أخطر حالة استنساخ سياسي، من أوسلو “1″ إلى أوسلو “2″ (!!) بقلم أسامة عكنان
ArabNyheter | 2014/02/06لا يوجد تعليقات
Unknown3-150x15011111111


"كيري"، و"عباس"، و"عبد الله الثاني" يُؤَسِّسون لمثلث برمودا شرق أوسطي لابتلاع "القضية الفلسطينية" (!!)





مدخل لا بد منه لفهم ما يحدث


إن المتابعة الدقيقة للمشهد السياسي الأردني الفلسطيني على مدى الأسابيع الأخيرة، تؤشِّر على إرهاصاتِ عملية استنساخٍ سياسي خطيرة، يتمُّ تنفيذ فصولِها في كلٍّ من "عمان"، و"رام الله"، و"تل أبيب"، بصفةٍ أساس، فيما يتم تنفيذ فصولٍ مُكَمِّلَة لها في "قاهرة" العسكر ما بعد الانقلاب، الهدف منها، غلقُ ملفات "أوسلو"، و"السلطة الفلسطينية"، و"منظمة التحرير الفلسطينية"، و"عصر المقاومة"، غلقا مُحْكَما ونهائيا، لاستيلاد "أوسلو" جديدة تتولى مهمة قذف "القضية الفلسطينية" في حُضْن "الأردن" عظاما مجردة من أيِّ لحم، بعد أن قامت "أوسلو 1" بشفطها من المحيط العربي إلى قلب الكماَّشَة الصهيونية المباشرة، تحت عنوان الإغراء بأنها بهذا الشفط عادت إلى حاضنة الوطن الأم "فلسطين"، في حين أنها جُرِّدَت مما كان قد بقي فيها من لحم يكسو عظامها.


ولتوضيح الصورة الحقيقية لما يتم الإعداد له في الحواضن الجديدة لاستيلاد "أوسلو 2"، يجدر بنا استحضار المراحل الكبرى التي مرت بها القضية الفلسطينية منذ انطلاقة ثورة ستينيات القرن الماضي، لما في ذلك من دلالاتٍ على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية يهمنا إيرادها في هذا السياق:


1 – مرحلة "أردنية الثورة" التي استمرت منذ الانطلاق عام 1965، وحتى اندماج الفصائل المقاوِمَة الأردنية بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، وهي فترة "العصر الذهبي للثورة"، ولـ "المشروع القومي النهضوي العربي" الذي كان يتم الإعداد له بـ "مشروع تغيير" حقيقي في الأردن، لأن الثورة في تلك المرحلة كانت ثورة شعب أردني ينازع نظاما وظيفيا أردنيا على السلطة فوق الأرض الأردنية بسبب وقوفه حجرَ عثرة في وجه مشروع التحرير، وهو نزاعٌ مشروعٌ بسبب عدم انطوائه على أيِّ معنى من معاني النزاع على السيادة على الأرض الواحدة بين "هويتين" و"شعبين" و"نظامين".


لقد كان ذلك الاندماج الخطير الذي يَقْطُرُ إثما، إيذانا بنزع الثورة عن نفسِها "جلدَها الأردني"، وارتدائِها جلدا جديدا هو "الجلد الفلسطيني" الذي أعاد الشرعية للنظام الوظيفي المتهاوي في الأردن آنذاك، مُدْخِلا المشروع القومي النهضوي ومشروع القاعدة الآمنة، ومعهما القضية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ في خندق "مشروع الهوية" على حساب "مشروع التحرير" الذي يُفْتَرَض أنه لا يُنجَز ولا يتم إلا بالتمهيد له بمشروع "التغيير في الأردن".


إن مكمن الإثم في ذلك الاندماج أنه حوَّلَ النزاع من كونه نزاعا بين شعبٍ أردني ثائر ونظامه الوظيفي الطبقي المستبد والمرتبط بأعداء الأمة، سعيا إلى تغييره بنظام وطني، إلى كونه نزاعا بين شعبٍ فلسطيني ثائر ونظام لا يمثله، على السيادة على أرضٍ ليست أرضَه، بل هي أرضُ شعبٍ آخر. وهو ما كان يسعى النظام إليه ونجح فيه عندما ابتلعت المقاومة الطعم ووقعت في الفخ، إن لم تكن هي أصلا قد دفعت باتجاهه، لتتحول بوصلة النزاع والقضية منذ ذلك الوقت إلى مسار ما نزال ندفع ثمنه حتى الآن.


2 – مرحلة النزاع بين "ثورةٍ فلسطينية" و"نظامٍ أردني" على السيادة على الأرض الأردنية، وهي المرحلة التي استمرت منذ عام 1969 وحتى آخر معارك "جرش" عام 1971. وما كان لهذه المرحلة إلا أن تنتهي بشرخ الشعب الواحد وتقسيمه إلى شعبين، وخندقة كلٍّ منهما في خندق مغايرٍ لخندق الآخر، سواء على صعيد الأدوار أو الحقوق أو الواجبات أو الأجندات، ما مهّد الطريق وعبَّده أمام "النظام الوظيفي الهاشمي"، ليعيدَ إنتاج شرعية تمثيله لما أصبح يعتبر "شعبا أردنيا" يختلف عن "الشعب الفلسطيني"، الذي كان بالأمس القريب جزءا لا يتجزأ من الشعب الأردني الثائر ضد المحتل، لأن المحتل في حقيقة الأمر كان يحتل أرضا أردنية وأخرى فلسطينية عقب حزيران عام 1967، بعد أن كان يحتل أرضا فلسطينية فقط منذ عام 1948.


3 – مرحلة "العمل على تلجيم الثورة الفلسطينية" المهاجرة إلى لبنان وذلك من عام 1971 وحتى عام 1982، خشية أن تتمكن من إعادة إنتاج نفسها في المحيط العربي من مشروع "هوية" إلى مشروع "تحرير"، وذلك عبر استخدام ثلاثة معاول عملت جميعها في هذا الاتجاه..


* المعول الإسرائيلي الذي تصدي للجسم الثوري في لبنان بشكل عسكري مباشر ومتدرج مستكملا مهمته بهذا الخصوص في اجتياح عام 1982.


* المعول السوري الذي تدخل في لبنان بغطاء عربي في الوقت المناسب، ليكون الرديف العربي للدور الصهيوني في مشروع تلجيم "الثورة"، بعد أن بدأت إرهاصات نجاحها في تحويل الساحة اللبنانية إلى ساحة فعل مقاوم يمهد للقاعدة الآمنة، وينذر بالخطر كلا من "الوظيفية" و"الصهيونية" وحلفائهما اللبنانيين.


* المعول الأردني الذي عمل على تصفية وكنس بقايا الجسم الثوري على الصعيد الشعبي والتنظيمي من الساحة الأردنية، من خلال الجهاز الأمني طويل اليد "المخابرات العامة" من جهة، ومن خلال ذراعي الثقافة الجديدة التي أريد لها أن تهيمن على ساحة الفعل والحركة والربط المجتمعي في الأردن، وهما "ثقافة العصبية" و"الأيديولوجية الدينية التقليدية". مع محاولات سياسية رسمية كانت تعمل على استعادة هيمنة "النظام الوظيفي الهاشمي" على الثورة وعلى الفلسطينيين من جديد، وهو ما تجلى من خلال مشروع "المملكة العربية المتحدة" عام 1972.


4 – مرحلة التيه والتشتُت والضياع الممتدة من عام 1982 وحتى 1988، حيث فقدت الثورة كلَّ عناصر قوتها، ولم يعد أمامها سوى واحدٍ من أمرين هما، الرضوخ لمشاريع النظام الوظيفي الهاشمي بإعادة احتوائها واحتواء الفلسطينيين، أو التمكن من إحداث ثغرة في الجدران التي تحاصرها من كلِّ جانب باتجاه استعادة المبادرة الثورية. ففي الاتجاه الأول حاصرها النظام الهاشمي بمشروع "الكونفدرالية"، وبالمناسبة فقد كان "أحمد عبيدات" في ذلك الوقت هو رئيس الوزراء الأردني الذي قاد وأدار التفاوض مع منظمة التحرير حول مشروع الكونفدرالية. لكن "الثورة" رفضت العرض من منطلق أن مشروعَها الأساس كان هو "مشروع هوية فلسطينية"، وليس "مشروع تحرير أرض"، ما جعلها ترى في أيِّ عباءة أردنية في ظل النظام الوظيفي الهاشمي خسارة لهوية اعتبرت نفسَها ناضلت لأجلها زمنا طويلا، ولم تفكر إطلاقا في أن تجعل من هذا المشروع بداية لحقبة جديدة من إعادة إنتاج الحالة الوطنية في الأردن. وفي الاتجاه الثاني تمكنت الثورة من تفجير الانتفاضة الأولى عام 1987، فرأت فيها أملا يساعدها على استعادة المبادرة الثورية، لكنها عادت لتواقع خطأً إستراتيجيا قاتلا حرفها نحو الهاوية هذه المرة، عندما لم تفكر في استثمار الانتفاضة إلا لصالح "مشروع الهوية" وإن يكن في الوهم، ولم تحاول استثمارها لصالح "إعادة إنتاج مشروع ثوري في المحيط العربي" رغم أن الانتفاضة كانت مؤهلة لذلك بالفعل.


5 – مرحلة التأسيس للانجرار إلى "الخيار الصهيوني الإسرائيلي"، على مدى الفترة الممتدة من عام 1988 وحتى عام 1993. فبعد اتضاح الإرهاصات الحقيقية للانتفاضة الأولى على صعيد تأثيرها على المحيط العربي، تمَّ العمل على إلقاء طعمٍ مغرٍ على صعيد الهوية في طريق "منظمة التحرير" كي تنجرَّ إلى استثمار الانتفاضة باتجاه الداخل فقط، وكي لا تحاول تصديرها إلى المحيط العربي والأردني خاصة. لقد كان هذا الطعم هو "قرار فك الارتباط" في 31/7/1988، والذي قدَّم "الملك حسين" بموجبه "الضفة الغربية" – هديَّة ما من وراها جزيَّة – للفلسطينيين وتحت ضغط إصرارهم كما تصوروا بكل سذاجة. وهو القرار الذي سيعتبر منذ تاريخ صدوره بمثابة القاعدة الكارثة التي وضعت الأساس لكل ما سيشهده الإقليم على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي لاحقا. وبالفعل ابتلع الفلسطينيون الطعم، وبدأوا يتحركون في اتجاه استثمار الانتفاضة داخليا، ليجدوا إسرائيل تنتظرهم لتستدرجهم إلى الضفة والقطاع بمشروع "أوسلو" عام 1993. فآلت الانتفاضة من حالة كانت تمهد لتغيير ثوري عامٍّ في الإقليم، إلى حالة تفرَّغَت من مضمونها الثوري التغييري التحريري لصالح مشروع "هوية فلسطينية" هزيلة ما تزال بعد عشرين عاما من بدء "أوسلو" تعاني من عدم التجسُّد على أيٍّ من المستويات الفاعلة والمفيدة وذات المعنى والمضمون والدلالة.


6 – مرحلة "التصفية التدريجية للقضية وللثورة الفلسطينيتين" على مدى الفترة الممتدة من عام 1993 وحتى الآن. وهي المرحلة التي أُخْرِجَ خلالها الأردن نهائيا من دائرة الشأن الفلسطيني المباشر باتفاقية "وادي عربة" ثم بـ "برامج التصحيح"، وبعد ذلك بـ "تفاهمات واشنطون". وتم خلالها تجميع كلّ مُكَوِنات الجسم الثوري الفلسطيني على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، وتم تجسيد معالم الوظيفية الفلسطينية والنظام الوظيفي الفلسطيني الذي أثبت أنه أكثر فسادا وإفسادا وتبعية من أيِّ نظام عربي آخر. وظهرت شرائح الانتهازية والانتفاع والتخاذل على أوسع نطاق في جسد السلطة الفلسطينية. فيما كانت هذه المرحلة هي أيضا المرحلة التي أنجزت فيها حماس مشروعَها وبنيتَها واستكملت أساسات برنامجها وأجندتها، لتكون لاعبا قويا وورقة لا يستهان بها في حال الرغبة في ترسيم خريطة القضية الفلسطينية من جديد. وهذا ما كان وما حصل بالفعل.


نلاحظ إذن أن "القضية الفلسطينية" كانت هي "القضية الوطنية الأم للشعب الأردني" في الفترة "1965 – 1969"، لتصبح هي "قضية الفلسطينيين وحدهم" على مدى الفترة "1969 – 2013" خالقة بهذا الاختزال والتمزيق أبشع حالة تناقض داخل الصف الجماهيري الأردني على الساحة الأردنية، وأوحش حالة اغتراب وتعرض للاغتصاب على الساحة المحتلة. ولقد بُدِئَ الآن وعلى ضوء ما تمكننا قراءته من إرهاصات راحت تَرْشَح من الأحداث الأخيرة، بالتمهيد لجعلها قضية "النظام الوظيفي الأردني" كما كان عليه حالها في الفترة ما قبل ثورة عام 1965 من حيث الدور الأمني فقط، وليس من حيث الحالة السياسية والقانونية، مع القذف بقطاع غزة إلى نوعٍ من أنواع الحواضن المصرية التي لا تختلف عما كان عليه حال الحواضن التي أدارت القطاع قبل عام 1967 إلا في حجم التبعية والوظيفية والمعاداة لمشروع التحرير، بل ربما تكون أكثر إمعانا في التبعية، هذا بعد عمل ما يلزم لتصفية مشروع المقاومة "حماس" هناك بشكل نهائي، عبر التحالف بين "النظام الانقلابي" في مصر، وسلطات الكيان الصهيوني في تل أبيب.


إن السلطة الفلسطينية بوصفها المُخْرَج المَسخ الذي أنجبته "أوسلو" التي تُعْتَبَر بدورها المُخْرَج المَسخ الأسبق الذي أنتجه قرار "فك الارتباط"، استنزفَت كلَّ إمكانات توليدها لأكاذيب وتسويفات وترحيلات جديدة للقضية ضمن مساحات الأمن والأمان الضامنة لتجنب الانفجارات الشعبية القادرة على إعادة إنتاج الحالة الثورية المفقودة والمُغَيَّبَة منذ نحر الانتفاضة الأولى.


أي وبتعبير أدق، لقد انتهى دور اتفاقية "أوسلو"، وبالتالي "السلطة الفلسطينية"، وبالتالي الوضع الجيوسياسي والقانوني للأردن والناتج عن "قرار فك الارتباط"، من حيث قدرة كل ذلك بأشكاله تلك على تزويد حالة "اللاحرب واللاسلم" المستهدَفَة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي إستراتيجيا، بأيِّ مُخْرَج جديد مُقنعٍ وقادرٍ على الإسهام في عدم التأثير على الوضع الفلسطيني والأردني باتجاه دفعه نحو إعادة إنتاج نفسه بشكل ثوري جديد قد يؤثر سلبا على حالة "اللاحرب واللاسلم" تلك، وعلى حُماتها الأساسيين في الجانب العربي، وهما "النظام الوظيفي الأردني"، و"النظام الوظيفي الفلسطيني"، خاصة مع تداعيات الربيع العربي عامة، وتداعياته على صعيد إعادة إنتاج حالة من الوعي الجديد بعلاقة الهيويتين الأردنية والفلسطينية في الأردن خاصة.


وبالتالي ومادام اللجوء إلى "الخيار الإسرائيلي" بالانزلاق إلى "أوسلو" في فلسطين، بعد قرار "فك الارتباط" الذي تمَّ اتخاذه في الأردن، كان يهدف إلى استدراج الجسد الفلسطيني الخارجي إلى مقتله للبدءِ في عملية ذبح القضية الفلسطينية وتصفيتها بشكلٍ ممنهج ومدروس، عبر كلِّ ما يتاح من استنزاف حالات التوالد الممكنة في الخيار الأوسلوي الذي كان ما يزال خيارا مرتقبا قبل تجسُّده في عام 1993، فإنه قد الآوان لغلق هذا الملف باستكمال عملية الذبح عبر تصفية السلطة الفلسطينية بعد أن أدت دورها على مدى عشرين عاما، ولم تعد قادرة على تقديم المزيد.


ولكن تصفية "السلطة الفلسطينية" ودفن مرجعية "أوسلو" حتى إسرائيليا، بعد أن لم تعد إسرائبل قادرة على الاستفادة منهما، ليس من شأنه أن يحقِّقَ نتيجة بناءة وفعالة على صعيد "القضية الفلسطينية" التي تُعْتَبُر قضية عصيَّة على التغييب المطلق. ويجب لترحيل آفاق حلولها النهائية إلى المستقبل، طرحُ صياغات جديدة لها قابلة لإنجاز ذلك الترحيل، كي لا تتجسَّد وتتخلَّق عبر صياغات مختلفة غير مسيطرٍ عليها من خارج دائرة الهيمنة والتوجيه "الإمبريالية والصهيونية والوظيفية".


إن ما يحاكُ في الخفاء، وما يُدَبَّر بليلٍ، سواء على صعيد ما يتم إعداده لغزة في سياق التجاذبات مع الوظيفية الجديدة في مصر ما بعد الانقلاب – دون أن نعني بذلك حسما وقطعا أن مصر ما قبل الانقلاب كانت تتحرك بوعي وتخطيط ودراية خارج دوائر الوظيفية – أو على صعيد ما تُعِد له زيارة "كيري" للمنطقة أردنيا وفلسطينيا وإسرائيليا، من تدويرٍ لفضلات "أوسلو 1" في نسخةٍ "أوسلوية" جديدة أكثرَ مسخا حتى من النسخة الأولى، عبر محاولة استحضارِ مشروع كونفدرالية عام 1984 بتبعاتٍ تصفوية أو ترحيلية لموضوع اللاجئين وذلك حسب ما يُستطاع، لإعادة إنتاجَ القضية الفلسطينية في حاضنة النظام الهاشمي الوظيفي، بعيدا عن مشروعي التغيير والتحرير الحقيقيين، اللذين تفقدُ مقولة "أردنية الضفة الغربية" قيمتَها ومعناها ودلالاتِها الوطنية بدون أن تتحقق وفق أسُسِهما..


نقول.. إن ما يحاك على هذين المحورين مما تابعناه على مدى الأسابيع بل والأشهر الأخيرة، هو تمهيدٌ لمرحلة جديدة من عمر الصراع، سوف تعيدُ قذفَ الضفة الغربية إلى حاضنة النظام الأردني بشكلٍ مخادع قريب مما كان عليه الوضع قبل حرب 1967، دون أن تنسحبَ إسرائيل من الضفة بشكل يهدِّدُ أمنَها، أي على أن تكون العلاقة بين الأردن وضفته المحتلة علاقة أمنية وليست علاقة سياسية وقانونية سيادية، علاقة مصطنعة تقنعُ المترقبين والمراقبين والواهمين والمخدوعين، وعلى رأسهم ببغاوات وأبواق الإقليمية والعنصرية والفئوية والقُطْرِيَّة في الطرفين، بأن هناك مشروعَ رؤيةٍ لحلٍّ يجمعُ بين الهويتين المعبودتين عبادة الأوثان، والمقدستين قداسة الآلهة. لتبدأ مرحلةٌ جديدة من عمر القضية والصراع، يتعامل معها الفلسطينيون والأردنيون والعرب باعتبارها القناة الجديدة المتاحة، لتستنزفَ من عمر تعاطيهم مع الصراع عشرين سنة قادمة إن لم يكن أكثر.


وحيث قد وصلنا إلى هذا المستوى من التحليل فإنه يجدر بنا أن نعكفَ على توضيح فكرة الانتقال في التعاطي مع القضية الفلسطينية من "الخيار الأردني" إلى "الخيار الإسرائيلي"، ثم العودة الآن إلى "الخيار الأردني" مجددا، ماذا تعني وماذا يمكنها أن تحقق، وكيف تمَّ تجسيدها سابقا، وكيف سيتمُّ تجسيدها في المستقبل (!!)


تحليل إستراتيجية الانتقال من الخيار الأردني إلى الخيار الإسرائيلي


منذ فَشِلَ مشروعُ "الكونفدرالية الأول" عام 1984، والذي مثَّل آخر محاولة حقيقية لتفعيل "الخيار الأردني"، بدأ الإعداد لمرحلة "الخيار الإسرائيلي" الذي تعاملت معه "منظمة التحرير الفلسطينية" باعتباره خيارا فلسطينيا، فيه من "الفلسطينية" أكثر مما في كلِّ الخيارات الأردنية السابقة منها، لمجرد أن أحدا لا يساوره القلق بشأن نقاء "الهوية الفلسطينية" عندما تتعامل مع إسرائيل مباشرة، خلافا للحالة التي تتعامل فيها هذه الهوية مع الأردن بنظامه الوظيفي القُطْري المعهود.


فلا أحد يتصور أن الفلسطينيين قد يذوبون في "الإسرائيلية" بفلسطينيتهم وعروبيتهم وإسلاميتهم ومسيحيتهم، لأن إسرائيل ذاتها ترفض ذلك وتحاربه ولا تريده، بسبب تعارضه مع فكرة "اليهودية" التي تحرص على جعلها وعاءً دينيا نقيا لهوية الدولة ومواطنيها، بينما معظم الفلسطينيين كانوا يتصورون أنهم يُسْتَدْرَجون إلى الخيارات الأردنية ليذوبوا في "الأردنية" ذوبانا تاما، وليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل عام 1968، وليضربوا بعرض الحائط كلَّ إنجازات "الهوية" التي حققوها على مدى أكثر من عقدين من الزمان.


أي – وكما هو واضح – فإن وهمَ نقاء "الهوية الفلسطينية" وتجسيد "أناها" المميزة والمقدسة وطنيا، كانت كلها أساطيرُ حاضرة عندما تمَّ اللجوء إلى الخيار الإسرائيلي والقبول به كأداة إنقاذٍ للقضية الفلسطينية، ليتَّضِح لنا على أرض الواقع ومن خلال الممارسة العملية أنها كانت أداةَ انتحار لا أداة إنقاذ.


لقد كان الخوف على ذوبان "الهوية الفلسطينية" في "الهوية الأردنية" من جديد، فيما لو تمَّ التجاوب مع الخيارات الأردنية – وهو خوف مشروع في نظر منظمة التحرير، بعد كل هذه التضحيات من أجل ذلك الإنجاز الوهم المسمى "هوية فلسطينية" وإن تكن على الورق وفي الأدراج – مُحَدِّدا أساسيا لوجهة السياسة والدبلوماسية الفلسطينيتين منذ الخروج المهين من الأردن.


فليس المهم هو التحرير الحقيقي واليقيني، وانتهاج أيِّ شيء يمكنه أن يؤدي إليه بالمنظور القومي الإستراتيجي، حتى لو كان هذا الشيء متمثلا في إعادة إنتاج العلاقة الأردنية الفلسطينية بشكلٍ مختلفٍ عن الشكل الذي أدى إلى كوارث ما بعد أيلول، وإنما المهم هو أن يبقى الفلسطينيون في أكناف وهمهم "الأنَوي" و"الهوياتي"، حتى لو افتقر مشروع التحرير في ظل أولوية هذا الوهم إلى أيِّ مستوىً من مستويات اليقين والحتمية، وتحوَّل إلى ممكن بعيد المنال بعدا يرقى به إلى درجة المستحيل. وهكذا فقد سار الفلسطينيون بهذا الوهم نحو حتفهم، وإلى مثواهم الأخير، الذي جرتهم إليه "اتفاقية أوسلو" العتيدة بعد أن استسلموا للخيار "الإسرائيلي".


لقد أصبح هدف الفلسطينيين هو الحفاظ على أسطورة "الهوية الفلسطينية" و"الدولة الفلسطينية" فكرةً عالقة في الأذهان، وأملاً يراود النفوس، وملفاً يُزَيِّن به الساسةُ أدراجَهم، حتى لو تأجل إلى الأبد تحويلُها إلى واقع متجسٍّد على الأرض. ولم يخطر ببالهم أن بالإمكان الانعتاق من سطوة هذه الأسطورة لجعل التحرير مشروعا قابلا للتّحَقُّق، فقط إذا نُظِرَ إلى "الهوية" باعتبارها أداةً ممكنة للتحرير، وليس باعتبارها هدفا في ذاتِها يهون لأجله مشروعُ التحرير ذاتُه.


لقد أصبحوا ينظرون إلى أيِّ مشروع مطروح عليهم، وإلى أيِّ خطة معروضة للتعاطي مع قضيتهم، من منظار بعدهما عن، أو قربهما من وهمهم الذي عاشوه ورفضوا التنازل عنه، غير مبالين بأيِّ أيديولوجيةِ وإستراتيجيةِ تحريرٍ جديدة وفعالة ومنتجة وحقيقية، إذا كانت ستسحب "وكالةَ إدارة الهوية الفلسطينية" منهم وتسلمها لغيرهم، بل حتى لو كانت ستشرك معهم غيرهم في هذه الوكالة، عبر إحداثِ بعض التغييرات في مكانةِ الهويات، تخفِّضُّ من سقف القداسة التي يتصورونها في "الهوية الفلسطينية".


ولم يستطيعوا التعامل مع المنجزات التي حققوها على صعيد هويتهم وحقوقهم المشروعة من الناحية القانونية والأخلاقية عربيا وعالميا، عبر نضالهم الطويل وتضحياتهم الكبيرة، باعتبارها رصيدا إستراتيجيا لا خوف عليه من أيِّ مشروعٍ يعيد إنتاج العلاقات بين الهويات في الأردن وفلسطين على قواعد جديدة تؤصِّل للتحرير طريقا لتجسيد الهوية وليس العكس، رغم أننا جميعا نعلم أن المكانة الحقوقية والقانونية لكلِّ من قرار التقسيم "181" وقرار حق العودة "194"، اللذين يمثلان أهم ركائز الحق الفلسطيني في منظور الشرعية الدولية، بالإضافة إلى كلِّ القرارات المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للمساس، ما تزال على حالها من قوة الشرعية والاستحقاق، منذ أن أُقِرَّت، رغم أنها أقرت في ظل غيابٍ كاملٍ لأيِّ مستوى من مستويات "الهوية الفلسطينية" و"التمثيل الفلسطيني" القوي والقادر على فرض الحقوق.


فليست منظمة التحرير، ولا نضالات وتضحيات الشعب الفلسطيني التي يشهد لها القاصي والداني منذ حوالي خمسين عاما، ولا تجسيد هذا الوهم المتمثل في "الهوية الفلسطينية" في الخيالات والأدراج، ولا نتائج حرب أيلول، ولا ثورة الستينيات قبلها، ولا نضالات لبنان بعدها، هي التي أجبرت العالم على الاعتراف للفلسطينيين بحقوقٍ أكبر مما بات الفلسطينيون أنفسُهم يطالبون به لأنفسِهم بعد سقوط أكثر من مليون شهيد.


وبالتالي فمِمَّ الخوف على "هويةٍ" منحهم العالم إياها على مساحة من الأرض تنازلوا هم عن معظمها رغم ضخامة التضحيات، فقط من أجل الحفاظ على ما تصوروا أنه تجسيد له دلالة لـ "الهوية الفلسطينية"؟! ولمَ تقديم هذا الحق المكفول والمحفوظ شرعيا على أولوية التحرير، إذا كان للتحرير طريق آخر أكثر جدوى وفاعلية من طريق الأوهام، وإن يكن عبر تأجيلِ موضوعةِ الهوية إلى ما بعد التحرير؟!


لقد أصروا على بقاء الوكالة في أيديهم، تماما مثلما يفعل "المحتال" الذي يحرص على التحكم في أموال مُوَكِّلِه بالحيلولة بينه وبين جعله يسحب التوكيل منه، لسبب بسيط هو أن الهدف لم يعد هو التحرير، الذي إذا تطلب تغييرا في مكانة الهويات وقداستها ومستوياتِ تَجَسُّدِها استجبنا له وحققناه، بل غدا هو العيش في هذا الوهم المدعو "هوية فلسطينية"، وإن تكن في خيالات المرضى والحالمين والفئويين والقطريين والإقليميين وأنصار المصالح الطبقية.


ولأن شيئا لا يمكنه الحفاظ لهم على هذا الوهم سوى إبقاء زمام "الوكالة" في أيديهم، فقد فعلوا كلَّ ما في وسعهم كي لا تفلتَ الأمور منهم. فأصبحت "منظمة التحرير الفلسطينية" جراء هذه الأوهام، وبسبب التمسك الأعمى بهذه الأسطورة، أكبرَ حجرِ عثرةٍ يقف في وجه أيِّ مشروع تحرير حقيقي. إنها بصفتها التي جسدتها التداعيات الحقوقية والسياسية التي رافقت سيرورَتَها منذ عام 1970 وحتى الآن، تمثل أكثر الأنظمة العربية وظيفية وقُطرية في ذاتها من جهة، وأكثرها شرعنة للوظيفية وللقُطرية العربية ككل من جهة أخرى.


بدأ الأردنيون والفلسطينيون يتحركون نحو "الخيار الإسرائيلي" عندما اتضح أن "الخيار الأردني" بعد مرور 18 عاما على "أيلول" لن يكون هو الخيار الذي قد يقبل الفلسطينيون بالعودة إليه، وهم ما فتئوا يعيشون في أوهام ما يعتبرونه إنجازات "الهوية الفلسطينية" و"الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني" منذ عام 1970، على أرضية التحرر من الخيار الأردني والانعتاق من تبعاته التي ما كانوا قادرين على تصوُّر شكلٍ لها، غير ذلك الذي عرفوه في الفترة 1948 – 1965، رغم أنهم هم الذين تحدوا ذلك الشكل وغيروا من الطبيعة الوظيفية للهوية الأردنية في ذلك الوقت، وفجروا بأردنيتهم الحاضنة لفلسطينيتهم واحدة من أنبل وأعظم ثورات العالم المعاصر.


تناسى الفلسطينيون بعد منتصف الثمانينيات، أنهم كانوا على رأس من أفشلوا ذلك الخيار في الخمسينيات ومنتصف الستينيات، رغم قسوته وشراسته وتجذُّر وظيفيته آنذاك، عندما أفقدوه زمام المبادرة حتى بشأن ما يتعلق بالهوية الأردنية التي أرادها النظام وظيفية تبعية عصبية سقيمة، فتمكنوا من تحريرها منها وجعلها ثورية تقدمية نضالية وحدوية نهضوية. ما يجعل الخوف منه ومن عودة هيمنته على هويتهم كما كان عليه حال هيمنته عليها بعد مؤتمر أريحا، في ظل امتلاك مشروعٍ واضح للتحرير، خوفا مما لا يخيف.. إلخ.


ولكن، وبقدر ما كان الحرص الفلسطيني على عدم الانجرار وراء الخيار الأردني بدون تمحيص وحذر وتحوُّط في مرحلة ما بعد أيلول، حرصا قد يبدو وجيها، بسبب وضوح عدم وطنية ذلك الخيار الناجمة عن وظيفية النظام الأردني أساسا، وعدم موثوقية أيِّ ادعاء له الحرصَ على تحرير الأرض المحتلة ودعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين بعد كلِّ الذي حصل في أيلول، بقدر ما كان التخبط والعجز في سياسات منظمة التحرير إزاء "الخيارات" واضحا وجليا، بسبب عدم ارتكاز تلك الخيارات إلى رؤية متكاملة تتعلق بمشروع التحرير في فضاءاته القومية والإنسانية، وانكفائها على مرتكزات لم تسمح لرؤية "منظمة التحرير" بالخروج من دوائر "الهوية الفلسطينية" الضيقة، بصفتها مكتسبا إستراتيجيا يتَّسم بشرعية الحكم على السياسات وعلى الخيارات، بل وعلى مصداقية مشروع التحرير ذاته.


