نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



التحريم في القرآن ليس لمجرد التحريم.

ولا التحليل لمجرد التحليل.
وإنما هو تحليل لكل ما هو طيب وتحريم لكل ما هو خبيث :
(( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ.. (157) )) [ الأعراف ]
الله حرم الضار الخبيث .
وأحل الطيب النافع .
لم يصدر الأمر تسلطاً ومعاقبة وتضييقاً على الناس .
وإنما أقام شريعته محبة ورحمة .
إذا لم نفهم هذه الحقيقة الجوهرية فسوف نتوه في حرفيات لا آخر لها وتضيع منا روح القرآن كلية .
وعلى سبيل المثال نأخذ هذه الآية :
(( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. (30) )) [ النور ]
(( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.. (31) )) [ النور ]
لو أخذنا الآية بظاهر حروفها دون أن نحاول أن نتدبر حكمتها سوف يخيل لنا أن فيها تضييقاً علينا بدون مبرر ..
كيف يخلق لنا الله العيون و النواظر ثم يقول لنا لا تنظروا.. كيف يخلق لنا الجمال ثم يقول غضوا البصر.
ولو تدبرنا الآية لاكتشفنا أن هذا الأمر هو غاية الرحمة وغاية اللطف وأنه استنقاذ للإنسان من العبودية ومن الأغلال وليس استبداداً به أو تضييقاً عليه .
فالنظر هو السبيل إلى التعلق.. و التعلق حبس.. و العين إذا نظرت إلى الوجه الجميل سُجنت فيه و سجنت معه نفسها.. و الله يريد لنا الحرية و الانعتاق، و لا انعتاق إلا بأن نتجاوز المحسوسات الجميلة ناظرين إلى خالقها و بهذا ترفعنا نظرتنا إلى مقام القرب و المعية مع الله و هو مقام الحرية المطلقة..
و ما خلق لنا الله الإغراء الدنيوي إلا ليختبرنا.. هل سنتصرف بالفطرة السليمة فنتجه بذوقنا السليم إلى الجمال الأعظم إلى جمال الله و وجهه أو سنقف عند الجمال الحسي الأصغر و نلتصق به و نسجن أنفسنا فيه مدللين بذلك على فساد ذوقنا و انحراف فطرتنا.
إن المسألة ليست مجرد نظرة إلى وجه جميل..
إنها نظرة ما تلبث أن تعقبها رغبة ثم شهوة ثم مشروع لإشباع تلك الشهوة و امتلاك تلك المرأة أو هذا الصدر أو هذا الظهر.
و تتخطف العقل الشهوات فيفقد الإنسان هدفه و ينسى وجهته و يتشتت و يأخذ سبيله وراء هذا الصدر العريان و ينسى المشوار الذي كان يسعى إليه.
مثل هذا الإنسان قد فقد حريته و هبط من ذروة إنسانية إلى حالة أشبه بحالة كلب يتشمم.. و إلى عبد أسير لا يعرف لنفسه خلاصا من هاتين الساقين أو هذا الظهر.. و إلى عقل مغلول في الشهوة يفكر في اللهط و يسيل لعابه و تخرج عيناه من محجريهما جموحا و شهوة و يفقد السيطرة على نفسه و ينسى المصلحة التي جاءت به إلى المكان.. و تجري رجلاه المرتعشتان وراء اللحم الأبيض.. لا يعرف كيف يحكمها.
مثل هذه الحالة من الهبوط قد تنتهي بصاحبها إلى صفعة على صدغه تفيقه أو إلى محضر في بوليس الآداب.. أو إلى قصة تبدأ بدقائق لذيذة ثم تنتهي بحادث نشل أو إلى علاقة جنسية تنتهي إلى مستشفى الحوض المرصود لعلاج مرض سري مزمن.
و حكمة الآية القرآنية واضحة في مثل هذا النوع من النظر.
و الذوق السليم ينفر بالفطرة و يعف عن مثل هذا التحديق.. لأنه ضرر.
و لهذا أمر القرآن المرأة المؤمنة بأن تدني عليها جلبابها ابتعادا عن مزالق الإثارة و الاستثارة.
و هنا نصل إلى جوهر التحريم.
