. فخرجت من رحم هذه الثقافة متولِّداتٌ ثقافية جديدة أرَّقَتها تلك المعاناة، فربطت بين حالة "اللاَّعدالة" وحالة "الديمقراطية الليبرالية" ربطا وجوديا وتكوينيا، وراحت تقيم على هذا الرَّبط مُكَوِّنات بُناها المعرفية الجديدة، وهي محقة تماما في هذا الربط.
ولأن حالة "الديمقراطية اللليبرالية" كانت تعني لهذه الثقافة الجديدة الناشئة من رحم "اللاَّعدالة" الأوربية، "الحرية" ذاتَها، بعد أن عجزت عن أن تقرأ فيها نوعا فادحا من "الحرية المجتزأة والمزيفة"، فقد كان من الطبيعي ومن المفهوم، أن يتربط في أصول هذه الثقافة وفي خطابها المعرفي الأساسي، أنَّ تحقُّقَ "العدالة" لن يكون إلا على حساب "الديمقراطية الليبرالية"، والبحث عن صيغة أخرى للحرية غير تلك التي زورت بها "الديمقراطية الليبرالية" تاريخ أوربا والعالم أكثر من ثلاثة قرون من الزمن.
ولأن صيغة "العدالة" التي أصَّلَت لها الثقافة الأوربية الجديدة، عبر الفكرين الاشتراكي والشيوعي، حاولت أن تقيمَ لنفسها نموذَجَها "العدالي" الخاص المناقض تماما للنموذج الرأسمالي، والمرتكز إلى أضداده في النظرة إلى "المُلكية"، وفي النظرة إلى "إنتاج الثروة"، وفي النظرة إلى "توزيع الثروة"، وفي النظرة إلى العلاقة بين "وسائل الإنتاج" وعلاقات الإنتاج".. إلخ، وهي الأمور التي تصورت تلك الثقافة أن الصِّيَغ الرأسمالية حولها وبخصوصها، هي مبرر "اللاَّعدالة" كلها، وذلك بحسب قراءتها الخاصة للواقع الأوربي الاقتصادي والإنتاجي.. إلخ، فقد ركزت كلَّ مردودها وإنتاجها الفلسفيين نحو هدف واحد، وتحقيقا لغاية وحيدة، هي التأصيل المضاد للتأصيل الرأسمالي السائد والحاكم.
فغدت النتائج التي توصلت إليها هذه الثقافة في هذا الشأن، هي القيم المقدسَّة التي يجب الحفاظ على مركزيتها. وبالتالي فقد غدا كلُّ فهمٍ لقيمة "الحرية"، وأصبح أيُّ تجسيدٍ لها، يهدد البُنية التأصيلية الجديدة المتوَصَّل إليها، والتي تمكنت من هدم التأصيل الرأسمالي "السميثي" و"الميركانتيلي" في جانب دلالات قيمة "العدالة"، فهما وتجسيدا تجب معاداته، لأنه يصنَّف على الفور باعتباره فهما وتجسيدا يقف ضد "العدالة" التي تمَّ تأصيلها، لتصبح "الحرية" المعترف بها، هي فقط تلك التي تفرزها "العدالة" المؤصلة في الفكر الأوربي المضاد للرأسمالية فقط، ألا وهو الفكر الاشتراكي ووعائه الفلسفي الحاضن له "الشيوعية".
وبقراءتنا الفاحصة للمردود الأيديولوجي لهذه الثقافة الجديدة التي أعادت إنتاج قيمتي "الحرية" والعدالة"، على أسسٍ مضادة ومناقضة لتلك التي أنتجتهما الثقافة القديمة في رحم الرأسمالية واقتصاد السوق، وجدنا أننا بصدد ثقافة أوربية استشعرت قصور "حرية الديمقراطية الليبرالية" عن تحقيق "العدالة"، بل هي قد استشعرت خدمةَ هذه الحرية لنهج "اللاَّعدالة" الذي فاقم الأزمات المجتمعية والاقتصادية والثقافية في القارة الأوربية وعلى الصعيد العالمي، مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، كما أنها ثقافة أوربية جديدة اعتنقت فلسفةَ أن "العدالة" تكمن فقط في الصيغة النقيض لمُكَوِّنات الرأسمالية، مادامت هذه الأخيرة هي سبب "اللاَّعدالة" التي حمتها واحتضنتها "حرية الديمقراطية الليبرالية".
ومن هذه التركيبة الثنائية المتشابكة شديدة التعقيد، والمتمثلة في..
* اعتناق فلسفة أن "حرية الديمقراطية الليبرالية"، خدَمَت نهج "اللاعدالة" تاريخيا، بل إنها ما وُضِعَت إلا لأجل خدمته والتأسيس الأيديولوجي المزَيَّف له، بتقديم حرية موهومة ومجتزأة تحضنه وتحميه.
* واعتناق فلسفة أن "العدالة" تكمن فقط في الصيغة النقيض لمكوِّنات الرأسمالية، التي اعْتُبِرَت بمثابة التجسيد الفعلي لكل أوجه "اللاَّعدالة"، لتغدوَ الصيغة الجديدة لـ "العدالة" هي معيار الحرية.
نقول.. من هذه الثنائية بدأت تتكون الثقافة الأوربية الجديدة في "العدالة" و"الحرية"، قالبة المفاهيم السابقة لهما، والتي رسَّختها "الديمقراطية الليبرالية" قرابةَ ثلاثة قرون رأسا على عقب. فكانت الفلسفات التي أسَّسَت للاشتراكية، ثم للشيوعية كإطار فلسفي أعمق وأشمل أصبح وعاءً للاشتراكية ذاتها، هي الحاضنة الجديدة لهاتين القيمتين، جاعلة من "العدالة" – بصيغتها النقيضة للرأسمالية عبر التناقض المباشر مع تفاصيل هذه الرأسمالية – قيمةً تحتكر "الحرية" وتفسيرَها وتحديدَ معانيها وسقوفها، بعد أن كان "الاقتصاد الحر" هو الحاضنة التاريخية للقيمتين ذاتهما، ولكن بشكل جعل قيمة "الحرية" – بصيغتها الديمقراطية الليبرالية المناقضة للحكم الشمولي – قيمةً تحتكر "العدالة" وتفسيرَها وتحديدَ معانيها وسقوفها.
