العولمة النيوليبرالية
*سلام مراد
العولمة مصطلح جديد، لم يظهر إلا في عقد الثمانينات من القرن العشرين، وشاع شيوعاً كبيراً في التسعينات، لكن نظامها قديم قدم الرأسمالية ذاتها، فالعولمة ليست إلا إفراغ خمر قديم في آنية جديدة، العولمة قديمة تاريخياً، لكن الذي يتجدد هو وسائلها، فالاستعمار القديم كان يمثل لوناً من ألوان العولمة، لكنه لم يتمكن من تجاوز المفهوم العسكري حسب استنتاج د. حسن عبد الهادي صاحب كتاب: العولمة النيوليبرالية وخيرات المستقبل، وذلك بسبب قوة الحصانة الإسلامية، وإن كان حصل بعض الاختراقات الثقافية في الهوية الإسلامية من خلال تطور الوسائل في القرن العشرين، ومختصر القول: إن العولمة هي مصطلح جديد لمفاهيم قديمة.
ومن المؤسف كما يبين د.حسين عبد الهادي أن يرى بعض الكتّاب العولمة وكأنها قضاء وقدر لا راد له، ويدعون إلى التكيف معها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وهؤلاء لم يميزوا بين التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات التي هي عملية حضارية تسير في اتجاه النمو المتسارع لتقريب أبعاد العالم، وبين المشروع الأيديولوجي الليبرالي الرأسمالي الذي يحاول منظرو العولمة تعميمه على العالم في عملية تنميط أحادي من قبل أمريكا ومن يدور في فلكها.
فالخلاف ليس في البعد الأول وإنما في البعد الثاني، فلا بد من التمييز بين عمليات العولمة وأيديولوجيات العولمة التي هي في غاية الخطورة على الشعوب والأمم.
ويبين كاوتسكي حقيقة الرأسمالية الجدية عندما يعبر عن السوبر إمبريالية الممكنة مستقبلاً، ويصف سياساتها المحتملة في المستقبل بقوله: من وجهة النظر الاقتصادية الصرفة، ليس من المستحيل دخول الرأسمالية في طور جديد في المستقبل، طور مد سياسات الكارتيلات لتشمل السياسة الخارجية، إنه طور الإمبريالية العليا، أو السوبرـ إمبريالية، الذي يجمع إمبرياليات العالم كله في اتحاد واحد، إنه طور الاستغلال المشترك للعالم من جانب الرأسمال المالي المتحد دولياً، يرى د.حسين عبد الهادي أن ما يطرحه كاوتسكي قد يكون مقبولاً إلى مرحلة معينة بين الدول الرأسمالية في اشتراكهم في تقسيم الكعكة، ولكن لن يدوم هذا التفاهم طويلاً، لأن النظام الرأسمالي في الأصل قائم على التنافس والتناحر والحروب، والذي يردع هذه الدول من شن الحروب فيما بينها هو توازن أسلحة الرعب، فأي خطأ سيقضي على الجميع بدون استثناء.
إن العولمة التي تبدو وكأنها فاجأتنا في عالم العرب، هي ليست ظاهرة معصرة مفاجئة بقدر ما هي ظاهرة تاريخية حديثة منذ بزوغ الرأسمالية في مرحلتها التجارية، ومن ثم الثورة الصناعية، فالرأسمالية واقتصادات الإنتاج الوفير الذي حققته الثورة الصناعية لا يمكن أن تستمر وتزدهر إلا إذا كانت ساحتها العالم كله، فمنذ بداية الرأسمالية كان التناقض الأساسي الذي حكمها هو التناقض بين عالمية الاقتصاد وإقليمية السياسة، فقد سعت الرأسمالية منذ البداية إلى عالمية السوق، بينما السياسة بالضرورة إقليمية، تحدها حدود الدولة القومية، وحدود السياسة، ومن ثم فقد كان التناقض الأساسي للرأسمالية هو مع الدولة القومية، والقيود التي تفرضها هذه الدولة داخل حدودها الإقليمية، حيث تمارس سياساتها، ولقد حاولت الرأسمالية ونجحت في الكثير من الأحيان في الالتفاف حول الدولة القومية بأنظمتها المالية والنقدية والتشريعية المختلفة، بل استطاعت في كثير من الأحيان استخدام الخلافات القائمة بين الدول القومية في هذه المجالات لصالحها، إلا أن الدولة القومية بقيت في نهاية الأمر عائقاً أمام مقتضيات توسيع السوق، وتوحيد النظام القانوني والمالي الذي يحكمه.