فالتحريم دائما لضرر.
و الله أقام شريعته محبة و رحمة لا تسلطا و غطرسة.
و من هنا كان لابد من غض البصر تفاديا للضرر.. و إشفاقا من العواقب و وقاية من ضعفنا الطبيعي المركب في أجسادنا..
و غض البصر ليس فقط غض البصر عما يتعرى من الجسد.
و إنما هو أيضا غض للبصر عما في يد الناس من مال و نعمة، و هو الحياء و الترفع عن النزول بالنفس إلى مواطن الشهوة و الحسد و الحقد و الغيرة.
و من أكبر الذنوب عند الله التعصب.. أن تتعصب لنفسك أو عائلتك.. و أن تميل مع الهوى.. و تأخذ حمية من العنصرية و كبرياء العرق و الجنس.
و المتعصب إنسان يعبد نفسه.. يعبد فهمه المحدود و ليس الله فهو مشرك. و جوهر الدين هو أن تتجاوز نفسك و تتخطاها و تنكرها و تكبح شهواتك و تلجم أهواءك و تتحرر من أطماعك و تطلعاتك و تتخلص من غرورك و كبرك و عنادك.. فكل هذه أغلال و الدين يحرمها ليخلصك من أسرها.
و أبغض الحرام إلى الله الشرك.. أو عبادة غير الله.
و الشرك ليس فقط عبادة الأصنام فهذا لون قديم ساذج من الشرك انتهى أمره.
و الأصنام الآن هي غير ( اللات ) و ( العزى ) و ( هبل ).
و أخطر الأصنام هي الأصنام المجردة و هي ما يعبد الآن في كل مكان.
أن تتخذ نفسك صنما.. أن تعبد رأيك و هواك و مصلحتك فلا يشغلك إلا نفسك.
(( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.. (23) )) [ الجاثية ]
و هذا هو إله اليوم الذي يُحرق له البخور و تُقدم له القرابين من دم الآخرين.
و سوف نعود إلى ميزان الحرام و الحلال.. و نقول: و ما الضرر ؟ ما الضرر في أن يعبد الإنسان نفسه و لا يرى غير مصلحته ؟
و الضرر واضح بيّن.. فلن تكون حياة مثل هذا الإنسان حياة.
سوف يقضي حياته في سجن من المرايا كلما تطلع إلى جدار لم ير فيه إلا صورته.
سوف يكذب و يسرق و يقتل و يستغل.. و لن تصل إلى أذنيه آلام الآخرين لأنه لا يرى إلا نفسه و ما يكسب و ما يربح و ما يرفع من عقار و ما يقتني من أرض و ما يكدس من مال.
سوف تصبح نفسه حجابا بينه و بين الله و حجابا بينه و بين الحقيقة، و حجابا بينه و بين العدل.
و عن مثل هؤلاء يقول القرآن:
(( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) )) [ يس ]
و ما السد الذي بين يديك و من خلفك و محيط بك لدرجة تحول بينك و بين الإبصار كأنه غشاوة.. إلا نفسك.
و يقول في سورة أخرى:
(( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) )) [ البلد ]
يقول لك.. (( و ما أدراك ما العقبة )) ليحضك على التساؤل و التفكير في تلك العقبة فأمرها يغمض عليك.. لأنها هي نفسك ذاتها.. و لا عقبة أمامك سوى نفسك و عليك أن تقتحمها لتستطيع أن تفعل أي خير فتفك رقبة من تستغل و تستعبد.. و لن تستطيع أن تفك رقبة من تستعبد إلا إذا فطنت إلى استعباد نفسك لك و فككت عنك أغلالها.. فلن تستطيع أن تحرر إنسانا إلا إذا بدأت فحررت نفسك أولاً.
و بعد ذلك سوف تجد أن أي خير سيصبح ممكنا.. سوف تستطيع أن تحب و تعطي و تجود و تمنح.
و لهذا تقرأ في القرآن:
(( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ.. (111) )) [ التوبة ]
(( فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ.. (54) )) [ البقرة ]
بمعنى فاهزموا أنفسكم و انتصروا عليها.