إذن، فقد رَكِبَت الرأسمالية متمثلة في "الاقتصاد الحر" بساطَ ريحِ "تداول السلطة" تحت عنوان "الديمقراطية الليبرالية"، لتحول دون "تداول الثروة"، في حين أن المعيار الحقيقي لموضوعية "تداول السلطة"، هو "تداول ثروةٍ" حقيقي. ولما لم تُنْجِزْ هذه المعادلةُ النشاز سوى مشروعِ حضارةٍ أوربي، ما كان أمامه من مفرٍّ إلا أن يكون "استعماريا"، و"صهيونيا" على المستوى الخارجي، و"طبقيا لاعدليا" على المستوى الداخلي، فقد جاءت الشيوعية متمثلة في "الاقتصاد المقيَّد والمركزي"، لتمتطي هذه المرة بساطَ ريحِ "تداول الثروة" تحت عنوان "الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وحتمية الصراع الطبقي في ضوء التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، لتحول دون "تداول السلطة"، الذي كان يُخشى من أن يتمكن من إعادة "تمركز الثروة"، في حين أن المعيار الحقيقي لموضوعية "تداول الثروة" هو أيضا "تداول سلطةٍ" حقيقي.
أخرجتنا الثقافة الأوربية في تعاملها التَّراتُبي مع قيمتي "الحرية" و"العدالة"، من "حرية مجتزأة مزيفة" مثلتها "الديمقراطية الليبرالية، التي غيَّبَت "العدالة" بالاقتصاد الحر، إلى "عدالة مجتزأة مزيفة"، مثلتها "الشيوعية والاشتراكية"، التي غيَّبَت "الحرية" بالديمقراطية الشعبية المركزية.
أراد الأوربيون الأوائل أن يتمَّ منع "تداول الثروة"، فأسَّسوا لذلك بـ "تداول سلطة" غير حقيقي ومنقوص، يوهِم بتحقُّق "الحرية"، ويدفع إلى القبول بمبدإ اعتبار "العدالة" مجرد "متغير متحرك" و"وجهة نظر" لا قيمة لها أمام الثابت الأزلي المطلق المقدس ألا وهو "الحرية". فيما أراد الأوربيون المحدثون أن يتم تحقيق "تداول الثروة"، فأسسوا لذلك بمنع ما ظنوه "تداول سلطة" هو "الديمقراطية الليبرالية"، فتراجعوا حتى عن "الحرية الهزيلة" في هذه الديمقراطية، بعدما فهموا أن هذه الحرية التي ظنوها هي "كل الحرية"، هي سبب انعدام "تداول الثروة"، وهم محقون في اعتبارها سببا في انعدام "تداول الثروة"، فحاربوا لأجل محاربتها كلَّ "الحرية"، وهم مخطئون في ذلك، لأن كل الحرية هي البوابة الحقيقية لكل العدالة، فأسَّسوا لفلسفتهم الجديدة هذه بـ "تداول ثروةٍ" غير حقيقي ومنقوص، يوهِم بتحقُّقِ العدالة، ويدفع إلى القبول باعتبار "الحرية" مجرد "متغير متحرك" و"وجهة نظر" لا قيمة لها أمام الثابت الأزلي المطلق المقدس ألا وهو "العدالة".
خلاصة القول إذن، هو أن مبدأ "تداول السلطة" في "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، منقوص وغير حقيقي ومزيَّف، لأنه لم ينتج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول الثروة". كما أن مبدأ "تداول الثروة" في "الاشتراكية والشيوعية" أوربية المنشأ، هو أيضا منقوص ومزيف وغير حقيقي، لأنه عجز بالمثل عن إنتاج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول السلطة".
وبإزاء فشل المشروعين الأوربيين في التأسيس لقيمتي "الحرية" و"العدالة"، بعد أربعة قرون من هيمنة ذينك المشروعين على أوربا وعلى العالم، بعجزهما – أي المشروعين – عن التأصيل لمبدأي "تداول سلطة" و"تداول ثروة" متكاملين، يُنْتِج كلٌّ منهما الآخر ويَنْتُج عنه، ويطوره ويتطور به، ويُفَعِّلُه ويَتَفَعَّل به، ويُؤَثِّر فيه ويَتَأَثَّر به، فإن العالم يقف على أعتاب مرحلة تتمخض عن البديل التاريخي الذي يمثل الخيار الحقيقي القادر على خلق معادلةٍ للحرية تولد في رحم العدالة، ومعادلةٍ للعدالة تولد في رحم الحرية، عبر تقديم توصيف دقيق لحالة التكامل بين مبدأي "تداول السلطة" و"تداول الثروة" في الواقع الموضوعي.
وهذا يُحَتِّم علينا البدءَ بعرض مبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"، لنستجليَ طبيعة العلاقة العضوية التلاحمية القائمة بينهما، بوصف ذلك هو الأرضية التي ستمكِّنُنا من التأسيس لفلسفةٍ جديدةٍ في تنظيم الترابطات القائمة بين قيمتَي "الحرية" و"العدالة"، على قاعدة تحقيقهما لذينك التداولين على وجه الحقيقة لا الاجتزاء والابتسار، اللذين كانا السِّمة التي طبعت فلسفة أوربا في هذا الشأن بطابعها الخاص.
"تداول الثروة" هو الآلية التي تحكم "حركة الثروة" إنتاجا وتوزيعا، فتحول دون إبقاء مُلكيتها محصورة بين أفرادِ فئةٍ محدَّدة من أغنياء أمة من الأمم، يتوارثونها جيلا بعد جيل، أو يتولون إدارتَها والتحكم في وجهتها في الجيل الواحد. ويتحقق "تداول الثروة" عبر إعادة ضخها بشكل أو بآخر إلى قنواتِ المجتمع الأوسع من الفقراء والمحتاجين والكادحين ومن كان على شاكلتهم، ليُعاد إنتاجُ نظامِ ملكيتها ونظام توزيعها بشكل يكرسُّ التوسُّع المتنامي باستمرار في أعيان مالكيها والمنتفعين منها انتفاعا فعالا وحقيقيا، فضلا عن إعادة ضخها عبر تلك الآلية إلى شرائح مجتمعية في الأجيال اللاحقة، تختلف عن تلك التي كانت تسيطر عليها وتتحكم فيها وتديرها في الأجيال السابقة.
أي أن الآليات الاقتصادية، سواءً على صعيد "نظام الملكية"، أو على صعيد "تقسيم العمل"، أو على صعيد "توزيع الناتج الإجمالي"، أو على صعيد "أنظمة التَّسعير"، أو على صعيد "علاقات الإنتاج"، أو على صعيد "التعاملات المالية"، أو على صعيد "قواعد التنمية والاستثمار"، أو على صعيد "التركات والمواريث"، أو على صعيد "القوانين التجارية والمدنية".. إلخ، يجب أن توضعَ لتحقيق هذا التصور الإستراتيجي.
فالثروة وهي تنمو وتتوالد وتخدم الأمةَ ورفاهيتَها ونموها وتطورها، بقيادة فئة من أفراد المجتمع بعضها يتولى السلطة السياسية، والبعض الآخر يتولى السلطة الاقتصادية، يجب أن يتم تداوُلها باستمرار، ولا يجوز أن تبقى في أيدي فئة محددة تتولى هذه المهمة، أي مهمة الإدارة والتوظيف والتشغيل، لا في الجيل الواحد، ولا عبر تعاقب الأجيال. كما أن الفئات المالكة لها والمنتفعة منها انتفاعا فعالا وحقيقيا يجب أن تتوسع وتتمدد باستمرار، لينعكس هذا التوسع وذاك التمدد على واقع ومكانة الثروة في الجيل القائم، وفي الأجيال اللاحقة.
إن على النظام الاستثماري والتنموي في المجتمع أن يخدم هذه الفكرة الرئيسة. فكما أن هناك دعوة لتداول السلطة تكريسا لقيمة "الحرية"، فإن هناك أيضا دعوة لتداول الثروة تكريسا لقيمة "العدالة". وبالقدر نفسه الذي يتضرر فيه المجتمع على المدى البعيد عندما يُحرم أبناؤٌه من تداول السلطة عبر ضخ الدماء الجديدة إلى الحكم باستمرار، ما يمس مساسا جوهريا بقيمة "الحرية"، فإن اقتصادَه سيتضرر، والأفكار التنموية الخلاقة فيه قد تتجمد، إذا حِيلَ بينه وبين أن يُقَنِّنَ الحراك الاقتصادي، بما من شأنه أن يَخلق آلياتٍ مُتجددة لتداول الثروة، وهو ما يمس حتما وبشكل جوهري بقيمة "العدالة".
ولكن ما هو المعنى الحقيقي لتداول الثروة (؟!)
في واقع الأمر إنه من الصَّعْب تَفَهُّم هذا المعنى الخطير والغريب في الحراك الاقتصادي في المجتمع إذا لم نتحرر من تصوُّرِنا التقليدي "الرأسمالي" العقيم أو "الاشتراكي" القاصر للثروة، والذي يجعل منها في أذهاننا شيئا آخر يختلف في سيرورته وفي تأثره بالواقع الموضوعي وفي تأثيره فيه، عن "السلطة السياسية" ومفاعيلها المختلفة. إن التَّحَكُّم في مفاتيح القرار السياسي للمجتمع هو قوة وسلطة ونفوذ. وبالمثل تماماً، فإن التحكم في مفاتيح الثروة هو قوة وسلطة ونفوذ. وكلما كان "تداول الثروة" في المجتمع معدوما، كلما كان "تداول السلطة" معدوما أيضا، وكلما كان هذا التداول شكليا، كلما كان الآخر شكليا أيضا. لا بل كلما كانت السلطة "مركزة"، كلما كان ذلك ناتجا حتما عن "تمركز" أسبق في الثروة، ومؤديا إليه.
وللتداول في هذا السياق معنىً أعمق بكثير من الظاهرة الشكلية الني نراها في مفاعيل "تداول السلطة" في "الديمقراطية الليبرالية"، عندما يكون الحديث عن "السلطة"، وعن تلك التي نراها في مفاعيل "تداول الثروة" في "الاقتصاد المركزي الاشتراكي أو الشيوعي"، عندما يكون الحديث عن "الثروة".
إن كلاًّ من السلطة السياسية وتَمركز الثروة مؤشرٌ ودالة على الآخر. فعندما نلاحظ أيَّ تداول ظاهري للسلطة غيرَ مرفقٍ بتداول حقيقي للثروة ناقلا تَمركزَها إلى جانب آخر وإلى فئات أخرى من المجمتع، وموسعا في أعيان مالكيها والمنتفعين منها بفعالية وعلى وجه الحقيقة، سواء في الجيل الواحد أو عبر تعاقب الأجيال، علينا أن نجزمَ على الفور بأن هذا التداول الحاصل في السلطة السياسية، ليس أكثر من خدعة جعلت الانتقال فيها يحدث على مستوى القشور، ليستلمَ السلطة في البلد الذي من هذا القبيل، فريق آخر من فرقاء تَمركز الثروة أنفسِهم بدل الفريق الأول. وبالتالي فلن نتوقع تغييرات تُذْكَر على مستوى السياسات في كافة اتجاهاتها، أو في أهم اتجاهاتها على الأقل، لأنها في الواقع هي ذات السياسات التي كفلت وضمنت "تَمركزَ الثروة". فلن يتنازل عن الثروة من امتلك مفاتيحَها قبل السلطة، عندما يصبح في قلب السلطة، أي عندما يكون أكثر قدرة على التحكم في تلك المفاتيح.
إن "تداولَ السلطة" يكتسب معنى حقيقياً عندما يكون ناتجا "عن" أو مؤديا "إلى" انتقالٍ حقيقي وإزاحة فعلية في تَمركز ثروة المجتمع، نراها بموجبهما تقفز – وإن يكن تدريجيا وعبر سيرورة تاريخية – من مكان إلى آخرٍ متباينين تباينا لا شك فيه، على صعيد أعيان الأفراد والمجاميع المالكين والمديرين والموجهين للثروة من جهة أولى، وعلى صعيد التوسع والتمدد في أعداد هؤلاء، باتجاه التصاعد المضطرد في تلك الأعداد صوب التطابق الكامل مع الديموغرافيا المجتمعية من جهة ثانية.
