الثقافة والسلطة ...وأزمة المثقف
دمشق- سلام مراد *
إن العالم دائما ً في تغير ولا يمكن أن يكون إلا ّ كذلك ، لأنه محكوم بقانون الحركة الذي هو قانون الحياة ذاتها ، فالحياة حركة على نحو ما ، وحتى حين تكون حركة هدم فهي تؤسس لحركة بناء ، وتثبت قانون التحول أو التغيير أو إعادة التكوين ، أو تجديد ذلك التكوين .
الحياة حركة ، وهذا تعبير يصدق على معظم ظواهرها وجواهرها ، فالحرارة حركة ، والسكون ـ في نظر العلم ـ نوع من الحركة . والثقافة بوجه من الوجوه هي حركة دائمة ، تتسع وتضيق تبعا ً للمفهوم الذي يعطى لها . فالثقافة في تعريف إعلان مكسيكو ( الثقافة بمعناها الأوسع هي مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعا ً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها ، وإنها تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات ) .
ومن هنا لا بد من دراسة العوامل التي تقف في وجه الثقافة وتعيقها ، والتي تؤدي إلى أزمة الثقافة والمثقفين ، وكيف يمكن إزالتها أو تجاوزها . وما هو دور المثقفين في هذا المجال . وهل هذا الهبوط المريع ، أو الركود ، في الحياة السياسية والثقافية العربية ، بمعنى ضمور دور المثقفين ، وتدجين بعضهم الآخر ... هل من شأن هذا الواقع المتعدد الأسباب ـ أن يدفع مختلف القوى الطامحة إلى التغيير ، لليأس والتسليم .
أم أن تحولات ما بعد الهزائم ستفضي إلى أشكال جديدة من الحركات والأحزاب والتنظيمات والتيارات الفكرية والثقافية ، وأنظمة الحكم .
ومع هذا ، لا بد من البحث في مستقبل الثقافة العربية ، وتبيان جذور الأزمة الثقافية وتشخيص هذه الحالة للتخلص من هذه الكوابح التي تقف حاجزا ً أمام ثقافة أكثر نضجا ً ووعيا ً وصحة .
ولعل من العوائق الأساسية التي تعاني منها الحياة الثقافية العربية والتي يجب تجاوزها غياب الديمقراطية ، وإشاعة القمع ، وترسيخ الأحادية ، وعدم القبول بالآخر ، أو بالتحاور معه .... هي من أهم أسباب الأزمات والهزائم التي تعاني منها .
لكن يجب مواجهة هذه الأزمات وليس الهروب منها أو السكوت عنها بل الوقوف عليها ودراستها من كافة الجواب والمناحي ، فمعرفة جذور الأزمة التي تعاني منها الثقافة العربية والمشاكل التي تحول دون التخلص منها ، تسـاعد على النهوض والصحوة والتغيير . وإن دور المثقّف إنما يتحدد من خلال قدرته على التأثير في المجتمع والنفوذ إلى ضميره ، وتشـكيل وجدانه ، وصوغ قيمه التي تحدد سلوكه وتحرك تصرفاته ، فالثقافة ليست نظرية علمية أو معرفية ، بقدر ما هي وجدان وعمل وتطبيق ، وبناؤها لا يتم في مدارس التعليم ولا عبر الخطب والمحاضرات إنما يتم في مدرسة الحياة .. ولا يُنجز في مراحل زمنية محددة ، إنما ينجز عبر تواصل الأجيال .. ولا يُنشأ في فراغ على أرض خاوية ، إنما هو تراكم وصقل وشحذ وتهذيب ، وتطوير ، من أجل التغيير نحو الأفضل . ولعل في الحوارية الصادرة عن دار الفكر والتي تحمل عنوان جذور أزمة المثقف في العالم العربي ويتحاور فيها الأستاذان أحمد الموصللي ولؤي صافي . تحاول أن تضع بعض النقاط على الحروف في هذا الموضوع الواسع المتشعب في جوانب الفكر والثقافة ألا وهو جذور أزمة المثقف في الوطن العربي .
يبحث أحمد الموصللي حول إشكالية الثقافة والسلطة ، ويحاول تبيان جذور الأزمة الراهنة التي يعيشها المثقف العربي عن طريق دراسة توجهاته ، سواء العلماني النهضوي أو الإصلاحي السلفي أو الأصولي الإسلامي ، ويبين الأستاذ الموصللي من خلال وقفات تاريخية وفكرية وسياسية ، تبين أبرز أسباب فشل المثقف في القيام بواجبه التنويري التجديدي أو الإصلاحي السلفي أو الأصولي الإسلامي .
كما يرى الأستاذ الموصللي ، أن العالم العربي اليوم ، ومعه المثقف ، يعاني من فقدان تلك الفكرة النهضوية الواعدة بمستقبل خال من الاستعمار والتجزئة والتبعية . فهو يقف اليوم حائرا ً أمام انشطار الدولة إلى تركيباتها البدائية ، من عشائرية وطائفية ومذهبية وقطرية ، وكذلك فاقد الأمل من فقر المجتمع ، إلى دعاة القومية والليبرالية والاشتراكية والإصلاحية ومشاريعها وإفلاس مشاريعها الاقتصادية .