و في الإنجيل يقول المسيح بالمعنى نفسه:
(( من أراد أن يخلص نفسه يهلكها. و من يهلك نفسه من أجلي يجدها، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله و خسر نفسه )).
و يقول الله لداود:
(( اقطع شهوتك و تحبب إلي بمعاداة نفسك.. ضعني بين عينيك و انظر إلي ببصر قلبك.. و أعلم أنه ما اطمأن عبد إلى نفسه إلا و كلته إليها فأهلكته )).
و يسأل داود ربه (( يارب كيف أصل إليك ؟ )) فيقول له ربه: (( اترك نفسك و تعال )).
و يقول الله لموسى:
(( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) )) [ طه ]
فلا يمكن الوقوف في حضرة الله إلا بخلع النفس و الجسد و خلع شواغل النفس و شواغل الجسد كشرط للوصول.
و لهذا كان الشرك الخفي الذي يمارسه الإنسان بعبادته نفسه هو منتهى الحرام و ذروة الخطيئة.. لأنه يحتوي على جميع الخطايا الأخرى في داخله و لأنه هلاك لا هلاك بعده.
و كل ما تعبد من دون الله شرك.. إذا كنت عبدا لنفسك و هواك و مصلحتك فأنت مشرك، و إذا كنت عبدا لعصبية العائلة أو القبيلة أو العنصر أو الجنس فأنت مشرك.. و إذا استعبدتك فكرة مجردة أو نظرية أفسدت عليك مسالك تفكيرك فأصبحت ترفض مناقشة أي فكرة أخرى فأنت راكع أمام صنم و إن كان صنماً مجرداً و منحوتاً من الفلسفة لا من المادة.
و لهذا اعتبر القرآن الشرك خطيئة لا تغتفر لأنه عمى للعين و البصيرة و العقل و شلل لجميع المدارك و توقف لنمو الروح و تعطيل لها في هجرتها إلى منبع نورها.
(( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء.. (48) )) [ النساء ]
لأن الشرك في الحقيقة أشبه بانقطاع الحبل السري الذي يفصم الصلة بين الجنين و مصدر حياته.. بين الإنسان و الله.
و ماذا يحدث لو أن زهرة عباد الشمس انصرفت عن الشمس و أعطت ظهرها لها و اتجهت إلى القمر مثلا.. إنها ببساطة تموت.. فالشمس هي مصدر حياتها.. و هي لا تعبد الشمس ذلاً.. و إنما لأن الشمس حياتها.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. (24) )) [ الأنفال ]
و العبادة حياة و استمداد للنور و الحق.
و الله أمر بالعبادة لأنه يعلم أن فيها حياتنا.. و لم يأمر بها تسلطاً و تجبراً و لمجرد فرض أوامر.
و لهذه الأسباب حرم الله الخمر و ما في حكمها من المسكرات و المغيبات لما فيها من أضرار.
و حرم القمار لما فيه من خسارة و تباغض و عدوان.
و حرم الزنا لأنه فوضى تختلط فيه الأنساب.. و تخضع فيه النفوس للنزوات و الشهوات و الأهواء.
و أحل الزواج لأنه تنظيم و نظام و مسئولية و سكينة قلب.
و حرم لحم الخنزير. و نحن نعلم الآن أن حيوان الخنزير هو مستودع فيروس الإنفلونزا و الدودة الشريطية، و أنه أغلظ أنواع البروتين و أشدها تعقيداً، و أنه يربي قساوة القلب.
و لو ألقينا نظرة على الحيوانات آكلة الخضروات كالغزال و الأرنب و الحصان و الجمل و الدجاج و الحمار للاحظنا أنها كلها رقيقة وديعة.. أما الحيوانات آكلة اللحوم كالسباع و النمور و الضباع و الذئاب و الثعالب و النسور و الصقور.. فكلها تشترك في صفات القسوة و الوحشية و الضراوة.
و لا شك أن هناك علاقة بين الإسراف في اللحم كطعام.. و نشأة صفات خاصة في النفس.. مثل الحدة و الصرامة و القسوة.
و لأن لحم الخنزير هو أكثر اللحوم غلظة و أعقد البروتينات الحيوانية تركيباً فربما كان ضرره على آكله أبلغ من جميع اللحوم الأخرى.. و الله يعلم و نحن لا نعلم.