ولا ننس في النصف الثاني من القرن العشرين الحرب الباردة، والقطبية الثنائية، التي كانت تحفظ التوازن في العالم بين القوى، أو النظم الرئيسة والقوى والنظم الفرعية، فكانت أمريكا والاتحاد السوفيتي في صراع على عولمة العالم كل حسب نموذجه.
النموذج الرأسمالي يريد تحقيق أممية راس المال من خلال المنافسة والتدمير الخلاق، وتحرير التجارة من القيود الجمركية وغيرها.
والنموذج الشيوعي الموجه الذي لا يعترف بالمنافسة، ويدعو إلى أممية البروليتاريا، وإلغاء الدولة في نهاية المطاف، والذي هو مطلب عولمي الآن.
فالطرفان في نهاية المطاف يدعوان إلى إلغاء الدولة، ولذلك هما وجهان لعملة واحدة، لأنهما نابعان من فلسفة واحدة هي الفلسفة المادية الغربية.
إذاً الحصيلة النهائية لكل من الشيوعية والرأسمالية، والغاية النهائية لهما هي إلغاء الدولة للوصول إلى العولمة الكاملة، وكلاهما يؤدي إلى النتيجة نفسها هي الفساد.
وبعد سقوط النموذج الشيوعي، وجدت أمريكا نفسها وحيدة في قيادة العالم في غياب المنافس الحقيقي، وبالتالي كان لا بد من فرض قيود وقوانين تحد من المنافسة، لتجعل الضعيف ضعيفاً ومستهلكاً والقوي قوياً ومنتجاً، وكان لا بد من "الجات" منظمة التجارة العالمية، حتى يكتمل الثالوث المتضمن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لتكّبل الدول الفقيرة بالقواعد والنصوص القانونية، واتفاقيات لا أحد يستطيع أن يناقشها، بل الجميع يذعن لها ويوقع عليها.
ومع ظهور الشركات المتعددة الجنسيات، والانتقال إلى مرحلة دولية الإنتاج، ومع اشتداد أزمة الرأسمالية مع بداية السبعينات، واشتعال المنافسة بين دول المركز، أصبح من الضروري إقصاء الدولة القومية نهائياً عن الطريق، حتى يفتح الباب واسعاً أمام تكوين سوق عالمية موحدة بالكامل لأول مرة في تاريخ الرأسمالية، ومن هنا كانت مرحلة العولمة التي وصلت إلينا متعلقة بأيديولوجيا السوق الحرة، والتدمير الخلاق، وقميص القيد الذهبي، إلى جانب رفع شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية، والقرية الكونية، وحماية البيئة، ووحدة الإنسانية، وما كانت هذه الشعارات إلا أوهام عولمية روج لها مراكز البحث في الدول الرأسمالية وخاصة أمريكا، ورددها التغريبيون في عالمنا العربي والإسلامي، فالواقع غير ذلك تماماً، وهو يفضح دعاوى الانتقال إلى رحاب الإنسانية الواسعة.
نعم، يبذل الرأسماليون قصارى جهدهم للاستيلاء على العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفق النموذج الليبرالي الجديد، ولكن هل سينجحون في جهودهم ويستسلم العالم لمخططاتهم؟ هذا ما سيجيب عليه القرن الواحد والعشرين، حيث نرى بدايات المعارضة لزعيمته الرأسمالية أمريكا، التي تقود المرحلة العولمية، وما هي إلا بدايات النهاية للرأسمالية ذاتها كنموذج وفلسفة ومبدأ.
الكتاب: العولمة النيوليبرالية وخيارات المستقبل.
الكاتب: د. حسين عبد الهادي.
الناشر: مركز الراية للتنمية الفكرية ـ السعودية 2004.