فلو كان رفض الفلسطينيين للخيار الأردني قائما – حقيقةً – على ضبابية مشروع التحرير في عناصر ذلك الخيار وفي مُكَوِّناته، لكان رفضا دافعا باتجاه البحث عن الخيارات البديلة التي تختلف عنه في كونها متحررة من تلك الضبابية، ودافعة فعلا باتجاه بلورة وتنمية مشروع حقيقي للتحرير. إلا أن الواقع غير ذلك تماما. فالمقاومة عندما كانت تمارس نشاطَها في الأردن في الستينيات، تمردت على الخيار الأردني عندما كان هو الخيار الثوري القومي التحرري الحقيقي المتاح، مستحضرةً الخيار الفلسطيني بكل وظيفيته وقطريته، فقط لأنه يستنهض مشاعر الأنا والهوية لدى الفلسطينيين، دون أدنى اعتبار لأولوية مشروع التحرير الذي كان يتطلب شيئا من التواضع في مطالب الهوية الفلسطينية آنذاك، حفاظا على الأردن قاعدة آمنة أكيدة لثورة عربية كبرى حقيقية.


وبالتالي فما ضحت الثورة لأجله بخيار "التحرير الحقيقي والفاعل والمنتج" الذي كان قائما بالفعل في الستينيات، وهو وهم "الهوية الفلسطينية المقدسة"، وهي مخطئة في ذلك، ما كانت لتضحي به لأجل خيار أردني وظيفي قُطري يطرحه نظام الملك حسين، ولا يمت إلى التحرير بصلة، دون أن تحتاط وتحذر وتمحِّص، وهي محقة في ذلك من هذا الوجه، مع التحفظات التي ستتضح لنا في سياق التحليل، والتي ستكشف لنا عن أنها لم تفكر على نحوٍ تثويري لغايات "مشروع التحرير"، بل هي فكرت على نحوٍ قطري شوفيني لغايات أوهام "مشروع الهوية".


فالخيار "الفلسطيني الوظيفي" الذي جاء على أنقاض الخيار "الأردني الثوري"، أسقط إستراتيجية "التحرير"، وأنجزَ أسطورة "الهوية المقدسة" في العقل الفلسطيني، أي أنه أنجز شيئا ما بالنسبة للفلسطينيين، وإن كان مخادعا ومضَلِّلا وهزيلا وغامضَ المستقبل، ومساحاتٌ الوهم فيه أكبر من مساحات الحقيقة. بينما "الخيار الأردني" الذي طرحه "الملك حسين بن طلال" بعد أيلول، سواء في عام 1972 عبر مشروع "المملكة العربية المتحدة"، أو في عام 1984 عبر مشروع "الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية"، إنما كان يهدف إلى إسقاط الاثنين معا، "الهوية" و"التحرير". لذلك كان رفضه مفهوما من هذا الوجه، مع وجود آفاقٍ لبقاء مشروع التحرير الذاوي منفتحا على فضاءيه المحلي والقومي في الخيار الأردني، ليحدث في الأردن ما يمكنه أن يُنْتِجَ حالةً شبيهةً بتلك التي سبق وأن نتجت في عام 1965 عما حدث في عام 1948.


لكن رفض هذا الخيار لن يكون مفهوما البَتَّة من وجه رفضه والقبول بدلا منه بالخيار الإسرائيلي الذي سيُسْقِط هو أيضا كلا من "الهوية" و"التحرير"، دون أن يتيح الآفاق التي كان سيتيحها سابقه، لأن الثورة ومؤسساتُها عندما تضع نفسَها رهن إشارة "الخيار الإسرائيلي" وداخل مساحة أرضٍ لا تملك أيَّ عمق إستراتيجي لـ "حماية إسرائيل" نفسها، ناهيك عن أن تملكه لـ "مشروع التحرير"، كما وعى ذلك جيدا أساطين الفكر الثوري الفلسطيني بدءا بـ "خالد الحسن" ومرورا بـ "صلاح خلف" وليس انتهاء بـ "هاني الحسن"، فهي إنما تنتحر وترهن كلَّ مستقبلها لعناصر ذلك الخيار الإسرائيلي، وتضع كلَّ أوراقها في سلة هذا الخيار، لتصبح النتيجة المرتقبة تتخذ شكل معادلة قوامها: "إما الحل الإسرائيلي، وإما القضاء على المشروع الفلسطيني كاملا، وعلى رأسه مشروع الهوية القطري السايكسبيكوي الذي أضاعت الثورة أربعين عاما من عمرها لتحافظ عليه على حساب مشروع التحرير القومي، فإذا بها تجد نفسها وقد خسرت الاثنين معا، "الهوية" و"التحرير".


أي أن المشروع الفلسطيني الذي تنازل عن أردنيته الثورية الدافعة باتجاه "مشروع التحرير" القومي منذ عام 1968 واستكمل هذا التنازل بالاندماج التاريخي الحاصل في عام 1969 بين بندقية المقاومة ومنظمة التحرير، مُجَرِّدا تلك البندقية من أردنيتها الفسيحة آنذاك بكلِّ المعايير، وخانقا إياها بفلسطينيتها الضيقة آنذاك بكلِّ المعايير أيضا، متمسكا بهذه الفلسطينية الدافعة باتجاه "مشروع الهوية" القُطْري الوظيفي، أثبت فشلا ذريعا جديدا بعد عام 1982، لا يقل كارثية عن فشله المتمثل في ابتلاع طعم النظام الأردني في الستينيات، عندما مارس مع المقاومة الأردنية لعبة "لوغو الهويات" بكفاءة منقطعة النظير، ليستجيبوا لها بسذاجة منقطعة النظير أيضا.


ولقد تمثل الفشل الذريع الجديد هذا في أن قادة المشروع الفلسطيني ما تمكنوا من رؤية الآفاق غير المرئية التي يتيحها الخيار الأردني، وهي آفاق إعادة إنتاج الشعب الأردني على قواعد ثقافة "مصلحة الفكرة" بكل فضاءاتها الممكنة على صعيد إعادة تثوير الشعب الأردني بمكونيه الشرق أردني والفلسطيني، وهي الثقافة التي ما كان لها أن تستعيدَ مساحاتِها في الأردن في تلك الفترة على حساب ثقافة "مصلحة العصبية" المستشرية بكلِّ مكوناتها التدميرية، إلا بوجود الشريك الفلسطيني بفاعلية على الأرض الأردنية. وما رأوا في ذلك الخيار سوى انطوائه على تقديم "الهوية الفلسطينية" تنازلات – بدت لقادة المشروع الفلسطيني جوهرية – عن المكتسبات "الوهم" التي يعتبر قادة هذا المشروع أنها حققتها بنضالات الفترة 1970 – 1982.


لم يقف الفشل الذريع الذي مُنِيَ به قادة المشروع الفلسطيني عند ذلك الحد، بل إن هذا الفشل تفاقم في التعبير عن نفسه، عندما فاجأ هؤلاء القادةُ العالمَ وعلى رأسهم الأمة العربية عام 1993 باتفاقية "أوسلو" التي تُجَسِّدُ – عمليا – القبولَ بالخيار الإسرائيلي. لقد كشف هذا القبول عن كارثة أيديولوجية تجعلنا نجزم بأن قادة ذلك المشروع يمثلون أسوأ نموذج للقُطرية والوظيفية العربية، أهداها الفلسطينيون لخريطة "سايكس بيكو" كي تستكملَ بها بناءها الذي كان ناقصا منذ عام 1916.


ووجه النقص في تلك الخريطة هو أنها رغم كلِّ العبث الذي مارسته في الإقليم، مُجَسِّدَة حشدا من الهويات القُطرية الوظيفية المتنافرة والمتنازعة، والمتكالبة على الحفاظ على "السايكسبيكوية" إطارا لسيرورتها السياسية والاقتصادية والثقافية، فإنها بقيت عاجزة مع ذلك – أي خريطة سايكس بيكو – عن أن تحوِّلَ "الهوية الفلسطينية" إلى هوية قُطرية وظيفية، بعد أن كانت هي الهوية الوحيدة التي أفلتت بحكم طبائع الأمور كما كانت عليه في تلك الفترة من أسر "السايكسبيكوية"، إلى أن قدَّمَ الفلسطينيون بمشروعهم "الهوية الفلسطينية الوظيفية" على حساب "الهوية الأردنية الثائرة"، أكبر خدمة يمكن أن يقدمها طرف لعدوه التاريخي، بأن أسهموا بأنفسهم في خلق كلِّ الظروف التي فرَّغَت الفلسطينيين من ثوريتهم التي تجسدت قبل 1948، ومن قدرتهم على التكييف التثويري لغيرهم عندما ثوروا "الهوية الأردنية الوظيفية القُطْرِيَّة" عام 1965.


فقادة المشروع الفلسطيني الذين لم يروا في "الخيار الأردني" تلك الآفاق الثقافية القادرة على إعادة إنتاج الشعب الأردني سياسيا وبالتالي ثوريا باتجاه "مشروع التحرير"، أو ربما الذين رأوا ذلك لكنهم لم يجدوا أنفسهم معنيين بالأمر، مادام ذلك لن يتحقق إلا على حساب بعض مُكَوِّنات هويتهم المقدسة التي أصبحت معيارَ الحكم على الحق والباطل، وعلى الصواب والخطأ، وعلى القداسة والنجاسة، فيما يُعْرَضُ عليهم وفيما يفكرون فيه سياسيا..


نقول.. إن هؤلاء القادة الذين رأوا أو لم يروا تلك الآفاق في الخيار الأردني، تغاضوا عند قبولهم بالخيار الإسرائيلي عن حقيقة أن كلَّ آفاق إعادة إنتاج عناصر مشروع التحرير الممكنة والمحتملة في الخيار الأردني، ستتبخر في الخيار الإسرائيلي. وهم عندما تغاضوا عن ذلك، فلأنهم تصوروا أن ما كان سيُفْقِدُهم إياه الخيار الأردني على صعيد "وهم الهوية"، لن يزاحمَهم عليه الخيار الإسرائيلي، بسبب حرص الإسرائيليين على التخلص حتى ممن هم لديهم من الفلسطينيين، لا إذابة ملايين غيرهم في "الهوية الإسرائيلية".


ومع أن هذه المفاضلة بين الخيارين على النحو الذي تمَّت به، تؤشِّر في حد ذاتها على عناصر تدميرية في أيديولوجية التثوير العربي، بسبب أنها قدمت "الهوية" القُطْرِيَّة الضيقة بكل وظيفيتها على "مشروع التحرير" في خياراتها السياسية، إلى درجة إعطاء الأولوية إلى خيار إسرائيلي يشير شكله الظاهر المُضَلِّل إلى عدم المزاحمة على الهوية، على حساب خيار أردني يشير شكله الظاهر إلى نوع من أنواع المزاحمة على الهوية، مع أن الخيار الأول – أي الإسرائيلي – سيغلق الأبواب كاملة أمام مشروع التحرير إلى أجلٍ غير مسمى، ريثما تحدث في الأمة تغييرات جوهرية تدفع بهذا الاتجاه، فيما الخيار الثاني – أي الأردني – هو بطبيعته منطوٍ حتما على مُحَفِّزات وميكانيزمات الدفع باتجاه إعادة إحياء ذلك المشروع على الساحة الأردنية.. نقول.. مع أن المفاضلة بين الخيارين على النحو الذي تمت به، تعتبر دليلا على كارثية التوجهات الأيديولوجية لقادة المشروع الفلسطيني، فإن ما تصوره هؤلاء القادة على صعيد وهم "الهوية الفلسطينية" لم يكن صحيحا من حيث المبدأ.


فنحن لسنا ندري على أيِّ أساس تصور هؤلاء أن "الهوية الفلسطينية" ستكون بمأمنٍ من الغوائل بلجوئها إلى هذا الخيار وبارتمائها في أحضان الإسرائيليين، بينما تاريخ الصراع كلِّه يكشف عن حرص إمبريالي صهيوني وظيفي على ألا تتجسد "الهوية الفلسطينية" على أرض الواقع ولا بأيِّ شكل، وعن أن الحالة الوحيدة التي تمَّ السماح فيها لهذه الهوية بالتجسُد إنما كانت لأجل إنقاذ النظام الوظيفي الأردني في الستينيات من "الهوية الأردنية الثائرة"، بعد أن اقتنع الثالوث الإمبريالي – الصهيوني – الوظيفي بأن "الهوية الفلسطينية" التي ستتجسَد ستكون وظيفية قطعا، وأن تجسُّدَها على ذلك النحو – مؤقتا – سيقضي على "الهوية الأردنية الثائرة"، لتتمَّ العودة بعد ذلك لمناجزة هذه الهوية الجديدة حتى وهي وظيفية وقطرية، كي تعود إلى سابق عهدها في عالم البرزخ الذي جاءت منه، لأجل ألا تتحول إلى هوية شبيهة بهوية الأردنيين التي قضت عليها بتجسدها الوظيفي هذا بعد عام 1968؟!


إن كل أحداث الفترة 1970 – 1982 وما بعدها، كانت تصب في هذا الاتجاه، سواء ما حصل منها في لبنان من حصار وتصفية وملاحقة وقتل ومعارك تُوِّجَت بالطرد إلى منافٍ جديدة، أو في الأردن من ترسيخ لثقافة "مصلحة العصبية" بكل تداعياتها التدميرية على الأردن سياسة واقتصادا وإدارة وبُنىً مجتمعية، أو في العقل الفلسطيني نفسِه من تضخُّم إحساسه بالأنا وبالهوية على حساب أيِّ خطوة تدفع باتجاه قومية أو عالمية الثورة، وهما القومية والعالمية اللتين يقتضيهما مشروع التحرير الحقيقي لهذه البقعة المركزية من العالم.


إن إستراتيجية الإمبريالية والصهيونية والوظيفية العربية إزاء الثورة بعد خروجها من الأردن وارتدائها ثوب "الهوية الفلسطينية"، كانت تنصبُّ نحو تحقيق غاية أساسية هي ذاتها الغاية التي انطوت على تجسيدها مبادرتا عام 1948 في "أريحا"، و1949 في "التجنيس"، ألا وهي تغييب "الهوية الفلسطينية"، والحيلولة دون قيام "الدولة الفلسطينية" حتى لو كان جزءٌ من فلسطين مُحَرَّرا كما كان عليه الحال في أعقاب حرب 1948، وذلك لأسباب أيديولوجية تتمثل في أن تَجَسُّد "الهوية الفلسطينية" على أيِّ جزء من أرض فلسطين، هو في نهاية المطاف النقيض الأشد خطرا على "الهوية الصهيونية" القائمة على الجزء المتبقي من فلسطين.


ونظرا لأن استحضار "الهوية الفلسطينية الوظيفية" مع نهاية عقد الستينيات كان استحضارا اضطراريا تمَّ اللجوء إليه من قبل الوظيفية العربية بنصائح الإمبريالية والصهيونية، فقط لإنقاذ الهوية الأردنية الوظيفية التي كانت تحتضر إن لم تكن قد ماتت أصلا بفعل الثورة. فقد كان من الطبيعي كي تعودَ الأمور إلى طبيعتها التي كانت عليها قبل عام 1965، أن يصارَ إلى بذل الغالي والنفيس لأجل إخفاء "الهوية الفلسطينية الوظيفية" التي تمَّ تخليقها من جديد، خشية أن تتطور إلى هوية غير وظيفية، كما حصل للهوية الأردنية بعد عام 1948 عندما انقلبت إلى ثورة راحت تمهد لمشروع التحرير والوحدة والنهضة العربية منذ عام 1965.


وإذا كان ما مارسه النظام الأردني على الساحة الأردنية على مدى الفترة 1970 – 1982، من سياسات تكريس ثقافة "مصلحة العصبية" التي أسهمت في تخريب الأردن على كلِّ الصعد، بدءا بتكريس الشرخ بين الهويتين الوظيفيتين الأردنية والفلسطينية، مُخَفِّفَة بالتالي من احتمالات الانقلاب الثقافي الذي كان يخشى منه النظام وقادته الإقليميون والعالميون، يعمل في اتجاه تلجيم احتمالات انزلاق الثورة التي أصبحت فلسطينية ممعنة في قطريتها وفي وظيفيتها، إلى خنادق القومية والعالمية، وفي اتجاه محاصرة أيِّ دفع تمارسه باتجاه تخليق حالة أردنية جديدة غير متوقعة. وإذا كانت المؤامرات التي تعرضت لها الثورة الفلسطينية في موطنها الجديد "لبنان" تعمل هي أيضا في هذا الاتجاه. فإن هذا كله لا يكفي، ويجب أن يحدث إلى جانبه شيء آخر مهم، وهو توظيف نتائج الفعل الرسمي للنظام على الساحة الأردنية، ونتائج الفعل التآمري المناهض للثورة على الساحة اللبنانية، في حصارٍ من نوع آخر هو حصار "الخيارات السياسية" للثورة، بصفة هذه الخيارات السياسية هي الغاية التي يفترض أن الثورة تناضل وتكافح لأجل التوصل إليها.


