قد يكون الواقع أملس في الكتابة لكن القسوة تجعل له تضاريس
محمد براده: المدينة وروايتها قائمتان على العنف
سلام مراد
العنف ليس حدثا بسيطا في حياة المجتمعات، وقد لا يقاس بالمدة التي يستغرقها ولا بعدد الجرائم التي يقترفها، بل بفظاعتها ودرجة وحشيتها.
لذلك فإن وقعه في القلوب والعقول كبير وممتد، كان هذا سببا لكتابات كثيرة تناولت العنف والظلم في المجتمعات والدول، وقد فرضت على الكاتب حالة من الحضور يصعب عليه التنصل منها، نلاحظ ذلك في أعمال كثيرة عالمية وعربية، منها على سبيل المثال لا الحصر، رواية (حفلة التيس) لماريو بارغاس يوسا من اميركا اللاتينية، و(أيام بورمية) لجورج اورويل، ومن الروايات العربية (قصة حب 1956) ليوسف إدريس، ورواية (في بيتنا رجل 1957) لاحسان عبد القدوس، ورواية (العنقاء) للويس عوض، و(تلك الأيام 1963) لفتحي غانم... وغيرها كثير....
وحول موضوع الرواية والعنف كان لنا حوار مع الناقد والروائي المغربي محمر براده:
كيف تنظرون إلى موضوع العنف وانعكاسه في الروايات والأعمال الأدبية والنقدية بشكل عام، وتأثير ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر في وعي ولا وعي الكاتب؟
أظن إن مسألة العنف بمعناها العميق سواء كان عنفا ماديا او نفسيا او ملتبسا هو عنصر ملازم للإنسان في حياته وبالتالي فالكُتّاب أيضا يواجهون هذا المكوّن في الطبيعة البشرية، وتكون ردود أفعالهم متباينة، حتى نجد أن بعض النقاد يتحدثون عن عنف النص، عندما تكون اللغة عنيفة مباشرة... الخ.
ولكن العنف في تجلياته المتعددة سواء من خلال اللجوء إلى الإرهاب لفرض أيديولوجية أو فرض رأي سياسي، أو كان في شكل تصفيات الانتقام أو كان في شكل أعمال عنيفة للتعبير عن احتجاج... الخ.
هذا العنف موجود ويمكن أن نستشفه في الكثير من الروايات، أنا لا أتصور رواية تخلو من وجود عنصر العنف، بمعنى من وجود عنصر يكوّن رد فعل عند شخصية من الشخصيات، دائما، سلوك الشخصيات في الرواية يكون بمثابة رد فعل على شخص آخر، أعني هذه الجدلية هذا التضاد هذا الاختلاف، يولد عنفا ما، وبما ان الرواية قائمة على عنصر درامي، قائمة على تناقضات، فهي تعبر عن هذا الوعي بكيفية مختلفة، وكل نص روائي سنجد فيه سمات معينة لهذا العنف، قد تكون داخل العائلة مثلا، العلاقة بين الأب والأم وبين الأب والابن وبين الأم والأولاد وبين الأخ والأخت، هذا دائما موجود إذا أخذنا نموذج الاخوة كرامازوف لديستوفسكي، سنجد تعبير عن عنف مؤكد إذا صح التعبير.
إن العلاقة التي تبدأ من عقدة أوديب إلى محاولة قتل الأب، هذه عندما نحللها من منظور نفسي نجد أساسها العنف الذي يعبر عن نفسه بظواهر متعددة.
نص بعيد المدى
ان النص هو الذي يعبر عن ذاته، والقراءة الصحيحة تستنطق النص ولا تسقط عليه معلومات من خارجه مهما كانت هذه المعلومات مؤكدة، فهل استطاعت النصوص في الروايات العربية التعبير عن هذه الحالة بدون الدخول في التجريد والغموض والالتباس والمتاهات، أي التعبير عن نفسها من ذاتها؟
هذا يتوقف على استراتيجية الكتابة عند كل كاتب.
آنا أتصور إن الكاتب من خلال قراءاته وتجاربه يختار استراتيجية معينة عندما يكتب نصا ما، أنا لا أؤمن أن الكاتب يكتب ببراعة مهما قيل، هناك حوار يدور بينه وبين النصوص التي قرأها، وبينه وبين النقاد... الخ.
فهو (الكاتب) يختار استراتيجية. هذه الاستراتيجية قد تتوخى الوضوح والتعبير المباشر، وقد تلجأ احيانا الى الترميز والرمز، وقد تلجأ أحيانا إلى الالتباس المقصود، ولذلك قراءة كل نص على حدة، هي التي تعطيك مفتاح التحليل ومن الصعب ان نفرض على الكاتب طريقة واحدة في الكتابة، قد يكتب بوضوح اذا كانت درجة العنف قوية، ولم يستطع ان يتحكم في مشاعره، ولكننا نعلم من خلال تاريخ النصوص الأدبية ان النص الأكثر تأثيرا هو الذي يستطيع أن يستوعب الانفعالات العنيفة ويحولها الى نص بعيد المدى، فهذا الاختلاف إذا يتوقف على كل كاتب وفي فترات معينة عندما يكتب كاتب وفوقه أزيز الرصاص، فقد يكون عنيفا، لانه يواجه الموت مثلا عندما كان الفلسطينيون محاصرين في بيروت وهم محاصرون الآن، لا يمكن ان نتصور نصوصهم الا عنيفة، وتعبيرا مباشرا لأنه حتى الوقت لا يسمح.
ولكن عندما توجد مسافة زمنية فان الانفعالات والتجارب تأخذ بعدا أكثر لتكتسب ديمومة أطول.
ان طبيعة الإبداع انه مزيج من القصدية والعفوية، طبعا التخطيط موجود، لكن هناك لحظات كثيرة وتفاصيل تنفلت من الإطار الذي وضع لها أصلا، وان أطلقنا الحرية واسعة في الأعمال الأدبية لا شك أنها تنصدم مع نقيضها، الذي يشكل العنف جزءا منه سواء الداخلي والخارجي والاجتماعي، كيف تستطيعون التعامل مع العنف من هذه الزاوية؟
أنا أعتقد ان مسألة العنف هي عنصر ضمن عناصر أخرى، ولكن الكاتب والشاعر، لا يكتبون فقط من أجل التعبير عن العنف الذي يعيشونه، لا بد له (الكاتب) من اصطناع عوالم قصصية، محكيات، رواية، ليوصل المشاعر التي لا تكون على حدة، لا يمكن ان نفرز العنف عن الكراهية أو عن المحبة أحيانا، أو عن الصراع، نعيش دائما في دوامة من المشاعر المتداخلة، والكتابة هي أيضا، تأتي مشتملة على هذا التنوع والتعدد في المشاعر، قد تكون فيها القصدية، عندما يكون الكاتب واعيا بها، وقد لا تكون هناك قصدية بمعنى، إن اللاوعي يؤثر في كتابة النص، إذا سلمنا بوجود اللاوعي، أن نسلم بتأثيره على التعبير وعلى اللغة وعلى بعض الانتماءات التي قد لا تندرج في التخطيط الأولى لكتابة النص، ثم أثناء الإنجاز تبرز فجأة فتصبح جزءا من النص.
لم يعد الخطاب الروائي يتقيد بالتسلسل التاريخي للأحداث، بل صار تكسير البناء الخطي سمة من سمات التجديد، وأصبح الكثير من الكتاب لا يتقيدون بأية خطوط ويتجهون نحو الغموض والتجريد بحجة كسر المألوف والسعي والمسير نحو قمة الحرية والانطلاق، كيف تنظرون إلى هذه الكتابات؟
كما قلت سابقا الكتابة متنوعة بطبيعتها، وأيضا مستوى الكاتب، مخزوناته من النصوص، من تجارب في الحياة، هذه هي التي تؤثر على درجة الوضوح والغموض، وقد يكون اختيار الغموض جزءا من توصيل المشاعر والتجارب، لان من الصعب أن نقول إن الكاتب الروائي مثلا يعرف مسبقا ما يريد بطبيعته، هو يحسه ويستشعره، لكن الكتابة والإنجاز النصي، هما اللذان يوضحان للكاتب نفسه ما كان يعتمل داخله، فهذا العنصر المعقد لطبيعة الإبداع، هو الذي يفسر لنا كما قلت درجات الوضوح والغموض، والغموض الذي قد يكون ضروريا، لانه يوفر شاعرية أكثر لانه يخلق الالتباس، لأنه يتيح التأويل المتعدد للنص... الخ.
يجب ان نبتعد عن هذا الطرح المبسط، وضوح وغموض، كل نص له حياة خاصة، إيقاع معين في البحث عن ايجاد توازن بين الشكل وبين المضمون، وهذا قد يكون على درجة من الوضوح او قد يكون غموضا مبررا ومقبولا.
العنف ليس حدثا عابرا، ولا مجرد خبر يقرأ او يسمع، بل انه ظاهرة موجودة ماضيا وحاضرا، مع انها عنصر هدم فهل أخذت ظاهرة العنف حجمها الطبيعي في الروايات؟
نعم، أتصور اذا فهمنا العنف كما قلت سابقا، سنجد له تجليات متباينة على اختلاف النصوص، ابتداء من اللون، عنف اللغة، عنف الرموز، عنف العلاقات القائمة بين شخوص الرواية، وهذا يقتضي التحليل بطبيعة الحال إلا إذا كان الكاتب له منزع رومانسي ويجرد الأشياء ويتحاشى أن يستحضر بعض عناصر الواقع، فقد تأتي كتابته ملساء، والعنف هو الذي قد يشكل تضاريس إذا صح التعبير، تضاريس النص، وهذا يختلف من كاتب إلى آخر ويختلف من الموقع الذي يكتب فيه ومن استراتيجيته.
