(مقاومة الإرهاب) في نظام الحجاج.
كان جَحدَر بن مالك فتاكا شجاعا، فأغار على حَجْر (قصبة باليمامة) وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه بتلاعب جحدر عليه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى فتية من بني يربوع، وجعل لهم جُعْلا عظيما إن هم قدروا عليه.
فأرسلوا إليه يظهرون أنهم خارجون لاحقون به، فوثق بهم؛ حتى إذا أصابوا منه غِرّة شدُّوه كِتافا، وقدموا به على العامل، فوجه به معهم إلى الحجاج.
فلما أدخل عليه قال له: من أنت ؟، قال: جحدر بن مالك.
قال: ما حملك على ما كان منك؟
قال: جفاء السلطان، وجرأة الجَنان، وكَلَب الزمان.
قال: وما بلغ من جرأتك؟
قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالحي الأعوان.
قال له: فإنا قاذفون بك في حائر (الحوض يسيَّب إليه مسيل الأمطار) فيه أسد ضار عاقر، فإن هو قتلك فقد كفانا مؤنتك، وإن أنت قتلته خلينا سبيلك.
قال: لقد عظُمت المنة، وقويت المحنة.
ثم إن الحجاج أجاع أسدا أياما، وأرسل إلى جحدر، فأتي به من السجن، ويده اليمنى مغلولة إلى عنقه، وأعطي سيفا، وقُذف به إلى حائر الأسد، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم تشرف عليه.
فلما نظر جحدر إلى الأسد قال:
لَيْـثٌ وَلَيْـثٌ فِي مَجَـالٍ ضَنْـكِ
كِـلاهُمَـا ذُو شِـدَّةٍ وَمَحْـكِ
وَقُــوّةٍ فِـي نَفْسِـهِ وَفَتْـكِ
إِن يَكْشِـفِ اللهُ قِنَـاعَ الشَّـكِّ
فَهُوَ أَحَقُّ مَنْزِلٍ بِتَرْكِ
فلما نظر إليه الأسد زأر زأرة شديدة، وتمطى، وأقبل عليه حتى صار على قيد الرمح، فوثب وثبة هائلة تلقاها جحدر بالسيف، فضربه حتى خالط ذُباب السيف لَهَواتِه، فخر الأسد كأنه فُسْطاطٌ تردّى بالريح، وسقط جحدر على قفاه من شدة وثبة الأسد وثِقَل الكُبول.
فكبر الحجاج والناس أجمعون، وأطلق جحدرا، وأحسن جائزته، وخلّى سبيله.
وقيل: إنه اصطفاه، وجعله من سُمّاره، ثم لم يلبث أن ولاه اليمامة.

وليس العجب في هذه القصة من شجاعة جحدر بن مالك، ولكن العجب من رشد الحجاج وحكمته، وأمانته ووفائه.
إن سلطة الحكم لا تعني لدى طواغيت الوقت إلا الاستعباد والغدر والاستبداد، ولؤما لا يستبقي ديانة ولا مروءة.
فانظر إلى (مقاربة الحجاج الأمنية) كيف أحسن بها دون إذلال تدبير الاحتواء، واستثمر مخرج الداء لاصطناع أنجع دواء، وكيف أحاط جواب جحدر (جفاء السلطان، وجرأة الجَنان، وكَلَب الزمان) بجهاز تشخيص شامل دقيق؛ أحل كل داع من الدواعي الثلاثة محله الأنسب، ثم قابله بما يجانسه من صنوف العدل والإنصاف، وأجاب تظلم جحدر بأحسن ما يُسترد به حق المظلوم، وتصان به كرامته ومروءته، لا سيما (جرأة الجنان) التي لم يقابلها بالتعذيب والتصليب، بل زاد صاحبها عزة وإباء، وحولها إلى جهة الخير وصلاح الأمة.




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي