التحول في المزاج الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية

د. فهمي شراب

إن الرأي العام في المجتمعات المتقدمة يساهم في تحديد شكل ومضمون السياسة الخارجية لهذه المجتمعات، ويشكل أهمية كبيرة لصناع القرار السياسي وتحديد التوجهات أيضا، وفي الدول الأوروبية يعتبر الرأي العام من المتغيرات الأساسية التي تحظى باهتمام الساسة وصناع القرار، حيث الرأي العام يسقط حكومات في أيام بل في ساعات في تلك الدول، وكلما كانت نسبة الديمقراطية والحريات اكبر كلما توجه النائب أو ممثل الحكومة إلى مراعاة الرأي العام والاتجاهات المجتمعية وذلك على الصعيد الداخلي والخارجي.



الصورة النمطية عن " إسرائيل" بين التاريخ والحاضر:

لذا، تعتبر كسب معركة الرأي العام غاية في الأهمية، من اجل تطويع واستمالة مراكز اتخاذ القرار وواضعو السياسات العامة وتحقيق الأهداف السياسية المرجوة، وقد كان الانطباع العام حول اليهود في أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر غاية في السوء، وكان اليهود في نظر الأوروبيون مجرد ( مرابي خبيثة ومكروه ، يعمل في الرذيلة وجميع الأعمال المنافية للأخلاق) وجاء في الأدب الانجليزي (الأعمال الأدبية لشكسبير وديكنز) ما كان كافيا لمعرفة كيف كان يبدو " اليهودي" آنذاك، ولكن مع بدء سيطرة اليهود على وسائل الإعلام الغربية وتبني إستراتيجية تعمل على تغيير الصورة النمطية السيئة القديمة وتحولها إلى صورة يتعاطف معها الإنسان الأوروبي والغربي بشكل عام، حيث تخاطب العقل والقلب الأوروبي باللغة والأسلوب والطريقة المناسبة والأقرب إلى نمط حياته، فرض اليهود أنفسهم على أجندات تلك الدول وكسبوا معركة الرأي العام والإعلام والتعاطف الدولي في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ووصلوا إلى نقطة متقدمة ساعدت في تمكينهم. وخاصة أن فكرة إنشاء وطن قومي لليهود تقاطعت وتلاقت مع مصالح وطموحات أوروبية ودول عظمى عملت على تبيت دولة الكيان الصهيوني، تلك الدول أرادت زرع دولة " حاجز" تفصل بين المشرق والمغرب العربي، وتكون جسرا للمشاريع الاستعمارية الكولونيالية للغرب، وتعمل فيما بعد على تأجيج الفتن وتغذية عناصر المعارضة في كل دولة عربية، والتأكد من أن النظم العربية ليس فيها من سوف يتجاوز المخطط المرسوم منذ اتفاقية سايكس بيكو 1916.

فرص التحول الدراماتيكي تلوح في الأفق:

ولكن وبعد كل ذلك يجري الان مرحلة تحول في الرأي العام الأوروبي، وبدا المزاج الأوروبي في وضوحه بصورته التي ترفض التعنت والصلف والاستهتار الإسرائيلي. كما بدأ يدعو الى تبني مواقف عادلة من القضية الفلسطينية وضرورة حماية الفلسطينيين من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وأيضا المواقف الايجابية للاتحاد الأوروبي الأخيرة بخصوص الاعتراف بدولة غير عضو ، وموقفه من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية الذي أثار حفيظة القيادة السياسية لدولة " إسرائيل" والمواقف الايجابية حول المعتقلين واللاجئين الخ. والتعاطف الكبير مع الفلسطينيين في غزة و الذي ظهر أثناء اعتداءات 2008-2009 و 2012. واعترافات جديدة لنواب أوروبيون يؤكدون على ان سياسة اوروبا تجاه حصار غزة كان خطأ كبيرا.



