منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    البعد الاقتصادي للعولمة وتداعياته في عالمنا المعاصر .. قراءة نقدية

    البعد الاقتصادي للعولمة وتداعياته في عالمنا المعاصر .. قراءة نقدية / بوبكر جلالي

    د. بوبكر جيلالي
    مدخل: إنّ للعولمة بعدها السياسي الذي أبرز بوضوح ارتباط سياسة الكونية في نشأتها وتكوينها بالمجتمع الرأسمالي الحديث وبتطور الحياة الاقتصادية بجميع عناصرها وقطاعاتها،

    هذا التطور الذي ارتبط بالانفجار العلمي والتقني وبالثورة الصناعية التي غزت كل مجالات الحياة، فإنّ المظهر الاقتصادي الذي طبع الحياة ككل بطابعه ارتبط بالرأسمالية باعتبارها فلسفة اقتصاد وتنظيما اقتصاديا وممارسة اقتصادية، فمن حيث هي فلسفة الاقتصاد الرأسمالي تقوم على إبعاد الدولة والتوجيه الأخلاقي أو الديني أو غيره عن التدخل في الحياة الاقتصادية، وإخضاعها للقوانين الطبيعية الفيزيوقراطية في الحياة البشرية، قانون الحرية الاقتصادية، حرية العمل والإنتاج وتنويع المنتج وحرية الاستثمار والمنافسة وحرية التبادل وحرية السوق وغيرها، وقانون الملكية الفردية للإنتاج ووسائل الإنتاج، وقانون العرض والطلب هو الذي يقوم بتحديد أسعار السلع في السوق وأجور العمال، أما الرأسمالية من حيث هي تنظيم اقتصادي يقوم على المبادئ السابقة تتحدد بعدد من الآليات والميكانيزمات تنطلق من البدء في الشغل وتضبطه خلال جميع مراحله إلى أن يتحول الشغل إلى إنتاج ثم تسوق الفائض منه، وتحرص باستمرار على تطوير المنتجات من حيث الكم والنوع، هذه الآليات تتعلق بتحديد أنواع العمل وتقسيمه في المجتمع، وتحديد أنواع الاستثمار حسب مطالب وحاجات المجتمع، وتحديد رؤوس الأموال واستثمارها في الداخل وفي الخارج، وتنظيم قطاعات الخدمات المختلفة وهو قطاع له من الأهمية ما يجعل القطاعات في خدمته، وتتطور هذه الآليات بتطور الحياة في المجتمعات الرأسمالية، أما الرأسمالية من حيث هي ممارسة تشمل جميع الإجراءات والتدابير التي تقوم الجماعة الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي بتنفيذها، ولا يمكن للنظام الرأسمالي أن يصل إلى ما وصل إليه من تقدم وازدهار في الحياة الاقتصادية في غياب التنفيذ الصارم والدقيق لهذه التدابير واحترام الآليات في ضوء مبادئ وأسس فلسفة الاقتصاد الحر.
    * إنّ تركيبة الرأسمالية وصرامة مبادئها وقوانينها وآلياتها أدّت إلى تنامي الإنتاج وتطوره من خلال فتع الأسواق وتحرير التجارة من سائر القيود وإقبال دول العالم على منتجات بعضها البعض، وإنشاء التكتلات الاقتصادية والمؤسسات المالية العالمية وتدعيم نشاطات الشركات العالمية مع توسيع دائرة المبادلات التجارية من خلال تحريرها بإلغاء القيود الجمركية واستعمال نظم أكثر فعّالية وتطور من ذي قبل في استثمار رؤوس الأموال وفي استثمار الموارد البشرية، وساعد على انتشار الليبرالية وثقافتها وجميع أسسها الفكرية وجوانبها ومظاهرها المالية والاقتصادية عامة الدعاية والترويج لها ليس فقط من طرف وسائل الإعلام الخاصة والعمومية في مجتمعات المركز والأطراف معا بل روج لها الكثير من المفكرين أمثال فوكوياما، وهذا إيان كلارك يقول في إمكانية التوحيد والجمع بين مصالح العولمة ومصالح الدولة الوطنية من دون تفكك أو انصهار الدولة القومية في الكوكبة:"إذا كان الأمر الأكثر قربا من الواقع على وجه التأكيد هو أن نتوقع تكيفا جديدا بين قوة الدولة وقوى العولمة بدلا من نصر تام لإحدى هاتين القوتين. وإذا صح هذا التحليل فإن أثر نهاية الحرب الباردة سيتركز غالبا في تشييد أشكال جديدة من قوّة الدولة وسيتم تحقيق التوازن الجديد بين العولمة والتفكك عبر هذا الوسيط لا بتجاوز الدولة". ومن الباحثين من ربط حاجة العالم إلى العولمة بسوسيولوجيا الحياة في العالم المعاصر، وهذا فرانك جي.لتشنر يعبر على ذلك بقوله: "تقوم التغطية الكوكبية في السوسيولوجيا على مسلسل متصل من الجهود المثابرة من جانب عدد من الباحثين على امتداد العقود القليلة الماضية تلك الجهود الهادفة إلى التعامل مع العالم كنظام اجتماعي بحد ذاته. من الواضح أن تلك الجهود استلهمت من الإدراك البسيط لحقيقة أن المجتمعات كانت سائرة في طريق التحول إلى مجتمعات شديدة التعويل على تبادل التبعية. وعلاوة على ذلك أصبح واضحا أن جملة العمليات التي كان السوسيولوجيون مهتمين بها بالذات كانت منطوية أساسا على نوع من البعد الكوكبي".

    1- ضغط العولمة في الزمان وفي المكان:
    * ساعد على ظاهرتي الانتشار والانصهار بين العولمة والدولة القومية تطور تقنية الإعلام الآلي وتقنية شبكة الانترنيت وارتباط هذه التقنيات بالتطور الهائل الذي عرفته وسائل الإعلام والاتصال، كما ساعد على تطور الإنتاج وكثرة الفائض فيه وتنامي المبادلات التجارية وازدهارها واختزال المسافات في التسويق بتطور وسائل النقل البري والبحري والجوي واستخدام، آليات أكثر تطورا في تحويل الأموال عبر البنوك العالمية، وارتبط الازدهار الاقتصادي في الإنتاج من حيث الكم والكيف معا، وفي وسائل الإنتاج وفي علاقات الإنتاج وفي قواعد وآليات تنظيمه وتسويقه وغيرها، مما يرتبط بالحياة الاقتصادية بالتوجّه الاقتصادي الليبرالي الغربي وبالنموذج الأمريكي بكل ما يحمله هذا النمو من قيّم ودلالات وما يتضمّنه من طموحات ومصالح، وأبرز طموح هو تعميم استعماله في كل بلدان العالم من منظور أنّ العولمة الاقتصادية وبموجب الأوضاع المالية والمصرفية والظروف الاقتصادية القائمة صارت أمرا واقعا وضرورة لا بد منها، وأصبحت مكسبا حضاريا للإنسانية جمعاء، هذا ما عرفه واقع القوى الكبرى في العالم ودافعت عليه في المحافل الإقليمية والدولية، بيد أن الممارسات الاقتصادية بالفعل كانت في جوهرها لصالح ولحساب القوى العظمى، وعلى حساب الشعوب النامية، ذلك لشمولية العولمة واحتوائها على اقتصاد العالم، وتحويل العالم بما فيه العالم الثالث والعالم العربي إلى سوق مفتوحة تتحكم فيه قواعد وإجراءات الرأسمالية العالمية التي لا تعترف إلا بالأقوياء ولا تقرأ البتة حسابا للضعفاء والفقراء، يتفق على هذا العديد من المفكرين الغربيين والعرب، "ويؤكدون على وجود سلبيات للعولمة تشمل: عدم تحكم الدولة الوطنية بأسعار الصرف وأسعار الفوائد وأسعار الأوراق المالية في البورصات، والتزايد السكاني في بلدان الجنوب دون تزاد الإنتاج وتعميم نمط الاستهلاك الأمريكي".
    * إنّ الدولة الوطنية في أمس الحاجة لممارسة دورها في تحريك التنمية في مختلف جوانب الحياة لكنها تفتقر إلى السلطة لممارسة صلاحياتها السياسية والاقتصادية، مثلما هو واقع في بلدان العالم العربي، "إن تحقيق النمو الاقتصادي في الوطن العربي كما يتطلب في كل الأحوال تطوير الهياكل الأساسية للاقتصاد وتحقيق حد أدنى من الخدمات الضرورية للسكان، لم يكن من الممكن في ظروف البلاد النامية أن توفرها إلاّ الحكومات التي تحملت أعباء استثمارية كبيرة من أجل ذلك. ومن ناحية أخرى فإن غياب وجود طبقة من المنظمين القادرين على تحمل المخاطر اللاّزمة لإقامة أنشطة إنتاجية جديدة ذات حجوم كبيرة قد اضطر الحكومات- حتى في المجتمعات التي تتبنى نموذج التنمية الرأسمالية- إلى تحمل بعض هذه المخاطر خاصة في مجال الصناعة. كما تطلبت التنمية في كل الأحوال توسعا في التعليم والتدريب لتوفير القوى العاملة المناسبة، ودعما لجهود نقل الثقافة وتطويرها، وتوفير قدر من الحماية للأسواق الداخلية ودعم وتشجيع الصادرات وغير ذلك". وهي مهام وصلاحيات عسيرة على الدولة في ظل العولمة، حتى وإن جاء التوجه العام للشركات والمؤسسات في عصر العولمة من الناحية النظرية يقوم على الانتصار ضد تسلط الدولة واستبدادها وعلى التفوق العلمي والتكنولوجي القائم على الإبداع والابتكار، وعلى الريادة في تنظيم الإدارة وعلى المنهجية والطهارة الأخلاقية والسير في المبادئ السامية التي تخدم الإنسانية جمعاء، فتوجه العولمة في الحقيقة وفي الواقع يقوم على"سحق الهوية والشخصية الوطنية المحلية...استباحة الخاص الوطني وتحويله إلى كيان رخو ضعيف غير متماسك...". ومن البلدان التي تضرر اقتصادها في ظل العولمة من جراء الخصخصة وانفتاح السوق فيها على التجارة العالمية مصر، حيث "تضمن برنامج الخصخصة بيع 314 شركة قطاع عام ومنذ عام 1992 توقف الدعم الحكومي عن هذه الشركات وقد باعت الحكومة أسهم77 شركة وعرضت أكثر من 33 شركة أخرى للبيع...وتراجع معدل نمو الاستثمار في القطاع العام من المفترض أن يحدث أثارا سلبية من خلال المرور بتأثيرات المضاعف المعجل ومما ينبغي الإشارة إليه أن جزء هاما من حصيلة بيع شركات القطاع العام لا تضخ في الوعاء الاستثماري القومي حيث جزء لسداد مديونية شركات القطاع العام لدى الجهاز المصرفي وجزء آخر لصالح العمال سواء في شكل أسهم بالتملك أو لصالح الصناديق العمالية التي تصرف مكافئات نهاية الخدمة ونصيب العمال قد عادل ثلث الحصيلة تقريبا والجزء الثالث والمتبقي يذهب للخزينة العامة للدولة". لذا نادى مفكرو مصر "بضرورة التوفيق بين متطلبات العولمة وحيوية تعزيز الكيان الوطني. حيث أن دور الدولة طوال التاريخ هو دعم الصالح العام ورعاية الفئات والشرائح غير القادرة وضمان أكبر قدر ممكن من العدالة في توزيع الناتج القومي ومسئولية الخدمات الحيوية كالتعليم والإعلام والصحة". لكنّها تبقى مجرد مطالب لا تعرف التحقق في جو العولمة، وازداد الفساد والاختلال الاقتصادي والاجتماعي تفاقما كلّما ازداد إقبال الدولة على اقتصاد السوق وعلى تقبل تغلغل الرأسمالية التي لا تحفظ سوى مصالح الكبار.
    * صارت العولمة حتمية اقتصادية وتكنولوجية تكرس الحرية والمنافسة وتصنع الضغط في الزمان وفي المكان الضغط الذي يتزايد على الزمان والمكان بتأثير الطاقة ومن منطلق مصلحة الأقوياء، لأنّ مقولات الزمان والمكان والطاقة لم تعد بالدلالات السابقة، فاختصار الزمان واختزال المكان وتبدل دور الطاقة وحركتها وتنوعها جعل من هذه المقولات تأخذ حيّزها في الفكر الذي يتبناه توجه العولمة باعتبارها زمان ومكان طاقة وظروف لا يمكن الحياد عنها في أيّة حالة من الأحوال، لأنّ أهم ما تتميز به هذه الظروف الاتصال الزماني والمكاني الاقتصادي الشديد والضاغط وحاجة هذا الأخير إلى الطاقة المتجددة باستمرار، فأصبح العالم في زمانه ومكانه وطاقاته مشدودا نحو جهة واحدة ومركز واحد في مقابل الأطراف من حيث التوجيه والتدبير ، وآثر المركز فرض هيمنته على الأطراف وتكريسها بكل الوسائل المتاحة وسعيه الحثيث وراء مصالحه التي لا تتوقف ولا تحدّها قيود، الأمر الذي أفضى إلى تعارض المصالح في الهيمنة والأمركة فانتهى الأمر إلى خلافات ونزاعات وحروب لم تجر على الشعوب سوى الدمار والضياع، وأصبح مستقبل الإنسانية في خطر خاصة شعوبها المقهورة، تلك هي العولمة في أبعادها الاقتصادية وفي مظهرها القائم على تعميم النموذج الليبرالي الاقتصادي كما يعيه ويفهمه الغرب والأمريكان وكما هو سائد في المجتمعات الغربية، نظام اقتصاد السوق في إطار يقوم على الحرية والخصخصة وتنفيذ سياسات اتفاقية التجارة العالمية والاندماج في الشركات الاقتصادية العالمية العابرة للقارات، وهو نظام يتعارض مع الأنظمة الاقتصادية الأخرى في فلسفته وآلياته ولا يعطي أدنى اعتبار لخصوصيات ومميزات الشعوب والبلدان الثقافية والتاريخية والجغرافية وغيرها، فيصدر لها الفساد والتناقض بين النظر والعمل، بين شعاراته ومبادئه وبين الملموس المجني في الواقع، "تلك التناقضات الناتجة عن تدخل عوامل التغلغل الرأسمالي مع عوامل التقبل الداخلي لهذا التغلغل ومن ثم تكون المحصلة النهائية باختصار هي: ظهور رأسمالية رثة بمفهوم فرنك أو رأسمالية مشوهة تعمل في إطار تدمير نمط الصناعة الوطنية واستنزاف فائض العمل وفائض الإنتاج وتصديرهما إلى الخارج ليساهما في التراكم الرأسمالي في العواصم ويُحرم أبناء هذه المجتمعات من مصادر التقدم بل يجعلها في حالة تبعية كاملة للمركز والرأسمالية الغربية ويحافظ على التوازن بين النمط الرأسمالي الخاص وبين النمط الرأسمالي الرث". هذه الوضعية تفرضها العولمة في أيّة جهة تتبنى الرأسمالية الغربية في تنظيم حياتها الاقتصادية والديمقراطية في توجهها السياسي.
    * لقد لجأت العولمة إلى استخدام كافة الوسائل والأساليب المشروعة وغيرها لضمان سيطرة المركز الكاملة على الاقتصاد العالمي في جميع عناصره وقطاعاته وعلاقاته، ومن عناصره الجانب المالي، أنشأت لغرض الاستحواذ على رؤوس الأموال والفوائد للاستيلاء على الاستثمار العالمي مؤسسات مالية عالمية تديرها وتتحكم في تسيير الأموال بها، كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، هذا الأخير لعب الدور الذي لعبه الاستعمار الكلاسيكي في البلدان التي اقترضت منه، بحيث فتقدت سيادتها الداخلية والخارجية من وراء ما جلبته الاتفاقية مع صندوق النقد العالمي من تسريح العمال وانخفاض القدرة الشرائية وتوقيف دعم الدولة للاقتصاد ولسوق الاستهلاك الواسع وانتشار الفقر والبطالة وانهيار القطاع العام، وكانت النتيجة مشكلات اقتصادية واضطرابات اجتماعية وحروب أهلية، فكان ذلك الوضع المزري في جو العولمة والأمركة أشد تأثيرا وأخطر وقعا على العديد من الشعوب في العالم، أما البنك الدولي فقد تخلى "عن واحد من أهم مسلمات الليبرالية، وهو ما يسمى "مفعول التساقط" ومقتضاه أن تزايد ثراء الأغنياء سيصفي تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر، لأن الغنى المتزايد يعني تزايد الاستثمار وخلق أعداد كبيرة من فرص العمل، بحيث تنحصر البطالة وما يترتب عليها من فقر في الكسالى والمعوقين وهذا ما يمكن أن يعالج بفعل الخير أي ما يتبرع به الأغنياء. وكان التخلي من جانب البنك الدولي سببه استمرار الفقر في العالم، وتزايد أعداد الفقراء بانتظام".
    * تنطق أوضاع الشعوب المتخلفة الاقتصادية والاجتماعية بما لا تنطق به العولمة والأمركة وبما لا ينطق به المروجون لهما، حيث الاستثمار والاحتكار، "وقد نمت الاستثمارات الاحتكارية، الخارجة من دول الشمال سنويا17و18 بالمائة، أما وتيرة الإنتاج في هذه البلدان المتقدمة فقد هبط إلى1و2بالمائة، وقد وضع الرأسمال المبتور عن ترتبه القومية، تحت رقابته خمسي "1/5" حجم الإنتاج الصناعي في البرازيل والبيرو وكولومبيا والمكسيك. وأُغرقت السوق العالمية بالمنتجات الرخيصة المصنعة في بلدان عالم الجنوب، ومن الطبقة العاملة التي تعمل بأجر أقل من 10و15 مرة عما هو عليه في البلدان المتقدمة". وتنطلق الليبرالية وينطلق مفكروها من كون ظاهرة التخلف في العالم نتجت واستفحلت عن عدم احترام الشعوب والأنظمة السياسية والاقتصادية في دولها للقوانين الطبيعية التي ينبغي أن تخضع لها الحياة الاقتصادية برمتها، وتقارن قوى المركز دوما بين الأوضاع الاقتصادية والظروف الاجتماعية في البلدان التي عرفت الرأسمالية مبكرا مع تلك التي عرفتها مؤخرا، والواقع أنّ انتصار العولمة اقتصاديا مرتبط بالتفوق الأوربي الأمريكي الحديث والمعاصر في المجال العلمي والتكنولوجي، تفوق هائل في وسائل ومناهج العمل والتأثير في الطبيعة، ومرتبط بسياسة الامبريالية والهيمنة والتسلط والاحتلال والاستعمار وغيرها من الأساليب غير المشروعة التي تستهدف تحقيق مصالح الدول الكبرى في العالم، فهي تزداد قوّة وثراء ويزداد مع ذلك ضعف الضعفاء و فقر الفقراء وكثرة المحرومين، وأصبح اقتصاد العالم أجمع خاضعا لإرادة دول المركز ولمطالبها وحاجاتها، وصار خمس سكان العالم أثرياء بأيديهم المال والأعمال والسلطة، والأخماس الأربعة الأخرى تعاني كل صنوف الأذى والحرمان، الجوع والأمراض والحروب والاحتلال وغيرها من المشكلات المختلفة، الأمر الذي يدل على أنّ العولمة على المستوى الاقتصادي مظاهرها عديدة ومتنوعة مرتبطة بسائر المظاهر الأخرى في حياة الإنسان عامة، لأنّ الحياة الاقتصادية وتطورها وازدهارها وراء أي تطور في أي ميدان آخر، كما يدل على التداخل والتشابك بين مظاهر العولمة وتداعياتها، باعتبار نتائجها ترتبت عن هيمنة إرادة الدول العظمى على شعوب العالم اقتصاديا، وتمثلت في تعميم آليات اقتصاد السوق وآليات الديمقراطية وكل ما من شأنه يخدم النهج الاقتصادي الرأسمالي ومن ورائه مصالح الكبار، وباعتبار تداعياتها هي الأخرى نتائج خلّفتها العولمة وكانت نعمة على القوى المهيمنة، لكنّها جاءت نقمة على المستضعفين والمقهورين في الأرض، وشكلت العولمة على المستوى الاقتصادي شكلا من أشكال الهيمنة الاقتصادية الرهيبة التي جرّت وراءها كل أشكال الهيمنة الأخرى وعمّقت ظروف الفقر تداعياته، والفقر مدعاة إلى الكفر.
    * إذا كانت العولمة هي توجه المركز وإستراتيجيته تحمل أبعادا ثقافية وسياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية واجتماعية وعقائدية، فتداعياتها تنعكس على المركز والأطراف معا، تنعكس على المركز بأن يزداد نفوذه وازدهاره أما الأطراف فيزداد ضعفها وتخلفها، هو ما تخطط له العولمة وتدافع عنه وتحميه بشتى الوسائل والسبل، وخطر العولمة ليس فقط على البشر فرادى وجماعات، دول وأمم، ثقافات وديانات، بل على الحجر والشجر والثمر والبيئة والطبيعة بصفة عامة، فقوانين اقتصاد السوق وشروط وآليات المنظمة العالمية للتجارة، وما يجري في العالم من تصنيع واستغلال المنتجات الصناعية في النقل وفي غيره من قطاعات الحياة، ومن تسلح وتسلح نووي وما ينجر عن ذلك من التجارب والنفايات وغيرها من مخلفات التكنولوجيا ونقل التكنولوجيا واستغلال التكنولوجيا، كل هذا لا يسمح بحماية البيئة والطبيعة والإنسان من مخاطر عديدة، خاصة إذا كانت منظمة التجارة العالمية تتحكم في قوانين حماية البيئة، وبالتالي لا تسمح لأي دولة بممارسة صلاحياتها في حماية المحيط من كافة المخاطر، ناهيك عما يجري في الطبيعة من استنزاف لمواردها وطاقاتها المختلفة، كالاستنزاف النفطي واستنزاف الثروة السمكية والمرجانية وغيرها من أنواع الطاقة، وتعرُّض الطبيعة للتلوث البيئي والقرصنة الحيوية وإزالة الغابات وتدميرها بالحرق أو بتحويلها إلى أحياء سكنية أو مناطق صناعية أو غيرها، بالإضافة إلى ظاهرة تدهور التربة وما ينجر عن ذلك من مشكلات ومخاطر بيئية، واستفحال ظاهرة التصحر خاصة في إفريقيا، وتعمل العديد من الجهات التي تشرف عليها العولمة من خلال العديد من المنظمات العالمية السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية على إضعاف المعاهدات البيئية الدولية، الأمر الذي جعل البيئة في خطر كبير يهدد الحياة فوقها، وأصبح مستقبل الأرض في ظل العولمة غامضا ومصيرها مجهولا.
    * إنّ غزو العولمة الثقافي وما انجرّ عنه من آثار ومخلّفات على الوحدة الثقافية والوحدة الوطنية ووحدة الماضي والمصير داخل الدولة الوطنية كان تمهيدا وطريقا سلكته العولمة للوصول إلى هدف أكبر وأعظم ينشده المركز، هو تغلغل الفكر الليبرالي والنظرية الليبرالية السياسية والاقتصادية وثقافة العولمة عموما في الأطراف، والتمكين بقوّة للتنظيم الاقتصادي الحرّ فيها، العولمة كإيديولوجيها هي وجه الإمبراطورية العالمية وشكل من أشكال الإمبريالية العالمية "في إطار هذا المبدأ تبدو الخوصصة والمبادرة الحرة والمنافسة...الخ. على حقيقتها كإيديولوجيها للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذا بمبدأ:"كثير من الربح قليل من المأجورين". وينبغي أن تفتح كل دولة من دول الأطراف أسواقها وحدودها السياسية والاقتصادية والجغرافية للاقتصاد الرأسمالي، وتنتقل باقتصادها الوطني القائم على اقتصاد القطاع العام والملكية العامة إلى اقتصاد القطاع الخاص والملكية الخاصة، واللجوء إلى الخصخصة الاقتصادية، والاعتماد على رؤوس الأموال الخارجية المقدمة من المركز أو من غيره وبإيعاز منه، وعلى المؤسسات النقدية العالمية والشركات الاقتصادية المتعددة الجنسيات العابرة للقارات والتي أنشأها المركز لتسيطر على اقتصاد العالم وتتحكم فيه وتحفظ مصالحه، ويقوم رأس المال الأجنبي القوي بمنافسة رأس المال الوطني الضعيف فينتقل بذلك الاقتصاد الوطني ويتحول إلى جزء من الاقتصاد العالمي، مما يؤثر بقوّة على سيادة الدولة الوطنية وعلى سياستها تجاه حياتها الاقتصادية والاجتماعية، فتقوم بإلغاء دعم الأوّليات والأساسيات من المواد المستهلكة مما يزيد في نسبة الفقر والفاقة والجوع، وإخضاعها الحياة الاقتصادية والاجتماعية لقانون العرض والطلب في السوق يترك آثاره السيئة على قطاع الخدمات من غذاء وتعليم ونقل وإسكان وسائر الخدمات الأخرى، ووفق قوانين المنظمات الاقتصادية التجارية والمؤسسات المالية التي تعكس إرادة المركز وهيمنته، ولتسويق الفائض في الإنتاج من الدول الصناعية المنتجة فتصبح كل دول الأطراف أسواقها مفتوحة للمنافسة التجارية، فيؤدي ذلك إلى تعطيل الصناعة الوطنية وتتوقف أمام كمية ونوعية الإنتاج العالمي وأمام انتشار الأسواق الحرة وإنشاء المناطق الحرة ولا يبقى سوى من له القدرة على الدخول في التنافس الاقتصادي مع الكبار، وزاد في تعزيز هذه الوضعية احتكار العلم والتكنولوجيا والتفوق في ذلك من طرف الغرب الأوربي والغرب الأمريكي الذي كرّس تخلف وضعف أغلب بلدان العالم وجعلها تتعرض للنهب والسلب في ثوراتها البشرية العلمية والتقنية المهجّرة، وفي ثرواتها الطبيعية المُستغلة مثلما حدث ويحدث في بلدان إفريقيا وآسيا وسائر البلدان النامية وبلدان العالم العربي، وتُصبح هذه البلدان تحت احتلال العولمة، و"لم يعد الاحتلال العسكري السافر ضروريا، فقد برزت وسائل حديثة، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. يقرض البنك الدولي مقابل سياسة "تحرير الاقتصاد"، أي تهيئة الاقتصاد الوطني لاختراق المال الأجنبي، وتحكّمه فيه، مع تخفيضات حادة في خدمة المجتمع. يكرس هذا تقسيم المجتمع إلى أقلية ثرية وأكثرية تعاني الحرمان والفقر المدقع. تهيئ الديون والفوضى الاقتصادية التي أنجزها العسكريون الساحة أمام شروط وقواعد صندوق النقد الدولي، إلاّ إذا حاولت قوى سياسية وطنية ذات شعبية التدخل، وفي هذه الحالة يعود العسكريون لاستعادة الاستقرار. البرازيل حالة كاشفة، تتمتع البرازيل بثروات طبيعية تمكنها من أن تكون أغنى بلاد العالم. كذلك تمتعت بتنمية صناعية عالية المستوى. ولكن بفضل انقلاب عام 1964، ومن ثم المعجزة الاقتصادية التي يشيد الكل بها، أصبح أكثر البرازيليين يعيشون مثل الإثيوبيين، وأقل كثيرا من سكان أوربا الشرقية. دع عنك التعذيب والقتل والأساليب الأخرى لضبط عدد السكان."
    * ما سبق نماذج حيّة من الدول التي مسّتها سياسة العولمة الأمريكية، أي سياسة الأمركة التي يفرضها المركز بكل الأساليب مشروعة وغير مشروعة، ولا ينجر عنها سوى الاضطراب السياسي والفساد الاقتصادي والاجتماعي، الذي كثيرا ما ينتهي بالفوضى والحرب والاقتتال، ومعروف ما ينتج عن هذه الأوضاع ومآل الشعب والدولة الانهيار، هذا الانهيار من عوامله الاقتصادية والاجتماعية تنمية الفوارق وتعميم الفقر، "إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال...والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب شغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي ويتوقف على تخفيض عدد مناصب الشغل. إنّ بعض القطاعات في مجال الالكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم، لا تحتاج إلاّ إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية".
    * في جوّ المنافسة الاقتصادية الشرسة في المناطق والأسواق العالمية الحرة وما ينتج عن ذلك من كثرة وتنوع في إنتاج السلع يتجه الاهتمام في الحياة إلى الاستهلاك الذي تتسع دائرته في المركز وتضيق في الأطراف لضعف الإنتاج الوطني في الكم والنوع أو لغيابه تماما، ولاستحواذ الإنتاج العالمي على السوق وندرته في الأسواق المحلية، للقصور المالي للدولة خاصة إذا كانت لا تملك موارد طبيعية وثروة نفطية، وللضعف الشديد في القدرة الشرائية لدى المستهلك، ولغياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الوطني والقومي وهو مهمة المركز لا الأطراف، فيغرق المجتمع في الفقر وتغرق الدولة في الديون إن كان لها ذلك، فتنجر الدولة في هذا الوضع إلى التبعية الاقتصادية والسياسية للمركز التي لا مفرّ منها، وهي أمنية المركز وغايته القصوى، وما ينبغي "على الأطراف إلا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته والتي يتوقف فيها أو التي يتجاوزها".
    * نتجت عن تبعية الأطراف للمركز اقتصاديا وسياسيا وفي حرص المركز على حفظ مصالحه بشتى الوسائل والأساليب من دون أدنى اعتبار لمصالح الأطراف حالة تعرّضت فيها حاجات ومطالب الأطراف للضياع والضلال، فلا هي ذات اقتصاد وطني يسد حاجاتها ولا هي بقادرة على منافسة المركز في الأسواق العالمية، وفي هذه الحالة أصبح البون شاسعا ويزداد اتساعا وباستمرار بين الأقوياء والضعفاء، وفي هذا الجوّ يكثر الإجرام والفساد وطغيان المصالح الفردية الشخصية، وينتشر العنف بمختلف صوره وانتماءاته وبأدوات وطرق شتى ولا يُنتج العنف إلا العنف والعنف المضاد، كما يعم الفساد الاجتماعي والأخلاقي، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك أواصر الوحدة فكريا وثقافيا ودينيا واجتماعيا بضياع قيّمها وأسسها، وتتعرض الأمة للانهيار، لأنّها تفقد أسباب وجودها وشروط استمرارها، ويؤسس المركز وحدة العالم عل مقاسه وبتفكيك وحدة كل دولة وطنية وكل وحدة اقتصادية وكل مثل جيد أو نموذج مثالي في الفكر أو في السياسة أو في الاقتصاد في الأطراف وخارج المركز، ويجعل من ثقافته وسياسته واقتصاده النموذج والمثال والقدوة، لابد أن تقلده الأطراف وتتبعه، وفي حالة الخروج عنه أو التصدّي له ومعارضته تتعرّض للعقوبات بالحصار أو بما هو أشد منه.