في أحيان كثيرة تختلط السياسة بالأدب، وينعكس ذلك على مستوى الأعمال الأدبية بكافة أنواعها وأجناسها ومنها الرواية، برأيكم هل تستطيع الرواية تناول أمور سياسية وأيديولوجية وبنفس الوقت تتخلص من الخطابية السياسية الفجة، في موضوع حساس مثل الظاهرة العنفية بوصف هذه الظاهرة جزءا من حركية المجتمع، تعيقه وتشده إلى الخلف؟
لا أنا رأيي في هذا الموضوع هو انه يجب أن لا نختزل نصوص الرواية إلى تصنيفات، أن نقول رواية اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية... الخ.
النص الروائي بطبيعته متعدد العناصر، ولكن قد يوجد فيه العنصر السياسي، وأنا رأيي هو ان على الروائي ان يحاول التعامل على قدم المساواة مع جميع العناصر، سواء كانت عناصر سياسية او اجتماعية او جنسية او غرامية... الخ.
لان المهم هو كيف يمرر كل هذه العناصر في بوتقة الفن ليصهرها ويخرج منها نصا ممتعا، ثم باعثا على التأمل والتفكير.
الرواية والمدينة
الرواية بنت المدينة، هذه المدينة التي تعيش التناقض حتى داخل نفسها ثنائيات الحب والحقد والعنف، والفرح وقتل الفرح، والجمال وقتل الجمال، هذه الطبيعة العميقة وخيوطها المتشابكة، واقع المدينة العربية والتشاؤم من هذا الواقع من قبل روائيين عرب كبار من أمثال جبرا، وعبد الرحمن منيف، هل أعطت الرواية المدينة حقها أم لا برأيك؟
نعم أتصور بالنسبة للرواية بصفة عامة وبالنسبة للرواية العربية، لان علاقة الرواية بالمدينة وطيدة، أي إن العمران نفسه يحكم على الناس أن يتعايشوا متجاورين متقاربين وتخلق علاقات لا تخلو من توتر ولا تخلو من عنف أحيانا والمدينة تصبح بمثابة بنية وبمثابة مرآة، يرى الناس من خلالها أنفسهم، سلوكياتهم وعلاقاتهم، والرواية بوصفها لكل هذه البنيات العمرانية، البيت، المقهى، المسجد، الجامعة، المحكمة.... الخ، تكون متتبعة لخطوات الناس وهم ينظمون علاقاتهم الاجتماعية.
إذا المدينة هي أساسية، المدينة قائمة أيضا على العنف، إذا اعتبرنا البنايات الأسمنتية هي اعتداء على الطبيعة وعلى الأشجار وعلى خضرتها. ولذلك عندما نقرأ رواية نجد إن معظم النصوص تستوحي المدينة، هناك نصوص تعود إلى الأرياف، ولكن الأغلبية تستوحي المدينة لان المدينة بتركيباتها، بالطبقات الموجودة فيها بتراتبية السلطات كلها تحاول أن تنظم العنف، وان تعطيه مجرى معينا.
والرواية هي إعادة لكل هذه العلاقات، على مستوى التخييل تنقل الواقع وتضيف إليه، فالمدينة هي الفضاء الأول بامتياز للكتابات الروائية، لهذه الأسباب التي ذكرت ولأسباب أخرى.
معاداة الإنسانية من الإنسان ذاته تزداد بزيادة جشع الإنسان وشرهه، ويظهر ذلك حتى في الطبيعة، ما دور الرواية على الصعيد الإنساني وهل تحقق جزءا هاما من إنسانية الإنسان؟
لا أظن أن الإنسان يعادي الإنسانية، هذا تعبير مجرد ولكن تطور التاريخ البشري من القديم الى اليوم، هو الذي صار باتجاه خلق حضارة ولدت ظاهرة الاستلاب أي إن الإنسان يعيش في حضارة تفصله أكثر فأكثر عن ذاته وعن نفسه وعن القيم الإنسانية كما كانت في حالتها الأولى عندما كانت المجتمعات بسيطة وواضحة وخاضعة لمقاييس أخلاقية، مع التطور تعقدت الأخلاق وتعقدت القيم وأصبح العنف بالضبط، العنف في مظاهره المتجلية والعديدة بما فيها الاستعمار... الخ، كل هذا أدى إلى فصل الإنسان عن تلك القيم وأصبحت قيم المصلحة وقيم الأنانية وقيم الاستئثار تبعدنا عن التصور الأولي لقيم تحقق التوازن الإنساني. طبعا الروائي الجيد الروائي الموهوب بطبيعته يشخص لنا فظائع هذا الاستلاب، أي يصور لنا سلبيات السلوكيات اللاإنسانية، وضمنيا يدافع أو يدعو إلى قيم إنسانية أخرى، عندما يدين الحرمان الجنسي وعندما يدين الاستغلال والقهر في كل تجلياته. كل هذا ضمنيا هو دعوة الى قيم أكثر إنسانية وأكثر تمدنا.
الرواية بطبيعتها تدافع عن القيم ولكن ليست القيم المتحجرة التي تستعيد الفرد وتسلب منه حريته.