الصحابي الكبير “حمزة بن عبد المطلب” يستدرجني إلى أكبر مغامرة في حياتي (!!) بقلم أسامة عكنان



سنتا عمره اليتيمتين في المدينة دفعتاني إلى سبر أغوار أربعة عقود من عمره قبل الإسلام (!!)

فوجدت نفسي أنساق إلى تجربة قلبت لديَّ كل مكونات وعيي بـ "العرب" و"العروبة" وعلاقتهما بـ "الإسلام" (!!)

أسامة عكنان

منذ قرابة ثماني سنوات طلب مني أحد منتجي الدراما المنفذين في الأردن أن أكتب مسلسلا عن الصحابي الكبير "حمزة بن عبد المطلب" لحساب قناة تلفزيونية عربية فائقة الغنى.

وعندما طلبتُ منه إمهالي مدة ثلاثة أيام للتفكير الأولي، كي تتضح أمامي معالم مشروع كتابة نص درامي عن هذا الصحابي المتفرد، وافقني على ذلك، لأخلوَ بنفسي وأبدأ بالتفكير في ضوء المتاح بين يدي من معلومات حول الشخصية.

مباشرة وبدون تعقيدات اتضحت لي حقيقة فارقة في حياة هذا الصحابي الذي حظي بلقب "أسد الإسلام" و"أسد الله".. إلخ، والذي كان لاستشهاده في "أُحُد" وقعُ الزلزال، حتى لكأنَّ "موقعةَ أُحُد" كانت هي واستشهاد حمزة حدثا واحدا.

وهذه الحقيقة الفارقة هي أن "حمزة بن عبد المطلب" الذي استشهد عن عمر قارب في أرجح الروايات الـ "57" عاما، عاشَ من حياة المسلمين في "المدينة المنورة" أقلَّ من عامين رحل بعدهما شهيدا.

ولأن المرحلة المكية في حياة المسلمين الأوائل كانت بكلِّ المقاييس أقلَّ ثراءً في الأحداث والتقلبات وفي السيرورة من المرحلة المدنية، رغم أن هذه الأخيرة أقصر منها بثلاث سنوات (!!)

ولأن الحديث عن شخصيةٍ عظيمة من شخصيات الإسلام الأولى لا أثر يُذْكَر لحياتها في المرحلة المدنية الثرية، وكل حياتها كانت في المرحلة المكية، هو حديث مشوب بالمخاطر وبالتحفظات الدرامية (!!)

فقد كانت لهذا المشروع الدرامي خصوصيته. إذْ ما عسى لكاتبِ السيناريو أن يقول عن شخصٍ مُحَدَّد عاش كلَّ حياته الإسلامية تقريبا في مكة، على نحوٍ يغطي ثلاثين حلقة تلفزيونية (؟!)

كانت هذه الحقيقة المفارقة معضلة حقيقية أحسَبُها هي التي وقفت مطولا عائقا أمام كل محاولات التجسيد الدرامي لهذه الشخصية الفذَّة من قبل كلِّ المنتجين رغم حرصهم على ذلك.

وهي قد استوقفتني فعلا، ورحت أبحث لها عن حلٍّ أمام واقعة أن المطلوب هو سيناريو مسلسل يتكون من ثلاثين حلقة تلفزيونية، وبمجموعٍ لا يقل عن اثنين وعشرين ساعة بث تلفزيوني، كما جرت العادة منذ أن أصبحت الأجور تدفع للممثلين وللفنيين وللمخرجبين وللكتاب بوحدةٍ احتسابٍ للأجر هي الحلقة أو الساعة التلفزيونيتين.

ازدادت المعضلة ضغطا عليَّ عندما أكَّدَت لي تقديراتي الفنية الدرامية استحالة إنجاز سيناريو متماسك ومحترم فنيا عن شخصية "حمزة بن عبد المطلب" ويليق بمكانته بوصفه شخصية إسلامية رائدة عالية المقام، في أكثر من "سبع حلقات" تلفزيونية فقط لا غير.

فما العمل (؟!)