    2-الاقتصاد من موقع المركز والأطراف:
    * إنّ العولمة الاقتصادية المهيمنة على العالم والتي تعكس السيطرة الكاملة للمركز على الحياة الاقتصادية في جميع مجالاتها، لم تترك مجالا اقتصاديا واحدا تتحرك فيه القوى الأخرى خارج المركز بحرّية تضمن في العالم حدّا أدنى من المبادرة نحو العدالة والمساواة، وهي شعارات النظام السياسي والاقتصادي الليبرالي، ولم تسمح للشعوب بأن تختار النمط الاقتصادي الذي يناسبها ويتكيف مع ظروفها الجغرافية والبشرية والتاريخية، وذلك بوضع كافة القيود لتوقيف أيّة تجربة ترى فيها القدر الكافي من الجدّية لحصول النهضة والخروج من التخلف، ويكون ذلك تحت أي ذريعة من الذرائع، هو الأمر الذي حدث مع الكثير من البلدان في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، فصارت كل محاولات النهوض بالاقتصاد تهدد الأمن القومي والاقتصادي للمركز الذي صار يستعمل أسلحة اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية لتحطيم أيّة قدرة في سبيل النهوض الاقتصادي والتحرر من التبعية له، مثل سلاح الحصار التجاري بحيث لا تصدير ولا استيراد، وسلاح النفط وسلاح القمح وسلاح الماء وأسلحة أخرى كثيرة، ونظرة الخوف والحذر لدى المركز إلى أيّة مبادرة اقتصادية هنا أو هناك في العالم من الاستقلال الاقتصادي ومن ثم التمرد والعصيان صارت قاعدة لم تسلم منها أيّة جهة لها وزن أو ليس لها وزن، قويّة أو ضعيفة، فقيرة أو غنية، بل منطق هذه النظرة يعتبر الدولة الفقيرة أو أيّة جهة ضعيفة هي التهديد الأعظم والخطر الأكبر الذي يجب التخلص منه دون أي اعتبار، ففقر الفقراء وضعفهم وتخلّفهم صار خطرا كبيرا يهدد حياة الأقوياء والأغنياء في أوربا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الحضارة والرفاهية والحرية والإبداع وحقوق الإنسان، "خذ على سبيل المثال لاوس في الستينيات...ربما كانت أفقر دولة في العالم.لم يكن معظم الناس القاطنين في تلك المساحة يدرون أنّ هناك ما يسمى بدولة لاوس. فقط عرفا أنّهم يسكنون في قرية، وبجوارهم قرى أخرى يعيش على أرضها أناس مشابهون، بشكل أو بآخر. ولكن ما أن شرع البعض في إصلاح اجتماعي على كيفية شديدة التواضع، حتى قصفتهم واشنطن بسيل متدفق من القنابل -في سرية تامة- مسحتهم من مجال العمليات، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالحرب التي أشعلتها أمريكا في فيتنام. جرينادا بلد جد صغير، قد لا أستطيع أبدا العثور عليه في الخريطة، يقطنه مائة ألف ينتجون الجوز. ولكن ما أن شرعت في إصلاح اجتماعي معتدل حتى سارعت واشنطن لتدمير ذلك."
    * صارت الحياة الاقتصادية برمتها في عناصرها وفي قطاعاتها في صورتها وفي محتواها خاضعة بشكل تام لمنطق قاعدة النهوض الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتكاثر المالي في أيّة جهة خارج المركز يشكل خطرا على المركز يجب سحقه وتدميره، الأمر الذي مارسته القوى الكبرى في المركز مع دول وجهات ضعيفة وفقيرة عديدة مثل لاوس وجرينادا وغيرها، كما قامت فلسفة السياسة الاقتصادية في العالم القائمة على مبادئ وقواعد التنظيم الاقتصادي الرأسمالي بالكيل بمكيالين في الممارسات الاقتصادية، فلجهة المركز عدم تدخل الدولة والأخلاق والدين لإعاقة النماء والتطور والازدهار الاقتصادي، استغلال واستثمار كل نتائج وآثار التقدم العلمي والتكنولوجي، وتقديس الحرية الاقتصادية، حرية العمل والاستثمار، حرية الإنتاج في الكم والنوع، حرية التسويق والتبادل، حرية المنافسة الاقتصادية والتجارية، تطوير الصناعة بمختلف أنواعها، التشجيع على المزيد من الاستهلاك بكثرة الإنتاج وتنوعه، إخضاع السوق لقانون العرض والطلب لتنظيم الأسعار وتحديد الأجور، والحرص على تجميع الأموال واستثمارها في الداخل والخارج، وإنشاء الشركات العالمية العابرة للقارات التي تجلب الأموال الطائلة وتعزز هيمنة المركز وازدياد نفوذه، وتكرس تبعية الأطراف له، وهي تبعية الضعيف الفقير المعتل للقوي الغني الصحيح علّه يعطف عليه، وهي محكوم عليها بأن تخضع للنظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي تفرضه العولمة كشكل من أشكال الهيمنة بمختلف مظاهر الحياة، ومحكوم عليها أن تنتهج الرأسمالية في حياتها الاقتصادية تناسبت أو لم تتناسب مع أوضاعها الاقتصادية وظروفها الجغرافية والاجتماعية والثقافية والتاريخية وتركيبتها البشرية وغيرها، ومحكوم عليها بأن تكون مناطق وأسواقا حرّة مفتوحة أمام المنتجات العالمية، منتجات المركز، ومحكوم عليها بأن تعيش فقيرة ضعيفة في تبعية اقتصادية تامة لغيرها، تعيش على فتاته وتحت رحمته ومشفقته وهو عالم لا يرحم ولا يعرف للشفقة موطن، الأغنياء فيه يموتون من السمنة والتخمة والفقراء يموتون جوعا، وتنعكس آثار التبعية الاقتصادية وتداعيات العولمة على المستوى الاقتصادي سلبا على الظروف الاجتماعية لشعوب الأطراف، فإلى جانب الفقر تُحرم من سائر حقوقها في العيش الكريم وهي ليست مسئولة عن الأوضاع التي آلت إليها حياتها، تُحرم من حقوقها في التعليم والتثقيف والمثاقفة، وفي العلاج والتطبيب، وفي العمل والاستثمار، وفي السكن وفي غيره، وهي حقوق طبيعية أوصت بها كافة الشرائع والديانات والنظم التي عرفها تاريخ الإنسانية منذ القدم إلى يومنا هذا.
    * يتغنى المركز بشعارات ترفعها العولمة في العالم هي في جوهرها لخدمة المركز وحده ودائما، وهي حينما تتجه نحو الأطراف التي يُعلّق بعضها عليها آمالا كثيرة وكبيرة تصلها صماء بكماء عمياء جوفاء باطلة لا يبقى منها سوى الاسم، شعارات برّاقة وجذابة، الحرية والديمقراطية والتعددية، حقوق الإنسان، العدالة والمساواة، نقل التكنولوجيا لكل جهات العالم، الحد من التسلح والتسلح النووي، المحافظة على البيئة وغيرها، كل هذه الحقوق مباحة للمركز محظورة على غيره، وفي حظر هذه الحقوق وغيابها انتهاك لكرامة الشعب وسيادة الدولة في الداخل وفي الخارج، ففي سائر الحالات ينتهي باضطرابات داخلية ومشاكل خارجية مع الجيران ومع النظام الدولي، تكون نتائجه التجويع والتقتيل والتهجير والتدمير، وهي الظواهر التي صارت تميّز عالم الأطراف وتُبرر تخلّفها ويتخذها المركز ذريعة للتدخل في شؤونها وانتهاك حقوقها.
    * انتهت العولمة من الناحية الاقتصادية إلى تدويل النهج الرأسمالي وفلسفته وآلياته، وإلى الهيمنة الكلية على سائر اقتصاديات العالم خاصة العالم الثالث، من خلال إزالة سلطة الدولة الوطنية على الاقتصاد وإزالة القطاع العام واللجوء إلى الخصخصة والانفتاح على اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، ولعمل مع الشركات الاستثمارية العالمية التي تعمل لصالح الدول الكبرى المتمثلة في منطقة الأورو التي تشكل الكتلة الأوربية الغربية وكتلة الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكندا، وذلك على حساب باقي شعوب ودول العالم الأخرى، ففي منطقة الأورو وفي منطقة التجارة الحرّة لدول أمريكا الشمالية يستقر أكثر من ثمانين بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي وخمسة وثمانين بالمائة من إجمالي التجارة العالمية، ونجد خمس دول هي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وانجلترا واليابان تتوزع بينها مائة وثلاث وسبعين شركة من الشركات المتعددة الجنسيات من أصل مائتي من الشركات العملاقة العالمية، هذه بعض الأمثلة عن سيطرة الشركات العملاقة العالمية على الاقتصاد والمال والأعمال في العالم، في هذا الجو أصبح تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الموطنين في الدولة الواحدة وبين الدول الغنية والدول الفقيرة يتنامى ويتزايد باستمرار، فلا الدول الغنية سمحت بهجرة العمالة من الدول الفقيرة ولا هذه الأخيرة استطاعت أن تستقطب رؤوس الأموال من الخارج بسبب تعفن وفساد إدارتها، بحيث نجد القلة من سكانها يستأثرون بالقسم الأكبر من الدخل الوطني والثروة المحلية وغالبية السكان تعاني الفقر وكل صنوف الحرمان، وانتشار البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وغياب الإنتاج والاعتماد على الواردات ناهيك عن انتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي مثل العبث بالمال العام وتهريبه وتعطيل التنمية، كل هذا يزيد في درجة التخلف والانحطاط إضافة إلى ما ينتج عن العولمة الاقتصادية من مشكلات تؤدي لا محالة إلى الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي ينتهي في معظم الأحيان إلى الفوضى وانهيار النظام.
    * إنّ غزو العولمة الثقافي وما انجرّ عنه من آثار ومخلّفات على الوحدة الثقافية والوحدة الوطنية ووحدة الماضي والمصير داخل الدولة الوطنية كان تمهيدا وطريقا سلكته العولمة للوصول إلى هدف أكبر وأعظم ينشده المركز، هو تغلغل الفكر الليبرالي والنظرية الليبرالية السياسية والاقتصادية وثقافة العولمة عموما في الأطراف، والتمكين بقوّة للتنظيم الاقتصادي الحرّ فيها، العولمة كإيديولوجيها هي وجه الإمبراطورية العالمية وشكل من أشكال الإمبريالية العالمية "في إطار هذا المبدأ تبدو الخوصصة والمبادرة الحرة والمنافسة...الخ. على حقيقتها كإيديولوجيها للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذا بمبدأ:"كثير من الربح قليل من المأجورين". وينبغي أن تفتح كل دولة من دول الأطراف أسواقها وحدودها السياسية والاقتصادية والجغرافية للاقتصاد الرأسمالي، وتنتقل باقتصادها الوطني القائم على اقتصاد القطاع العام والملكية العامة إلى اقتصاد القطاع الخاص والملكية الخاصة، واللجوء إلى الخصخصة الاقتصادية، والاعتماد على رؤوس الأموال الخارجية المقدمة من المركز أو من غيره وبإيعاز منه، وعلى المؤسسات النقدية العالمية والشركات الاقتصادية المتعددة الجنسيات العابرة للقارات والتي أنشأها المركز لتسيطر على اقتصاد العالم وتتحكم فيه وتحفظ مصالحه، ويقوم رأس المال الأجنبي القوي بمنافسة رأس المال الوطني الضعيف فينتقل بذلك الاقتصاد الوطني ويتحول إلى جزء من الاقتصاد العالمي، مما يؤثر بقوّة على سيادة الدولة الوطنية وعلى سياستها تجاه حياتها الاقتصادية والاجتماعية، فتقوم بإلغاء دعم الأوّليات والأساسيات من المواد المستهلكة مما يزيد في نسبة الفقر والفاقة والجوع، وإخضاعها الحياة الاقتصادية والاجتماعية لقانون العرض والطلب في السوق يترك آثاره السيئة على قطاع الخدمات من غذاء وتعليم ونقل وإسكان وسائر الخدمات الأخرى، ووفق قوانين المنظمات الاقتصادية التجارية والمؤسسات المالية التي تعكس إرادة المركز وهيمنته، ولتسويق الفائض في الإنتاج من الدول الصناعية المنتجة فتصبح كل دول الأطراف أسواقها مفتوحة للمنافسة التجارية، فيؤدي ذلك إلى تعطيل الصناعة الوطنية وتتوقف أمام كمية ونوعية الإنتاج العالمي وأمام انتشار الأسواق الحرة وإنشاء المناطق الحرة ولا يبقى سوى من له القدرة على الدخول في التنافس الاقتصادي مع الكبار، وزاد في تعزيز هذه الوضعية احتكار العلم والتكنولوجيا والتفوق في ذلك من طرف الغرب الأوربي والغرب الأمريكي الذي كرّس تخلف وضعف أغلب بلدان العالم وجعلها تتعرض للنهب والسلب في ثوراتها البشرية العلمية والتقنية المهجّرة، وفي ثرواتها الطبيعية المُستغلة مثلما حدث ويحدث في بلدان إفريقيا وآسيا وسائر البلدان النامية وبلدان العالم العربي، وتُصبح هذه البلدان تحت احتلال العولمة، و"لم يعد الاحتلال العسكري السافر ضروريا، فقد برزت وسائل حديثة، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. يقرض البنك الدولي مقابل سياسة "تحرير الاقتصاد"، أي تهيئة الاقتصاد الوطني لاختراق المال الأجنبي، وتحكّمه فيه، مع تخفيضات حادة في خدمة المجتمع. يكرس هذا تقسيم المجتمع إلى أقلية ثرية وأكثرية تعاني الحرمان والفقر المدقع. تهيئ الديون والفوضى الاقتصادية التي أنجزها العسكريون الساحة أمام شروط وقواعد صندوق النقد الدولي، إلاّ إذا حاولت قوى سياسية وطنية ذات شعبية التدخل، وفي هذه الحالة يعود العسكريون لاستعادة الاستقرار. البرازيل حالة كاشفة، تتمتع البرازيل بثروات طبيعية تمكنها من أن تكون أغنى بلاد العالم. كذلك تمتعت بتنمية صناعية عالية المستوى. ولكن بفضل انقلاب عام 1964، ومن ثم المعجزة الاقتصادية التي يشيد الكل بها، أصبح أكثر البرازيليين يعيشون مثل الإثيوبيين، وأقل كثيرا من سكان أوربا الشرقية. دع عنك التعذيب والقتل والأساليب الأخرى لضبط عدد السكان."