توصيات إستراتيجية :

جميع تلك المواقف الغير مسبوقة تجعلنا لا نفقد الأمل، وتحثنا على الاستمرار في معركة الانتصار، حيث التغيير يحدث وان كان بوتيرة بطيئة، ولهذا فهناك مجموعة توصيات أساسية وهامة يجب على صناع القرار العمل في ظلها والاسترشاد بها والتأكد من تحققها لكي نصل إلى الأهداف السياسية المرجوة بدءا برفع الحصار أكثر عن غزة والحصول على اعتراف اكبر ووصولا لتحقيق تعاون فلسطيني أوروبي اكبر.. ومن هذه التوصيات التالي:

1- العمل الدءوب للدبلوماسية الفلسطينية بكل مفاعيلها وإمكانياتها وممثليها في غزة والضفة واستمرار الحملات الإعلامية والدبلوماسية، وإقامة المعارض والنشاطات بشكل ودوري، والحشد المستمر لدعم القضية الفلسطينية وليس بشكل موسمي والاقتصار على حدث معين كما حصل أثناء الحشد الدولي لدعم الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012 وقد عادت الدبلوماسية بعد تحقيق هذا الهدف التكتيكي إلى سبات عميق!



2- ضرورة رصد ونشر ما ينتج من تغييرات في حركة المراجعات الفكرية والسياسية المتواصلة في الأوساط الإسرائيلية وما يتمخض عنها من مواقف تصب في خانة القضية الفلسطينية، وضرورة مراقبة أعمال المؤرخين الجدد والنقاد الأدبيين اليهود وبعض تصريحات الساسة المعتزلون واعترافاتهم بالحقيقة واستثمار ذلك على أكمل وجه، لكي تساعد في تشكيل الوعي الجمعي لمجتمعات الغرب وإنارة جزء هام مما هو مجهول لديهم.

ومن بين النقاد الأساسيين للسياسة الإسرائيلية والأمريكية المؤلف والناشط اليهودي الأمريكي بيتر بينارت والمفكر ليون ويسلتير، والمفكر نورمان فينكيلشتاين، وأيضا المؤلف اليهودي " مايكل نيومان" إضافة إلى المفكر اللامع اليهودي الأمريكي نعوم شاومسكي.



3- ضرورة التواصل مع الجاليات الفلسطينية وحتى العربية المتضامنة مع القضية الفلسطينية، وخاصة أنها أخذت هذه الجاليات أشكالا منظمة ضمن عمل أشبه بالعمل النقابي والمؤسسي، وليست مجرد أفرادا يعيشون بمعزل عن بعضهم البعض، وبالتالي يمكن تعزيز التواصل معهم بسهولة في ظل التقدم التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصالات، وظهور برامج "السكاي بي" على الانترنت وبرامج "التانجو" و"الفايبر" و " الواتس اب" المجانية عبر تلفونات المحمول، وذلك كله من اجل كسب الرأي العام الذي بات في مرحلة تحول بعد الحروب التي شنتها " إسرائيل" على قطاع غزة والانتهاكات المستمرة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

4- ضرورة الارتقاء بالأساليب التضامنية التي تقوم بها الجاليات والجهات المتضامنة، وذلك على صعيد الخطاب الإعلامي أو على مستوى التفاعل مع الأحداث عبر التظاهر السلمي ومظاهر الاحتجاجات وكسب فئات مجتمعية أخرى، وحث الجاليات على تطوير تفاعلها الإسنادي للقضية وبما يتفق مع خصوصيات الساحة الأوروبية.



5- الحرص على تجديد الخطاب الفلسطيني السياسي والإعلامي إلى الجهات الرسمية الأوروبية ، وأيضا الموجه للرأي العام بما يراعي الفوارق بين المكونات والأبعاد الثقافية والبيئية، وبالطريقة المناسبة والأسلوب المؤثر وخاصة أن للفلسطيني رصيد إضافي وهو عدالة القضية نفسها، وما نحن بحاجة دائمة له هو محامي جيد وإعلام متقدم.