وبالتالي فلا وجودَ لتداولٍ حقيقي وصادق ومُعَبِّر للسلطة، في مجتمع لا توجد فيه آلياَّتٍ حقيقية وصادقة ومُعَبِّرَة لتداول الثروة ابتداءً. إن العلاقة بين هذين النوعين من التداول، هي علاقة عضوية حميمة، تجعل من أحدهما رحما حقيقياً للآخر لا ينفك عن الاغتذاء منه لتشكيل مُكَوِّنات سيرورته في الواقع المجتمعي.
أي أن مظاهر "تداول السلطة" التي نراها ونشاهدها في "الديمقراطيات الليبرالية" عموما، وفي مراكزها الأهم في كل من "أوربا" و"الولايات المتحدة" خصوصا، هي مظاهر كاذبة وخادعة لهذا التداول، لأنها في الواقع لم تُرْفَق لحد الآن بمعادلاتِ تداولٍ فعليةٍ للثروة بالمعنى الموضَّح سابقا، ولا هي نتجت عنها. إنها نتجت وتنتج "عن"، وأدّت وتؤدي "إلى" معادلات تَمركز الثروة ذاتها، وإن يكن بتغييرات طرفية تُخومية أحياناً بسبب محاولاتٍ من هنا ومن هناك لدخول لاعبين جدد في ساحة "تَمركز الثروة"، يبحثون في ظل المعادلات السائدة عن مواقع لهم بين الكبار المهيمنين، عبر إحداثِ تغييرٍ في بعض أعيان الأشخاص، وفي بعض أعيان المجاميع المُعَبِّرين عن المعادلات نفسِها، والمُمَرِّرين للتمركزات ذاتها، اقتضت تَباَدُلَهم للمواقع هذه الاختلافاتٌ القِشْرِيَّة الطابع في بعض مفاعيل الحياة الاجتماعية، التي لا تُعتبر ذات دلالات جوهرية، لا على صعيد مواقع الثروة المجتمعية وتَمركزها، ولا على صعيد التأصيل الفلسفي المختلف عن التأصيل "الديمقراطي الليبرالي" القائم لحركة الثروة، مادام التأصيل لا يقوم عادة إلا عندما تصبح حالة ما ظاهرة مجتمعية تتطلب التأصيل والتأسيس الفلسفيين. وإن كانت هذه التغيُّرات القشريَّة تكرِّس الوهمَ بانطواء "الديمقراطية الليبرالية" على "الحرية الحلُم" باعتبارها الضامن لتكافؤ الفرص، لتبقى هي "الطوطم المقدس الأبدي" الذي يفترض أن البشرية كافحت لأجله منذ القدم.
هذا ونود أن نوضح في هذا السياق، أن إعادة صياغة قواعد "تَمركز الثروة" في المجتمع، تتأتَّى نتيجةً لاستلام السلطة، إذا جاءت هذه الأخيرة عبر التَّمّرُّدِ الثوري على الفرز الطبقي في المجتمعات التي تعاني من رفضِ ساستها التجاوبَ مع متطلبات الخروج من عنق زجاجة اقتصاد السوق الرأسمالي بصُوَرِه البشعة، بسبب رفض هؤلاء الساسة لفكرة التداول الحقيقي للثروة. لكنه – أي مبدأ تداول الثروة – إذا أصبح هو الركيزة الأساس في النظام الاقتصادي السائد، فإنه سيغدو سببا لكل أشكال تداول السلطة اللاحقة، والتي لن يعيقَها عائق بعد ذلك، بسبب أن مُكَوِّنَها الموضوعي ومُخلِّقَها الحقيقي قد وُجِد، ألا وهو مبدأ "تداول الثروة".
أما إذا عاد المتحكِّمون الجدد في مفاتيح السلطة السياسية، ليفرضوا نظاما اقتصاديا لا يقوم على مبدأ "تداول الثروة"، بعد أن امتلكوا مفاتيح هذه الثروة بامتلاكهم لمفاتيح السلطة التي كانت قبل ذلك في أيدي غيرهم، وأصَروُّا من ثم على رؤيتهم الاقتصادية المتحررة من اعتماد مبدأ "تداول الثروة" أساسا لسيرورة الحراك الاقتصادي في المجتمع، من منطلق اعتقادهم بأنَّ مَنْ آلت إليهم مفاتيح الثروة هم أصحاب الحق الأزليين في إدارتها والتحكم فيها، وهم قد حصلوا على هذا الحق المسلوب وانتهى الأمر، وهو ما وقعت فيه كافة حركات التحول الاشتراكي والشيوعي، فإن المعضلة ستعود لتتكرر من جديد عبر حالةِ تناقضٍ جديدةٍ ومن نوعٍ مختلفٍ، بين سلطةٍ تبحث عن أَجِنَّة تداولها، وبناءٍ اقتصادي يرفض أن يَسْمَح بذلك، عبر رفضه السماح بتداول الثروة ابتداءً.
ولعل فشل الاقتصاديات الاشتراكية في معظم دول العالم في الاستمرار في إدارة الثروات التي كانت تديرها، يرجع إلى شيء من هذا القبيل. كما أن نجاح الرأسمالية في تجديد نفسها من حين لآخر، وإن يكن بشكل قِشري، إنما يعود إلى هذا النَّوع من الوعي بضرورة عدم خلق حالة صارخة من التناقض بين الطبقات الاجتماعية وهي تتصارع على الثروة والسلطة.
ما معنى هذا الكلام الذي ما يزال يبدو غامضا (؟!)
