في الطريق إلي أدب إسلامي
-------------مقالة الأستاذمحمدقطب
الأدب الإسلامي – في صورته المتکاملة التي استعرضها أسسها من قبل – شئ لم يوجد بعد الإنتاج البشري !
ولکن هذا لاينفي وجود بواکيرمتفرقة من هذا الأدب ، تنبئ بأنه قدولد بالفعل ، وأنه في طريقه إلي التکامل والنضوح .
وهذا وحده شئ ليس بالقيل ..
فحين يطمئن الانسان إلي هذه البواکير، والي دلالتها علي النضج المقبل ، يستطع أن يتطلع إلي اليوم الذي يتکامل فيه هذا الأدب – والفنون الأخري کذالک – فتعطي الإنسانية کلها ذلک القبس المشرق الذي لم تهتدي إليه بعد ، وإن کانت قد وفقت إلي لمحات منه بين الحين والحين؛ وتعطيها ذلک الطعم المتکامل الذي افتقدته منذ مولد ها ولم تصل إليه في تمامه ، وإن کانت قد ذاقت بعض نکهاته متفرقه هناوهناک :«القبس الکوني » الذي يعبر عن معني الوجود کله ..و« الطعم الإنساني » الذي يعبر عن کل وجورد الإنسان .
والأمرفي حاجة إلي مسلمين ..فنانين !
مسلمين يعشون الإسلام في حسهم حقيقة واقعة ، ويتلقون الحياة کلها بحس إسلامي ، ومن خلال التصور الإسلامي ؛ فنانين في ذات الوقت ، يعبرون عن هذه الحقيقة الواقعة في حسهم بصورة جميلة موحية ، تتحقق فيها شروط الفن ومقاييس الجمال التعبيري .
والعنصران لازمان معاً في ذات الوقت .
فليس يکفي أن يکون الإنسان مسلما لکي ينشئ فناً إسلاميا تتحقق فيه شروط الفن .
وليس يکفي بطبيعة الحال أن يکون فناناً – أي فنان – ليصل إلي التعبير عن الفن الإسلامي .
***
الإسلام وحده لايکفي لإنشاء فن إسلامي ..
فقد يستطع مسلم صادق الإيمان وهب المقدرة علي التعبير ، أن ينُشئ « أفکاراً » إسلامية عن الله . أو الکون . أوالحياة أوالإنسان . أوکلها جميعاً .. وقد يستطع أن « يجرد » من حياته وتجاربه الإسلامية صوراً فلسفية ومفاهيم عامة عن الإسلام .
وهذا کله إنتاج له وزنه ولا شک في عالم الفکر وعالم الفلسفة وعالم التجريد ..
ولکنه إنتاج لاصلة له بالفن ..
فالفن ليس « فکرة » ولا « فلسفة » ولا « مفاهيم مجرد » کا لتي تعني بها« البحوث » الفکرية في شتي الميادين .
وإنما هو« الانفعال الذاتي الخاص » بالأشياء والأشخاص والأحداث . الانفعال الذي تتلقاه کل نفس مفردة علي طريقتها الخاصة في التلقي ، وتنفعل به في أعماقها ، و« تعانيه » معاناة کاملة بکل جزئياته وتفصيلاته ، ثم تخرج من هذه المعاناة المشتبکة بوشائج النفس ، النافذة إلي حناياها ودروبها ، المختلطة برصيدها الخاص من مشاعر والتجارب والاتجاهات والميول .. تخرج منها بتجربة شعورية معينة ،أو « بإفراز » معين ، يحمل السمات الذاتية لصاحبه ، ويحب صاحبه أن ينقله إلي « نفوس » الآخرين في صورة جميلة يتوافر لها التأ ثير والإمتناع .
والفن « روية » للواقع من خلال ذلک الانفعال الذاتي الخاص بالاشياء والأشخاص والأحداث ، و«تفسير » لهذا الواقع في ذلک الضوء الخاص ، تفسيرا شعوريا – لافلسفيا فکريا – کما أنه هو « رؤيا » للمستقبل ، وللمجهول ، وللماضي کذلک بنفس الشروط .
والفن الإسلامي-من ثمّ-ينبغي أن يصدرعن فنان مسلم، أي «إنسان» تکيفت نفسه ذلک التکيف الخاص الذي يعطيها حساسية شعورية تجاه الکون والحياة، والواقع بمعناه الکبير، وزود بالقدرة علي جمال التعبير؛ وهوفي الوقت ذاته إنسان يتلقي الحياة کلها من خلال التصورالإسلامي، وينفعل بهاويعانيها من خلال هذاالتصور؛ ثمّ يقص علينا هذه التجربة الخاصة التي عاناها، في صورة جميلة موحية.
وهذا هوالذي لم يتيسر من قبل في الأدب العربي-لسبب من الأسباب- والذي توجدمن اليوم بواکيرمتفرقة تبنئ بأنه قد ولدبالفعل، وأنه في طريقه إلي التکامل والنضوج.
ولکنه-بهذالمعني-ليس وقفاً علي المسلمين وحدهم من الفنانين!
صحيح أن المسلم الحق –بطبيعة إسلامية- يجدالطريق أمامه ميسراً- حين يوهب الموهبة الفنية- لأنه يعيش المفاهيم الإسلامية بالفعل، وينفعل بالأشياء والأشخاص والأحداث من خلال هذه المفاهيم، دون جهدمبذول منه ولاافتعال، بل دون قصد وراعٍ منه إلي هذا النفعال!
وصحيح-من ناحية أخري- أن المسلم وحده هوالذي تتسع نفسه للتصورالإسلامي الکامل، لأن هذا التصور هوالمقتضي الطبيعي المباشرلحقيقة إسلاميه، ولأن الإنسان لايصل إلي هذا التصور الکامل الشامل حتي يکون قدأسلم نفسه علي طريقة الإسلام وبمفهوم الإسلام.
ومع ذلک فإن التصور«الفني» الإسلامي للکون والحياة والإنسان، هوتصورکوني إنساني...مفتوح للبشرية کلها، لأنه يخاطب «الإنسان» من حيث هوإنسان، ويلتقي معه کذلک من حيث هوإنسان. ومن ثم يستطيع أي «إنسان» أن يتجاوب مع هذاالتصور، ويتلقي من خلاله-بمقدار ماتطيق نفسه هذاالتلقي وذلک التجاوب-فيلتقي مع الفن الإسلامي بذلک المقدار.
ومن أجل ذلک لم نقصرالنماذج التي أخذها من«بواکير» الأدب الإسلامي علي المسلمين من الفنانين، بل اخترنا إلي جانبها نماذج من فنانين غير مسلمين، لأنها تلتقي-التقاء جزئياً علي الأقل- مع التصورالإسلامي، وتصلح بذلک أن تسيرمع المنهج الإسلامي للفن في هذه الحدود.
ثم يبقي لدينا وراء ذلک نتاج عالمي ضخم- رائع في کثيرمن الأحيان- لايلتقي بالتصور الإسلامي، ولايسيرمع المنهج الإسلامي للفنون.فماموقفنامنه؟ ومارأينافيه؟
إننالن ننبذه کله بطبيعة الحال؛ ولن نمتنع عن قرأته ودراسته والاستمتاع بمافيه من جمال جزئي..علي أن يظل في مفهومناأنه جمال جزئي! وأنه-بکل مافيه من جمال وروعة- يقوم ابتداء علي قاعدة أدني وأصغر من القاعدة التي ينبغي أن ينشأ عليهاالفن الإسلامي..الکوني الإنساني..الشامل المتکامل، الذي يشمل کل الوجود وکل الإنسان.
وسنجدکذلک فنا«محايداً» لايحمل سمات معينة تقربه من المنهج الإسلامي، ولايحمل کذلک سمات تصطدم بهذاالمنهج وتسير منه في اتجاه مضاد.
وقديکون في هذه الفنون کذلک لون من الجمال..
ولکنهالن تکون-علي وجه التأکيد-من روائع الفنون!
فالفن «الکبير»-بطبيعته- يحمل بالضرورة تصوراً معيناً للکون والحياة والإنسان، وارتباطات بعضها ببعض، وارتباطاتهابالله خالق الجميع. ومن ثمّ يتحدد مکانه تلقائياً من منهج الفن الإسلامي: إماأن يلتقي معه التقاء کاملاً أوجزئياً، وإماأن يتعارض معه ويصادمه.
ولذلک لانحفل کثيراً بهذه الفنون«المحايدة» وإن کناکذلک لانسقطها من الحساب! ونأخذ-بعد- في ذکربعض الأمثلة من«بواکير» الأدب الإسلامي تنيرالطريق!
مصدر: منهج الفن الإسلامي