و الله هو العقل الكلي المحيط و هو لا يضع سنة بلا سبب.
و لقد أقام التشريع و حرم الحرام و أحل الحلال و فرض العبادة.. محبة منه و رحمة.
و يجب ألا تفوتنا هذه الحقيقة لحظة واحدة.. فهي روح الناموس و قلب الشرائع.
و لذلك حرم الله السرقة و حرم القتل.
(( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.. (32) )) [ المائدة ]
لأن قتل الإنسان لأخيه الإنسان بلا ذنب هو خرق لجميع النواميس.. لهذا اعتبره الله قتلاً للناس جميعاً.
وحرَّم الانتحار ..
(( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا.. (30) )) [ النساء ]
لأن الانتحار هو منتهى سوء الظن بالله و العمى عن رحمته و اليأس من عدالته و الخرق لنواميسه و الجهل بآخرته، و هو منتهى الظلم للنفس.
(( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (6) )) [ الفتح ]
و الله حرم الزنا لأنه ضرر.
و هنا سوف يطلع علينا رأي ( مودرن ) باريسي متحرر يقول: و ما الضرر؟
أين الضرر في اثنين يتبادلان لذة بدون زواج لكن بتراض وراء جدران مغلقة و بعيداً عن العيون لا يكذبان على نفسيهما في شيء.. فما يفعلانه يقومان به حباً و وجداً و غراماً. و لا يؤذيان بعملهما مخلوقاً.. أين الضرر هنا ؟
و لنفهم الضرر لابد أن نضع الحب و الجنس في إطارهما الطبيعي حيث إرادتهما الطبيعية.
و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس في إطارهما الطبيعي حيث إرادتهما الطبيعية.
و الطبيعة جعلت من العاطفة و الجنس وسائل للتكاثر و الإبقاء على النوع و عمار الدنيا.. و جعلت منهما أدوات إنتاج.
فإذا اجتمع رجل و امرأة و اعتزلا ركناً يتبادلان اللذة بدون تفكير في زواج أو بناء بيت.. و إنما لمجرد اختلاس متعة.. فإنهما يحولان الحب و الجنس من أدوات إنتاج إلى أدوات استهلاك و يستهلكان طاقة من أشرف الطاقات الحية خلقت لتبني أمماً و حضارات و يجعلان منها مجرد وسيلة إلى ارتجافات جنسية.
و حينما يجتمع رجلان على شذوذ جنسي.. فإنهما يقولان الشيء نفسه، سوف يقولان: إننا اجتمعنا على حب و رضا.. و إننا لا نضر أحداً، و إننا نستمتع و لا نؤذي أحداً.
و الشذوذ واحد في الحالين إذا أخذنا القوانين الكونية بعين الاعتبار و نظرنا نظرة شاملة إلى الموضوع.. فكلا الحالين انحراف بالطاقة الطبيعية عن أهدافها لمجرد دقائق من الارتجافات الجنسية.. و الفرق هو فرق في درجة البشاعة.. و في درجة المخالفة للنواميس الطبيعية.. المدلهان حباً و هوى، اللذان يرتمي الواحد منهما في حضن الآخر.. و يتعلل كل منهما بأنه صادق مع نفسه فيما يفعل.. هما في الحقيقة كاذبان.
لأن صدق الإنسان مع نفسه لا يكون صدقاً حقيقياً إلا إذا كان بالمثل صدقاً مع الطبع و الطبيعة.
و ليكون الإنسان صادقاً مع نفسه لابد أن يكون صادقاً مع طبيعته و مع النواميس الكونية العظيمة التي جاءت به إلى الدنيا، و إلا انقسم و انفصم و انشق على نفسه و تحول إلى جسد في ناحية.. و روح في ناحية.
و التي تحب رجلاً بحق.. لا تقول له: أريد أن أنام معك. و إنما تقول له: أريد أن أعيش معك العمر كله. أريدك أن تكون أباً لأولادي و سقفاً لبيتي و شرفاً لاسمي و رفيقاً مصاحباً لرحلة حياتي كلها.