أي أن الخيار الأردني الذي كان يُطِلُّ برأسه من حين لآخر، كان يعمل في اتجاه إعادة ابتلاع "الهوية الفلسطينية" على طريقة لا تختلف كثيرا عما حدث عقب حرب 1948 وإن يكن بأدوات المرحلة وبحسب ظروفها. ولما فشل هذا الخيار في تحقيق الغاية المرسومة، لم يعد هناك من بدٍّ لدفع الثورة نحو الخيار الإسرائيلي.


في هذا السياق، يقول "شيمون بيريز" ردا على سؤال من الصحفي الفرنسي "أندريه فرساي" الذي أدار حوارا مطولا بينه وبين "بطرس بطرس غالي" الأمين العام السابق للأم المتحدة، حول ما كانت إسرائيل مستعدة لتقديمه للفلسطينيين خلال مفاوضات السلام مع مصر، ما يؤكد به ما نقوله هنا، فهو يقول ما نصه: "لقد كنا بالطبع لصالح الخيار الأردني. أي أننا كنا على استعداد للتفاوض حول تقسيم السيادة على الأراضي المحتلة ولكن مع عمان، ولكننا لم نكن على استعداد لبدء مباحثات مع منظمة التحرير الفلسطينية. لذا فلم يكن الأمر رفض التفاوض بخصوص وضع الضفة الغربية وقطاع غزة ولكن معرفة مع أيِّ شريك نتفاوض" (كتاب "ستون عاما من الصراع في الشرق الأوسط/شهادات للتاريخ"، حوارات "بطرس بطرس غالي" و"شيمون بيريز" مع "أندريه فرساي"، منشورات "دار الشروق"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، ص 213).


وهذا يعني أن إسرائيل لم تكن تعارض مبدإ تنفيذ ترتيبات محددة بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة تضمن لها إبقاء "الهوية الفلسطينية" وممثليها خارج اللعبة. ولأن الأردن لا يستطيع التفاوض بشأن ترتيبات كهذه مع إسرائيل بدون حسم علاقته بالفلسطينيين عبر منظمتهم، بعد أن أصبحت لهم هويتهم التي أسهم هو نفسه في إيجادها من خلال لعبة "لوغو الهويات" في الستينيات، فقد كان من الضروري أن يُطْرَح الخيار الأردني بصفته حاضنة للحالة التي تسمح بقبول إسرائيل تنفيذ مثل تلك الترتيبات التي تحدث عنها شيمون بيريز، وهو ما فهمه الفلسطينيون جيدا بعد 1982، أي بعد أن فقدوا كل عناصر قوتهم التي يمكنها أن تجعلهم طرفا يمثل خيارا ندا قائما بذاته.


وبقيت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تراهنان على إمكانية استدراج الفلسطينيين إلى الخيار الأردني، رغم أن الخيار الإسرائيلي هو الأفضل بالنسبة لهما، بسبب أن هذا الأخير كان ما يزال قيد الإنضاج، ولم تكن الظروف قد أتيحت لطرحه خيارا بديلا، لا من الناحية الأخلاقية، ولا من الناحية الثقافية، ولا من الناحية السياسية. ومع ذلك فقد كان الإعداد له كخيارٍ بديلٍ نهائي في حال فَشِلَ الخيار الأردني، قد بدأ منذ وقت مبكر من طرف الفلسطينيين، رغم عدم الاستجابة له استجابة مُنْتِجَة من قبل الإسرائيليين، لقناعتهم بعدم نضج ظروفه بعد.


"فمنذ عام 1970 ومحمود عباس بموافقة عرفات يعمل على الاتصال بالقوى الإسرائيلية. فشل حينا ونجح أحيانا. في كتابه "الطريق إلى أوسلو" يقول محمود عباس: من الذين اقتنعوا بهذه الفكرة ودفعوا حياتهم ثمنا لها الشهيد سعيد حمامي مندوب فلسطين في إنجلترا، والشهيد نعيم خضر مندوب فلسطين في بلجيكا، والشهيد عصام السرطاوي الذي كان مكلفا من قبلي بالاتصال بالقوى الإسرائيلية الداعية للسلام. وبعد عام 1977 كما يضيف أبو مازن "عقدنا عشرات اللقاءات وحضرنا عشرات المؤتمرات التي تضم إسرائيليين من مختلف الاتجاهات" (كتاب "مقدمات النظام العربي"، الجزء الأول: "قبل مؤتمر بال وبعد أوسلو"، تأليف "كمال العزة"، منشورات "شركة مطبعة الندى"، عمان، 2001، ص 86 – 87).


هنا يَطرحُ سؤالٌ نفسَه: "إذا كان الخيار الإسرائيلي هو الخيار الأفضل في الإستراتيجيات الأميركية والإسرائيلية. وإذا كان الفلسطينيون قد أبدوا منذ وقت مبكر كما أشار إلى ذلك "محمود عباس" استعدادَهم للتحرك في اتجاه ذلك الخيار وقدموا لأجله تضحياتٍ جسيمة، فلماذا يتم تأجيله إلى أن تستنزف الخيارات الأردنية كلَّ زخمها وكل احتمالاتها وآفاقها، أي لماذا تُعطىَ الفرصة لمثل تلك الخيارات أصلا؟!"..


في حقيقة الأمر لم تكن محاولات الفلسطينيين في هذا الاتجاه على مدى الفترة 1970 – 1982 تدل على اندلاقٍ فلسطيني على إسرائيل ناجمٍ عن أزمةِ مستقبلٍ ومصيرٍ تمر بها الثورة ومنظمة التحرير. ففي ظل قوة المقاومة في لبنان، وتطور علاقاتها مع القوى الوطنية اللبنانية، وفي ضوء تنامي المساحات السياسية والقانونية العالمية التي حظيت بها في تلك الفترة، بل وفي ظل تنامي فعلها الأمني على الساحات الأوربية، يغدو تحرك المنظمة في هذا الاتجاه، تحركا تريده أن يقوم على الندِّيَّة، وهو ما لا يمكن لإسرائيل أن تقبلَ به في ظل محصلة موازين القوى الحقيقية على الأرض.


فإسرائيل تريد دفع الفلسطينيين إلى "خيار إسرائيلي" يندلقون عليه، عندما تكون البدائل والخيارات أمامهم معدومة، فيلجأون إليه على النحو الذي تريده إسرائيل، وهو النَّحْو الذي لا مكان فيه للندِّيَّة، والعاكسُ لصورةِ مهزومٍ يقبل بالفتات، كي يغضَّ الطرف عن المخاطر الإستراتيجية في هكذا خيار، عندما يرى فيه ما يهيأ له أنه مكاسب آنية، فيتِمُّ القضاء عليه بالضربة القاضية.


أي أن إسرائيل لم تكن تريد بدءَ مسيرة "الخيار الإسرائيلي" بمحاولةٍ قد تفشل بسبب رمقِ قوة في منظمة التحرير، تظهرها كنِدٍّ حقيقي لإسرائيل، بل هي أرادت أن يكون "الخيار الإسرائيلي" الذي سَتَزُجُّ بمنظمة التحرير إلى أنفاقه، خيارا أولا وأخيرا، ينتهي بإنهاء "المشروع الفلسطيني" ككل. ومن هنا فقد كان الخيار الأردني الذي أطل برأسه عام 1984، خيارا يهدف إلى مفاقمة الإحساس الفلسطيني بأن هويته في خطر من خيارات النظام الأردني، بعدما غدت هذه الهوية هي المعيار الحقيقي لتقييم كل الخيارات والمبادرات والعروض.


إسرائيل كانت تدرك إذن أن الفلسطينيين الذين اعتبروا أنفسَهم وقد تحرروا من النظام الأردني منذ عام 1970، لن يعودوا ليخضعوا لاحتلاله مرة ثانية، وبالتالي فقد كان عليهم أن يستنزفوا مع هذا النظام زخم كلِّ الممكنات السياسية، وهو ما تجلى في فشل مشروع "الكونفدرالية الأردنية – الفلسطينية" عام 1984، لتبدأ مسيرة العد التنازلي في عمر التأجيل الذي كان الخيار الإسرائيلي يختبئ وراءه.


فبعد فشل مشروع الكونفدرالية لم يعد هناك أفق لأيِّ مشروعٍ يمثل خيارا أردنيا، إلا أن يتنازل "الملك حسين" عن الأردن لمنظمة التحرير ويحمل حقائبه ويرحل (!!) وبالتالي فقد يَمَّمَ الجميع سرا وعلنا وجوهَهم صوبَ "تل أبيب" يُعِدُّون اللوحة القادمة لتُرسَمَ عليها معالمُ الخيار الإسرائيلي القاتل. وكانت مبادرة "الملك حسين" إلى إعلان قراره التاريخي بـ "فك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية"، هي فاتحة الطريق الرسمية التي مهدت للمشروع الإسرائيلي أن يدخل إلى حيِّزِ التنفيذ، لتكون من ثمَ هي المبادرة التي مهدت لكل التغيرات التراجيدية التي عمت المنطقة، بعد أن هيأت لها ظروف جيوسياسية أخرى عناصر الاكتمال فالتكامل.


خلاصة الأمر


كان قرار فك الارتباط هو فاتحة الانحدار إلى الخيار الإسرائيلي إذن، ثم تلته "أوسلو" وتلتها "وادي عربة"، وفرطت المسبحة على كلِّ الصعد الثقافية والسياسية والقانونية: "برنامج تصحيح مدمر في الأردن، تفاهمات واشنطن بين الأردن والولايات المتحدة تحوَّلَ الأردن بموجبها إلى أداة أميركية للخوزقة الإقليمية والعالمية، وإن يكن بقدرٍ أقل مما تقوم به إسرائيل، فسادٌ غير مسبوق، بطالةٌ وإفقارٌ وطبقية لم تعرفها حتى الإمبراطورية الرومانية في أشد مراحلها استعبادا للبشر، جدل هوية مهلك ومشوِّه ومعطّل ومُلهي ومُغيِّب، عنصرية وإقليمية متغوِّلة في الطرفين، تعليمات إقصائية مُقَسِّمة للشعب الواحد، ظهور مشكلات لم تكن معروفة من قبل، ومفاهيم مصطنعة لا أساس لها ودخيلة على ثقافة الشعب مثل التوطين والتجنيس والوطن البديل، ظهور أوجه الخيانة في الضفتين بوقاحة غير مسبوقة، تنازلات متواصلة، بيع البلاد والعباد، تراجع عن كلِّ فتات الإصلاح الذي فرضته ثورة نيسان المجيدة.. إلخ"، إلى أن استنزفت هذه المسوخُ الناتجة عن مسوخٍ كلَّ زخم قدراتها على التسويف والترحيل، فآن الأوان لمولودٍ مسخٍ جديد هو "أوسلو 2" التي بدأ "كيري" يتحرك وينسقُ بشأنها مع الثلاثي "عمان" و"رام الله" و"تل أبيب"، على أن يكون واضحا أن "أوسلو 2" هذه، كان يجب أن تتخلَّقَ تَجَنُّبا لاحتمالات التغيير الخطيرة التي راح ينبثق عنها الواقع الراهن فلسطينيا وأردنيا وإقليميا، تماما مثلما كان يجب أن تتخلَّق "أوسلو 1" تَجَنُّبا لاحتمالات التغيير الخطيرة التي راح ينبثق عنها الواقع عام 1988 بوجود الانتفاضة الأولى التي كانت ترهصُ بتغييرات جذرية قد تحدث في الإقليم كلِّه.


وإنه إذا كانت "أوسلو 1" هي المخلوق المسخ الذي فرضت مُكَوِّنات الواقع آنذاك أن يولدَ في رحم الخيار الإسرائيلي بسبب العناصر والمُحَدِّدات التي شرحناها سابقا، فإن "أوسلو 2" هي المخلوق المسخ الذي تفرض مُكَوِّنات الواقع الراهن أن يولدَ في رحم خيارٍ مُمَوِّهٍ بين بعض مكونات "الخيار الأردني" وبعض مكونات "الخيار الإسرائيلي" اللذين راحا يفاخذان "الهوية الفلسطينية"، التي لم يجد قادتُها بعد هزيمةِ مشروع هويتهم هذه الهزيمة النكراء، سوى أن يقبلوا بـ "أوسلو 2" بكل تداعياتها المرتقبة، ضمانا لتحقيق ثلاثة غايات لابد منها للقفز على مُخَلَّفات المرحلة الماضية وخلاصات عملية إجهاضها، والبدء بزرع نطفِ زناً جديدة في رحم القضية المغتصبة، إلى أن يأتي وقتُ الإجهاض القادم، تمهيدا لعملية زناً جديدة ولزناة جدد في ظروف زناً مختلفة.


ويمكن إيجاز هذه الغايات الثلاث في التالي:


الأولى.. أن تبقى إسرائيل هي سيدة الموقف سياسيا، وبالتبعية سيدة الموقف قانونيا ضمانا لأمنها ولطبيعتها التكوينية (!!)
الثانية.. أن يبقى وهم "الهوية الفلسطينية" حتى وهي تُغْتَصَب بهذه المفاخذة الأثيمة، وهماً مُعَشِّشا في عقول المخدوعين به باعتباره ما يزال وهما قابلا للتَّحَقُّق حتى ولو بعد حين، وذلك لتجنب الانزلاق إلى ظروف قد تستحضر الفترة "1965 – 1968" (!!)


الثالثة.. أن يقوم النظام الوظيفي الأردني الهاشمي بدوره التاريخي المعهود في ضمان تخفيف العبء عن إسرائيل في المعادلة ككل (!!)


وكل ذلك لكي يتم ترحيل القضيبة والصراع في سيرورة هذه المعادلة ترحيلا يُبْقي على حالة "اللاحرب واللاسلم" التي تكمن فيها وفيها وحدها روح الكيان الصهيوني "إسرائيل"، وقدرته على البقاء والاستمرار والديمومة (!!)


ومن هنا وفي ضوء كلِّ ما نراه يحدث أمامنا، لم يعد هناك من أمل في عرضِ صياغةٍ جديدة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي يكون متحررا من هيمنة "الإمبريالية والصهيونية والوظيفية"، سوى بأن ينطلق ربيع فلسطيني في الضفة الغربية، يتماهى مع الربيع الأردني، الذي يجب أن يقوده الحراك الشعبي المتحرر من هيمنة القوى السياسية التقليدية الخانقة له، في محاولات لحرفه من مساره التفاعلي الصحيح، وذلك تمهيدا للتأسيس لمشروع "التغيير" ولمشروع "التحرير"، من على قاعدة تفريغ مشروع "أوسلو 2" بقيادة "فلول السلطة في رام الله"، و"النظام الوظيفي الهاشمي" في الأردن، و"نظام الإنقلابيين في مصر"، من مضمونه، ليكون الحديث عن مشروع "أردنية الضفة الغربية" – الذي يلعب هؤلاء على أوتاره بغية جعله مشروع تصفية دون أن يكون مشروعا لا للتغيير ولا للتحرير – هو مشروع الحراك الشعبي وجزء لا يتجزأ من برنامجه الوطني، تأسيسا متكاملا لمشروع "الدوة الردنية الرابعة" القائمة على تغيير النهج السياسي للنظام أو على تغيير النظام نفسه إذا لزم الأمر باتجاه نهج سياسي أو نظام جديدين قوامهما "التغيير" و"التحرير"، فيفقد مشروع تصفية القضية ركائزه الأساس، من خلال مواجهة الحراك الشعبي له.