إن "تداولَ الثروة" يقتضي في الواقع أن تُتَداَوَلَ السلطة، فهذا الأخير – أي تداول السلطة – هو نتيجة حتمية للأول – أي لتداول الثروة – ولا يُمكنه الفكاك منه، لأن السلطة في جوهرها "ثروة مكثفة"، ولأن السياسة في نهاية المطاف "اقتصاد مُركز". فحيثما تمَّ "تداول الثروة"، فإن السلطة قطعا ستدور معها حيث دارت. لكن الفكرة المقابلة ليست حتمية، فإذا تم "تداول السلطة" كمنطلق لفلسفة التداول في المجتمع، فليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى "تداول الثروة". لأنه إذا كان بالإمكان أن يُصار إلى تَحقيق تداول مظهري قِشْريٍّ مخادع ومضلِّل للسلطة غير ناتج عن تداولٍ أسبقَ للثروة، فإن هذا يعني قطعا أن بالإمكان أن لا يؤدي هذا التداول المظهري القِشْري المخادع والمضلِّل في السلطة إلى تداولٍ حتمي في الثروة، إذا لم ترتبط "الحرية" منذ البداية بالمُكَوِّنات الثابتة غير القابلة للمساس بها في قيمة "العدالة".
في الحقيقة فإن هذه معادلة مُمكنة، وهي على وجه التَّحديد ما حدث ويحدث في قلب البناء المجتمعي الرأسمالي العالمي بزعامة الغرب الأوربي والأميركي، عندما تمَّ وما يزال يتمُّ الإيهام بوجود "تداول سلطة" حقيقي في "الديمقراطية الليبرالية"، بينما هو مجرد تداول مظهري وقِشْري مخادع ومضلِّل لها، لا يعدو كونَه وعاءً لسلوكٍ سياسي جمعي موهمٍ بالحرية، قائما في قلب معادلات سيرورةِ ثروةٍ، تمَّ اعتبار كلِّ حالاتها – تمركزا أو تداولا، من أقصى درجات "الطبقية" الممعنة في تقسيم المجتمع إلى فقراء وأغنياء، إلى أقصى درجات "اللاطبقية" الممعنة في توحيد المجتمع في طبقة واحدة يتساوى أفرادها في الوضع الاقتصادي فقرا أو توسطا أو غنى – مجرد وجهات نظر، لا تحظى أيُّ وجهة نظرٍ منها، ولا في أيِّ مستوى من مستوياتها، بصفة الثبات والقداسة التي يحظى بها "تداول السلطة" الذي يتيح هذه الحالة الخالقة لهذا البون الشاسع من احتمالات "حالة الثروة" في المجتمع.
إن "تداول السلطة" أمر أيسر بكثير من "تداول الثروة"، والأمور الشكلية والإجرائية المخادعة فيه، أكثر بكثير من نظيرتها في "تداول الثروة". فمن الصعب أن تمرَّر إجراءاتٌ لتحقيق "تداولٍ للثروة" تكون مخادعة وموهمة بالعدالة، بالقدر نفسه الذي يمكن أن تمرَّرَ إجراءاتٌ لتحقيق "تداول للسلطة" تكون مخادعة وموهمة بالحرية. وتاريخُ البشرية يروي لنا القصة بوضوح لمن أراد أن يعرف.
فمعظم أوجه الصراع السياسي على كراسي السلطة، والتي رأيناها ونراها تَحدث في الغالب داخل المنظومات الاقتصادية الواحدة، لم تكن تنتجُ عن تداولٍ حقيقي للثروة، ولا كانت تؤدي إليها في الغالب. بل إن من السهل علينا ملاحظة أن الزعامات السياسية الزائلة والتي جاءت على أنقاضها في تلك الصراعات، كانت تنتمي – غالبا – إلى معسكر الثروة ذاته، مع هوامش فروقٍ ضئيلة لا تكاد تُذكر أو تُؤَثِّر في مُحصلة المسار المتعلق بِمواقع الثروة، يُمكن إدراج معظمها بكل يسرٍ وسهولةٍ تَحت بند الصراع على النفوذ والوجاهة البعيدة عن التنافس الاقتصادي بمعناه الاجتماعي التاريخي الواسع.
فما يَحدث في الغرب الرأسمالي من تداولٍ مُخادع للسلطة، وما يَحدث في الكثير من الدول الهامشية الواقعة على تُخوم العالم الرأسمالي المركزي من ممارسات سياسية تبدو قريبة من ذلك، أو ما نسمع عنه من انقلابات أو حركاتٍ إصلاحية أو ثوراتٍ تحدث هنا أو هناك، بقيادة زُمَرٍ عسكرية أو فئات مثقفة ثائرة، في هذا البلد أو في ذاك، إنَّما يصب كُلُّهُ إما في خانة التغييرات القشرية المُسْتَحْلِبَةِ للاحتقانات المجتمعية مع إبقاء معادلات الثروة قائمة كما هي دون تغيير، وهو ما نطلق عليه.. "تداول البناء الفوقي الذي هو السلطة دون المساس بالبناء التَّحتي الذي هو الثروة".. وإما في خانة التغييرات الجذرية في بُنية السلطة، تتبعها تغييرات في تمركزات الثروة، على حساب "الحرية" ذاتها، من خلال تغييرات تقوم على الاشتراكية أو الشيوعية، لأن العقيدة السائدة على مستوى العالم ما تزال تعتبر أن الحرية الناتجة عن "الديمقراطية الليبرالية"، هي نموذج جالب لـ "اللاعدالة" الاقتصادية في المجتمع وجاذب لها. ولأن التصور بوجود صيغ أخرى للحرية غير تلك التي تنطوي عليها "الديمقراطية الليبرالية" هو تصورٌ غير متاح، ولا هو موجود تأسيسا وتأصيلا، فقد كان من الطبيعي أن يكون أيُّ حراك مجتمعي يريد الخروج من دائرة "اللاعدالة"، متمحورا حول تلك العدالة المنطواة في "الاشتراكية" والقائمة على تحييد قيمة "الحرية" بشكلها "الديمقراطي الليبرالي".