و إذا لم تفعل هذا فإنها تكذب على نفسها. و هي خاطئة و إن ادعت لنفسها أنها جولييت.. بل إن الخاطئة التي تبيع عرضها لحاجتها إلى اللقمة سوف تتعلل بعذر الجوع.. أما هي فقد ابتذلت أشرف ما أعطتها الطبيعة بدون دوافع سوى تشنجات و رعشات عابرة و تلك الحكة التي تبحث عن مهدئ بين وقت و آخر بحجة الحب.. و هو كذب.. لأن حب المرأة يريد الرجل أباً لأبنائها و سقفاً لبيتها.. لا مجرد دواء مؤقت للحكة.
والزنا إذا تحول إلى عادة ثم إلى سلوك ومنهج حياة يؤدي إلى التفسخ الكامل للكيان .. وإلى انفصام الشخصية .. فيصبح الجسد في ناحية والقلب في ناحية .. والروح في ناحية .. وبهذا يتم تخريب الفطرة، و هذا هو الضرر غاية الضرر.. و لهذا نقرأ في الإحصاءات أن أعلى نسبة للجنون و الانتحار تحدث في السويد و في روسيا برغم السعادة الجنسية و عدم الكبت و التحلل غاية التحلل.. و السبب هو ذلك الانفصام الذي يحدث للإنسان المتحلل في أعماق روحه فيفقده السلام الداخلي إلى الأبد.
وهكذا تأتي التعاليم الدينية لحكمة وأسباب لا مجرد رغبة الله في التسلط على خلقه وإنما محبة ورحمة وتنبيها إلى فائدة .
ويحرم الدين الزواج بين الأخوات ، وبين الأم وابنها ، والأب وابنته لأنه يريد أن تنمو في الأسرة ألوان أخرى من العاطفة غير الشهوة .. كالأمومة والأبوة والأخوة والمودة .. وأن يكون الرباط الأسري هو التراحم ( لأنه هو الرباط الوحيد الباقي ) .. أما ضرام الشهوات فهو يضرم معه الغيرة والرغبة في التملك فيقتتل الإخوة على أختهم وتتفجر الأسرة من داخلها وتنهار.
هذا غير الأمراض الوراثية التي تصيب النطفة بسبب زواج الأخوات.
لم يكره الله للإنسان إلا كل ما هو كريه بالفعل.. و لم يحب له إلا كل ما هو محبوب.
ولذا جعل الطلاق مكروها لكنه ممكن إذا استحالت الحياة وجعل الكذب كبيرة الكبائر .
(( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) )) [ الصف ]
و الكذب على الله غاية الإثم.
(( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا.. (21) )) [ الأنعام ]
فيكون إدعاء النبوة كذباً والتحريف في الكتب المقدسة زعماً بأن آيات نزلت وهي لم تنزل .. هو منتهى الحرام .. لأنه الإضرار والتضليل للناس .
هذه هي الشريعة وهذه روحها .. إن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث ، وإذا تطهرت فطرتنا فسوف نحب لنفوسنا ما يحب لها الله بدون جهد وبدون مشقة .
ولهذا يزول التناقض في قلب المؤمن بين الله وشريعته وبين ما تمليه عاطفته الخاصة ويرغب فيه عقله .. فإذا بما يريده لنفسه هو ما يريده الله له .. وما يتمناه لنفسه هو ما يتمناه الله له .
ولهذا يتوجه إبراهيم بالدعاء قائلاً :
(( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ.. (40) )) [ إبراهيم ]
فيطلب من الله ما يطلبه الله منه .
وهذا غاية الإيمان والثقة ومنتهى الحب للشريعة .. حتى لتصبح الشريعة والرغبة شيئاً واحداً .
ولا تعود للإنسان رغبة سوى ما يرغب الله .
وهذا درب الذين وصلوا .
يقول الله في حديث قدسي :
(( عبدي اطعني أجعلك ربانياً يدك يدي ولسانك لساني وبصرك بصري وإرادتك إرادتي ورغبتك رغبتي )).
وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء والمقربون الذين أمدهم الله بأسباب علمه وقدرته.
..
-- د. مصطفى محمود || القرآن مُحاولة لفهم عصري --