تفتَّق ذهني بعد تأملٍ طويل استهلك الأيام الثلاثة التي طلبتُها من المنتج المنفذ، عن فكرةٍ غريبة وغير مسبوقة وتكاد تكون مجنونة، إذا ما أخذنا في الاعتبار معايير وسياسات منتجي الأعمال الدرامية التاريخية الإسلامية. وقد قامت هذه الفكرة على التوصيف التالي:

إذا كانت حياة "حمزة بن عبد المطلب" التي امتدت على مدى 57 عاما، قد انقسمت إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة ما قبل إسلامه وهي "45" عاما، منها "42" عاما قبل بعثة الرسول الكريم عليه السلام، و"3" سنوات بعد بعثته وقبل أن يسلم، ثم مرحلة إسلامه وهي "12" عاما، منها "10" سنوات في مكة، وأقل من سنتين في المدينة قبل أن يستشهد في "موقعة أُحُد"، فلماذا لا أتَّخِذُ من عمره التكويني الأساس والأهم وهو الـ "42" عاما التي قضاها قبل بعثة الرسول في مجتمع مكة، حقبة زمنية أعرض فيها واقع العرب ومكة والتغيرات والتطورات والثقافة التي كانت تعتري ذلك الواقع وتهيمن عليه مُمَهِّدَة للرسالة الإسلامية بالتالي، وذلك من خلال حياة "حمزة" نفسِها كشخصية رئيسة ومحورية في العمل الدرامي، ما يعني أنني سأجد مادة تاريخية ثرية جدا أُؤَسِّسُ بها لا لحياة الصحابي العظيم حمزة فقط، وإنما لمرحلة ما قبل البعثة برمتها، وهو ما يجعلني أتمكن من صناعة سيناريو مسلسل قوي ومتماسك وثري بالأحداث وفريد من نوعه، ولم يعالَج من قبل بهذا التوصيف الخاص، عن هذه الشخصية تغطي الحلقات الثلاثين المطلوبة (؟!)

وبالفعل فقد اتخذت قراري بذلك، وأخبرت المنتج المنفذ بأن الحلَّ الوحيد لإنجاز عمل تلفزيوني عن "حمزة بن عبد المطلب" في ثلاثين حلقة، يكمن في أن يكون عملا يغطي مدة زمنية تمتد إلى ما قبل الإسلام بأربعين عاما في قراءةٍ مُعَمَّقَة للمجتمع العربي عامة والقرشي خاصة قبيل بعثة الرسول الكريم عليه السلام.

وأوضحت للرجل أنه في حال موافقته على هذا النهج فإن عليه أن يتوقع حاجتي إلى مدة زمنية لا تقل عن ثلاثة أشهر، وقد تصل إلى ستة أشهر، بمعدل قراءة عشر ساعات يوميا قد تصل إلى خمسة عشرة ساعة، في تاريخ العرب ومكة وقريش في تلك الحقبة من الزمن، من كافة المظان والمراجع، قبل أن يتسنى لي البدء بكتابة أولى حلقات سيناريو هذا المسلسل.

ولأن القرار لم يكن بيده، فإنه استشار القناة المموِّلَة، وجاءت الموافقة على الأمر عندما تمَّ التأكيد على أن هذا الحجم من القراءة مطلوب لهكذا عمل، وبالفعل بدأتُ المسيرةَ الشاقة والمضنية والمتعبة والمثيرة التي هي جوهر فكرة هذا المقال العجيب الذي أتمنى أن أوفَّق من خلاله في إيصال عصارة الفكرة التي تمخضت عنها إطلالتي على تلك الحقبة "المُضْطَهَدَة" من الزمن، "بفتح الهاء وليس بكسرها".

قرأت عشرات الكتب والمراجع، واعتمدت على بعض الأمهات منها، واتبعت أسلوب التقاط واصطياد الفسيفساء المثيرة المفارقة والمتناثرة بين كمٍّ هائل من الوقائع والتواريخ التي ورثناها كمسلمات، لأصنع منها قصة أو حكاية، ولكي أفهم منها الحقيقة والوقائع كما هي حتى لو لم تكن بالضرورة كما تلقيناها وتعلمناها وورثناها، جعلت من القرآن الكريم مرجعا أعلى يحاكمُ الوقائع المنقولة إلينا بجهدٍ بشري، قد يكون قاصرا وغالبا ما يكون منحازا.