    3-العولمة الأمركة واقتصاد شعوب العالم:
    * ما سبق نماذج حيّة من الدول التي مسّتها سياسة العولمة الأمريكية، أي سياسة الأمركة التي يفرضها المركز بكل الأساليب مشروعة وغير مشروعة، ولا ينجر عنها سوى الاضطراب السياسي والفساد الاقتصادي والاجتماعي، الذي كثيرا ما ينتهي بالفوضى والحرب والاقتتال، ومعروف ما ينتج عن هذه الأوضاع ومآل الشعب والدولة الانهيار، هذا الانهيار من عوامله الاقتصادية والاجتماعية تنمية الفوارق وتعميم الفقر، "إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال...والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب شغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي ويتوقف على تخفيض عدد مناصب الشغل. إنّ بعض القطاعات في مجال الالكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم، لا تحتاج إلاّ إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية".
    * في جوّ المنافسة الاقتصادية الشرسة في المناطق والأسواق العالمية الحرة وما ينتج عن ذلك من كثرة وتنوع في إنتاج السلع يتجه الاهتمام في الحياة إلى الاستهلاك الذي تتسع دائرته في المركز وتضيق في الأطراف لضعف الإنتاج الوطني في الكم والنوع أو لغيابه تماما، ولاستحواذ الإنتاج العالمي على السوق وندرته في الأسواق المحلية، للقصور المالي للدولة خاصة إذا كانت لا تملك موارد طبيعية وثروة نفطية، وللضعف الشديد في القدرة الشرائية لدى المستهلك، ولغياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الوطني والقومي وهو مهمة المركز لا الأطراف، فيغرق المجتمع في الفقر وتغرق الدولة في الديون إن كان لها ذلك، فتنجر الدولة في هذا الوضع إلى التبعية الاقتصادية والسياسية للمركز التي لا مفرّ منها، وهي أمنية المركز وغايته القصوى، وما ينبغي "على الأطراف إلا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته والتي يتوقف فيها أو التي يتجاوزها".
    * نتجت عن تبعية الأطراف للمركز اقتصاديا وسياسيا وفي حرص المركز على حفظ مصالحه بشتى الوسائل والأساليب من دون أدنى اعتبار لمصالح الأطراف حالة تعرّضت فيها حاجات ومطالب الأطراف للضياع والضلال، فلا هي ذات اقتصاد وطني يسد حاجاتها ولا هي بقادرة على منافسة المركز في الأسواق العالمية، وفي هذه الحالة أصبح البون شاسعا ويزداد اتساعا وباستمرار بين الأقوياء والضعفاء، وفي هذا الجوّ يكثر الإجرام والفساد وطغيان المصالح الفردية الشخصية، وينتشر العنف بمختلف صوره وانتماءاته وبأدوات وطرق شتى ولا يُنتج العنف إلا العنف والعنف المضاد، كما يعم الفساد الاجتماعي والأخلاقي، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك أواصر الوحدة فكريا وثقافيا ودينيا واجتماعيا بضياع قيّمها وأسسها، وتتعرض الأمة للانهيار، لأنّها تفقد أسباب وجودها وشروط استمرارها، ويؤسس المركز وحدة العالم عل مقاسه وبتفكيك وحدة كل دولة وطنية وكل وحدة اقتصادية وكل مثل جيد أو نموذج مثالي في الفكر أو في السياسة أو في الاقتصاد في الأطراف وخارج المركز، ويجعل من ثقافته وسياسته واقتصاده النموذج والمثال والقدوة، لابد أن تقلده الأطراف وتتبعه، وفي حالة الخروج عنه أو التصدّي له ومعارضته تتعرّض للعقوبات بالحصار أو بما هو أشد منه.
    * إنّ العولمة الاقتصادية المهيمنة على العالم والتي تعكس السيطرة الكاملة للمركز على الحياة الاقتصادية في جميع مجالاتها، لم تترك مجالا اقتصاديا واحدا تتحرك فيه القوى الأخرى خارج المركز بحرّية تضمن في العالم حدّا أدنى من المبادرة نحو العدالة والمساواة، وهي شعارات النظام السياسي والاقتصادي الليبرالي، ولم تسمح للشعوب بأن تختار النمط الاقتصادي الذي يناسبها ويتكيف مع ظروفها الجغرافية والبشرية والتاريخية، وذلك بوضع كافة القيود لتوقيف أيّة تجربة ترى فيها القدر الكافي من الجدّية لحصول النهضة والخروج من التخلف، ويكون ذلك تحت أي ذريعة من الذرائع، هو الأمر الذي حدث مع الكثير من البلدان في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، فصارت كل محاولات النهوض بالاقتصاد تهدد الأمن القومي والاقتصادي للمركز الذي صار يستعمل أسلحة اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية لتحطيم أيّة قدرة في سبيل النهوض الاقتصادي والتحرر من التبعية له، مثل سلاح الحصار التجاري بحيث لا تصدير ولا استيراد، وسلاح النفط وسلاح القمح وسلاح الماء وأسلحة أخرى كثيرة، ونظرة الخوف والحذر لدى المركز إلى أيّة مبادرة اقتصادية هنا أو هناك في العالم من الاستقلال الاقتصادي ومن ثم التمرد والعصيان صارت قاعدة لم تسلم منها أيّة جهة لها وزن أو ليس لها وزن، قويّة أو ضعيفة، فقيرة أو غنية، بل منطق هذه النظرة يعتبر الدولة الفقيرة أو أيّة جهة ضعيفة هي التهديد الأعظم والخطر الأكبر الذي يجب التخلص منه دون أي اعتبار، ففقر الفقراء وضعفهم وتخلّفهم صار خطرا كبيرا يهدد حياة الأقوياء والأغنياء في أوربا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الحضارة والرفاهية والحرية والإبداع وحقوق الإنسان، "خذ على سبيل المثال لاوس في الستينيات...ربما كانت أفقر دولة في العالم.لم يكن معظم الناس القاطنين في تلك المساحة يدرون أنّ هناك ما يسمى بدولة لاوس. فقط عرفا أنّهم يسكنون في قرية، وبجوارهم قرى أخرى يعيش على أرضها أناس مشابهون، بشكل أو بآخر. ولكن ما أن شرع البعض في إصلاح اجتماعي على كيفية شديدة التواضع، حتى قصفتهم واشنطن بسيل متدفق من القنابل -في سرية تامة- مسحتهم من مجال العمليات، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالحرب التي أشعلتها أمريكا في فيتنام. جرينادا بلد جد صغير، قد لا أستطيع أبدا العثور عليه في الخريطة، يقطنه مائة ألف ينتجون الجوز. ولكن ما أن شرعت في إصلاح اجتماعي معتدل حتى سارعت واشنطن لتدمير ذلك."
    * صارت الحياة الاقتصادية برمتها في عناصرها وفي قطاعاتها في صورتها وفي محتواها خاضعة بشكل تام لمنطق قاعدة النهوض الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتكاثر المالي في أيّة جهة خارج المركز يشكل خطرا على المركز يجب سحقه وتدميره، الأمر الذي مارسته القوى الكبرى في المركز مع دول وجهات ضعيفة وفقيرة عديدة مثل لاوس وجرينادا وغيرها، كما قامت فلسفة السياسة الاقتصادية في العالم القائمة على مبادئ وقواعد التنظيم الاقتصادي الرأسمالي بالكيل بمكيالين في الممارسات الاقتصادية، فلجهة المركز عدم تدخل الدولة والأخلاق والدين لإعاقة النماء والتطور والازدهار الاقتصادي، استغلال واستثمار كل نتائج وآثار التقدم العلمي والتكنولوجي، وتقديس الحرية الاقتصادية، حرية العمل والاستثمار، حرية الإنتاج في الكم والنوع، حرية التسويق والتبادل، حرية المنافسة الاقتصادية والتجارية، تطوير الصناعة بمختلف أنواعها، التشجيع على المزيد من الاستهلاك بكثرة الإنتاج وتنوعه، إخضاع السوق لقانون العرض والطلب لتنظيم الأسعار وتحديد الأجور، والحرص على تجميع الأموال واستثمارها في الداخل والخارج، وإنشاء الشركات العالمية العابرة للقارات التي تجلب الأموال الطائلة وتعزز هيمنة المركز وازدياد نفوذه، وتكرس تبعية الأطراف له، وهي تبعية الضعيف الفقير المعتل للقوي الغني الصحيح علّه يعطف عليه، وهي محكوم عليها بأن تخضع للنظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي تفرضه العولمة كشكل من أشكال الهيمنة بمختلف مظاهر الحياة، ومحكوم عليها أن تنتهج الرأسمالية في حياتها الاقتصادية تناسبت أو لم تتناسب مع أوضاعها الاقتصادية وظروفها الجغرافية والاجتماعية والثقافية والتاريخية وتركيبتها البشرية وغيرها، ومحكوم عليها بأن تكون مناطق وأسواقا حرّة مفتوحة أمام المنتجات العالمية، منتجات المركز، ومحكوم عليها بأن تعيش فقيرة ضعيفة في تبعية اقتصادية تامة لغيرها، تعيش على فتاته وتحت رحمته ومشفقته وهو عالم لا يرحم ولا يعرف للشفقة موطن، الأغنياء فيه يموتون من السمنة والتخمة والفقراء يموتون جوعا، وتنعكس آثار التبعية الاقتصادية وتداعيات العولمة على المستوى الاقتصادي سلبا على الظروف الاجتماعية لشعوب الأطراف، فإلى جانب الفقر تُحرم من سائر حقوقها في العيش الكريم وهي ليست مسئولة عن الأوضاع التي آلت إليها حياتها، تُحرم من حقوقها في التعليم والتثقيف والمثاقفة، وفي العلاج والتطبيب، وفي العمل والاستثمار، وفي السكن وفي غيره، وهي حقوق طبيعية أوصت بها كافة الشرائع والديانات والنظم التي عرفها تاريخ الإنسانية منذ القدم إلى يومنا هذا.
    * يتغنى المركز بشعارات ترفعها العولمة في العالم هي في جوهرها لخدمة المركز وحده ودائما، وهي حينما تتجه نحو الأطراف التي يُعلّق بعضها عليها آمالا كثيرة وكبيرة تصلها صماء بكماء عمياء جوفاء باطلة لا يبقى منها سوى الاسم، شعارات برّاقة وجذابة، الحرية والديمقراطية والتعددية، حقوق الإنسان، العدالة والمساواة، نقل التكنولوجيا لكل جهات العالم، الحد من التسلح والتسلح النووي، المحافظة على البيئة وغيرها، كل هذه الحقوق مباحة للمركز محظورة على غيره، وفي حظر هذه الحقوق وغيابها انتهاك لكرامة الشعب وسيادة الدولة في الداخل وفي الخارج، ففي سائر الحالات ينتهي باضطرابات داخلية ومشاكل خارجية مع الجيران ومع النظام الدولي، تكون نتائجه التجويع والتقتيل والتهجير والتدمير، وهي الظواهر التي صارت تميّز عالم الأطراف وتُبرر تخلّفها ويتخذها المركز ذريعة للتدخل في شؤونها وانتهاك حقوقها.

    خاتمة:
    * انتهت العولمة من الناحية الاقتصادية إلى تدويل النهج الرأسمالي وفلسفته وآلياته، وإلى الهيمنة الكلية على سائر اقتصاديات العالم خاصة العالم الثالث، من خلال إزالة سلطة الدولة الوطنية على الاقتصاد وإزالة القطاع العام واللجوء إلى الخصخصة والانفتاح على اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، ولعمل مع الشركات الاستثمارية العالمية التي تعمل لصالح الدول الكبرى المتمثلة في منطقة الأورو التي تشكل الكتلة الأوربية الغربية وكتلة الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكندا، وذلك على حساب باقي شعوب ودول العالم الأخرى، ففي منطقة الأورو وفي منطقة التجارة الحرّة لدول أمريكا الشمالية يستقر أكثر من ثمانين بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي وخمسة وثمانين بالمائة من إجمالي التجارة العالمية، ونجد خمس دول هي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وانجلترا واليابان تتوزع بينها مائة وثلاث وسبعين شركة من الشركات المتعددة الجنسيات من أصل مائتي من الشركات العملاقة العالمية، هذه بعض الأمثلة عن سيطرة الشركات العملاقة العالمية على الاقتصاد والمال والأعمال في العالم، في هذا الجو أصبح تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الموطنين في الدولة الواحدة وبين الدول الغنية والدول الفقيرة يتنامى ويتزايد باستمرار، فلا الدول الغنية سمحت بهجرة العمالة من الدول الفقيرة ولا هذه الأخيرة استطاعت أن تستقطب رؤوس الأموال من الخارج بسبب تعفن وفساد إدارتها، بحيث نجد القلة من سكانها يستأثرون بالقسم الأكبر من الدخل الوطني والثروة المحلية وغالبية السكان تعاني الفقر وكل صنوف الحرمان، وانتشار البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وغياب الإنتاج والاعتماد على الواردات ناهيك عن انتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي مثل العبث بالمال العام وتهريبه وتعطيل التنمية، كل هذا يزيد في درجة التخلف والانحطاط إضافة إلى ما ينتج عن العولمة الاقتصادية من مشكلات تؤدي لا محالة إلى الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي ينتهي في معظم الأحيان إلى الفوضى وانهيار النظام.

    .............................
    الهوامش:
    1-إيان كلارك: العولمة والتفكك، ص328.
    2-فرانك جي. لتشنر: العولمة الطوفان أم الإنقاذ؟، ترجمة فاضل جتكر، ص581-582.
    3-مجد الدين خمش: الدولة والتنمية في إطار العولمة، 184.
    4-نقلا عن مجد الدين خمش، الدولة والتنمية في إطار العولمة، ص 260.
    5-عبد المنصف حسين رشوان: العولمة وآثارها، ص48-49.
    6-محي محمد مسعد: دور الدولة في ظل العولمة، ص75-76.
    7-سعيد محمد عتمان: العولمة السياسية بين الفكرين الإسلامي والغربي، ص209.
    8-أحمد مجدي حجازي: إشكاليات الثقافة والمثقف في عصر العولمة، ص79.
    9-فضل الله محمد إسماعيل: العولمة السياسية، ص100-101.
    10-علي العطار: العولمة والنظام العالمي الجديد، ص63.
    11-محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص143.
    12-نعوم تشومسكي: ماذا يريد العم سام؟، تعريب عادل المعلم، ص 29.
    13-محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص 139-142.
    14-حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص 494.
    15-نعوم تشومسكي:ماذا يريد العم سام؟، تعريب عادل المعلّم، ص 22.
    16-محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص143.
    17-نعوم تشومسكي: ماذا يريد العم سام؟، تعريب عادل المعلم، ص 29.
    18-محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص 139-142.
    19-حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص 494.
    20-نعوم تشومسكي: ماذا يريد العم سام؟، تعريب عادل المعلّم، ص 22.

    ............................
    الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد:1833 السبت 30/ 07 /2011)
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2
    العولمة البديل الراهن لكل توجه ديني /الدكتور جيلالي بوبكر

    * إلى جانب ما تقوم به العولمة انطلاقا من أصولها الدينية الخفية والعلنية ذات المنبع النصراني أو المصدر اليهودي الصهيوني، فهي جاءت تحمل الدين الجديد للنخبة وعبدة المال وتُمثل هذا الدين أحسن تمثيل، لقد غدت “بطوفانها الجارف دين النخبة، ومن اتبع تلك النخبة، حتى ليطلق عليها أحد الباحثين الوصف التالي:”دين الأغلبية الداخل إلى العبيد بقوة، وسلطان المال والتجارة” ونحن نجد أحد الباحثين يصف العولمة فيقول: لقد وحّدت العولمة مفهوم الأديان التي لكل منها في حد ذاته خصوصيته وتميزه، وجعلت الناس تعتنق دينا واحدا، هو دين المال، فنسي الناس يسوع المسيح، ونسوا الله تعالى وتذكروا أوجه الدولار”، والعولمة بهذه الصفة، جعلت من العقيدة الدينية التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة الأخلاقية والخلقية والاعتقادية، عقيدة أرضية مادية، فأفقدتها الجانب الروحي من دعوتها الأخروية، ومسخت جوهر الإيمان التي تدعو إلى التآخي والتآلف بين الناس”.[1] اجتهدت العولمة أيّما اجتهاد في العمل على الاختراق الفكري والثقافي للشعوب بهدف تفريغ العقول والنفوس والحفائظ من محتوياتها التراثية الثقافية والدينية والأخلاقية والاجتماعية الخاصة، والاقتصار على ما هو إنساني مشترك عام وعالمي، فتحقق انتشار فكر وفلسفة وثقافة العولمة والأمركة، وهي ثقافة لها خصوصيتها وهويتها، وحصل انشطار وانصهار ثقافات الأطراف في الخصوصية الثقافية للعولمة، وفي عملية الانتشار تبشر العولمة بدين جديد هو دين المال والأعمال والتجارة والاقتصاد والإنترنيت، وهو دين يختلف تماما عن الدين بمعناه التقليدي، ذلك ما عبر”عنه أحد الباحثين بقوله: إن العولمة قبل أن تكون نظاما اقتصاديا ، كانت نظاما قيميا جديدا ساهم كل المساهمة في تغيير عقيدة الناس، مما صيّرهم آلات منتجة ومستهلكة، وأعني بالمنتجة أنهم يعملون طوال اليوم ليحصلوا على أجر يرضيهم في قرارة أنفسهم، ثم يتحولون من بعد ذلك إلى الاستهلاك على إفرازات الاقتصاد الغربي، فما يأخذونه باليمين يعطونه بالشمال، وهذه العملية الروتينية أنست الناس الدين، فدانوا بدين العولمة وحده لا غير”.[2]
    * إنّ الدين الجديد الذي تدعو إليه العولمة والأمركة في ظاهره دين المال والاقتصاد وكل مظاهر وآليات وأهداف العولمة والمركز، طابعه علماني، العلمانية كعقيدة ومذهب، -اليهودية تستعمل العلمانية التي لا تلتقي مع الدين وسيلة لتحقيق غايات دينية محضة- لكنه في باطنه له أصول عقائدية يهودية وأفكار ماسونية خطيرة، أهم هذه تحقيق وحدة الأديان في دين واحد، “إن أساس الدعوة التي تنادي بها الصهيونية العالمية، وصنوها الماسونية، هي دعوة وحدة الأديان في دين واحد يمحو النصرانية والإسلام وكل الديانات التي وجدت على الأرض، وهو دين العامة، تفريقا له عن دين النخبة، (الدين اليهودي حسب زعمهم)، وذلك ما نجده في ظهر ورقة لدولار بالعبارة الشهيرة (بالله نحن نثق)، من غير تحديد لأي إله يتجه القصد، إله الدم اليهودي، أم إله (الوهيم) إله الدمار اليهودي،أم إله القتل الذي خوّل يوشع (حسب زعمهم) أن يقتل أهل أريحا، ويتعرّضهم بحدّ السيف لفرض دينه واقتصاده المحرر وقتها. وهذا الأمر لا يختلف عن ذلك الأمر قيد أنملة كما تقول العرب”.[3]وتنبّه كثير من المفكرين والباحثين في العالم العربي والإسلامي المعاصر إلى خطورة العولمة كدين جديد يستهدف ضرب الأديان الأخرى وفي مقدمتها الإسلام باسم وحدة الأديان، وهي دعوة لم يأت من وراءها سوى انهيار القيّم والانحلال الخُلقي والخلقي -بفتح الخاء- والربح الفاحش والظلم والاستبداد بكافة أشكاله والاستغلال بجميع أنواعه، وجاءت إستراتيجية العولمة الداعية إلى عقيدة المال والاقتصاد ووحدة الدين المعتقد ووحدة الثقافة ووحدة الحاضر والمستقبل، والانصهار في الأمركة، عقيدة قواعدها لا تنسجم البتة مع كل الأديان السماوية والوضعية، لأنها لا تزرع في العالم إلاّ التفرقة والعنصرية، ولا تنمي سوى مشاعر الكراهية والحقد والضغينة والبغضاء، وحصادها لا يقتصر إلاّ على قتل وتشريد الأطفال والشيوخ وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، ولا تنتج غير العنف والعنف المضاد، وشعاراتها برّاقة كاذبة ومخادعة، هي عبارات حق وصدق أُريد بها باطل ونفاق، والتاريخ يشهد على انهيار المنظومات الإيديولوجية المعادية لمكارم الأخلاق والمجانبة للحقائق الدينية، وسقوط الإمبراطوريات التي تشيّدت على الظلم والطغيان والتعسف، وأفول مراحل الظلام لتفسح المجال لنور العلم والحق والعدل، “عندما اجتاحت جيوش هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العباسية واحتل المغول بعض البلاد الإسلامية، واحتكوا بالشعوب الإسلامية والثقافة والدين الإسلامي، وبعد فترة آمن المغول بالدين الإسلامي بعد أن آمن أحد حكامهم به، حيث عمل على نشره في ربوع الإمبراطورية المغولية، وحلّت الثقافة الإسلامية محل الثقافة المغولية في بلاد كثيرة من آسيا نتيجة لإيمان شعوبها بالدين الإسلامي”.[4]
    * تدعو العولمة إلى التدين بالمال والاقتصاد والمروق عن العقائد المألوفة في الديانات السماوية والأرضية، “إنّ العولمة في دعوتها اللاظاهرية إلى الاقتصاد دينا، جعل المال ربا، وترك النظم الأخلاقية لأنها لم تعد محررة، إنما تنبع من منابع موغلة في ضلالتها، ومن عجيب أن بعض الباحثين لا يرون في العولمة إلا مذهبا اقتصاديا تطور فيه الرأسمالية إلى العولمة، وينسون أن العولمة هي دعوة يصدق عليها الباحث الذي قال: “إنّ العولمة في هذه الدراسة، حولت قيم عالمنا إلى قيم معولمة فقدت صلتها بماضيها الذي كان يحض على التسامح والإيثار، ولقد سيرت العولمة الناس في طريق لا رجوع عنه إلا بالموت، فصار الناس إذ يمشون في هذا الطريق يكتبون كل يوم قيما جديدة تختلف عن قيمهم الدينية والخلقية فنسو الدين والخلق، لقد صارت العولمة كما قدمناه دين الاقتصاد المحرر في العصر الحديث، وما أراها إلا عقيدة الشيطان في حد ذاته، لما احتوته من فسق اقتصادي، وتخريب قيم ، وإلحاد ديني، سواء أشعر الناس بها أم لم يشعروا…إن غاية الأفكار الاقتصادية المدنية التي تشيع في المجتمع كل يوم، أن تدعوا إلى إصلاح قيم المال بدل قيم الإيمان وفضائل الأخلاق، هو ما نراه في منظومة العولمة التي صبغت الحضارة الغربية بصبغة إلحادية أبعدت الناس عن الكنيسة إلى بيت عبادة جديد، هو المعمل، أو المكتب، أو مكان العمل الذي غدا بديل الكنيسة والمسجد”.[5]
    * إنّ كل الدلائل تؤكد بجلاء أن العولمة في عصرنا دين جديد وعقيدة التوجه الحضاري للقطبية الأحادية متمثلة في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، فالعولمة دين النخبة الاقتصادية وعبدة المال لا الفضائل والقيم الإنسانية العليا والضمير الخلقي والوازع الديني، دين المادة لا الروح والعقل والوجدان، دين الغريزة والشهوة و”البورنوغرافيا” لا التربية الروحية والأخلاقية والدينية وتهذيب اللّذات والسلوك وترشيد الرغبات والميول والأهواء والعواطف، دين الانتماء إلى العالم الذي هو بدون انتماء يعيش في غموض وإبهام وشمول وضبابية لا ولاء فيه لوطن أو لأرض أو لقومية أو لدين ما أو لأمة أو لغيرها، دين كل شيء فيه مفتوح وبحرية لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية والثقافية وغيرها، دين يحرص على الانتشار والانصهار، انتشار العولمة والنظام العالمي وعقيدتهما في كل مكان، وانصهار كل الشعوب وكل الثقافات وكل الديانات في بوتقة واحدة هي وحدة الجنس البشري، ليعيش تحت مظلة العولمة وبقيادة سلطة المركز، هذا هو مطمح الحركة الصهيونية العالمية وصنوها الماسونية منذ ظهورهما.

    الهوامش:
    [1]- حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 53-54.
    [2]- نقلا عن حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 54.
    [3]- راجع العولمة والقيم: حيدر حميد الدهوي، ص 54.
    [4]- محمد الجوهرى حمد الجوهرى:العولمة والثقافة الإسلامية، ص124.
    [5]- حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 56-57.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    العولمة والأخلاق /الدكتور جيلالي بوبكر

    djillaliالعولمة ظاهرة كونية أو طفرة حضارية نتجت عن التقدم العلمي والتقني، خاصة في مجالات المعلوماتية والاتصال والإعلام، وكان ذلك يسير بالتوازي مع تطور الإنتاج الاقتصادي ووسائله، وازدهار التجارة وتراكم الأموال، وإنفاق الأموال في مجال البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية في جميع ميادين الحياة، فأصبت التقنية المتطورة إحدى أبرز الخصائص التي يختص بها عصرنا بالمقارنة مع العصور السابقة، تغيرت شبكة العلاقات بين سكان المعمورة، وبين الإنسان وذاته، وبين الإنسان التاريخ والطبيعة والكون، وبين الفرد والمجتمع،رافقت التطور التقني والمادي مفاهيم عديدة جديدة أصبحت متداولة، مفاهيم حول الإنسان والكون والحياة والزمان والمكان والفرد والمجتمع والهوية والسلطة والاقتصاد والسياسة والثقافة والأخلاق والدين والعلم وغيره، ارتبطت العولمة بهذه المفاهيم وبغيرها، وعولمتها جميعا، “عولمة الزمان، كونية المكان، رمزية العمل، عمال المعرفة، وحدة السوق، التجارة الإلكترونية، القيمة المضافة، الطريق السريع للإعلام، الثورة العددية، الطوائف السبرانية، المدينة العالمية، سوق النظر، الميدياء، عولمة الأنا، اختراق الهويات، تداخل الكوني المحلي”.[1]ذلك ما ميّز المجتمع الإنساني العالمي في عصر العولمة، وجاءت قراءة ذلك في الخطاب الثقافي والفكري والسياسي والأيديولوجي متعددة ومتباينة، بين الخصوم والأنصار، بين التأييد والقبول والمعارضة والرفض، وصفها “علي حرب” بقوله: “كيف تُستقبل العولمة في الخطاب الثقافي لدى الدعاة والحماة؟ إنها تُقرأ قراءة خلقية مثالية أو قراءة إيديولوجية نضالية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، أو الخير والشر، وذلك عبر هوامات الهوية وتهويمات الحرية أو أطياف العدالة والمساواة. هذا ما نجده بنوع خاص لدى المثقفين العرب والفرنسيين الذين يتحدثون عن العولمة والتلفزة بلغة الصدمة والإحباط أو الغضب واللعنة.والقراءة الإيديولوجية هي قراءة وحيدة الجانب تقوم على التبسيط والاختزال، وذلك حيث تُقرأ العولمة بتعابير التمركز والهيمنة، أو السوق والسلعة، أو الاستعمار والرأسمالية، أو الاختراق والاغتصاب، أو الغزو والاكتساح”.[2]

    *إن قراءات الفكر المعاصر العربي والغربي للعولمة التي تتوزع على نوعين:مؤيدة للعولمة وحامية من جهة، ومعارضة ومناوئة من جهة أخرى، كلها مستمدة مما يتصل بالعولمة وما انبثق عنها في حياة الإنسان من جميع جوانبها، من جانب إيديولوجيا العولمة وأخلاقها وثقافتها وفلسفتها، ومن حيث مجتمع العولمة من كافة نواحيه، العولمة من جانب الفكر والنظر من جهة ومن جانب السلوك والممارسة من جهة ثانية ومن جانب المركب الجامع بين الفكر والممارسة معا من جهة أخرى، كل من القراءتين تستند إلى ما تقوم عليها العولمة في الجوانب الثلاثة المذكورة، وإلى مظاهرها وإفرازاتها وانعكاساتها وتداعياتها على الوجود الإنساني والكوني عامة، إنّ التعارض بين القراءتين، والاختلاف بين الرؤى داخل منظور الدعاة والأنصار أو بين المواقف داخل منظور الخصوم والمعارضين يكس مدى التعقيد في إيديولوجيا العولمة وفلسفتها وواقعها، ويعبر بجلاء عن درجة تناقض وتعارض فلسفة العولمة وخطابها الإيديولوجي وبيانها النظري والسياسي مع ممارساتها في الواقع، والحقيقة تكشف عنها الممارسات التي تصدر عن البلدان العظمى التي تروج للعولمة والنظام العالمي، وهي ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها تقوم بها المؤسسات والشركات المدنية والعسكرية التي تنشر العولمة، من خلالها تنتهك حرمة الإنسانية في أخلاقها وعقائدها وثقافاتها وفي حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية عامة.

    *ولعل أسوء حال عليه العولمة كونها تنطوي على التناقض المذموم بين ما تقول وما تفعل، فالكذب الإيديولوجي والسياسي يضع الإنسان والحضارة في مأزق التوتر الدائم، المؤدي إلى الانفصام الحضاري والتمزق الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والثقافي، والتراجع والضعف والفساد الاقتصادي، والتهور العسكري والحربي، هذا بسبب انتفاء الثقة بين بني البشر، ونماء خوف الجميع من الجميع، لأن الجميع يصبح ضد الجميع، هو الذي ينطبق على شعوب ودول العالم المعاصر، ترفع العولمة ونظامها شعارات سامية منها حماية الحرية عامة وصون الحريات الأساسية الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، من دون النظر إلى عرق أو لون أو دين أو اتجاه سياسي أو أي انتماء طائفي.نشر الديمقراطية الليبرالية وضمنها التعددية السياسية التي تسمح للجميع من دون تمييز المشاركة الفعالة والإيجابية في السلطة، وفي إدارة دواليب الحكم في الدولة الحديثة والمعاصرة.حماية سائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية، حق السكن وحق التعليم وحق العمل وحق حرية المعتقد والتدين والاستطباب والعلاج وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق التي لا تستقيم الحياة الكريمة إلاّ بها.نقل العلم والتكنولوجيا إلى مختلف أنحاء العالم، فلكل إنسان الحق في الاستفادة من العلوم المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة التي عرفها العصر.المحافظة على البيئة من سائر الأنشطة والإفرازات التي من شأنها تلحق الضرر بالبيئة والأرض وفضائها، مثل التلوث من جراء الأنشطة الصناعية واستعمال منتجات الصناعة في كافة مجلات الحياة مثل النقل والأشغال الكبرى ونشاطات التسلح بمختلف أنواعه. الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل ذات الإفرازات الضارة خلال وبعد إنتاجها وقبل استعمالها. صون كرامة الإنسان وحمايتها من كل ما يخدشها أو يطعن فيها، بالمحافظة على الوجود الإنساني الفردي والاجتماعي من السوء في المعاملة ومن التعدي على حقوقه وانتهاكها. هذه الشعارات مفصلة وغيرها كثير تتضمنها سائر دساتير ومواثيق الهيئات والمنظمات العالمية، السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية الحكومية وغير الحكومية، ومنها هيئة الأمم المتحدة الراعي الأول لإعداد وتطبيق ومتابعة ومراقبة النظام العالمي والعولمة في العالم، ومن وراء هيئة الأمم المتحدة تعمل الدول الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو أو حق النقد على تنفيذ العولمة والنظام العالمي من منطلق الشرعية الدولية، وباسم هيئة الأمم المتحدة بجميع فروعها واختصاصاتها، فشعارات العولمة ومبادئها المنصوص عليها تجري بمقتضى ما تمليه دول المركز بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك الأكذوبة السياسية والإيديولوجية المفضوحة والأزمة الأخلاقية، وضحية هذه الأكذوبة والأزمة خُمس سكان الكرة الأرضية، لا يعرفون الراحة ولا يهدأ لهم بال في أتون التخلف والانحطاط، هذا التخلف الذي باركته العولمة وكرّسه النظام العالمي، ولم تسمح العولمة راعية قيم الحداثة والحضارة المعاصرة للآخرين غير أصحابها إلا بحسن الإصغاء والتفرج والعيش على الفتات الحضاري والصوري، وبكل ما من شأنه يعزز تبعيتهم في منتهاها للعولمة والغرب والأمركة.

    *إن المبادئ والشعارات التي رفعتها العولمة ونادى بها النظام العالمي في مجملها أخلاقية سامية ومثلى، بحيث عرفها الإنسان منذ القديم واستحسنها العقل، وأيدتها جميع الديانات والشرائع السماوية وغيرها، وقامت عليها سائر النظم والقوانين التي عرفها الإنسان، كما تأسست عليها كافة الحضارات المتعاقبة عبر تاريخ الإنسانية الطويل. فالحرية قيمة إنسانية مرتبطة بأرقي ما يملكه الوجود الإنساني العقل والإرادة، هي شرط حركة التاريخ وبناء المجتمع الإنساني وتشييد الحضارة، تعبث بها العولمة، ويفرض النظام العالمي باسم الشرعية الدولية وفي إطار الأزمة الأخلاقية والتناقض بين خطاب العولمة وسلوك أصحابها وممارساتهم كل أنواع القيود السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها مما نعلم ومما لا نعلم على الدول وشعوبها خارج المركز، الأمر الذي أغرق تلك الشعوب في التخلف والتدهور وأفقدها وسائل وسبل التنمية.أما الديمقراطية الليبرالية والتعددية السياسية نهج ومسار تسجل فيه الشعوب حضورها السياسي والاجتماعي في الدولة، من خلال مشاركة قوية وإيجابية تضمن الأمن والاستقرار والسلم في المجتمع الذي ليس له أن يستمر ويتطور ويزدهر إلاّ بها، الديمقراطية يفرضها دعاة العولمة بالقوة في العالم ناسبت قيم المجتمع أم لم تناسبه، وتجري خارج بلدان المركز بكيفية صورية بحتة لغياب الجو المناسب لتطبيقها، خاصة في بلدان العالم الثالث التي لديها ترسانة متراكمة من الأنظمة الاستبدادية التي تعيش على الانقلابات العسكرية وتوريث الحكم الملكي والجمهوري الرئاسي على السواء، فلا مكان للديمقراطية والتعددية السياسية في هذه البلدان سوى الحديث عنها والتغني بها، وممارستها عن جهل وبكيفية شكلية صرفة، لإيهام الغير بالتمسك بالتوجه الديمقراطي في الداخل للتقليل من ضغط المعارضة والحد من شدة الاحتجاجات، وفي الخارج لنيل رضا الأقوياء وعطفهم ومساعداتهم، وكل ذلك للبقاء مدة أطول في السلطة، لأن الحاكم في هذه البلدان تكون في معظم الحالات نهايته سيئة ووخيمة، كالانقلاب عليه وعزله، أو اغتياله والتخلص منه، أو فراره أو نفيه وذلك أخف الأضرار.