إن التداول في البناء الفوقي الذي هو السلطة، يأخذ طبيعةً شكلية قِشْرِية عديمة الدلالة وفاقدة المضمون، عندما لا يكون ناتجا عن تداولٍ في البناء التحتي الذي هو الثروة، أو عندما لا يكون مؤديا إليه ومؤسِّسا له. ولأن تنظيمَ آلياتٍ تكفلُ هذا التداول القِشِري المظهري للسلطة أمر سهل يُحَقِّقُ هدفين أساسيين في المجتمعات التي تلجأ إليه هما، الحفاظ على الثروة مَحْمِيَّةً من احتمالات التداول المُغَيِّرَة لموازين القوى الداخلية التي تُعَبِّرُ عنها "تَمركزات الثروة"، وتنفيس الاحتقانات المجتمعية المرافقة لهذا التَّمَرْكُز، بتفريغها على مستوى قمة الهرم السلطوي، عبر تلك المظاهر التداوُلِيَّة المخادعة، التي تظهر وكأنها قد تحققت بإرادةٍ القواعد المجتمعية المخدوعة بما تعتقد أنه مُمارسة للحرية وللحقوق على وجه الحقيقة..
نقول.. نظرا لكون تنظيم مثل هذه الآليات أمر سهل، فإن الرأسمالية العالمية استطاعت أن تكفل لنفسها التَّجَدُّدَ عبر هذا الشكل من أشكال التداول القِشْري للسلطة دون أن تُعَرِّضَ أفكارَها ومبادِئَها الأساسية للخطر، مُحافظة بواسطة ذلك على تَمركزٍ خطير للثروة يتفاقم يوما بعد يوم.
ومادام "تداول السلطة" هدفا استراتيجيا يَجِبُ أن نسعى إلى تَحقيقه في الواقع بسبب ارتباطه ارتباطَ وجودٍ بِهدفٍ آخر واضحٍ في وجوبه وضوحا لا لبس فيه، ألا وهو "تداول الثروة"، فإننا لن نقف عند حدود ما سيفعله البعد التاريخي لتداول الثروة على صعيد تفعيل مبدأ "تداول السلطة" وتكريسه في الواقع، دون أن نُسْهِمَ بِما نستطيع الإسهام به في رفد هذا المبدأ.
بل إننا سنقوم برفد مبدأ "تداول الثروة" وهو يفعل فِعلَه التاريخي الحافر في هذا الواقع دفعا به إلى استحضار مبدأ "تداول السلطة"، بكل ما يُمكنه أن يساعدَ على تسريع هذا الأخير وتفعيله. وهذا ما لا يمكننا إنجازه إلا بإعادة النظر في "الحرية" التي نسعى إلى تجسيدها في مجتمعاتنا، لتقفز على محدودية واجتزائية "حرية الديمقراطية الليبرالية" التي ضيعت "العدالة" بحريةٍ منقوصة، أكدت على أن "تداول الثروة" عنصرٌ متغير ومتحرك ويقع في دوائر وجهات النظر، وبإعادة النظر في "العدالة" التي نسعى إلى تجسيدها، لتقفز على محدودية واجتزائية "عدالة الاشتراكية والشيوعية" التي ضيعت "الحرية" بعدالةٍ منقوصة، أكدت على أن "تداول السلطة" هو العنصر المتغير والمتحرك الواقع في دوائر وجهات النظر.
في حين أن كلا من "الحرية" و"العدالة" ثوابت وليست متحركات ولا متغيرات، ولا هي مجرد وجهات نظر، فمن العدالة أن نكون أحرارا، ومن الحرية أن تسود فينا العدالة. وهذا المبدأ لن يتجسَّد إلا بشكل من أشكال الديمقراطية يمكننا أن نطلق عليها "الديمقراطية الاقتصادية" التي تضع الأسس لتداول الثروة بالقدر نفسه الذي تضع الأسس لتداول السلطة من منطلق أن هذا وذاك متكاملان، وأن أيا منهما لن يتحقق بدون الآخر، لأنه يمثل وَجْهَه الآخر.
في سياق آخر متصلٍ بفكرة "تداول الثروة"، يتبادر إلى الذهن تساؤلٌ مشروع مفاده..
إذا كان "تداول الثروة" مطلوبا في ذاته، كمجسِّدٍ لقيمة "العدالة"، من خلال ما يتمكن به مبدأ التداول هذا من تقليصِ ظاهرةِ "تمركزِ الثروة" أو ربما من تغييبها بالكامل، سواء في الجيل الواحد، أو عبر تعاقب الأجيال، فما الذي يفعله مبدأ "تداول الثروة" في "سيرورة الثروة" ذاتها في المجتمع، كي يكون هذا الفعل في ذاته، هو "العدالة" في ذاتها (؟!)
أي وبتعبير آخر أكثر دقة: ما هو وجه "العدالة" في المردود المجتمعي على الصعيد الاقتصادي لمبدأ "تداول الثروة"، خاصة وأن الفكرة الكامنة في هذا المبدأ تبدو وكأنها مجرد تعبير عن التغيير في مواقع "تمركز الثروة"، بحيث يمكن القول أن تمركز الثروة في المكان "أ" إذا كان وجها من أوجه "اللاعدالة" التي تتطلب تداولا للثروة للخروج من دوائرها، فأين هي "العدالة" على وجه الحقيقة في هذا التداول، إذا كان مبدأ "تداول الثروة"، سينقلها من التمركز في "أ" إلى التمركز في "ب"، سواء في هذا الجيل أو في الجيل الذي يليه (؟!) أي هل أن العدالة هي مجرد "هذا الانتقال" في مكان تمركز الثروة (؟!)
وفي سياق الإجابة على هذا السؤال نقول..
من الضروري توضيح أن لتداول الثروة وجهين يحدثان مترافقين أو يجب أن يحدثا مترافقين، ولا يحدث أحدهما في "سيرورة الثروة" في المجتمع بدون أن يحدثَ الآخر. وأنَّ تداول الثروة إذا لم يحدث في هذين الاتجاهين، وحدث في اتجاه واحد، فكأنه لم يحدث، بل وكأنه جسَّد انتقال الثروة من طبقة كان متمركزا عندها معبرا عن "اللاعدالة"، إلى طبقة أخرى لا يختلف تمركز الثروة عندها عن تمركزها عند سابقتها، من حيث تعبيره عن "اللاعدالة" أيضا.
إن حركة الثروة عبر سيرورة "تداول الثروة"، كي تكون مجسِّدةً لسيرورةِ عدالةٍ مجتمعية، يجب أن تحدثَ في اتجاهين. الاتجاه الأول هو ذلك الذي يُغَيِّر في مراكز إدارتها وتوجيهها، وفي أعيان مالكيها أنفسهم أفرادا ومؤسسات، أما الاتجاه الثاني فهو ذلك الذي يغيِّر في أنماط توزيعها، بحيث تتوسع دوائر المنتفعين بها بشكل متكافئ في مستويات ودرجات الانتفاع، بصرف النظر عن مالكيها ومديريها وموجهيها. فعبر الاتجاه الأول يُعادُ إنتاج العقل الموجِّه للثروة، والفكر الذي يتولى إدارتها، كما يتم تغيير أعيان مالكيها، فيمنحها "التداول" على هذا الإحداثي دما جديدا في الإدارة والتوجيه، ناتجٍ عن تلك التغيُّرات، وعلى رأسها التغيُّرات الحاصلة في أعيان المالكين، لا في الجيل نفسه فقط، بل وفي الأجيال المتعاقبة. وعبر الاتجاه الثاني، تتقلص الفوارق الطبقية، وتتفعَّل المساواة، وتتحقق مستويات متقدمة من العدالة في توزيع الثروة، تتنامى باستمرار خلال الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة.
هذا هو المعنى الحقيقي لمبدأ "تداول الثروة"، وهذا هو "تداول الثروة" الحقيقي المُنْتِج لـ "تداول السلطة" الحقيقي، وهذا هو ما يجب أن نؤسِّسَ ونؤصِّلَ لحريةٍ تحقِّقُه وتضمنه وتحافظ عليه وتجسِّدُه، لأنه هو وحده المجسِّد لعدالةٍ تستطيع تحقيق الحرية، بعيدا عن عباءة "الديمقراطية الليبرالية" التي أسَّسَت وأصلت لحريةٍ كان هدفها الحيلولة دون تجسيد عدالةٍ لن يجسِّدها إلا "تداول ثروة" على النحو الموضح أعلاه. وبعيدا عن عباءة "الاشتراكية والشيوعية" التي أسَّسَت وأصَّلت لعدالةٍ كان هدفها ضمان حماية نفسها، عبر الحيلولة دون تجسيد "حرية ديمقراطية ليبرالية" اعتُبِرَت هي مصدر اللاعدالة بوصفها هي "الحرية"، وليس بوصفها فقط حريةً مجتزأة مزيَّفَة قدمتها الديمقراطية الليبرالية وصفةً مقدسةً لحريةٍ كانت هي البوابة الضامنة لتمركزِ ثروةٍ ظالمٍ مُذِلٍّ لأنها كانت حرية موهومة.
في بدايات القرن الماضي ظهرت أهم فصائل الإسلام السياسي في ظروفِ خضوعِ الأمة العربية للاستعمار، فحتَّم عليها السياق التاريخي الذي نشأت وتطورت فيه، غير بعيدة عن التلوُن بألوان الحواضن الاستعمارية المهيمنة، أن تصبَّ جام غضبها العقدي والأيديولوجي على عدو الاستعمار العالمي الرئيس آنذاك، ممثلا في "الشيوعية". فظهر الإسلام السياسي وكأنه في مشروعه الاقتصادي ليس أكثر من رأسمالية مهذَّبَة – بل ربما غير مهذبة احيانا – لا تختلف في الجوهر عن الرأسمالية العالمية التي احتضنتها ورعتها "الديمقراطية الليبرالية"، إن لم تكن أكثر تغولا منها.
ولأن الإسلام السياسي كان يجب عليه أن يكون له موقفه العدائي أيضا من الاستعمار الرأسمالي الإمبريالي، لأن هذا الاستعمار بهيئته الإمبريالية الرأسمالية تلك، هو الذي كان يحتل الوطن العربي وليس الشيوعية، التي دخلت واقعنا العربي في سياق تخليق حالات تحرُرِيَّة، بصرف النظر عن موقفنا من جدِّيَّة وقدرة وفاعلية هذا السياق التحرُّري في برامج الشيوعية الدخيلة، فقد حاول – أي الإسلام السياسي – التأسيس لموقف معادٍ له – أي للاستعمار – يكون في الوقت ذاته معاديا للشيوعية.
وبسبب أن الصراع حول الاقتصاد كان وما يزال هو محدِّد الخنادق ومولِّد الأيديولوجيات المؤَصِّلَة لمواقف المتصارعين محليا وعالميا، فقد ظهر "الإسلام السياسي" كمعادٍ عقدي عميق العداء للشيوعية، محافظا على جوهره الرأسمالي في الفكر الاقتصادي، ما جعل عداءَه للرأسمالية وللاستعمار، عداءً ناعما بسبب التقارب الاقتصادي الذي تمِّ التأسيس له بتقارب معتقدي يبرِّرُه، يدافع عن الإيمانين "الإسلامي" و"المسيحي" في مواجة الإلحاد "الشيوعي"، ما جعل الرأسمالية تظهر وكأنها أكثر تجسيدا لهذين الإيمانين وأقرب إليهما، من الشيوعية التي لم يشأ أحد أن يفهمها إلا باعتبارها نتاجا خالصا للإلحاد ليس إلا.
وهو الأمر الذي جعل الرؤية الاقتصادية للإسلام السياسي الذي سوَّق لمفهوم "الاقتصاد الإسلامي"، كما سوَّقَ لأسلمة كلِّ شيء في الحياة، للتأسيس لنفسه بوصفه مشروعا عالميا ثالثا، رؤيةً لا تختلف عن الرؤية الاقتصادية الليبرالية التي هي "اقتصاد السوق". ما يجعلنا نجزم بأنه – أي المشروع الاقتصادي الراهن للإسلام السياسي – لا يصلح أن يكون هو الحاضنة لفلسفة "تداول الثروة" الناتج عن "تداول السلطة" الحقيقي والمفَعِّل له.
خلاصة القول إذن، هو أن مبدأ "تداول السلطة" في "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، منقوص وغير حقيقي ومزيَّف، لأنه لم يُنْتِج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول الثروة". كما أن مبدأ "تداول الثروة" في "الاشتراكية والشيوعية" أوربية المنشأ، هو أيضا منقوص ومزَيَّف وغير حقيقي، لأنه عجز بالمثل عن إنتاج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول السلطة". فضلا عن أن "الإسلام السياسي" لم يطرح رؤية في "الثروة" تختلف عن الرؤية الرأسمالية، ما يجعل رؤيته تلك لا تختلف من حيث منقوصيتها وتزييفها عما انطوى عليه اقتصاد السوق والرأسمالية نفسيهما.