ومع كل يوم كان ينقضي في عمر تلك المطالعة الفريدة على مرحلة من التاريخ عانت من كل أنواع التشويش والتشويه، كنت أزداد اهتماما وتعلقا بالفكرة التي جرتني إلى هذه المسيرة المتعبة، وكنت أزداد يقينا بأن صفتي "الاضطهاد" و"الظلم" هما أقل ما يمكن أن يطلق على "تاريخ العرب قبل الإسلام"، لا من حيث أن العرب كانوا ظلمةً ومضطهِدين، بل من حيث أن كلَّ من تعرض لتاريخهم هو الذي ظلمهم واضطهدهم وزوَّر حياتَهم وزيَّفها وألصق بها كل الأكاذيب والنقائص المتصورة.

اندهشت وذُهِلْت وارتبكت وقلقت وتوترت (!!)

حقدت وشعرت بالحنق والغيظ على كلِّ كتاب القصص والأساطير التاريخية، عندما تبين لي من خلال إطلالة سريعة ذات طابع استكشافي تجميعي شديد الصعوبة على ما يزيد عن "20" ألف صفحة من صفحات التاريخ العربي، أننا نعيش منذ ألف وأربع مائة عام أكبر كذبة زيفَت وعينا، وزورَت تاريخَنا، وتجنَّت علينا، لنرددَها كالببغاوات دون أن ننتبه إلى أننا نكذب على الله ونهينُه ونمتهن نبيَّه وكتابَه ودينَه قبل أيِّ شيء آخر.

لقد اكتشفت عربا آخرين غير الذين عرفتهم وسمعت عنهم مدى حياتي (!!)

وغير الذين تعلمت عنهم ما تعلمته في المدارس والجامعات (!!)

وغير الذين قرأت عنهم في كتب القوميين والإسلاميين والشعوبيين والمستشرقين والمستغربين على حدٍّ سواء (!!)
وغير الذين أتحفتنا بهم كتابات كاتب ومفكر كبير مثل "محمد عابد الجابري" الذي سجنهم في زنزانة أطلق عليها "القبيلة والعقيدة والغنيمة" في مؤلفاته عنهم، مروِّجا لأكبر كذبة أُريدَ لنا أن نعتنقَها ونحياها ونؤمن بها منذ أربعة عشر قرنا، بربط إيماننا بها بإيماننا الديني نفسه، والذي اعتبر إيمانا غير قائم ولا مُنجَزٍ إلا بإهانة هؤلاء العرب، وتصورهم على أبأس وأقمأ ما يكونون (!!)

وغير الذين عبأتنا بتصوراتها عنهم موروثاتُنا الدينية بكلِّ أطيافها السُّنِّيَّة والشيعية والخارجية (!!)
وغير التي مَجَّدنا لأجلها رجلا ومفكرا ومؤرخا كبيرا مثل "ابن خلدون" في كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، وفي "مقدمته"، لمجرد أنه وصف العرب بأعداء الحضارة والنافرين منها، وبأن الإسلام هو فقط الذي جعل منهم بشرا لهم قيمة أخرجتهم من جلافة البداوة (!!)

نعم لقد اكتشفت عربا آخرين مختلفين تماما عن هؤلاء الذي عرفتهم في كلِّ تلك المرجعيات التي ذكرتها (!!)

فما الذي اكتشفته يجعلني أقول ما أقوله (؟!)

دعوني قبل أن أبدأ بسرد ما اكتشفته وما عرفته وما لملمته من الفتات المتناثر على شكلِ قطعٍ فسيفسائية مُمَزَّقَة بقصد إخفاءِ معالمها الحقيقية لتندثر في فسيفسائيتها تلك كلُّ معالم الأصل.. أقول.. دعوني أخبركم بما آل إليه مشروع المسلسل بعدما كتبت منه الحلقات الثماني الأولى بذهنية من اكتشف تلك الاكتشافات الخطيرة عقب مرور أكثر من خمسة أشهر من القراءة والتنقيب الأقرب إلى مغامرة شديدة الإثارة.

لقد رُفِضَ العملُ وتمَّ طيُّه وصُرِفَ النظر عن إنتاجه، وكان تبرير الرفض من أغرب ما يمكن أن يردَ على لسان "عربي"، لقد قيل بالحرف الواحد:

"إن كانت السيناريو يُمَجِّد العرب، ويظهرهم على غير حقيقتهم التي تؤكد على أن الإسلام وحده هو الذي رفعهم، وأنهم قبله لم يكونوا شيئا يُذْكر، والمؤلف على ما يبدو قومي يريد أن يستغل هذا العمل الدرامي لتمرير رؤية تاريخية تعطي العرب أكبر من حجمهم، وأكثر مما يستحقون" (!!)

وبقيت الحلقات الثماني في أدراجي وعلى القرص الصلب في حاسوبي تئن من وطأة التَّجَني على عربٍ حاولتُ إنصافَهم بعد ما أذهلني حجم الظلم الذي تعرضوا له من قبل المسلمين أنفسهم، وعلى رأسهم المسلمون العرب في المقام الأول، بعد أن تقبل هؤلاء كلَّ الروايات التي وُضِعَت عنهم من قبلِ أعداء الإسلام، وأعداء العروبة، دون أن يمحصوا أو يفكروا.

ما علينا بخصوص مصير المسلسل، ولننتقل إلى جوهر القصة، وإلى لب القضية، وإلى فصول المأساة التي لن تقوم لنا قائمة في هذا الزمن، ما لم نُعِدْ صياغة تاريخنا العربي والإسلامي بعيدا عن مكوناتها المدمرة.

إن الإلمام بكافة التفاصيل في مقالة أو اثنتين أو حتى عشرة أمرٌ غير مقدور عليه، فهو يحتاج إلى جهد باحثين كثر يعيدون قراءة ما قرأته وما لم أقرأه، في ضوء مكونات وعناصر الرؤية الفلسفية الجديدة التي توصلت إليها في هذا المقام، بقصد إعادة إنتاج تاريخنا على نحو موضوعي بعيد عن التلفيق والتزوير والمنطق العدائي العنصري الظالم لكل ما هو عربي أو عروبي.

لكني في هذا المقال سوف أقوم بطرح الأسئلة التالية التي سأحاول الإجابة عليها في مقالات لاحقة، راجيا أن تكون هذه الأسئلة بمثابة البوصلة التي توجِّه القارئَ إلى ما أنتوي عرضه وإثارته، كي يستعدَ لتلقي قنابل فكرية وتاريخية وتحليلية لم يتعوَّد عليها في حياته:

1 – هل كان العرب عامة والقرشيين خاصة تجارا طفيليين يعتاشون على الوساطة والسمسرة وامتصاص دماء الآخرين، أم أنهم كانوا أرباب صناعة يقدسون العمل ويحترمون الصناعة، ولا يحترمون المال المتأتي من تجارة ليس أساسها العمل المنتج، وإن يكن بالمعايير المتاحة لهذه المفاهيم والمصطلحات والمعاني في تلك الأزمنة (؟!)

2 – هل كان العرب أهل ديمقراطية حقيقية وشورى ملزمة، أم أنهم كانوا أهل استبداد وجبروت وتسلط (؟!)

3 – هل كانت المرأة عند العرب مهانة أم عالية المقام محترمة العقل، وهل كانوا فعلا يئدون المولودات باعتبار الوأد ظاهرة منتشرة، أم أن هذه مجرد أكاذيب، وأن إشارة القرآن إلى الوأد كانت بمثابة إشارة إلى حالة فردية عابرة مستعظمة لتعارضها أشد التعارض مع قيم العرب والعروبة، فأخذت كل هذا الحيِّز رغم أنها حادثة أحادية عابرة (؟!)

4 – هل كان العرب يتعاملون مع العدل والحقوق بشكل إنساني ومؤسسي وعام، ويرفضون أن يَظْلِمَ أحدٌ أحدا وأن يعتديَ أحدٌ على أحد، أم لا (؟!)

5 – هل كان العرب أمة متعلمة ومثقفة، أم أنهم أمة أميَّة جاهلة وعشوائية المعرفة (؟!)

6 – هل كان العرب يتمتعون بقيم الرجولة والفروسية والسمو الإنساني أم أنهم كانوا قطاع طرق ينتهجون القتل والنذالة طريقا وسبيلا للحياة والكسب كما تمَّ تصويرهم من قبل الكثيرين (؟!)

7 – هل كان القتل عند العرب أمرا ميسورا ومستسهلا، أم أنهم كانوا يقدسون حرمة الدم، وبالتالي فهل فعلا كانت حياة العرب قائمة بالأساس على الغزو والقتل وسفك الدماء، وأن حرب داحس والغبراء وحرب البسوس كانت تجسيدا لهذه الروح، أم أن هناك تصويرا غير موضوعي في هذه المسألة تجب إعادة النظر فيه لوضع الأمور في نصابها الذي يؤكد على أن تلك الحروب المدعاة لا أساس لها من الواقعية، وأنها مجرد أساطير موروثة يتم تداولها ليس إلا (؟!)

8 – هل تعرض المسلمون في مكة فعلا إلى الاضطهاد والقتل والتعذيب وسفك الدماء على يد المشركين، أم أن هذا مجرد افتراء وتزييف للتاريخ، فهل عُذِّبَ بلال، وهل قتلت سمية وقتل ياسر، وهل اضطهِدَ مصعب بن عمير، وخباب بن الأرت والكثير من ضعفاء وفقراء المسلمين، وهل فعلا هناك الكثيرون تعرضوا للأذى الجسد والعنف البدني على النحو الذي بلغتنا به الروايات، أم أن المسألة كانت أبعد ما تكون عن ذلك بكثير، وأنها لم تكن تتجاوز المناكفات بين المختلفين في مجتمع يؤمن بالآخر وبالتعددية الدينية، لكنه يخشى على منظومة مصالحه الطبقية الثابتة وقيمه الموروثة (؟!)

9 – هل فعلا وصفَ "جعفر بن أبي طالب" العربَ أمام ملك الحبشة بأنهم "قتلة، قاطعو أرحام، مسيئون للجوار، آكلو ميتة" أم أن هذا كذب وافتراء لا أساس له من الصحة، مادام العرب أصلا ليسوا كذلك، بل هم على العكس منه تماما. وإذن فلماذا يتم تقديس مثل هذه الرواية والتمسك بها، رغم كذب مضمونها الصُّراح، أليس في ذلك دليل واضح على الحرص على إهانة العرب بما ليس فيهم وبما ليس من شِيَمِهم وقيَمِهم أصلا، ليكون جزءا لا يتجزأ من الدين ومن وعينا الديني ذاته (؟!)

10 – هل كانت لدى العرب أيُّ نزعات عدوانية وتوسعية وتسلطية على الأمم الأخرى، أم أنهم كانوا سادة التسامح والاعتراف بالآخر، ولهذا استحقوا حمل الرسالة (؟!)

11 – هل اختار الله العرب لحمل رسالة الإسلام لأنهم جهلة متخلفين بدائيين كي يثبت لنا أن الإسلام قادر على النهوض بأحطِّ الأمم، أم أنه اختارهم لأنهم وحدهم من بين كلِّ الأمم والشعوب كانوا مؤهلين لحمل الرسالة ونشرها في كلِّ أصقاع الدنيا بسبب صفاتهم الأخلاقية والإنسانية من جهة، وبسبب توافر متطلبات حمل الرسالة فيهم من جهة أخرى انسجاما مع مقولة القرآن الخالدة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وتناغما مع مبدأ "الناموس" و"السنن".. إلخ، وهي منظومات القواعد التي تؤسس لصناعة التاريخ وتطويره بشكل موضوعي بعيدا عن المعجزات والخرافات والأساطير (؟!)

12 – هل يعد أمرا عابرا لا دلالة فيه على القدرة على تأثير العرب على الآخرين، أن يدين نصف العالم الأكثر فعالية بأديان سماوية هي منتجات دينية قيمية نشأت وتطورت ونمت وترعرعت في حاضنة "العرب" و"العروبة" في الأساس، قبل تحريفها وتزويرها وتغيير صفائها ونقائها وتحويلها إلى أدوات قتل وعنصرية واستعلاء على الآخرين (؟!)

13 – هل الأمة الفارسية التي لم تكن لغتها تكتب، والتي عندما قرَّرَت كتابتها لم تجد لها سوى الحرف العربي، تعتبر أكثر تقدما ورقيا وتحضرا من العرب الذين عرفوا الخط والكتابة منذ أزمنة سحيقة، وتمكنت لغتهم من إثراء لغات أباطرة العالم وسادته ودهاقنته آنذاك (؟!)