إن المثقف الليبرالي لم يتمكن من الاندماج عضويا ً في مجتمعه ، مما منعه من إنتاج وعي مجتمعي قادر على التغيير أما المفكر القومي ، ومعه القومية ، فقد عاش ـ كما عاش المفكر التقليدي ـ في حالة عقائدية ، لا عقلانية ؛ ومع أن الفكر القومي ، وضع في أغلب الأحيان ، شعار العلمانية في التسويغ الديني ، عبر محاولته علمنة الدين الإسلامي ، الذي هو في حد ذاته نفيا ً للعلمانية بالمفهوم الغربي ، إلا أن فكرة النهضة تحولت إلى فكرة تنموية مسطحة ، تغاضت فيه عن مسائل التخلف والاستبداد والوعي . فالاشتراكية مثلا ً ، عملت في العالم العربي على تبرير الاستبداد ، وقمع الوعي باسم العدالة الاجتماعية ، متجاهلة البعد الإنساني والاجتماعي والديني للمجتمعات العربية .
فكانت التنمية عملية مشوهة وغير قادرة على تحديث أسس المعاش الاجتماعي والسياسي ؛ كما لم تتمكن من خرق الوعي التقليدي السائد ، لأنها لم تُبن َ على أساس معرفي حقيقي بل على تهميش الوعي وتقليد الغرب .
ولتعزيز كلامه يستشهد الموصللي بكتابات بعض المفكرين والكتــاب ، فــــبـرهان غلــــيــون في ( اغتيال العقل العربي ) يصور محنة الثقافة العربية على أنها تدور بين السلفية والتبعية ، إلا أنه يعتقد أن التراث يشكل ثقلا ً نوعيا ً ، يمنع الجـماعة من التـحول إلى ورقة في مهب الريح والجريان وراء كل بدعة وصرعة ، وهذا يـشكل قيدا ً على النخبة التي يمكن أن تجنح مع غياب أي مقاومة ثقافية ، وتقوية لسلطتها .
أما رضوان السيد فيرى أن الفكر العربي المعاصر ورث هيمنة وطغيان المسألة السياسية ، وعدم الاهتمام بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية من الفكر الإصلاحي . إذ إن الفكر العربي اعتبر أن الدولة هي مفتاح التقدم . فعمليات التحرر والتقدم ، كما هو حال الاستبداد والتخلف ، ارتبطت مع قيام وزوال الدول . وينطبق هذا النقد عند السيد على جميع المفكرين في العصر الحديث ، من الطهطاوي والتونسي والأفغاني والكواكبي ، ولطفي السـيد ، إلى حسن الــبنا ، وسيد قطب ، مرورا ً بزكي الأرسوزي ، وميشيل عفلق . فالأستاذ الموصللي يقول إن طغيان المسألة السياسية في الفكر الإسلامي ليس بالأمر الجديد ، بل يمكننا القول : إنه من تراث الفكر الإسلامي في العصر الوسيط ، حتى أن ابن خلدون ربط قيام وزوال الأمم والحضارات ، أو الانتقال من البداوة إلى الحضارة بالأنظمة السياسية ؛ كما ربط الفقهاء الكبار ، من أمثال الماوردي ، وابن تيمية ، وابن جماعة ، مشروعية تطبيق الشرعية بوجود أي سلطة سياسية ، حتى ولو اُغتـصبـت الخلافة ، فلم يهتم هؤلاء الفقهاء وغيرهم من علماء الدين في الأمور المعرفية الحقة ، بل كان جل اهتمامهم منصبا ً على مسائل السلطة وتفريعاتها ، وضرورة تطبيق الشريعة ، وبأي ثمن .
أما المفكرون المهتمون بشؤون المعرفة الحقة ، والجدل بين الديني والدنيوي ، والمعرفة الدينية والمعرفة العـقــلية ، فقد تم تهميشهم وتغيبهم ، وكذلك تم تهميش المجتمع ( أو الأمة ‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍) . وهذا التهميش مازال قائما ً حتى اليوم ، سواء في الدولة العربية الإسلامية ، التي تجد مشروعيتها في الفكر الإسلامي التاريخي الفقهي ، والسياسي المنقطع ، عن شجون وشؤون العصر ، أو الدولة العربية القومية ، التي تستمد شرعيتها من فكر قومي علماني مقطوع عن شجون وشؤون المجتمع ، وكذلك مرتبط عن قناعة أو عدمها بالعالم الغربي المهيمن على كل الأمة العربية .
كما يتابع الأستاذ الموصللي بالقول أن عمق الهزيمة الحضارية مع الغرب ، أدى إلى نشوء وعي مشوه ، لم ينظر إلى الاستبداد بوصفه ركن الانحطاط ، بل اعتبر أن الدين هو سبب هذا الانحطاط ، فولد أزمة هوية ، لم تتمكن الهوية الوطنية والقومية من تجاوزها ، وتحول الاستبداد الفكري والسياسي إلى مشروع لنهضة الأمة عبر القومية العلمانية المفروضة من نخب تقطعت وانقطعت عن الفئات الشعبية ، فتحول المجتمع إلى مجتمع بطريركي حديث ، وظفت فيه الدولة المثقفين من أجل إنتاج أيدلوجيا استبدادية شعبوية ، تبيح تدمير المجتمع الأهلي وقواته وممثليه ، وإنتاج مجتمع معولب على طريقة النخب العشائرية والطائفية والعائلية ، في هذا الواقع فقد المثقف الليبرالي قدرته على التأثير في المجتمع الذي اعتبره تقليديا ً ، والدولة التي اعتبرته تابعا ً لها .
أما الأستاذ لؤي صافي فيرى إن الحوار والتبادل والتوفيق عمليات أساسية في سيرورة النمو الفكري والثقافي والحضاري للإنسان ، فكل الحضارات الإنسانية المعروفة اعتمدت على عملية التوفيق من خلال عملية تركيب نقدي لإسهامات ثقافية وحضارية إنسانية . والتركيب النقدي مقاربة علمية نظرية تهدف إلى استيعاب الأبعاد الكلية الإنسانية في النتاج الفكري والثقافي للمنظومات الفكرية الحضارية المختلفة . إذ تظهر المراجعة التاريخية لأنساق التطور الحضاري أن الحضارة الناهضة تسعى دائما ً إلى استيعاب منجزات الحضارة الغابرة عبر عملية نقد بّناء ينتهي إلى التوفيق بين العناصر الكلية الإنسانية في الحضارتين . بعبارة مكافئة نقول إن المنظومات الحضارية والثقافية والفكرية الناهضة تعمد إلى استخدام العناصر ذات القيمة الإنسانية الكلية في المنظومات السابقة عليها في تطورها الذاتي ، وتقوم بترتيبها في فضائها المعرفي وفق معاييرها الخاصة ، لذلك نجد أن الحضارة الإسلامية الناهضة قد استوعبت تاريخيا ً إنجازات الحضارة الإنسانية السابقة عليها ( كالحضارة الفارسية واليونانية والهندية إلخ)
من خلال تركيب نقدي ، كما نجد المقاربة عينها تتكرر في سيرورة النهوض الحضاري الغربي .
ويستنتج الأستاذ الصافي إن هناك أبعادا ً خفية للمواقف الرافضة للتوفيق والتركيب بدعوى رفض التلفيق ، فالموقف الماركسي أو الليبرالي الرافض للتوفيق يخفي بين جنبيه رؤية أحادية استلابية ، تفتقد الأصالة الفكرية الداعية إلى فهم علاقة الذات بالآخر ، وتتبنى المنظومات الماركسية والليبرالية ذات الخصوصيات الغربية ، ولا ترى حاجة إلى إخضاع هذه المنظومات إلى معايير مرتبطة بقيم الأمة وتجربتها التاريخية ، بل تسعى إلى فرض الإطار المرجعي المستعار على الوعي القيمي والتاريخي لأبناء الأمة العربية والإسلامية ، فرفض التوفيق الذي يسميه الاتجاه التغريبي تلفيقا ً هو في حقيقته رفض للمرجعية الإسلامية جملة وتفصيلا ً ، ودعوة لتبني المرجعية الغربية بشقيها الماركسي والحداثي ( الليبرالي ) ، جملة وتفصيلا ً .
ويسأل الصافي سؤالا ً يراه مشروعا ً " هل ثمة اتجاه توفيقي ضمن فئة المثقفين العرب ؟ " ، بيد أنه من الملاحظ أن أصحاب الرؤية الأحادية الغربية يعمدون إلى تجاهل هذه النزعة في الفكر العربي والإسلامي الحديث ، ويعمدون إلى وضع الجواب وضعا ً حديا ً ينتهي إلى وضع التراث في الجهة المقابلة للحداثة ، وترجيح الأخيرة ، فتصـنيـف محمد أركون للمثـقـفـيـن المـســلمين إلى " التحـديـثيون المنفتحون على تأثيرات الثقافة الـغـربية أو الاشتراكية العلـمية ، " و " التقليديون الملتصقون بالقيم الإسلامية " هو من هذا القبيل ، ولهذا يرى صافي أن رفض الموصللي لمشروع إسلامية المعرفة الذي يعتمد مقاربة التكامل المعرفي والتركيب النقدي يصب في إطار تكريس ثنائية التراث والحداثة كما يقدمها دعاة الحداثة الغربية .
الكتاب : جذور أزمة المثقف في الوطن العربي
الكاتب : الدكتور أحمد الموصللي والدكتور لؤي صافي
الناشر : دار الفكر دمشق 2002
* ص . ب 6380