وإننا إذ وصلنا إلى هذه النقطة فيما يتعلق برأسمالية المشروع الاقتصادي لمختلف فصائل الإسلام السياسي، لم يبق علينا إلا التأكيد على أن الأزمة العالمية التي اندلعت شرارتها في صيف عام 2008 – والتي أربكت معاقل رأس المال الإمبريالي الاحتكاري المالي العالمي، وحجَّمت من ثم وإن يكن إلى حين من اندفاع إمبراطورية الرأسمالية العالمية نحو تحقيق الكثير من أهدافها على مستوى المنطقة العربية – كشفت عن حقيقةٍ غاية في الأهمية، نجد أنفسنا مدفوعين إلى التصريح بها كي يصحو المغفلون من سباتهم المتواصل منذ قرون.
فهاهم دعاة الرأسمالية الإسلامية ومُنظرو أسلمة كلِّ شيء، يرقصون فرحا وهم يرون تكالب الرأسمالية الغربية على ما يسمى – زورا وبهتانا – بالأنظمة المصرفية الإسلامية، بعد أن اعتبروها الأقدر على حلِّ مشكلاتها والخروج بها من أزماتها، مع الحفاظ عليها رأسمالية قادرة على تجديد نفسها، وضمان استمرارها سيدة للحياة الاقتصادية للبشر مائة سنة قادمة من الزمان.
ونحن إذ ندعو إلى الاستيقاظ من الغفلة والكف عن الرقص الفرِح بهذا القدر من الغباء الذي وصل إليه قادة الرأسمالية الإسلامية، فلأننا فهمنا كما يفرض ذلك منطق الأمور، أن هؤلاء المصرفيين الإسلاميين يقدِّمون بتصورهم القاصر والساذج والسطحي للفلسفة الاقتصادية الإسلامية، ترياق إعادة الحياة لعدوة الإنسانية الأولى، ألا وهي الرأسمالية العالمية بأبشع صورها الإمبريالية المالية المتغوِّلة. فكفى بتصورٍ إسلامي كهذا سقوطا وتراجعا، أن يكون قد كشف في نفسه عن صورة من صور الرأسمالية البغيضة، وأن يكون قد رأى في نفسِه منقذا لها، والإسلام بقرآنه الكريم وبسنة نبيه الصحيحة بُرَآء من كل هذه الفقهيات المصرفية الساذجة التي لا تعدو كونها نوعا من القراءة الرأسمالية المتصنعة للمرجعية الاقتصادية الإسلامية الأم التي ما تزال مع الأسف الشديد تعاني من البكارة الاجتهادية الموغلة في عذريتها منذ أربعة عشر قرنا.
وبالتالي فنحن وبإزاء واقع يتطلب منا الخروج من شرنقة فصل "الثروة" عن "السلطة" في أيِّ مشروع ديمقراطي تحرُّري نسعى إلى تجسيده ودسترته، وجمع تداولِهما معا في إطار نوع خاص من الديمقراطية، تقوم على التزاوج الكامل بين "الحرية" و"العدالة"، نجد أنفسنا معنيين برفض الطروحات الثلاثة المعروضة أمامنا، بوصفها بضاعة فشلت أو أنها ستفشل في تجسيد هذه الحالة، بدءا بـ "الرأسمالية" و"الشيوعية" اللتين حرمتنا كلُّ واحدة منهما من واحدةٍ من قيمتي "الحرية" و"العدالة" لحساب الأخرى، وانتهاءً بـ "الإسلام السياسي"، الذي في الوقت الذي يعرض علينا "حرية" أقل من تلك المنطواة في "الليبرالية"، فإنه يعرض علينا "بعدا عن العدالة" لا يختلف عن "البعد عن عدالتها"، لنكون بصدد تجربة لا تقل عن سابقتيها سوءا، إن لم تكن أسوأ منهما، عبر تحويل مشروع العدالة الاقتصادية إلى مشروعٍ واسع للعمل الخيري التكافلي البائس، وليس إلى مشروع موضوعي قائم على القراءة العلمية لسيرورة مكونات الواقع الاقتصادي في المجتمع.
وبإزاء فشل المشروعين الأوربيين في التأسيس لقيمتي "الحرية" و"العدالة"، بعد أربعة قرون من هيمنة ذينك المشروعين على أوربا وعلى العالم، بعجزهما – أي المشروعين – عن التأصيل لمبدأي "تداول سلطة" و"تداول ثروة" متكاملين، يُنْتِج كلٌّ منهما الآخر ويَنْتُج عنه، ويطوره ويتطور به، ويُفَعِّلُه ويَتَفَعَّل به، ويُؤَثِّر فيه ويَتَأَثَّر به، وعدم استعدادنا لخوض تجربة "سلطة" و"ثروة" جديدة لن تكون أكثر من امتداد عضوي لتجربة الليبرالية الرأسمالية تحت غطاء "الإسلام" المُفترى عليه، فإن العالم يقف على أعتاب مرحلة تتمخض عن البديل التاريخي الذي يمثلُ الخيار الحقيقي القادر على خلق معادلةٍ للحرية تولد في رحم العدالة، ومعادلةٍ للعدالة تولد في رحم الحرية، عبر تقديم توصيف دقيق لحالة التكامل بين مبدأي "تداول السلطة" و"تداول الثروة" في الواقع الموضوعي.
وهو ما يعني من الناحية الدستورية، أن يتمَّ التأسيس لـ "تداول الثروة" في "الوثيقة الدستورية" بالقدر نفسه الذي يتم فيه التأسيس لـ "تداول السلطة"، تحقيقا لمبدأ الاستبعاد الكامل للمقولتين الناشزتين، "الحرية ثابت والعدالة وجهة نظر"، و"العدالة ثابت والحرية وجهة نظر"، لأن الحقيقة التي لا مفر منها هي أن "الحرية ثابت" و"العدالة أيضا ثابت".