    *يكثر الحديث في البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء عن حقوق الإنسان، الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وفي سياق أزمة العولمة الأخلاقية داخل المجتمعات الغربية والمجمع الأمريكي نجد في الخطب السياسية في مختلف المناسبات الإشادة والتنويه بالإنجازات المتحققة في ميدان حقوق الإنسان، والتنديد بالممارسات والأوضاع التي تعيشها الشعوب الأخرى وتنتهك فيها هذه الحقوق، والحقيقة أن القوى الكبرى التي تفرض النظام العالمي تكيل بمكيالين، مكيال في حق شعوبها يضمن لها الأمن وظروف العيش الكريم، ومكيال خاص بالشعوب الأخرى يحرمها من حقوقها الأساسية والأولية البيولوجية، يحرمها من الحق في الغذاء والماء والهواء والكساء والإيواء، ليس لها الحق في طلب الحقوق الأخرى المدنية والسياسية التي صارت أولية وأساسية من حيث الأولوية لدى شعوب العالم المتقدم، بينما تعيش الشعوب المتخلفة كل صنوف الحرمان، المجاعة والفقر والجهل والمرض والتشرد وضياع الأطفال والمسنين وغياب أدنى شروط الرعاية الاجتماعية الصحية والتربوية وغيرها.أما بالنسبة لشعار تمكين شعوب العالم من قيم الحداثة العالمية، فلم تر هذه الشعوب في أطراف المركز سوى شكل هذه القيم وظاهرها، ولم تشهد مضامينها ودلالاتها، لأن ظروفها لا تسمح لها بذلك من جهة، ولاحتكارها من منتجيها من جهة أخرى، ويتعلق الأمر بالنسبة لقيم الحداثة والتحديث بالقيم السياسية والعلمية والتقنية والمدنية وغيرها، والأمر نفسه مع نقل العلم والتكنولوجيا، بحيث ترفع العولمة شعار ضرورة استفادة العالم أجمع من منتجات البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية المتطورة، من منطلق العلم والتقنية ملك الجميع وليسا حكرا على أحد، لكن ما تمارسه شيئا آخر، فالبلدان الكبرى تحتكر لنفسها وبصورة كاملة أي تقدم وازدهار في المجال العلمي أو أي تطور وابتكار في مجال التكنولوجيا، وتقوم بتصدير التكنولوجيا الأضعف والأقدم لمن ترضى عنهم، مع استعمال أساليب ووسائل فيها من الشروط ما يجعلهم دوما في تبعية تكنولوجية لها ولتكنولوجيتها الأقل تطور بالمقارنة مع تكنولوجيتها المتطورة جدا، واستخدام التكنولوجية الغربية من طرف الشعوب التي لا تنتجها ولو بإفراط مثلما هو الحال في دول الخليج العربي، والأمر يعود إلى البترول، فإن الاستخدام المفرط لتقنية الغير لا يجدي نفعا مادامت مستوردة من الخارج، ومادامت تكرس التبعية الاقتصادية والسياسية له، وينتهي استيرادها وتنضب فور نضوب مصدر المال الذي به يُحصل عليها، فالتطور العلمي والتكنولوجي أخلّ بنظام التوازن في العالم من حيث معدل المعيشة والدخل الفردي، فمعدل الدخل الفردي في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية يفوق معدل الدخل الفردي في بلد فقير كالصومال أو أثيوبيا بمئات المرات، وصار العالم موزع على قسمين، قسم يملك التكنولوجيا والتنمية والرفاهية وأهله يموتون من السمنة والتخمة، وقسم آخر يحتكر الفقر والحرمان والتخلف وأصحابه يموتون في معارك الجهل والجوع والمرض والحروب المجانية.

    *أما عن حماية البيئة من الأخطار، فإن كوكب الأرض بأكمله صار في خطر وليس البيئة فقط، بسبب ظاهرة التلوث التي استفحل شرها مع التزايد المستمر في التصنيع واستعمال المنتجات الصناعية، واستهلاك الطاقة بمختلف أنواعها بأقصى ما يمكن، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تسمم عناصر المجال الحيوي، من هواء وماء وفساد التربة، والاستهلاك المفرط للطاقة، وتسمم البحار، وحرق الغابات رئة البيئة وقلبها النابض بالحياة، وثقب طبقة الأوزون وغيرها من الأضرار التي لحقت بالطبيعة والإنسان، ومما زاد ويزيد الأمر خطورة السباق نحو التسلح بصفة عامة والتسلح النووي بصفة خاصة، التسلح بصفة عامة والفائض في الإنتاج الحربي يُسوق من خلال إشعال حروب إتنية وطائفية مجانية، وفي هذا تبلغ الأزمة الإنسانية الأخلاقية ذروتها، بحيث صارت المتاجرة في الأرواح والأنفس من غير شفقة أو رحمة وفي حالة الموت التام للضمير الإنساني حرفة تدرّ الربح الوفير على أصحابها في عصر العولمة، أين يتغنى الجميع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويضع التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل العالم أجمع والكرة الأرضية في خطر الزوال والدمار في أي وقت من الأوقات يغضب فيه الإنسان ويتهور في حالة حرب أو سلم، فيفجر الأرض تفجيرا نوويا كاملا يؤدي إلى نهاية العالم، ليس كما تصور فوكوياما في أطروحته نهاية التاريخ والإنسان الأخير، بل نهاية العالم والعولمة والنظام العالمي، وزوال عالم القوى المهيمنة بقيادة الولايات المتحدة، لكن الأقوياء ونظرا لما سببوه للعالم وللشعوب في الأطراف من هموم ومشكلات يحتكرون التسلح النووي والأنشطة النووية السلمية، ذلك خوفا من ردة فعل الضعفاء وانتقامهم، وصارت الأمم والدول تراهن على القوة النووية العسكرية والسلمية لفرض وجودها ونيل احترام الآخرين لها لأن عالم العولمة لا يعترف إلا بالأقوياء والأغنياء، في حين أن الطبيعة البشرية الاجتماعية فيها الغنى والفقر والقوة والضعف والربح والخسارة والنجاح والإخفاق والعولمة لا تعترف إلا بالقوة، الأمر الذي جعل الساحة العالمية ساحة للسباق نحو التسلح والتسلح النووي، فأصبح الخوف من الجميع والاستعداد للحرب ضد الجميع، سيطرة قانون الغاب، وتحكم مقولة الفيلسوف الألماني الشهير “سبينوزا” “السمك الصغير له الحق في أن يسبح والسمك الكبير له الحق في أن يأكل”، امتهنت العولمة كرامة الإنسان في عالم الأطراف، وقضت على إنسانيته، فالطبيعة والحيوان ومخلوقات أخرى تنال حقوقها الأساسية والكمالية كاملة غير منقوصة، في الوقت الذي يُحرم آخرون من الحق في الغذاء والحياة، من الحق في التفكير والتعبير، من الحق في الموت بشرف.

    *إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل لدى دعاة العولمة ومنفذيها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها “تتسم بالأخلاقية والإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية: حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيف اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كانت هذه هي طبيعة “الحال الواقعة” للعولمة، فهي إذن ليست “عولمة” بمعنى ذا الطابع الأخلاقي والإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع”.[3]انتبه الكثير من المفكرين من العرب والغربيين الذين روجوا للعولمة إلى مخاطرها على العالم خاصة العالم المتخلف، وعلى حقوق الإنسان فيه، وأنها شكل من أشكال الاستعمار تفرض هيمنة القوى العظمى على العالم ولا تراعي سوى مصالحها، فهذا أحد المفكرين العرب يصرح بأن العولمة ضرب من الاستعمار بعدما كان يرى بأنها سبيل لتوحيد الجنس البشري تحت راية واحدة هي الكوكبية، لكن منظوره للعولمة تبدل “سرعان ما تبين له من خلال التعمق في قراءة الملامح الراهنة للنظام العالمي المتغير أننا بصدد معارك كبرى إيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية من الصعب التنبؤ بنتائجها النهائية لأن المسألة ستتوقف على قدرة نضال الشعوب على مواجهة العملية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار العولمة لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم”.[4] الأمر الذي جعل بعض المفكرين يربطون العولمة بالزمن ويعتبرونها مجرد مرحلة تاريخية أو حقبة يعرفها العالم وتمضي كغيرها من الحقب التاريخية، على عكس ما ذهب فيه دعاتها من كونها تنتصر على الجميع وتمثل نهاية التاريخ، كما تمثل المدخل إلى ما بعد التاريخ وإلى ما بعد العولمة، فهي “حقبة تاريخية محددة أكثر منها ظاهرة اجتماعية أو إطارا نظريا وهي في نظرهم تبدأ بشكل عام منذ بداية ما عرف بسياسة الوفاق التي سادت في الستينيات بين القطبين المتصارعين في النظام الدولي آنذاك إلى أن انتهى هذا الصراع والذي يرمز له انهيار حائط برلين الشهير ونهاية الحرب الباردة وهذا التعريف يقوم على الزمن باعتباره العنصر الحاسم…فالعولمة في نظر أصحاب هذا الرأي هي المرحلة التي تعقب الحرب الباردة من الناحية التاريخية ومصطلح العولمة مثله مثل مصطلح الحرب الباردة الذي سبقه يؤدي دوره كحد زمني لوصف سياق تحدث فيه الأحداث كأن يقال مثلا أننا نعيش في عصر العولمة لتبرير أو فهم سياسات معينة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية…وهي وفق هذا التعريف يمكن اعتبارها حقبة تاريخية بالمعنى الذي سبق أن وصفت به الفاشية باعتبارها حقبة تاريخية أكثر منها نظاما سياسيا”.[5]هذا الوصف يُفقد العولمة الشرعية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويعتبرها مجرد حقبة زمنية تُنعت بما يُنعت به الاستعمار الحديث وجرائمه، وتوصف بما توصف به النازية أو الفاشية أو أي حقبة تاريخية عرفها الإنسان وشهدت أشكال الظلم والعدوان التي مارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان، لا لسبب سوى لكونه قويا وفي مركز الغلبة والمنعة والآخر في مركز الضعف والهوان، ورغبة في التسلط وابتغاء الهيمنة.

    *إن الأزمات التي أفرزتها العولمة وممارسات الدول ذات الأنظمة الطاغية والمتجبرة التي لا تعير أدنى اهتمام لمكارم الأخلاق ولا للقيم الدينية التي ترعى المصلحة العامة، زادت القوى المهيمنة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين “سيتشبثون بكل قوة بما حققوه من منجزات علمية وثقافية ومن هيمنة على رأس المال وهيمنة على وسائل الاتصال العظيمة والإشراف المباشر على جميع المؤسسات الدولية ما وصلوا إليه من هيمنة على إدارة الاقتصاد الكوني والتي سيستخدمونها في تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في الهيمنة على العالم، وهم مستعدون للدفاع على هذه المكاسب التي حققوها خلال العقود الماضية، بكل الوسائل وهم مستعدون لاستخدام القوة العسكرية وحتى أسلحة الدمار الشامل من أجل الحفاظ على المكانة القيادية التي يتمتعون بها منذ الحرب العالمية الثانية وبنفس الوقت فهم لا يكترثون بقتل ملايين من البشر من أجل الحفاظ على مكاسبهم المادية، هذه هي طبيعة المنظومة الرأسمالية وهذا هو جوهرها”.[6]المنظومة الرأسمالية العلمانية المبعدة لكل ما هو مقدس أخلاقي أو ديني، وحتي القيم العلمية والتكنولوجية والاجتماعية في روحها وجوهرها أخلاقية، لأن قيم الحداثة خارج الإيديولوجية الغربية تنفع الجميع وصالحة في الزمان والمكان، أما في سياق الإيديولوجية الغربية والأمريكية فهي صالحة في الغرب الأوربي والأمريكي فقط، وقوى المركز تحتكر قيم الحداثة و”أن أي نظرة موضوعية لطبيعة التناقضات القائمة الاقتصادية والسياسية والحضارية على الساحة الكونية تنبأنا بتفاقم هذه التناقضات بالشكل والكيفية والمستوى الذي يجعل من وقوع حرب كونية وارد في الحسابات، بعد تفهم عميق لطبيعة تكوين النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا والصهيونية العالمية، خاصة إذا شعرت أمريكا بأن خطر انهيارها أصبح وشيكا وأنّ حل أزماتها لا يمكن أن يتم إلا من خلال تصدير هذه الأزمة إلى خارج حدودها…وبالإضافة إلى ذلك ولكون العولمة لها مخاطر وتحديات ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنما على المستوى العلمي والثقافي والتقاني والحضاري فهي تحتوي على تحديات شمولية ومعقدة التركيب وانطلاقا من المبادئ القومية والإنسانية تم طرح مشروع إنشاء تجمع مؤسسي يشمل جميع الدول النامية الراغبة في المشاركة بهذا التجمع الاقتصادي الهدف منه هو مواجهة العولمة الأمريكية هذه العولمة التي تحاول غزو العالم بجميع الوسائل حتى العسكرية من أجل تعميم نمط الحياة الأمريكية على الكوكب”.[7] فالحاجة إلى التكتل الإقليمي والدولي في العالم المتخلف صارت أكثر من ضرورة، نظرا لما تقوم به الأمركة والصهيونية من ممارسات يندى لها الجبين في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي غيرها من مناطق العالم، سواء في انتهاك حقوق الإنسان المدنية والسياسية وعلى حق الحياة بالذات، أو نهب ثرواته واستغلال طاقاته إلى أبعد الحدود.

    *إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ما هو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات- كما هو ثابت في التاريخ-قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا اقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي “نظام معاد للإنسان.إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية، حتى يتسنى له ترشيد البشر.ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى، تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور “دينا” جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها…فالغرب يصفنا بالتخلف فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته.إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة”.[8]إنّه النظام الذي يشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوةفي حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة “قد مارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين “الهنود”، والحروب العالمية. صحيح أن الغرب ينظر إلى نفسه بوصفه أقوى لأقوياء الغاب أو بوصفه مصدر المعرفة ونموذج الحضارة، فيما هو يعاملنا بوصفنا مجرد مستهلكين لسلعه وأدواته.وبذلك يخفي الوجه الآخر لحقيقته:كونه يمارس الإرهاب بتهديداته وحروبه وتدخلاته ومفاضلاته العنصرية، وكونه قد حقق تقدمه وإنجازاته، بقدر ما استخدمنا أو احتاج إلينا كأسواق”.[9] لا يتمتع النظام العالمي بالمصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى السلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب،أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب.

    *إذا كان في الغرب من المفكرين أمثال “فوكوياما” و”هانتنغتون” و”مينك” وغيرهم ممن صفقوا للعولمة، ورقصوا للنظام العالمي، وصاغوا البيان النظري والسياسي للكوكبية والأمركة المتصهينة، فإنّ الغرب لم ينجب مثل هؤلاء فقط، بل أنجب الكثير من المعتدلين والموضوعيين من أهل الحق والخير والجمال وخصوم قهر العولمة وظلم وعدوان النظام العالمي، مثلما هو الحال في العالم الإسلامي وفي غيره نجد فقهاء الرحمان وأتباعهم في مواجهة فقهاء السلطان وأزلامه، والمفكر الغربي المسلم “روجيه غارودي” أو”رجاء” واحد ممن وقفوا في وجه تيار العولمة الجارف بالتحليل النقدي الفاحص والنظرة الموضوعية العميقة في كتابه “كيف نصنع المستقبل”، فيكشف عن خيوط أزمة العولمة وعن جذورها وهي جذور أخلاقية وعقائدية وليست اقتصادية أو سياسية كما يعتقد البعض، إن الهيمنة الغربية والأمريكية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا لها صور سلبية بشعة، تدل على ضعف وانحطاط الحضارة المعاصرة روحيا وأخلاقيا- على الرغم من تطورها علميا وماديا وتكنولوجيا- وعلى مصيرها الأسود المظلم، وعلامات انحطاطها عند “روجيه غارودي” وعلى حد قوله: “أن رأس المال الذي تمّ تجميعه خلال خمسة قرون بالنهب الاستعماري والمحدود بعد ذلك بالاستثمارات في البلاد الصناعية الكبرى في أوربا العجوز والذي يخلق حاجات اصطناعية ومؤذية عبر الإعلان والتسويق، رأس المال هذا الذي أصوله بالاستثمار في مؤسسات الإنتاج والخدمات الواقعية. أصبح رأسمال مضاربة أي أصبح طفيليا خالصا. النقود لم تعد تخلق السلع ولكن تخلق النقود. أنّ اعمل الخلاّق لم يعد يفيد في تنمية الإنسان(أي كل البشر)ولكن في تضخيم فقاعة مالية لأقلية ضئيلة ليس لها من الغاية سوى تكبير هذه الفقاعة وبذلك لم تعد مشكلات معنى العمل والإبداع والحياة تطرح للبحث.أن معنى الكلمات نفسه قد تشوّه فنستمر في أن نطلق كلمة “تقدم” على انحراف أعمى يؤدي إلى تدمير الإنسان والطبيعة ونطلق كلمة “ديمقراطية”على أشنع قطيعة عرفها بين من يملكون ومن لا يملكون ونطلق كلمة “حرية”على نظام يسمح بذريعة التبادل وحرية السوق لأولئك الأكثر قوة أن يفرضوا الديكتاتورية عديمة الإنسانية تلك التي تسمح بابتلاع الضعفاء ونطلق كلمة “عولمة”لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم عن طريف اشتراك كل الثقافات ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبريالية وطبقية..ونطلق كلمة “تنمية” على نمو اقتصادي بلا غاية ينتج بإيقاع متسارع أي شيء سواء كان مفيدا أو غير مفيد مؤذيا أو حتى مميتا كالأسلحة وليس تنمية الإمكانيات البشرية الخلاقة”.[10] وفي معرض تحليله ونقده للنظام العالمي الذي يفتقد تماما لأي مشروعية أخلاقية ويتجه في اتجاه واحد لا غير حسب “روجيه غارودي” “هو حماية السوق الأمريكية وفتح أسواق العالم كلها أمامها..خالقة بذلك مجالا مشوها مكونا من بعض مئات المختارين ومليارات المستعبدين وبين الاثنين كتلة بلا قوام من أولئك المحكوم عليهم بعمل يفتقر إلى المعنى كي يحصلوا عبر زيادة كمية الاستهلاك على سعادة السوبر ماركت كبديل لحياة حقيقية.حياة منذ الآن فصاعدا بلا هدف”.[11]أمام هذه الأزمة الأخلاقية العميقة التي ترتبت عن توجهات العولمة والأمركة والصهيونية العالمية، وعن الممارسات أللأخلاقية من قبل الأقوياء ضد المقهورين في العالم، يكشف “جارودي”عن منفذ النجدة ومخرج الطوارئ وسبيل تخطي الأزمة، وهو “إعادة تأسيس النظم السياسية والتعليمية والاقتصادية والدولية لتكون في مصلحة الإنسان كإنسان بصرف النظر عن لونه أو ثقافته المحلية أو دينه الخاص أو مقدار ثرائه أو انتمائه العرقي. وبالطبع فهي رؤية يوتوبية جديدة لعالم يمكن أن يولد غدا أو بعد قرن أو بعد قرون لكن السؤال الذي ألح علي طوال قراءتي للكتاب الذي هو موجه بالأساس للإنسان الغربي: أيمكن أن يثق “غارودي” في أن هذا الإنسان الغربي الذي قاد ولا يزال يقود العالم إلى المزيد من الدمار والظلم هو الذي يقود هذا التحول اليوتوبي”.[12]

    *يفرض السؤال-الذي طرحه المفكر علي حرب سابقا- نفسه وغيره من الأسئلة في العالم العربي الراهن بعد الثورات التي شهدها ويشهدها، وأمام العولمة المضادة للثورات الشعبية وأمام التدخلات الأجنبية، هل يمكن لمن صنع الاستبداد والتبعية والعمالة والخيانة والتنكر لقيم الوطن والأمة والإنسانية العليا أن يقود في أمان واطمئنان الثورة نحو النجاح وفي اتجاه أهدافها المنصبة على التغيير وقلب الأوضاع صوب الحرية والديمقراطية والعدالة والأمن والاستقرار والرفاه المادي والحياة الكريمة للجميع؟، وما الذي يضمن بأن الثورات العربية الراهنة في جو العولمة والعولمة المضادة للثورات الجارية ستنتج قوى استبدادية وأنظمة شمولية تُفقد الثورة تماما كل قيم وأهداف الثورة بالمعنى المعهود؟،وهل يمكن للقوى الثورية في العالم العربي الراهن أن تثق في القوى والأنظمة المُثار عليها، وأن تثق في القوى الأجنبية وفي العولمة بأنها تساعد الثورة لعنفوانها أو لجمال معانيها وقيمها وأهدافها أو لوجه الله لا غير؟.


    [1]- علي حرب: حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، ص 39-40.

    [2]- المرجع السابق: ص43-44.

    [3]- مصطفى النشار: ما بعد العولمة، 44.

    [4]- السيد يسين: العولمة والطريق الثالث، ص44-45.

    [5]- المرجع السابق: ص 45-46.

    [6]- محمد طاقة: مأزق العولمة، ص 33-34.

    [7]- المرجع السابق: ص 34-47.

    [8]- فيصل عباس: العولمة والعنف المعاصر، جدلية الحق والقوة، ص 312.

    [9]- المرجع السابق: ص 313.

    [10]- نقلا عن مصطفى النشار، ما بعد العولمة، ص 195-196.

    [11]- نقلا عن مصطفى النشار، ما بعد العولمة، ص 196.

    [12]- مصطفى النشار: ما بعد العولمة، ص 203.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4
    دراسات وبحوث
    الفكر العربي المعاصر .. مدلوله ومصادره


    د. بوبكر جيلالي
    bobaker jilali* يمثل الفكر في حياة الإنسان الثقافية والحضارية والتاريخية العامل المحرك الذي يشكل الإنسانية بكل أبعادها في الفرد ويبني المجتمع والدولة والأمة ويحرك التاريخ ويصنع الحضارة، من دون الفكر يبقى الإنسان رهينة لبهيميته لا تشغله إلاّ شهوته وحبيس حاضره في مستوى الحيوانية لا تهمه إلاّ لحظته الراهنة، لكنّه مخلوق مُكرّم بالعقل وقوى أخرى لا تحصى، بها صار على ما هو عليه الآن من رفعة وسؤدد وسيطرة وتحكّم.
    * الفكر يصنع الإبداع بشقّيه الكشفي والاختراعي والإبداع قوّة لم تُؤت لغير الإنسان ترتبط بالفكر، تُطوّره وتُجدده باستمرار، والتقدم الذي أحرزه الإنسان في جميع ميادين الحياة عبر العصور وانتهى إلى ما يسمى بالثقافة والحضارة هو نتيجة للتقدم الفكري والعلمي والتقني الناتج عن قدرة الإنسان على الوصول إلى الجديد في النظر والعمل، وذلك هو عين الإبداع وجوهره، ولولا الإبداع ومن وراءه الفكر لبقيت الإنسانية على حالتها البدائية الأولى ولم تعرف الرقي والازدهار الحضاري.
    * للفكر كيان فعّال ومنفعل، يتعاطى مع الواقع سلباً وإيجاباً ويعكسه ويندمج فيه أو يقاطعه ويعاديه، كما يتعاطى معه بعمق أو بدون عمق، باندفاع أو بتبصر، بجدّية أو بدون جدّية، يهتم بشكله وصورته أو بمحتواه ومضمونه أو بهما معاً، يعامله بصدق وصراحة أو بنفاق وخداع، يبقى دوره أساسيا في تغيير ظروف الحياة في مختلف جوانبها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، والجانب الفعّال والمنفعل في الفكر هو وراء كل التغيّرات التي تشهدها حياة الإنسان الفردية والجماعية سواء أكانت إيجابية أو سلبية.
    * إنّ الفكر ميزة بشرية وجهد إنساني كرّم الله به الإنسان وفضّله على كثير من مخلوقاته، فصار وراء كل ما صنعه الإنسان، سواء في ميدان النظر أو في مجال العمل، والفكر مرتبط بعوامل عديدة، خارجة عن الإنسان وموضوعية وأخرى مرتبطة بذاته، والفكر له كيانه ووجوده المستقل المتعدد والمتنوع في مجالاته و نتاجاته وهو معطى طبيعي بشري يقوم على الحرية والإبداع، فالتعدد والتنوع والتطور في الفكر أمور طبيعية لا تسمح لنا بإخضاع الفكر لمنهج واحد ونمط واحد وفي مجال واحد ووفق إيديولوجية واحدة، فالفكر أوسع عن أن يكون يسارياً فقط أو يمينياً فحسب.
    * الفكر يتعدد ويتنوع، يتنوع بتنوع بيئات الشعوب والأقوام والأمم والمجتمعات الجغرافية والسياسية وغيرها، وتنوع الثقافات والحضارات والفلسفات والديانات في هذه البيئات، ويتعدد بتعدد مجالات الحياة التي تتميز بالتنوع والتداخل داخل المجتمع الواحد والبيئة الواحدة والحضارة الواحدة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ودينيا وفلسفيا وعلميا، يتنوع بتنوع الوعي التاريخي والظروف التاريخية التي تعرفها الإنسانية عبر الحقب التاريخية المختلفة التي تمرّ بها جماعاتها، الأمر الذي جعل بحوزة الإنسان أنواعا وأنماطا وأشكالا شتى من التفكير ذات معايير شتى في تصنيفها، يعجز الإنسان عن الإلمام بها جميعا في وقت واحد.
    * الفكر العربي الإسلامي نوع من أنواع الفكر التي عرفها تاريخ الإنسانية، له منظوماته وخصوصياته، ارتبط بالوجود العربي وبالوجود الإسلامي وتطوّر عبر العصور متأثرا بسائر التحوّلات التي عرفها الإنسان في حياته، يتحدد بالتراث الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية - المنظومة التأسيسية - وما انبثق عنهما من منظومات فكرية وعلمية وفلسفية منذ القديم حتى الآن، كما يتحدد بالتراث العربي متمثلا في ديوان العرب قبل الإسلام، وفي سائر عناصر الثقافة العربية الفكرية والدينية والأخلاقية والسلوكية، التي جاءت وتطوّرت بعد الإسلام إلى يومنا هذا، ويتحدد كذلك بما أفرزه امتزاج التراث العربي بالتراث الإسلامي بالفكر الإنساني القديم والحديث والمعاصر وبمشكلات وتحدّيات العصر الحاضر وتحوّلاته.
    * الفكر العربي الإسلامي المعاصر جزء من الفكر العربي الإسلامي ككل بجميع منظوماته التأسيسية والتجديدية وبما فيه من عناصر ذاتية محلية وأخرى عالمية شمولية عامة، ثوابت أو متغيرات، هو جزء من الفكر الإنساني العالمي العام، يعكس حياة الإنسان بجميع جوانبها في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ويصور المشكلات والهموم والتحوّلات والتحدّيات، كما يعرض الجهود المبذولة والمحاولات القائمة والمواقف والاتجاهات والتوجهات في جميع مستويات الحياة، فلا سبيل للاطلاع على أي مرحلة تاريخية إلاّ بالفكر ومن خلاله.
    * نحتاج في هذا البحث إلى التعرض لمدلول الفكر العربي الإسلامي المعاصر، من حيث كونه عربيا ومن حيث كونه إسلاميا ومن حيث هو منظومة فكرية عربية إسلامية فيها العناصر الذاتية المحلية وفيها الكثير من الجوانب الإنسانية المشرقة وغيرها ذات الطابع العالمي الشمولي العام، ونتعرض لتياراته الكبرى التي انبثقت من التواصل بين الموروث والوافد وتأثرت من دون شك بما يجري في العصر من مستجدّات ومتغيّرات في كل مستويات الحياة، ونتعرض لمدارسه الفلسفية المختلفة التي ارتبطت هي الأخرى في نشأتها واستمدادها بالتيارات الفكرية وبالموروث والوافد، ونتعرض للتحدّيات التي تواجهه وتحوّلات العصر، وللآثار والتداعيات والانعكاسات التي خلّفتها تحوّلات العصر وتوجّهاته، ونشير بصفة عامة ومن وجهة بعض المفكرين في العالم العربي والإسلامي إلى السبل الكفيلة بحل المشكلات وتجاوز الصعوبات وتمنع انعكاسات تحوّلات العصر الخطيرة، وتضمن معادلة متوازنة تجمع الحداثة والتحديث والتراث وتسمح للفكر العربي الإسلامي بالتطور والازدهار والإسهام في بناء حضارة عصره دون أن يتخلّى عن خصوصياته.
    * تتكون التسمية من أربعة مفاهيم هي الفكر والعربي والإسلامي والمعاصر، أما الفكر فهو قدرة الإنسان على النظر العقلي في الموضوعات وتعقيلها أو تعقّلها، وإنتاج المعرفة وتداولها والاعتماد على العقل في الإصلاح ورسم التقدم وفي تنظيم حياة الفرد وتوجيه حياة المجتمع في جميع مجالاتها، والفكر هو قدرة الإنسان على التأمل والتدبر والتفكّر والتبصر والتعقّل والتنظير وإعمال العقل باستخدام كل فعّاليات الذهن ونشاطاته في الوجود الفردي الذاتي الباطني وفي الوجود الاجتماعي الموضوعي الخارجي وفي الوجود الإنساني العام وفي الوجود الطبيعي الموضوعي وفي الوجود الغيبي الميتافيزيقي، والفكر يختلف من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر من حيث الأسلوب والاهتمامات والغايات والمبادئ والمنطلقات ودرجة الصحة ومعاييرها ودرجة العمق وشروطه ودرجة الوفرة والكفاية ومجالها ومدى الدقة وحدودها، الأمر الذي يدل على أنّ الفكر تتحكّم فيه عدة عوامل متداخلة بعضها ذاتي في الإنسان وبعضها موضوعي، بعضها داخلي وبعضها خارجي اجتماعي وطبيعي وغيره، بعضها قديم وبعضها حديث وآخر معاصر.
    * نظرا لاختلاف الأفراد والجماعات والأزمنة في التفكير ونظرا لتعدد موضوعات ومجالات التفكير ونظرا لاتساع المجال الواحد بحيث لا يمكن للتفكير أن يتصدّى له كاملا دراسة وبحثا، وكلما ازداد التفكير تعمقا في تفاصيل وجزئيات مجال ما كلما ازداد المجال المدروس في آفاقه توسعا وتبحرا، الأمر الذي جعل الفكر الإنساني في تطوّره ينتقل من العصور القديمة إلى العصر الحديث والعصر الحاضر من التوجّه الفكري النمطي الموسوعي إلى التوجّه الفكري التخصصي اللاّنمطي، ويعرف كل تخصص من التخصصات اتساعا وعمقا كلما ازداد تقدما في البحث والدراسة، لهذا عرف الإنسان أنواعا شتى من التفكير تتعدد وتختلف باختلاف مصادرها ومحدداتها وموجهاتها، ومن هذه المصادر والمحددات والموجهات تكون جغرافية ولغوية وبيئية ودينية، وهي مصادر ومحددات وموجهات الفكر الذي ارتبط بالجغرافيا العربية وباللغة العربية وبالثقافة العربية وبالسلوكيات والممارسات العربية المختلفة وبديوان العرب وبالديانة الإسلامية والبيئة العربية الإسلامية عامة وتطوّر بالاحتكاك والتواصل والانفعال والتفاعل مع أنماط التفكير الأخرى، ومرّ بظروف ومراحل تاريخية أسهم فيها وأسهمت فيه، حتى وصل إلى العصر الحديث والمعاصر بالصورة التي هو عليها، وفيه التقت عدة أفكار وعدة ثقافات وعدة ديانات وعدة فلسفات، خاصة بالنسبة للجانب الإنساني العالمي فيه، وله من العناصر الذاتية والمحلية ما يتميز به عن غيره، هذه المكونات بقسميها الخاصة والعامة تدل بجلاء على وجود نوع من الفكر هو جزء من رصيد الفكر العالمي الإنساني العام هو الفكر العربي الإسلامي له كيانه وخصوصياته.
    * أما الفكر العربي وكونه عربيا فالفكر هنا مرتبط في أساسه باللّغة العربية وبالثقافة العربية وبالعنصر العربي بالدرجة الأولى أي بالعروبة عنصرا ولغة وثقافة وجغرافيا وبكل ما يخص العرب وحياتهم في العصور القديمة وفي العصر الحديث وعصرنا الحاضر، ويشمل الفكر العربي إسهامات العديد من المفكرين الأعاجم التي جاءت باللغة العربية، على أساس أنها لغة القرآن والسنّة أسست لحضارة عربية إسلامية مزدهرة وقوية، وارتبطت قبل ذلك بثقافة عربية قوية تمثلت مظاهرها في فنون أدبية نثرية وشعرية وفي ألوان أخرى من الفكر والثقافة والديانات بعضها عربي صرف وبعضها دخيل بفعل احتكاك العرب بغيرهم من شعوب العالم، عن طريق الأسفار والتجارة والغزوات والحروب وغيرها، ويشمل المعطى الثقافي والفكري والديني والأدبي لدى العرب قبل الإسلام عدة اتجاهات أهمها الديانة اليهودية والديانة المسيحي ومذهب الصابئة ومعطى الثقافة العربية المتمثل في ديوان العرب بالإضافة إلى اللغة العربية والتاريخ والكثير من المعتقدات والأفكار التي استوعبها الإسلام وهذبها وأصبحت من جوهره وروحه.
    * فالفكر العربي أي في جانبه العربي يشمل كل ما هو عربي صرف عربي، عربي يهودي، عربي مسيحي عربي صابئي، عربي بمعتقدات وأفكار ومعارف أخرى، ويظم كل ما هو عربي ممزوج بغيره استوعبته الثقافة العربية والبيئة العربية في توافق وانسجام قبل الإسلام، كما يشمل كل ما هو عربي تطوّر وامتزج بالإسلام وتطوّر بعد امتزاجه بالإسلام، وبعد امتزاجه بثقافات وديانات وفلسفات أخرى، بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية واحتكاك العرب والمسلمين واللغة العربية والثقافة العربية بشعوب وأمم غير عربية في مشارق الأرض ومغاربها، عن طريق الفتوحات الإسلامية والتجارة والأسفار العلمية وغيرها، ولعبت حركة الترجمة دورا كبيرا في نقل التراث الفكري والفلسفي والأدبي وغيره إلى العرب والمسلمين، فانكبوا عليه دراسة وفحصا ونقدا وتحصيلا، كما يشمل ما هو عربي تطوّر عبر العصور الإسلامية والعصور الوسطى، خاصة ذلك الذي ارتبط بالبيئة العربية ويحمل خصوصيات عربية، ولما دخل عليه العصر الحديث تفاعل معه في توافق ووئام وانسجام في حين وفي تنافر وتباين واصطدام في حين آخر، حتى جاء العصر الحاضر الذي أصبح فيه الفكر العربي يطلق على أي إنتاج فكري وثقافي للعرب وللغة العربية وللبيئة الثقافية العربية نصيب فيه، في العصور القديمة وفي العصر الحديث وفي عصرنا الحاضر، سواء أكان الإنتاج الفكري والثقافي العربي صرفا في عروبته أو ممزوجا بغيره، والفكر العربي الإسلامي من إنتاج امتزاج الفكر العربي بالإسلام وبالفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام إلى اليوم.
    * أما الفكر الإسلامي وكونه إسلاميا لارتباطه بالإسلام عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، ولاتصاله بالثقافة الإسلامية وبحياة المسلمين، وبسائر التطورات التي عرفتها هذه الحياة منذ مجيء الإسلام إلى اليوم، خاصة وأنّ قوّة الإسلام ومناعته وفي المقابل هشاشة المعتقدات والديانات والثقافات الأخرى جعل الإسلام ينتشر بسرعة ويُقبل عليه الناس مجتهدين في تكييف معتقداتهم وثقافتهم وفلسفاتهم مع المعتقدات والتعاليم الإسلامية أو متخلين عنها مندمجين تماما في الحياة الإسلامية، وارتبط الإسلام والفكر الإسلامي باللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم ولغة الديانة الإسلامية ولغة التعبد في هذه الديانة، فاحتضن الإسلام الثقافة العربية التي سبقته بما في ذلك ديوان العرب وقام بإصلاحها بتهذيبها، فأصبحت الثقافة آنذاك مركبة مما هو عربي ومما هو إسلامي، والأمر نفسه ينطبق على الفكر في تلك الحقبة، الفكر الذي ازداد اتساعا وازدادت معه الثقافة غنى وثراء.
    * مادام الإسلام يدعو إلى التأمل والتدبر والتفلسف في الوجود والكون والحياة عامة، ويدعو إلى إنتاج الفكر والمعرفة والاجتهاد في ذلك باستمرار، فإنّ هذه الدعوة فتحت كل الآفاق على البحث والدراسة والاطلاع، من طرف المسلمين العرب وغير العرب، الأمر الذي جعل الساحة الفكرية والعلمية والفلسفية والثقافية عامة في العالم العربي والإسلامي تشهد ازدهارا هائلا، خاصة بعد اتصال الثقافة العربية والإسلامية بالثقافات الشرقية القديمة، الثقافة المصرية القديمة والثقافة الفارسية والثقافة الهندية والثقافة الصينية، واتصالها بالفلسفة اليونانية وبالعلم اليوناني، هذه الفلسفة وهذا العلم اللذان يمثلان قمّة التطور الذي عرفه اليونان القديم بعد حكمة الشرق القديم، هذا التطور سنح لبعض المفكرين والفلاسفة في الغرب الأوربي الحديث والمعاصر برفع شعار "الحضارة حكر على الغرب" قديما وحديثا ومعاصرا، وهو موقف يجانب الحقيقة في كافة أوجهها، لأنّ الحضارة لا عنوان لها والتقدم العامي لا وطن له والحكمة ليست حكرا على أحد فالحضارة عرفتها الشعوب الشرقية القديمة، والحكمة الفلسفية والعلمية اضطلع بها اليونان القديم والتقدم العلمي أنتجه المسلمون في حضاراتهم، كما نجد الحضارة في العصر الحديث والعاصر تحوّلت إلى أوربا لما توفرت شروطها، وحصا الأخذ والعطاء بين الحضارات في التاريخ.
    * يبقى التواصل العربي الإسلامي بالفكر الإنساني الذي سبقه والذي عاصره على مدى مختلف الحقب التاريخية هو الذي كان وراء ظهور الكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية والعلوم والفنون والآداب وغيرها، وتبلورت تلك الاتجاهات في شكل أنساق علمية، فظهرت علوم الحكمة أو العلوم العقلية وتمثلت في الفلسفة وعلم الكلام وفرقه وفي علوم التصوف، كما ازدهرت العلوم الطبيعية والتجريبية وتطورت معها الفنون العملية والصناعات المختلفة، وظهر العديد من العلوم الدينية، مثل علوم التفسير وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلوم الحديث وعلم السيرة النبوية وغيره، وفي خضم هذا التقدم العلمي الذي تميّز به الفكر العربي الإسلامي وتميّزت به الحضارة العربية الإسلامية تطورت علوم اللغة العربية تطورا هائلا لاحتوائها ثقافات متنوعة وتعبيرها عن حضارة الإسلام والمسلمين، هذا التطور الذي أسهم في فيه المسلمون من عرب وعجم انتهى باكتمال ظهور فكر جديد تولّد عن امتزاج اللغة العربية والثقافة العربية بالإسلام وبثقافات وديانات وفلسفات أخرى شرقية وغربية، وكانت المعايير في هذا الفكر الجديد هو ما جاء به الإسلام من معتقد وشرعة ونظام، كل منها مُثبّت في القرآن الكرم والسنة النبوية الشريفة، باعتبارها تمثل أصول العقيدة ومصادر التشريع الإسلامي.
    * أما الفكر العربي الإسلامي المعاصر وكونه معاصرا فهذا يدل دلالة واضحة على أنّ الفكر متغير ومتطور تاريخيا وباستمرار عبر العصور، فهو مرتبط بالعصر الذي يتواجد فيه وبظروفه، ويتغير بتغير انشغالات واهتمامات ومشكلات العصر، ولما كانت الغاية القصوى في صدر الإسلام التمكين للإسلام على أرض الله ونشر عقائده وتعاليمه والدفاع عنها وشرحها وتوصيلها إلى الناس خاصة لأصحاب الديانات والثقافات والفلسفات الأخرى، كالفرس والروم والإفرنج واليونان وغيرهم كثير، جاء الفكر بطابع عقلي جدالي يقوم على الحوار والمحاجة والجدل ويستخدم الاستدلال العقلي المنطقي في إثبات عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنها، وفي الردّ على الخصوم والمعارضين الذين هم من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه، الطابع العقلي الاستدلالي المنطقي الفلسفي للتفكير في هذه الحقبة التاريخية عكسته الفرق الكلامية والاتجاهات الفلسفية.
    * بعد مرحلة استخدام الاستدلال العقلي المنطقي للذود عن الدين وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وظروف فكرية وثقافية مغايرة للتي سبقتها ازدهرت حركة التصوف والمتصوفة، وازدهرت حركة العلم والعلماء والبحث العلمي ومناهجه، وانتهت إلى نتائج علمية متطورة جدّا بالقياس إلى الحركات العلمية السابقة وما تميّزت به في الشرق القديم أو في الحضارة اليونانية، تمثلت هذه النتائج في ظهور عدد من العلوم المزدهرة، فلسفية ودينية مثل علم الكلام وعلوم التصوف وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث وغيرها، وطبيعية تجريبية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضة والفلك وغيره، وإنسانية واجتماعية من التاريخ والعمران البشري وعلم الاجتماع وغيره، بهذا ارتبط الفكر العربي الإسلامي بأوضاع وظروف ومشكلات الإنسان في المجتمع الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى الآن، كما ارتبط بحضارة عربية إسلامية مزدهرة قائمة بذاتها انبثقت من مبادئ وقيّم ومفاهيم الإسلام عقيدة وشريعة في تفاعلها وتواصلها مع الديانات والثقافات والفلسفات والحضارات السابقة.
    * لما كان الفكر نشاطا إنسانيا مرتبطا بالظروف التاريخية وحركة بشرية تمليها الأوضاع التي يعيشها الفرد وتعيشها الجماعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا في عصر من العصور، فإنّ الظروف التاريخية والاهتمامات والانشغالات والمشكلات والتحديات والتحولات التي عاشها ويعيشها الإنسان في العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث والمعاصر تختلف تماما عن تلك التي عرفها المجتمع الإسلامي القديم، وهي كثيرة منها الاستعمار، الاستقلال، الإصلاح، النهضة، التخلف، التحرر، الحداثة، ما بعد الحداثة، التجديد، التنوير، القومية، الليبرالية، الاشتراكية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، العلمنة، العلمانية، الأتمتة، والعولمة وغيرها، فالفكر العربي الإسلامي المعاصر يشمل كل البحوث والدراسات والمشاريع الفكرية والفلسفية التي تشتغل ببحث المشكلات والقضايا والانشغالات في العام العربي الإسلامي المعاصر، وهي اهتمامات المجتمع المعاصر بصفة عامة واهتمامات الشعوب المتخلفة ومنها الشعوب العربية الإسلامية، ولكونها شعوبا تراثية فإنّ الفكر لديها مرتبط بالتراث العربي الإسلامي من جهة وبالوافد من جهة أخرى، فهو يخضع لمحددات ثلاثة الموروث والوافد والواقع المعيش، ويتصدى لهذا الفكر عدد من المفكرين والباحثين منتشرين عبر أقطار البلاد العربية والإسلامية، كما يمثله عدد من الاتجاهات الفكرية والدينية، ويستجيب لاهتماماته عدد من المشاريع الفكرية تمثل الموقف الحضاري فيه.
    * إنّ أهمّ ما تميّز به الفكر العربي الإسلامي عامة، والفكر العربي المعاصر خاصة ظاهرة التعدد والتتنوع والتركيب، ففيه الموروث المحلي والدخيل، وفيه المعاصر الوافد وغير الوافد، وبين الوافد والموروث يوجد تعدد كبير وتنوع هائل في عناصر ومكونات المنظومة الفكرية في العالم العربي والإسلامي، هذه المنظومة التي تتفاعل بداخلها سائر عناصر المظاهر الثقافية والفكرية والمعرفية فيما بينها من جهة ومع تحولات العصر وتحدياته من جهة أخرى، والتفاعل الداخلي بين عناصر المركب للمنظومة يتم في توافق وانسجام على مرّ العصور واختلاف ظروفها التاريخية وتجدد الأبنية المعرفية والثقافية باستمرار مع تجدد أوضاع الحياة، والذي يدل على مدى التفاعل داخل شبكة المنظومة الفكرية العربية والإسلامية عامة هو ارتباط الفكر في هذه الشبكة بالحياة الثقافية والفكرية والفلسفية والعلمية وغيرها، وبكل ما هو عربي فكرا وممارسة وتاريخا وغيره وبكل ما هو إسلامي عقيدة وشريعة وفكرا وممارسة وتاريخا وغيره، وبكل التحولات والتحديات المعاصرة في العالم بصفة عامة وفي العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وباستجابات هذا الفكر لهذه التحديات وبآفاقه وتطلعاته، وبحكم تركيبه فهو ينطوي على ما هو ثابت وعلى ما هو متغير، فلكونه إسلاميا ففي الدين ما هو هدي إلهي أزلي خالد لا مكان للتجديد فيه، والفكر الإسلامي نتيجة للتفاعل بين المسلمين وأحكام الدين الخالدة، هذا التفاعل الذي يستمر مع أجيال المسلمين التي تضطلع بالتفكير في الإسلام يتأثر ويتكيف وينفعل بالظروف القائمة التي تحيط به، وبمطالب وحاجات الناس وبالوسائل والإمكانيات المتاحة، مما يدل على احتواء الفكر الإسلامي للمتغيرات واستيعابه للجديد وممارسته التجديد في ظل الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي وبيّنته السنة النبوية الشريفة، هذه الثنائية ثنائية الثبات والتغير في الفكر الديني الإسلامي سنة كونية وحكمة إلهية قامت عليها الحياة، والأمر نفسه مع الفكر العربي الذي يتضمن قيّما ثابتة قد تكون مشتركة بينه بين الفكر العالمي العام وقد تكون خاصة به، عرفها ومازالت تحدده ويتحدد بها، وهكذا مع كل أنواع الفكر سواء أكان الفكر مشتركا بين بني الإنسان ولهم عامة أو كان خاصا ببعضهم فهو متعدد المكونات متنوع الروافد فيه الثوابت والمتغيرات، يتّجه نحو الأوضاع التي تميّز عصره يشهد لها أو عليها، يكرسها ويبررها أو يثور في وجهها، يسكّن الواقع أو يحركه، يتميّز بالفعّالية والتأثير أو بالسكون والجمود، يُسهم في تغيير الواقع وتطوير الحياة أو يكتفي بالإتباع والنقل من موروثه أو مما يعاصره.
    * ففي حقل التفكير الفلسفي وهو نوع من أنواع التفكير الذي عرف أحوالا متباينة عبر تاريخه الطويل تراوحت بين القوّة والضعف وبين العمق والسطحية وبين الدقة والعفوية وبين الكفاية والقلّة وغيرها، ارتبط هذا النوع في كل مرحلة من مراحل تاريخ الطويل بالظروف التاريخية وبأوضاع الناس المختلفة، ارتبط بعقلية الإنسان وبلغته وبمعتقداته وبنمط عيشه وبثقافته وبالجغرافيا التي يعيش فيها وبكل ما يعانيه وما يعنيه ككائن حي وكإنسان، بالمشترك الوجودي والمشترك الإنساني، بما هو عام في المشترك الإنساني وبما هو خاص داخل المشترك الإنساني، لذا تعددت الفلسفات وتباينت، ومنها الفلسفة التي ارتبطت بالبيئة العربية الإسلامية، وتمثل الفكر الذي انبثق وتشكّل من التوحيد بين ما هو فكري فلسفي وبين ما هو عربي وبين ما هو إسلامي، وتمّ واكتمل نموذجا من نماذج التفكير الفلسفي يطلق عليه التفكير الفلسفي العربي الإسلامي، واستمر هذا الفكر عبر التاريخ يتفاعل وينفعل في داخله وذاتيا كما يتواصل بالتحدي والاستجابة مع الظروف التاريخية التي تمرّ عليه بالتفوّق أو بالإخفاق حتى العصر الحاضر، ففي عصرنا تلتقي الفلسفة بالثقافة العربية وما شهادته من تطورات وبالثقافة الإسلامية وما عرفته من تجديد، وذلك في الجامعات وخارجها، ففلسفة الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة روادها لم يكونوا من ذوي الاختصاص في الفلسفة الإسلامية أو العربية أو ما يُسمى بالفلسفة العربية الإسلامية، فجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومحمد رشيد رضا الذي هو تلميذ محمد عبده وهم الرواد الأوائل للفكر الإصلاحي الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة قدّموا اجتهادات في الفلسفة الإسلامية لم ترق إلى مستوى الأنساق الفلسفية التي عرفها الفكر الفلسفي في الغرب الحديث، ولكنّها استطاعت أن تضع بذور تفكير تميّز ببعده الفلسفي في قراءته للواقع وفي تحليله ونقده له وفي تصوره لمناهج حل المشكلات و التعامل مع الأزمات ومعالجتها، كما أثرت هذه الاجتهادات الفلسفية في الجيل الذي جاء فيما بعد ومن أفراد هذا الجيل مصطفى عبد الرازق الذي يُردّ إليه تأسيس الدراسات الفلسفية المعاصرة في العالم العربي، وكذلك أحمد لطفي السيد الذي يعتبره الكثير فيلسوف الجيل الأول بعد جيل الحركة الإصلاحية بدون مُنازع، وكان لهذا التداخل بين الفلسفة والفكر العربي والفكر الإسلامي أثره البالغ الكبير في الفكر الفلسفي السياسي المعاصر، كما وقع تداخل الفكر الفلسفي والعلمي المرتبط بالتقدم العلمي والتكنولوجي الحديث والمعاصر مع الفكر العربي والعلماني، وأبرز رواد الفكر العلمي العلماني شبلي شميل وفرح أنطوان وسلامة موسى وغيرهم، ولم يكن هؤلاء من داخل الجامعات، التقى فكرهم مع الفكر الفلسفي العلمي من داخل الجامعة، وأبرز رواد الفكر الفلسفي العلمي من داخل الجامعة زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، اتسع مجال الاهتمام بالفلسفة وبقضاياها ومشكلاتها العامة والخاصة بالعصر والمجتمع العربي الإسلامي المعاصر، فلم يعد الاهتمام بالفلسفة يقتصر على المتخصصين في الفلسفة أو في الفروع التي تقاربها وتوازيها بل ساهم في الاهتمام بها أئمة وعلماء وقضاة شرعيون ومصلحون دينيون ومفكرون سياسيون وأدباء وصحفيون وكتاب وأصحاب أقلام، واتسع مجال الفكر الفلسفي ليشمل مجالات واسعة من الفكر الفلسفي العام الذي يظم الفكر الديني والعلمي والسياسي داخل الجامعات وخارجها، واتسع أكثر ليشمل كذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، مثل علوم اللغة واللسانيات وعلم النفس وعلوم التربية والجغرافيا والتاريخ و السياسة والأدب والقانون وغيره، فالفكر العربي الإسلامي المعاصر بهذه الاهتمامات اندمج في العصر وشكّل ساحة فكرية بانت فيها روافده ومصادره وتوجهاته التراثية القومية والإسلامية، والمعاصرة المادية الاشتراكية والليبرالية الغربية.
    * إذا ما أردنا تصنيف الأبنية والأنساق الفكرية والثقافية والمعرفية التي تتشكل منها منظومة الفكر العربي الإسلامي منذ القديم إلى يومنا هذا ومن باب الوصف العام، لأن التدقيق والتفصيل في الموضوع يتطلب جهدا معتبرا ودراسة مطولة وبحثا عميقا، لكن هذا لا يمنع من تحديد ووصف هذه الأبنية والأنساق، هذه المنظومة كانت عربية قبل أن تكون إسلامية، تكوّن الفكر فيها بداية وتمهيديا من الثقافة العربية التي هي بحوزة العرب قبل مجيء الإسلام، هذه الثقافة التي تضمّنت أربعة اتجاهات أساسية هي الديانة اليهودية والديانة المسيحية والصابئة ومجمل ما احتواه ديوان العرب من شعر ونثر وحكم وأمثال وأخلاق وغيرها، هذه الثقافة السابقة على الإسلام تحتاج الآن إلى دراسة وتحليل ونقد، لما جاء الإسلام شكّل مجالا واسعا للتفاعل مع البيئة الثقافية والفكرية القائمة، وهو يمثل المنظومة التأسيسية التي تشمل مصادر وأصول الحكمة الإسلامية متمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والعقل والإجماع وبعد ذلك جاءت أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والعلماء، وأصبحت المنظومة التأسيسية مهيمنة على الساحة الفكرية والثقافية، مُعدلة ومطوّرة للأبنية والأنساق الثقافية السابقة وذات تأثير بالغ على الأبنية والأنساق الفكرية التي جاءت بعدها، وارتبطت هذه المنظومة بالعرب تاريخا ولغة وثقافة كما ارتبط العرب بالإسلام اعتقادا وشرعا وديانة وفكرا فحصل الاندماج بين الجانبين في توافق وانسجام، المركب مما هو عربي ومما هو إسلامي دخل في تفاعل وانفعال مع نفسه ومع الثقافات الديانات والفلسفات الأخرى الغربية والشرقية القديمة والمعاصرة له، ارتبطت المنظومة التأسيسية بالعروبة لغة وتاريخا ثقافة وبالديانة اليهودية والديانة المسيحية، وبالثقافات الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية وبالفلسفة الرومانية وبغيرها، وعلى الرغم من أنّ قوام المنظومة التأسيسية ثابت يتمثل في القرآن الكريم إلاّ أنّ ممارسة التدين في الإسلام تتطلب التكيّف مع المتغيرات والمستجدات والتحوّلات التي تعرفها ظروف الحياة، الأمر الذي يقتضي فهم هذه المنظومة فهما عصريا في ضوء التطور الحاصل في الحياة المعاصرة، بالإضافة إلى المنظومة السابقة على الإسلام والمنظومة الإسلامية الخالصة التأسيسية وبعد التفاعل الإسلامي الديني والفكري مع التعدد والتنوع الديني والثقافي والفلسفي والعلمي القديم والذي عاصره وتمّ بأساليب ووسائل عديدة أهمها الفتوحات الإسلامية وحركة الترجمة، نتج فكر تحصيلي تخصيبي يشمل المعرف المزدهرة والعلوم المتطورة وكل ما أنتجه المسلمون وارتبط بالحضارة العربية والإسلامية وساهم فيه كل المسلمين من عرب وعجم وساهمت فيه كل الثقافات والحضارات التي احتك بها أهل الإسلام، وتمثل الإنتاج الفكري في هذه المنظومة كل العلوم الدينية والشرعية وفي العلوم الطبيعية والتجريبية وفي علوم الحكمة، علم الكلام وعلوم التصوف والفلسفة وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية ، التاريخ وعلم العمران وغيره، هذا الإنتاج الذي يحتاج إلى دور نهوضي وعمل يعيد قراءته والاستفادة منه، خاصة بالنسبة للإنتاج الفكري الذي يحتوي على الجوانب الخاصة والذاتية في الثقافة العربية والإسلامية، أما ما هو مشترك وإنساني عام يمكن قراءته في ضوء التحولات الفكرية الجارية في العالم المعاصر ككل، إلى جنب الفكر التحصيلي الفلسفي والشرعي والعلمي يوجد نظام آخر من الفكر داخل المنظومة العامة، هو الفكر التأصيلي ويشمل جميع الرؤى ذات الأبعاد الدينية الشرعية والقواعد والأصول التي يتم الاعتماد عليها في فهم واستيعاب المنظومة التأسيسية، ومن ذلك فهو يتضمن التفكير المنطقي والمنهجي بكل أشكاله، ويمثل الفكر العقلاني الشامل في الفكر العربي الإسلامي، ويحتاج هذا الفكر إلى إعادة قراءة ونظم واستشراف في ضوء انتقاد كل عمليات المراجعة والتحديث المتتالية والمتعاقبة، هو الأمر الذي حدث ومازال يحدث من خلال جهود المراجعة والتحديث الأولى وكذلك مسار جهود النهضة واليقظة والدعوة إلى الاستعادة وبعد ذلك مجهود التيارات والتوجهات الفكرية المعاصرة، وفي المقابل مازالت جهود النهضة واليقظة بالدعوة إلى الاستعارة قائمة وهي جهود التيارات القومية الليبرالية، خاصة بعد التطور الهائل الذي حققه العالم المتقدم في مجال العلم والتكنولوجيا وفي إدارة المجتمع ونظام الحكم وتنظيم الاقتصاد، كما توجد جهود أخرى تبني فكرها في المراجعة والتحديث لا على الاستعادة وحدها ولا على الاستعارة وحدها بل على الاستفادة من التراث ومن العصر معا، وهي الجهود التي تشغل الحيز الأكبر في حقل الفكر العربي الإسلامي المعاصر، هذا الأخير الذي يعوّل أساسا على المراجعة والتحديث من خلال إعادة قراءة وصياغة التراث العربي الإسلامي وفق ما يجري في العصر، وتوجد العديد من المحاولات في هذا التوجه تحتاج إلى المتابعة للوصول بها إلى درجة أرقى من خلال الاستفادة من الماضي ومن التجربة الإنسانية المشتركة، والإسلام لا يجد صعوبة في التعاطي مع روح العصر، فهو دين الفطرة والعقل والعلم والحضارة، يتجاوز سائر المفاهيم الملفقة والمعيقة لعملية المراجعة والتحديث، أخلاقه تقوم على الحوار والتسامح ومنهجه مبني على التحليل النقد للتركم الفكري والمعرفي التاريخي وللتجربة الإنسانية القديمة والحديثة والمعاصرة، كما يقوم على التحديد الدقيق للمشكلات القائمة والقادمة، ومن منظور إسلامي معاصر تتحقق الاستعادة والاستفادة معا بتحقق الوعي بالذات وممارستها لدورها الإيجابي.
    * على الرغم من الاندماج بين الفكر العربي والفكر الإسلامي واشتمال كل منهما على الآخر وتعبير كل منهما عن الآخر وتطوير وازدهار كل منهما للآخر منذ القديم إلى اليوم، فإنّ صعوبة الجمع بين الفكر الإسلامي والفكر العربي وكون الفكر عربيا وإسلاميا في الوقت نفسه تطرح إشكالية لدى الكثير من المشتغلين بالفكر والثقافة في العالم العربي الإسلامي وخارجه، من منطلق وجود فرق ملحوظ بين ما هو عربي صرف وما هو إسلامي بحت، ومن منطلق وجود منظومة فكرية وثقافية سابقة على الإسلام لها كيانها المستقل وتتمتع بخصوصياتها، وتميّزت بالتنوع الفكري والثقافي والديني، والإسلام ومنظومته الدينية يختلف في عقائده وفي تعاليمه عما سبقه في البيئة العربية وفي غيرها، فالفكر العربي ينطوي على ما هو عربي غير إسلامي مثل الفكر العربي المسيحي واليهودي والصابئي وغيره، والفكر العربي القومي الليبرالي أو الاشتراكي حينما يعالج قضايا ومفاهيم عديدة في سياق عربي قومي بحت بعيدا عن أي سياق ديني فهو بذلك يكون منفصلا ومستقلا عن الفكر الإسلامي، والفكر الإسلامي ينطوي على ما هو إسلامي بحت وليس عربيا تماما، ويتمثل في الأفكار الإسلامية التي عولجت من غير العرب أو أفكار سادت في بلدان إسلامية غير عربية، كما توجد أفكار غير عربية وغير إسلامية دخلت حقل الفكر العربي الإسلامي وامتزجت به، وارتباط هذه الأفكار والمفاهيم الأعجمية بالفكر العربي الإسلامي ومعالجته لها قديما وحديثا ومعاصرا لا يكفي بأن توصف بأنّها عربية إسلامية مثل الحداثة، الديمقراطية، اللبرالية، الاشتراكية، العلمانية، العلماوية، العولمة وغيرها كثير في عصرنا الحاضر، هذه الاعتراضات على التوحيد والجمع بين الفكر العربي والإسلامي لابد من معالجتها، وإن كانت لا تؤثر بشكل ملحوظ في واقع المحاولات الفكرية في العالم العربي الإسلامي الذي احتضن العروبة والإسلام في كل واحد موحد لا يقبل التجزئة والانقسام، واستمد ذلك من روح العروبة الإسلامية ومن روح الإسلام العربية، وأي ثقافة أو لغة تقوم بالدور نفسه الذي قامت به الثقافة العربية واللغة العربية تكون جديرة باحتضان الإسلام وحري به أن يحتضنها، هذا فضلا عن كون ظهور الإسلام في البيئة العربية وباللغة العربية من الحكمة الإلهية، وبغض النظر عن صعوبة الجمع بين ما هو عربي وما هو إسلامي في الفكر حسب الاعتراضات السابقة الذكر، فإنّ الفكر العربي الإسلامي سار في الريادة والاستكشاف والتفتح والازدهار والتنظير والتأصيل والتأسيس، وأنتج أفكارا ومعارف وفنونا وعلوما كثيرة في وقت قصير، وورث منتجات الحضارات التي سبقته، بما في ذلك ما جاءت به الأديان والفلسفات، وسقطت مقولة الدين سكون وتحجر وكتب المفكرون عن شمس العرب والمسلمين وهي تسطع على الغرب وعن الإسلام وهو ينتشر، وجعلوا نبي الإسلام أعظم عظماء البشرية قاطبة من قبل ومن بعد، استطاع الفكر العربي الإسلامي أن يحاور مختلف الديانات والثقافات والحضارات التاريخية، وأن يناقش مختلف القضايا والمسائل والدعاوى والاعتراضات ومعالجة سائر المشكلات التي تواجهه، فجاء فكرا جامعا شموليا وموسوعيا يغطي كل ما أنتجه من خلال فعّالياته المتواصلة.
    * للتأكيد على الطابع العربي والطابع الإسلامي للفكر في العالم العربي والإسلامي ينبغي التأكيد على منظوماته الفكرية التاريخية، بالنسبة لمنظومة النسق الفكري قبل الإسلام أشاد القرآن الكريم وأشادت السنة النبوية الشريفة بالكثير ما كان للعرب فيها من أفكار وأخلاق وسجايا ومعتقدات دينية و بعض العادات والتقاليد وبعض الأفكار المنسوبة للعقل، يضاف إلى ذلك كل ما تُرجم إلى اللغة العربية من ثقافات أخرى، وجد قبولا كبيرا لدى المسلمين واستحسنه الفكر الإسلامي واستساغه على سبيل الاشتمال والتضمن لا على سبيل الإنتاج والإصدار، أي على أساس تفاعلي، وصارت الأفكار الناتجة عن التفاعل الإسلامي مع الحضارات والديانات والفلسفات وسائر الثقافات السابقة على العربية هي من صميم وروح الحضارة العربية الإسلامية، مما يؤكد أنّ جميع الحضارات اللاحقة والحديثة تلقت معارفها بشكل أساسي مما هو حضاري وثقافي وفكري قبل الإسلام وغير إسلامي، فضلا عن الثقافة العربية الإسلامية وبواسطة المنتج الفكري للحضارة العربية الإسلامية، هذا المنتج الذي نهض بمهمة الحفاظ على الفكر الإنساني بشكل عام وتهيئته مجددا على نحو راق جدّا، إنّ تفاعل الفكر العربي الإسلامي ومفكروه مع توجهات الحضارات اللاّحقة الحديثة والمعاصرة ممثلة في الفكر الغربي تحديدا بتوجهه الليبرالي العلماني وبتوجهه المادي الاشتراكي وما ينطوي عليه كل توجه من التوجهين من أفكار وقيّم تتعارض مع توجهات الفكر العربي الإسلامي،هذا التفاعل الذي تمّ بالترجمة والدراسة والمحاورة والنقد ومحاولة الاستفادة منه أو تبنّيه ومحاولة استعارته من طرف بعض الجهات الفكرية والسياسية، على العموم أحدث هذا الاحتكاك العديد من التوجهات والتيارات التي نادى بها مفكرون عرب ومسلمون محدثون ومعاصرون بصرف النظر عن مدى تطابق الفكر الغربي الحديث والمعاصر مع العروبة والإسلام أو من أية جهة صدر، كان في أغلبه موضع دراسة وتحليل ونقد ومعالجة من منظور عربي إسلامي.
    * الفكر العربي الإسلامي تاريخيا لا يغطي ما هو عربي سابق على الإسلام وما هو إسلامي تأسيسي ديني شرعي وما مصدره التفاعل العربي الإسلامي مع ما هو ديني وثقافي وفلسفي وحضاري وتمّ بالمحاورة والنقد وعلى سبيل الاشتمال والاحتواء لا على سبيل الإنتاج وما كان مصدره التفتح والازدهار والتنظير والتأصيل والتأسيس والريادة والاستكشاف لدى العرب والمسلمين عموما، بل يشتمل كذلك على ما جاء من مصادر أخرى حديثة ومعاصرة تمّ استيعاب البعض منه ومازال يبحث ويناقش البعض الآخر، ونتيجة التفاعل الفكري العربي الإسلامي التاريخي والمعاصر صار الفكر في العالم العربي والإسلامي المعاصر ممثلا في مجمل التيارات الفكرية المعاصرة ، يهتم بمشكلات وأوضاع العالم المعاصر بصفة عامة وبهموم العالم العربي والإسلامي المتخلف بصفة خاصة وبمشكلة التخلف فيه، كما يعتني أيّما اعتناء بالمنظومة التأسيسية لتكون في مكان الصدارة من حيث الاهتمام في خضم التحديات القائمة والتحولات المتسارعة ولأنّها تمثل زاد الأمة الفكري والروحي وهويتها التاريخية والحضارية، ويعتني كذلك بالدرجة الثانية بالفكر الليبرالي الذي صار الفكر الأبرز بعد انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية، صار الإسلام بتوجهه الإنساني العالمي الشمولي والفكر العربي الإسلامي في العالم المعاصر هو اللاعب الأساسي إلى جانب اجتهادات ومبادرات التيارات الليبرالية ذات الاتجاه العولمي، وتعود العناية في الفكر الإسلامي المعاصر بالإسلام لما فيه من قوّة ويقين وقدسية وصلاحية وإنسانية، وبالليبرالية لالتقائها في كثير من الجوانب مع الإسلام، ولنجاحها في إنتاج مجتمعات حديثة ومتطورة، الأمر الذي دعا العديد من الدول إلى انتهاج الليبرالية سبيلا للتقدم، والفكر العربي الإسلامي مدعو الآن إلى ممارسة تجديد منتجه الفكري وتحديث محتوياته ومعالجة الفكر الليبرالي بطابعه العولمي مع العمل بمقتضى منهج نقدي ملائم للتجديد والتحديث والتعاطي مع تحولات العصر وتحدياته بإيجابية من منظور الثوابت في المنظومة التأسيسية.
    * إنّ إطلاق عبارة الفكر العربي الإسلامي هكذا من غير تقييد تاريخي دلالي أو زمني تغطي كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي وكل ما ارتبط بالعروبة والإسلام بالاحتكاك والتواصل، ويبدأ من قبل الإسلام إلى اليوم ، كما لا نجد البتة انفصالا بين الفكر العربي والفكر الإسلامي ولم يسجل التاريخ ذلك رغم وجود اعتراضات ذُكرت بعضها من قبل، واستمر هذا التداخل والتزاوج بين الاثنين حتى الآن، فرائد الفكر الإسلامي الحديث ومؤسس الإصلاح الديني جمال الدين الأفغاني لم يكن عربيا وقبله وبعده كثير، ومحمد إقبال وأحمد خان من الهند، وسعيد النورسي من تركيا وعلي شريعتي وطالقاني والإمام الخميني من إيران، أما أبناء الجيل الحالي فمنهم الكثير، فريد إسحق وعبد الله الطيب وإبراهيم موسى من جنوب إفريقيا، وأغل التيارات في الفكر العربي المعاصر لها امتداداتها خارجة في العالم الإسلامي، لأنّ العروبة قلب الإسلام ومهبط وحيه ومصدر فكره ولغته وثقافته.
    * يُطلق اسم الفكر العربي الإسلامي المعاصر في العالم العربي والإسلامي على ما يلي: مفاهيم وتصورات ومقولات بعضها تراثي وبعضها حداثي وبعضها معاصر عن الإنسان والحياة والوجود والكون والطبيعة وما بعد الطبيعة وغيرها؛ دراسات وبحوث لقضايا ومسائل ومشكلات مطروحة في البيئة الفكرية والثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للعالم العربي والإسلامي المعاصر، وهي قضايا قديمة وحديثة ومعاصرة؛ مناهج بحث وأساليب دراسة متبعة في البحوث العلمية والفكرية والفلسفية والدينية بعضها تراثي وبعضها حداثي ومعاصر؛ تيارات ومدارس ونزعات دينية وثقافية وفكرية وفلسفية وعلمية تستمد عناصرها مما هو تراثي ومما هو معاصر؛ إيديولوجيات ونماذج ومناهج دينية وفكرية وسياسية وغيرها مقترحة لتجاوز الأزمات وحل المشكلات المختلفة خاصة أزمة النهضة ومشكلة التخلف.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5
    العولمة البديل الراهن لكل توجه ديني /الدكتور جيلالي بوبكر