14 – هل الرسول الكريم "محمد بن عبد الله" عليه السلام كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وأن الله أراد باختياره بهذه الأمية دليلا على إعجاز دينه، وأنه لو اختاره غير أمي فإن هذا سيشكك في مصداقيته، أم أن هذا الرجل العظيم كان عميدا حقيقيا لكل متعلمي العالم ومثقفيه، وذا رؤية ثاقبة وشديد الحنكة والوعي بكل متطلبات السياسة والتغيير في زمانه، وأن الله اختاره نبيا ورسولا لهذه الأسباب بالإضافة إلى أسباب أخرى بطبيعة الحال (؟!)

15 – هل فشلت ألفا سنة من النبوات والرسالات التي كانت تفعلُ فعلَها الأخلاقي والقيمي والرسالي الإيجابي بالثلث الغربي من جزيرة العرب بشكل مباشر، وبباقيها بشكل غير مباشر عبر التبعية لثلثها الغربي، في أن تُنتِج أمة – بصرف النظر عن شكلها السياسي آنذاك – قادرة على أن تجسِّدَ الإرادة الإلهية الإنسانية خلافا لما تصفها به التواريخ المتحاملة عليها (؟!)

16 – ترى هل فشل القرآن الكريم، وفشلت 23 سنة من حياة النبي الرسول المعلم في إنتاج نخبة من العرب أكثر تقدما وتطورا مما كانوا عليه قبل الإسلام – رغم أنهم كانوا على قدر كبير من التطور الإنساني في تلك الحقبة أيضا إذا ما قورنوا بباقي شعوب العالم – لنجد أن تلك النخبة المعروفة بالصحابة، تنقلب على نفسها، وعلى نبيها، وعلى دينها، وعلى تاريخها العربي المستوطن في جيناتها، وتمارس أعمالا ترويها لنا "الفتنة" تفوقت في همجيتها ودمويتها وتخلفها وحجم القتل وسفك الدماء الذي اعتراها حتى على ما يروى لنا عن أبعد عهود العرب القديمة قبل أن تصقلهم النبوات (؟!)

17 – ترى، هل هناك من يدرك حقيقة أن دعوة النبي محمد بن عبد الله عليه السلام، هي دعوة عالمية في مضمونها القيمي، بمعنى أن البشر – كل البشر – مطالبون بالتعامل معها والقبول بها والتعاطي مع رؤاها القيمية وفق خصوصياتهم الواقعية الموضوعية "قبلية كانت أو قومية أو أممية"، فيما كان مشروعه السياسي الذي أنشأ تلك النخبة لأجله وأسَّسَ دولة المدينة لأجله، وناضل لأجله حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، هو مشروع قومي عربي كان يهدف إلى توحيد العرب المتنافرين عبر تغيير ثقافتهم المجتمعية والسياسية بهذا الدين الجديد عالمي المضمون، وتحرير العرب المحتلين، لينشِئَ بالمجموع دولة عربية قومية مركزية قوية قادرة على أن تكون محور استقطاب عالمي يبشر بالدعوة وينشرها في كافة أرجاء العالم بشكل سلمي وبعيد عن أيِّ نزعة إمبراطورية توسعية، كتلك التي تولى كبرَها الأمويون من جهة، وأنصار آل الييت وشيعتهم من جهة أخرى، فغيَّرَت كلَّ المفاهيم عندما انقلبت على قومية المشروع السياسي للرسول الكريم، وحولته إلى مشروع إمبراطوري توسعي، أطلقت عليه مصطلح "الفتح الإسلامي"، تحت عنوان نشر الدين وتبليغ الرسالة التي كان من الأفضل لها ولنا أن تُنْشَرَ وتُبَلَّغَ بالتبشير السلمي الذي ترعاه دولة قومية عربية موحدة بالغة القوة والمهابة بعد تغيير الثقافة وتحرير الأرض وتوحيد كل العرب، لتتعامل معها الأمم وفق النموذج القومي العربي، خالقة قومياتها ودولها وفق رؤاها القيمية (؟!)

سنكتفي بهذه الأسئلة، ونعد بأن نتناول الإجابة عليها في مقالات قادمة بحسب ما تتيجه الظروف والإمكانات، دون أن نتولى الإجابة عليها سؤالا سؤالا، بل حزما حزما بحسب طبيعة الموضوع الذي تندرج تحته كل حزمة منها.

…. يتبع في مقالات لاحقة