    * إلى جانب ما تقوم به العولمة انطلاقا من أصولها الدينية الخفية والعلنية ذات المنبع النصراني أو المصدر اليهودي الصهيوني، فهي جاءت تحمل الدين الجديد للنخبة وعبدة المال وتُمثل هذا الدين أحسن تمثيل، لقد غدت “بطوفانها الجارف دين النخبة، ومن اتبع تلك النخبة، حتى ليطلق عليها أحد الباحثين الوصف التالي:”دين الأغلبية الداخل إلى العبيد بقوة، وسلطان المال والتجارة” ونحن نجد أحد الباحثين يصف العولمة فيقول: لقد وحّدت العولمة مفهوم الأديان التي لكل منها في حد ذاته خصوصيته وتميزه، وجعلت الناس تعتنق دينا واحدا، هو دين المال، فنسي الناس يسوع المسيح، ونسوا الله تعالى وتذكروا أوجه الدولار”، والعولمة بهذه الصفة، جعلت من العقيدة الدينية التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة الأخلاقية والخلقية والاعتقادية، عقيدة أرضية مادية، فأفقدتها الجانب الروحي من دعوتها الأخروية، ومسخت جوهر الإيمان التي تدعو إلى التآخي والتآلف بين الناس”.[1] اجتهدت العولمة أيّما اجتهاد في العمل على الاختراق الفكري والثقافي للشعوب بهدف تفريغ العقول والنفوس والحفائظ من محتوياتها التراثية الثقافية والدينية والأخلاقية والاجتماعية الخاصة، والاقتصار على ما هو إنساني مشترك عام وعالمي، فتحقق انتشار فكر وفلسفة وثقافة العولمة والأمركة، وهي ثقافة لها خصوصيتها وهويتها، وحصل انشطار وانصهار ثقافات الأطراف في الخصوصية الثقافية للعولمة، وفي عملية الانتشار تبشر العولمة بدين جديد هو دين المال والأعمال والتجارة والاقتصاد والإنترنيت، وهو دين يختلف تماما عن الدين بمعناه التقليدي، ذلك ما عبر”عنه أحد الباحثين بقوله: إن العولمة قبل أن تكون نظاما اقتصاديا ، كانت نظاما قيميا جديدا ساهم كل المساهمة في تغيير عقيدة الناس، مما صيّرهم آلات منتجة ومستهلكة، وأعني بالمنتجة أنهم يعملون طوال اليوم ليحصلوا على أجر يرضيهم في قرارة أنفسهم، ثم يتحولون من بعد ذلك إلى الاستهلاك على إفرازات الاقتصاد الغربي، فما يأخذونه باليمين يعطونه بالشمال، وهذه العملية الروتينية أنست الناس الدين، فدانوا بدين العولمة وحده لا غير”.[2]
    * إنّ الدين الجديد الذي تدعو إليه العولمة والأمركة في ظاهره دين المال والاقتصاد وكل مظاهر وآليات وأهداف العولمة والمركز، طابعه علماني، العلمانية كعقيدة ومذهب، -اليهودية تستعمل العلمانية التي لا تلتقي مع الدين وسيلة لتحقيق غايات دينية محضة- لكنه في باطنه له أصول عقائدية يهودية وأفكار ماسونية خطيرة، أهم هذه تحقيق وحدة الأديان في دين واحد، “إن أساس الدعوة التي تنادي بها الصهيونية العالمية، وصنوها الماسونية، هي دعوة وحدة الأديان في دين واحد يمحو النصرانية والإسلام وكل الديانات التي وجدت على الأرض، وهو دين العامة، تفريقا له عن دين النخبة، (الدين اليهودي حسب زعمهم)، وذلك ما نجده في ظهر ورقة لدولار بالعبارة الشهيرة (بالله نحن نثق)، من غير تحديد لأي إله يتجه القصد، إله الدم اليهودي، أم إله (الوهيم) إله الدمار اليهودي،أم إله القتل الذي خوّل يوشع (حسب زعمهم) أن يقتل أهل أريحا، ويتعرّضهم بحدّ السيف لفرض دينه واقتصاده المحرر وقتها. وهذا الأمر لا يختلف عن ذلك الأمر قيد أنملة كما تقول العرب”.[3]وتنبّه كثير من المفكرين والباحثين في العالم العربي والإسلامي المعاصر إلى خطورة العولمة كدين جديد يستهدف ضرب الأديان الأخرى وفي مقدمتها الإسلام باسم وحدة الأديان، وهي دعوة لم يأت من وراءها سوى انهيار القيّم والانحلال الخُلقي والخلقي -بفتح الخاء- والربح الفاحش والظلم والاستبداد بكافة أشكاله والاستغلال بجميع أنواعه، وجاءت إستراتيجية العولمة الداعية إلى عقيدة المال والاقتصاد ووحدة الدين المعتقد ووحدة الثقافة ووحدة الحاضر والمستقبل، والانصهار في الأمركة، عقيدة قواعدها لا تنسجم البتة مع كل الأديان السماوية والوضعية، لأنها لا تزرع في العالم إلاّ التفرقة والعنصرية، ولا تنمي سوى مشاعر الكراهية والحقد والضغينة والبغضاء، وحصادها لا يقتصر إلاّ على قتل وتشريد الأطفال والشيوخ وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، ولا تنتج غير العنف والعنف المضاد، وشعاراتها برّاقة كاذبة ومخادعة، هي عبارات حق وصدق أُريد بها باطل ونفاق، والتاريخ يشهد على انهيار المنظومات الإيديولوجية المعادية لمكارم الأخلاق والمجانبة للحقائق الدينية، وسقوط الإمبراطوريات التي تشيّدت على الظلم والطغيان والتعسف، وأفول مراحل الظلام لتفسح المجال لنور العلم والحق والعدل، “عندما اجتاحت جيوش هولاكو بغداد عاصمة الخلافة العباسية واحتل المغول بعض البلاد الإسلامية، واحتكوا بالشعوب الإسلامية والثقافة والدين الإسلامي، وبعد فترة آمن المغول بالدين الإسلامي بعد أن آمن أحد حكامهم به، حيث عمل على نشره في ربوع الإمبراطورية المغولية، وحلّت الثقافة الإسلامية محل الثقافة المغولية في بلاد كثيرة من آسيا نتيجة لإيمان شعوبها بالدين الإسلامي”.[4]
    * تدعو العولمة إلى التدين بالمال والاقتصاد والمروق عن العقائد المألوفة في الديانات السماوية والأرضية، “إنّ العولمة في دعوتها اللاظاهرية إلى الاقتصاد دينا، جعل المال ربا، وترك النظم الأخلاقية لأنها لم تعد محررة، إنما تنبع من منابع موغلة في ضلالتها، ومن عجيب أن بعض الباحثين لا يرون في العولمة إلا مذهبا اقتصاديا تطور فيه الرأسمالية إلى العولمة، وينسون أن العولمة هي دعوة يصدق عليها الباحث الذي قال: “إنّ العولمة في هذه الدراسة، حولت قيم عالمنا إلى قيم معولمة فقدت صلتها بماضيها الذي كان يحض على التسامح والإيثار، ولقد سيرت العولمة الناس في طريق لا رجوع عنه إلا بالموت، فصار الناس إذ يمشون في هذا الطريق يكتبون كل يوم قيما جديدة تختلف عن قيمهم الدينية والخلقية فنسو الدين والخلق، لقد صارت العولمة كما قدمناه دين الاقتصاد المحرر في العصر الحديث، وما أراها إلا عقيدة الشيطان في حد ذاته، لما احتوته من فسق اقتصادي، وتخريب قيم ، وإلحاد ديني، سواء أشعر الناس بها أم لم يشعروا…إن غاية الأفكار الاقتصادية المدنية التي تشيع في المجتمع كل يوم، أن تدعوا إلى إصلاح قيم المال بدل قيم الإيمان وفضائل الأخلاق، هو ما نراه في منظومة العولمة التي صبغت الحضارة الغربية بصبغة إلحادية أبعدت الناس عن الكنيسة إلى بيت عبادة جديد، هو المعمل، أو المكتب، أو مكان العمل الذي غدا بديل الكنيسة والمسجد”.[5]
    * إنّ كل الدلائل تؤكد بجلاء أن العولمة في عصرنا دين جديد وعقيدة التوجه الحضاري للقطبية الأحادية متمثلة في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، فالعولمة دين النخبة الاقتصادية وعبدة المال لا الفضائل والقيم الإنسانية العليا والضمير الخلقي والوازع الديني، دين المادة لا الروح والعقل والوجدان، دين الغريزة والشهوة و”البورنوغرافيا” لا التربية الروحية والأخلاقية والدينية وتهذيب اللّذات والسلوك وترشيد الرغبات والميول والأهواء والعواطف، دين الانتماء إلى العالم الذي هو بدون انتماء يعيش في غموض وإبهام وشمول وضبابية لا ولاء فيه لوطن أو لأرض أو لقومية أو لدين ما أو لأمة أو لغيرها، دين كل شيء فيه مفتوح وبحرية لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية والثقافية وغيرها، دين يحرص على الانتشار والانصهار، انتشار العولمة والنظام العالمي وعقيدتهما في كل مكان، وانصهار كل الشعوب وكل الثقافات وكل الديانات في بوتقة واحدة هي وحدة الجنس البشري، ليعيش تحت مظلة العولمة وبقيادة سلطة المركز، هذا هو مطمح الحركة الصهيونية العالمية وصنوها الماسونية منذ ظهورهما.


    الهوامش:
    [1]- حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 53-54.
    [2]- نقلا عن حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 54.
    [3]- راجع العولمة والقيم: حيدر حميد الدهوي، ص 54.
    [4]- محمد الجوهرى حمد الجوهرى:العولمة والثقافة الإسلامية، ص124.
    [5]- حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 56-57.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

المواضيع المتشابهه

  1. البعد العقائدي للعولمة وتداعياته في عالمنا المعاصر
    بواسطة بوبكر جيلالي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 07-22-2014, 07:04 PM
  2. البعد الاقتصادي للعولمة وتداعياته في عالمنا المعاصر، قراءة نقدية.
    بواسطة بوبكر جيلالي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 04-29-2013, 10:59 AM
  3. البعد السياسي للعولمة وتداعياته في العالم المعاصر
    بواسطة بوبكر جيلالي في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-30-2012, 03:52 AM
  4. البعد العقائدي للعولمة وتداعياته، قراءة نقدية
    بواسطة بوبكر جيلالي في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-16-2012, 03:25 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •