( الصورة) تقتل الإنسان .. في الإنسان :أو العيش مع"القطيع"​مع الشعور بالحرية!! (معدلة)



لا أدري كم مرة كتبتُ هذه المقدمة؟!
لست شاعرا .. وحين دهمتنا كارثة احتلال الكويت .. ثم ضُرب العراق لتخليص الكويت .. يومها كتبتُ ..
ما عاد شيئا يحزن أو يُفرح .. كلما اندمل جرح تقيح جرح
لكن جراح أمتنا أصبحت من الكثرة بحيث يسبق الجرح اندمال الجرح .. حتى تكسرت الجراح على الجراح .. وحتى أخرس القلم وقد تناثرت دماء المسلمين .. فما يدري القلم عن أيها يكتب؟!
وبينما كان القلم في حلة خرسه هذه إذا بي أقرأ تغريدة للدكتور سعد العتيبي قال فيها :
[TD]@otsaad سعد بن مطر العتيبي

أصدقكم القول: لا أحرص على فتح كثير من المقاطع و روابط الصور إذا ثبتت لدي صحة الخبر .. خشية أن يتبلد إحساسي بكثرة رؤية هذه المشاهد المؤلمة
لقد أعادتني هذه التغريدة إلى جراب الحاوي أو (حتى لا يذيب الصمت ألسنتنا) إذ تذكرت أنني كتبت شيئا حول هذا المعنى .. فوجدت التالي :

الإعلام ( الاستهلاكي)
.قبل أعوام، ليست كثيرة، كتبت مقالة، حول الإعلام، وبعثت بها لأكثر من جريدة، ولكنها لم ترى النور. أثبتها هنا كما كتبتها في ذلك الوقت:
مما يزهدني في الكتابة أنها تشبه الهمس في أذن صماء والريح تعصف والرعود تقصف، أتكلم هنا عن جدوى الكتابة ، كأني أتصور من باب الجدل أن شخصا قد ينشر مقالا فيه الحل الناجع لمعضلة فيمر دون أن يفطن له أحد أو يستفيد منه أحد. لعل من أهم أسباب ذلك ، إضافة إلي عدم الاهتمام الذي هو جزء من تركيبتنا، أن طبيعة الإصدار اليومي للصحف حولها إلي مادة مستهلكة، فالمقال المضيء اليوم يصبح باهتا في الغد، لأنه في صحيفة أمس ، أو أصبح ( بايت ) حسب التعبير العامي، وهكذا يوما وراء يوم ندوس على أفكار الأمس إلي ما لا نهاية.
لا جدال أن الإعلام أصبح مكنة ضخمة، ولا جدال أيضا أنه ساهم في الربط بين أجزاء الكرة الأرضية فما إن يقع حدث في أقصى الكرة الأرضية حتي تبثه وسائل الإعلام إلي بقية العالم{من لديه كهرباء وتلفاز،ووقت فراغ}،لكن وسائل الإعلام تحولت إلي غول لا يشبع، بل لعله يتغذى على مصائب الناس، وخصوصا مع غياب نظرة أخلاقية صارمة، تصنع سدا أمام شهوة الإعلام في بث كل شيء وتحويله إلي سبق إعلامي دون النظر إلي ما قد يترتب على بثه من أذى للآخرين، ودون الإلتفات إلي تأثيره على سلوك المشاهدين، تبدو المشكلة أكبر بالنسبة لنا في العالم الثالث – أو أي رقم تشاءون- فمن النادر أن يذهب أحدنا في وقت محدد لمشاهدة مادة بعينها، وإنما الغالب أن نجلس أمام التلفاز نبحلق بأعيننا، ونتنقل من قناة إلي أخرى، وقد يشارك الجميع – ذكورا وإناثا صغارا وكبارا- في مشاهدة مادة واحدة قد تكون أكثر من خطرة على فئة بعينها، فهل نستشعر خطر ما نقوم به ؟ وهل نحاول تدارك تلك الأخطار أو الأخطاء – لا فرق – قبل أن نندم ومن ثم نبدأ في البحث عن الحلول .
ليس الهدف من هذه السطور الحديث عن دور الإعلام كرسالة تغيير، ولا ما يقوم به من ترسيخ أفكار، أو زرعها في الأذهان ، وإنما أردت أن ألفت الأنظار إلي بعض تبعات هذا الهوس الإعلامي – إن صح التعبير- ومن أبرز ذلك :
1- كانت الحروب تدور في الخفاء، وما يتسرب من أخبارها يكون عن طريق المراسلين،والذين يتعرضون أحينا لحجب بعض الأخبار، تحت ذرائع مختلفة، لكن حرب تحرير الكويت شهدت تطورا جذريا، حيث تم نقل القصف على الهواء، وشاهد الناس الصواريخ وهي تدك بغداد، إحدى أعرق عواصمنا- إلي الله المشتكي- وهنا رقص الإعلام على التقدم الذي سوف ينقل الوقائع كما هي ولن يسمح بإخفاء الحقائق{ اتضح أن ذلك غير صحيح،فإمكانية حجب الحقائق لا تزال قائمة،رغم مقاومة بعض وسائل الإعلام}. وهذا شيء جيد في حد ذاته،{كشف الحقائق،إن أمكن ذلك} ففي الغزو الأمريكي الأخير للعراق، رأينا الحرب بين الإعلام الأمريكي والذي كان يريد نقل صورة معينة، وحجب الصور التي لا يرغب في بثها، ولعبت قناة (الجزيرة){أيا كان موقفنا من الجزيرة، فالذي لا شك فيه، أنها الأفضل مهنيا، ويكفيها أن حكومة العراق - قبل سقوط بغداد - غضبت منها، وغضب منها الاحتلال، وغضبت منها حكومة ما بعد الاحتلال . وهذا يحسب قطعا للجزيرة، استنادا إلى مقولة : إذا أغضبت طرفي النزاع فأنت على الحياد. }- مع قنوات عربية أخرى- دورا بارزا في إظهار بشاعة ما تقوم به آلة الحرب الأمريكية. ولكن صاحَبََ هذا العمل الجيد ما يمكن أن نسميه الاستهانة بالإنسان فأشلاء الإنسان لم تعد أكثر من سبق إعلامي بالنسبة للمراسلين، وما يهم هو أن (قناتنا) بثت صورا لم تحصل عليها قناة أخرى، هذا كله يؤدى إلي ( قسوة) القلب – أو تدمير الإنسان، داخل الإنسان- ومن يريد التأكد فعليه النظر إلي المرأة –المراسلة- الموصوفة بالرقة، وكيف أصبحت تعدو لتصور الأشلاء المتناثرة. فهل نقول رحم الله زمانا كان للميت فيه كرامة، كان يغطى عند ما يموت، كانت صحفنا عند ما تنشر صور بعض حوادث السير، تنشر صور الموتى مغطين، أما الآن فقد اختلف الأمر، بالأمس طالعتنا جريدة ( عكاظ) بصور من بعض الحوادث التي وقعت في محايل عسير، ومن ضمنها صورة كُتب تحتها:
((قدم أحد الضحايا في الحادث){ جريدة عكاظ العدد 13902 في 4/8/1425هـ.}.
هكذا يتحول الإنسان الذي كرمه الله إلي مجرد خبر! ، لا زلنا في البداية والأمر مرشح للتفاقم، لعل بعضكم يتذكر أن قناة ( الجزيرة) حجبت صور قتل أحد الرهائن ..لبشاعتها- حسب تعبيرهم- ولكن بعد سنوات قليلة لن يجد أحد حرجا في بث مثل تلك الصور، إذ أن التعود سوف يزيل بشاعتها، فهلا تنبهنا ؟.
2- أعتقد أن التسابق على بث الأنباء مصحوبة بالصور، أصبح محرضا على القيام ببعض الأعمال التي قد تدخل في باب الإرهاب!! على سبيل المثال ،الكارثة التي حصلت في إحدى المدارس الروسية قبل أسابيع قليلة، هل يتصور أحد أن يقوم الأشخاص الذين احتجزوا الرهائن بما قاموا به لولا علمهم بأن وسائل الإعلام سوف تتسابق لبثه؟ وهذا يضمن لهم الوصول بقضيتهم إلي العالم أجمع، ووصوله إلي العالم أجمع هو الذي دفع بالحكومة الروسية إلي المسارعة في إنهاء الموضوع بالصورة التي انتهى عليها، حتي لو جاء ذلك على جثث مئات القتلى. فهل نستطيع بعد هذا أن نزعم أن الإعلام – دون قصد- قد تحول إلي محرض على ( الإرهاب ) ؟؟
3- هل لاحظتم تنامي ظاهرة تسلط المذيع أو دكتاتوريته إن شئتم، والحديث هنا ليس عن التسلط على المشاركين من عامة المشاهدين فقط - حتي هؤلاء لهم حق الاحترام - لكننا نشير إلي التسلط على الضيوف بشيء من قلة الاحترام، وهذا شيء في غاية السوء. لا أدرى هل كثرة المحللين ولدت لدى المذيعين شعورا بالعظمة، جعلهم يعاملون ضيوفهم معاملة خالية – أو هكذا تبدو- من الاحترام، الإشكال الحقيقي إذا كانوا لا يشعرون بما يقومون به!!! {هل يتقاضى الضيوف مبالغ مالية تجعل منهم الجزء الأضعف؟!!}
يوم الخميس – 2/8/1425هـ- شاهدت على قناة ( اقرأ ) حلقة من برنامج (البينة)فأتت مداخلة من الدكتورة نورة خالد السعد، قبل أن تتمكن هذه الكاتبة الفاضلة من إتمام الفكرة التي تريد ان توصلها إلي المشاهدين ، قاطعها المذيع وشكرها منهيا المشاركة! . في نفس الليلة كانت قناة ( الجزيرة ) تبث لقاء مع الأستاذ محمد حسنين هيكل ،وكان من ضمن الضيوف وزير الثقافة اللبناني، وفي منتصف حديثه قاطعه المذيع ليثير نقطة أخرى مع ضيف آخر، وعند ما عادوا إلي الوزير اللبناني ، احتج بشدة لأنه لم يكمل فكرته. فهل يتنبه المذيعون إلي مثل هذه التصرفات ؟
أرجو ألا تكون هذه الأفكار بها بعض الشطط، وخصوصا أن كاتب هذه السطور غير متخصص في الإعلام – الحقيقة غير متخصص في أي شيء- ولكن ذلك لا يمنع من محاولة إثراء الموضوع، وأختم بهذه العبارات التي أوردها الدكتور يحي الرخاوى ضمن كتابه ( حكمة المجانين: طلقات من عيادة نفسية)، تقول العبارة :
( كيف نسمح لغير المتخصصين أن يثروا تخصصنا دون أن يشوهوا خبرة السنين ؟ لو نجحنا أن نفعل لكنا أهلا للتخصص بحق ) .

( الصورة) تقتل الإنسان .. في الإنسان :أو العيش مع"القطيع"مع الشعور بالحرية!!
مرعبة هذه الصورة، التي تطارد الإنسان، أينما اتجه .. وقد يكون محظوظا إذا لم تصل لــ(أحلامه)، وهو نائم، أما أحلام (يقظته)، فهي تحت السيطرة تماما!! أتجاوز بكم حديثي السابق – حديث غير المختص – عن الإعلام،لأصل بكم إلى هذه المقالة المطولة ...:
(( الصورة الأولى من فيلم " تيليبوليس" : لمسات أحرف آلة كاتبة قديمة تقفز قضبانها تحت ضغط الأصابع،كأنها أيدي فنان ممشوقة تستخرج أصوات البيانو. أي قصة تروي لنا؟ الأحرف تتسجل {هكذا} بالأبيض على خلفية سوداء. ((كان يا ماكان .. مدينة بلا صوت. أحدهم سرق أصوات كل سكانها.)) تلك هي نقطة الانطلاق التي اختارها السينمائي الأرجنتيني الشاب (..) " اليوم.و في وسط الديمقراطية، نحن ضحايا فساد بلا قياس مشهود يوميا على التلفاز. هدفه أن يفقد الجمهور اهتمامه وأن يبتعد عن السياسة. تستخدم الصورة كأدوات اجتياح لتفكيرنا. ورجال السلطة والإعلام يسيرون الرأي العام عن بعد وهم متضامنين.( (..) "تيليبوليس" يدعو، من وجهته، إلى مقاومة حلم السيطرة الذي يسكن "السيد تي في"، مدير البرامج التلفزيونية وديكتاتور النظام. يرتدي بذلة مقلمة جديرة بأفلام العصابات، رأسه نصف أصلع يغطيه بصباغ بدل الشعر المستعار. أب العائلة هذا " لديه سر" كما يقول ابنه الذي يكرهه.(..) هذه الشخصية التي تملك صناعة ضخمة لكافة المنتجات التي يستهلكها المشاهدون عندما يبتلعون بأعينهم أنواعا من الكعك اللولبي المزين. فهل هو الشعار الملصق على غطاء سيارة المرسيدس التي يتنقل بها صاحب السلطان أم أنها إشارة الانتساب إلى شبكة الإنترنت. (..) صمت المقابر لا يكسره سوى (الصوت). صوت المغنية ذات الجسد الغاوي والتي تأسر الجماهير ما أن تطلق على الشاشة الصغيرة نداءها بمرافقة الراقصات على إيقاعات الرومبا والبوليرو : "يصيبني اليأس من العيش بلا حبك. تعال. إني أنتظرك". برامج تسلية لا تتوقف يقطعها نقل مباريات الملاكمة .. الوصفة معروفة .. نبتسم .. وهل ينجح الشاب الذي يصّلح أجهزة التلفزة والمصروف ظلما من الخدمة،مع زوجته وأولاده، في التغلب على أزلام الديكتاتور وإعادة الصوت لمن فقدوه؟){ النسخة العربية من ( لوموند ديبلوماتيك ) عدد يوم الجمعة 1/2/1429هـ = 8/2/2008م.}.
الكلام السابق، منقول عن مقالة : ( فرنسوا بارتيليمي). بينما يكتب( داني دوفور )، تحت عنوان :
( هل يصقل التلفزيون أناسا أم خرافا ؟: العيش كالقطيع مع الشعور بالحرية :
( ليست الفردانية هي مرض عصرنا هذا، بل إنها الأنانية " حب الذات" هذا العزيز على قلب آدم سميث الذي يتغنى به الفكر الليبرالي بمجمله، إنه عصر الترويج للأنانية،وإنتاج العديد من "الأنا" العمياء أم المعمية،لدرجة أنها لم تعد تلاحظ لأي درجة يمكن تجييشها داخل مجموعة جماهيرية. إنها "الأنا" تحديدا.ذلك أن الناس يعتقدون أنهم متساوون في حين يخضعون،في الواقع، للسيطرة على ما يجدر تسميته بــ"القطيع" وفي هذه الحالة، قطيع المستهلكين بالتحديد.
إن العيش ضمن قطيع مع التظاهر بالحرية لا يشهد على شيء سوى على علاقة بالذات مرتهنة بصورة كارثية،كونها تفترض إرساء علاقة كاذبة مع الذات كقاعدة حياتية. ومن هنا،مع الآخرين هؤلاء الذين يعيشون خارج الديمقراطيات الليبرالية،عندما نقول لهم بأننا جئنا – مع بعض الأدوات كهدايا أو مدججين بالسلاح في حال رفضوا ذلك – لمنحهم الحرية الفردية، في حين أننا نتطلع قبل كل شيء إلى إدخالهم في قطيع المستهلكين الكبير. لكن ما ضرورة هذه الكذبة ؟ الجواب بسيط. يجب أن يتوجه كل شخص ( بحرية) نحو البضائع التي يصنعها من أجله نظام الإنتاج الرأس مالي الجيد.
(بحرية) لأنه في حال إرغامه على ذلك سيقاوم. لذا يجب أن يترافق الإرغام المستمر على الاستهلاك دوما بخطاب عن الحرية، الحرية المزيفة طبعا،بمعنى تلك التي تسمح بالقيام بــ(كل ما تريده).ومجتمعنا في سياق اختراع نموذج جديد لخليط اجتماعي يضع على المحك تركيبة غريبة من الأنانية وغريزة القطيع أسميها بـ(الأنانية الغريزية) وتشهد هذه التركيبة على أن الأفراد يعيشون منفصلين عن بعضهم،الأمر الذي يمدح أنانيتهم،مع إبقائهم على ارتباط بنمط افتراضي من أجل توجيههم نحو مصادر الوفرة. وتلعب الصناعة الثقافية هنا دورا كبيرا : التلفزيون،الإنترنت، وقسم كبير من السينما التي يرتادها الجمهور الكبير، وشبكات الهاتف المحمول المتخمة بالعروض " الشخصية". ويشكل التلفزيون، قبل أي شيء،وسيطا منزليا،وقد أتى ليستقر في أسرة كانت تعاني أساسا من أزمة في كيانها. فقد تم الحديث عن "فردانية"،و"خصخصة"،و"تعددية" الأسرة، الناتجة عن تفككات لم يسبق لها مثيل للعلاقات الزوجية وللعلاقات بين الأهل والأولاد. حتى أن البعض من الكتاب يتحدث عن (تفكك مؤسساتي)، يجب إرجاعه إلى تداعي الروابط السلطوية لمصلحة روابط قائمة على المساواة. هكذا تحولت العائلة من مجموعة مبنية على أقطاب وأدوار،إلى مجرد تجمع وظيفي بسيط لمصالح اقتصادية- عاطفية : يستطيع كل واحد الاهتمام بأشغاله الخاصة،دون أن يترتب على ذلك حقوق أو واجبات محددة لأي منهم. مثلا سيذهب كل واحد – الأب، الأم أو الأولاد- لتجميع حاجاته من الطعام من البراد ما يكفي لسد جوعه قبل أن يعود إلى غرفته أمام التلفزيون أو الفيديو، دون المرور بالطقس المشترك لوجبة الغداء أو العشاء العائلية. تلك نواحي معروفة. لكن ما لا يعرفه الناس جيدا هو التعديلات التي أدخلها استخدام التلفزيون. إذ يغير هذا الأخير أطر الحيز المنزلي، عبر إضعاف أكبر للدور الذي أساسا تقلص للعائلة الحقيقية، ومن خلال إنشاء ما يشبه العائلة الافتراضية التي أتت لتلتصق بالعائلة السابقة.
ومنذ وقت طويل، أطلقت بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا الشمالية اسم (ولي الأمر الثالث) على التلفاز . يجب تناول هذا التعبير بمعناه الحرفي وعدم اعتباره مجرد صورة مجازية،لما يحتله ولي الأمر الثالث هذا من مكانة تفوق مكانة وليي الأمر الأوليين أهمية.( ..) لم تنتبه العلوم الاجتماعية لهذا التوسع الافتراضي للعائلة من خلال ولي الأمر الثالث. علما أنه تم تحديد هذه الظاهرة بصورة جلية كاملة من قبل الآداب، منذ بدايات عهد التلفزيون. ففي العام 1953 وفي رواية استباقية مدهشة (451 Fahrenheit) أظهر الكاتب الأمريكي راي براد بوري عن نواحي عدة من المشكلة في وقت كانت الرؤية تقتصر غالبا على تناول ناحية واحدة : مجتمع حل فيه التلفزيون مكان الكتب. وقد استوحى من هذا الكتاب فيلم من إخراج (..) في عام 1966 تدور أحداثه في مستقبل قريب يعتبر فيه المجتمع أن الكتب خطيرة وبأنها تشكل عائقا في وجه ازدهار البشر. وإن تم إدراك مسألة العلاقة بين التلفاز والكتاب بشكل جيد، إلا أن المسألة المصيرية الثانية التي تطرحها هذه القصة لم تؤخذ كثيرا بعين الاعتبار : التلفزيون كعائلة جديدة. علما أن هذه الناحية موجودة، بشكل قوي،من خلال الدور الكبير الذي تلعبه زوجة مونتاغ في القصة. فميلدريد ( ليندا في الفيلم) خاضعة، بشكل تام، لنظام الحياة المعقم والسعيد جبريا الذي أسسته ( الحكومة) وهي تستهلك ما يكفي من المهدئات لتفادي أي شعور بالقلق. وتعيش خاصة مع التلفزيون الموجود في جميع غرف المنزل والذي يغطي مساحة الجدار بأكملها (القصة متقدمة قليلا على تقنياتنا، لكننا لحسن الحظ أصبحنا نمتلك شاشات مسطحة تزداد اتساعا). تمثل تلك (الجدران الناطقة)، كما يسميها الراوي،"عائلته" التي تعيش شخصياتها الافتراضية، كل يوم،في صالون ميلدريد. حتى أن الطموح الأكثر دلالة للبطلة هو شراء شاشة جدارية رابعة لتحسين ... الحياة العائلية. تكمن قوة هذه الرواية في كونها كشفت باكرا جدا عن هذه السمة :
في حين كانت العائلة الحقيقية – مع أنظمتها وأماكنها وتراتبياتها- تتلاشى تدريجيا،وكان يتم استبدالها بمجتمع جديد ضخم ومتبحر، يخلقه التلفزيون ومنذ العام 1953 فهم براد بوري أن المشاهدين بدأوا ينتمون من خلال تخليهم عن العلاقات الاجتماعية الحقيقية القديمة،إلى "عائلة" واحدة، إذ أصبح لديهم فجأة نفس " الأعمام" الذين يروون عادة القصص المضحكة ونفس "الخالات"المازحات، ونفس "الأنسباء" الذين يكشفون عن حياتهم الخاصة. هكذا فإن برامج النقاش العديدة جدا وغيرها من البرامج الترفيهية التي تبث اليوم على القنوات العمومية،تؤمن مجموعة كبيرة من صور العائلة : من الخجول المثابر إلى الثرثار الذي لا يمكن إصلاحه، مرورا بصاحب امتياز الامتعاض، والمناضل السابق المنتقل إلى صفوف الشهرة، والأستاذ الأبله، ومناصر البيئة ممن يحبون المأكولات الجيدة، والصلف بالأسلوب الغالي، والشقراء المفرقعة ذات الجسم المقوى اصطناعيا، ومحبوب الشباب الدائم، والمغني العاطفي المتقدم في السن، ونجمة السينما الإباحية المدافعة عن حقوق الإنسان، والمثلي الجنسي في كافة تنويعاته،والمعاق المضحك،والمتحول جنسيا بأصنافه، والمفكر المعتمد، وابن المهجرين المهذار،(..) وأصبح المشاهد يجد اليوم أنسباءه وأعمامه وخالته وهو ينقل القنوات إضافة إلى أنهم مرحون أو يفترض كونهم كذلك. وما لم تعد القصص العائلية "الصغيرة والكبيرة، المضحكة والمأساوية" تؤمنه،أصبحت " عائلة" التلفزيون هي المدعوة إلى منحه.فهي التي تعري الباقين وحيدين وتحيي المجموعات التي تنقصها الحيوية. هكذا، إن " التلفزيون" لا يؤمن فقط "عائلة"،لكنه يحول أيضا مشاهديه إلى عائلة كبيرة.( ..) وفي الواقع، ليس بعيدا إلى هذا الحد الزمن الذي كان فيه أفراد العائلة الحقيقية يختنقون. فشعار "أيتها العائلة،إنني أكرهك" الذي أطلقه أندريه جيد، والذي استعاده طلاب ثورة 1968 الطلابية،لا يرجع سوى إلا جيل أو جيلين. بهذا المعنى أليست" العائلة" الافتراضية أفضل من العائلة الحقيقية، مع العلم أنه، في حال الشعور بالتعب الحقيقي، تكفي كبسة زر دون الاضطرار، كما في الماضي، لــ"قتل الأب". الإجابة على هذا السؤال بسيطة : فالمشاهد الذي يحب شخصيات هذه "العائلة" لا يمكنه أن يحصل على شيء منها في المقابل، لأن هؤلاء، كونهم وهميين، لا يمكنهم سوى أن يكونوا لا مباليين تماما لمصيره. ومن هنا يتبع سؤال جديد وجواب جديد. لماذا القيام بكل هذا الإنفاق في مجال التكنولوجيا (كاميرات،تقنيون،شبكات برامج،أقمار اصطناعية،شبكات،الخ) والاستثمارات المختلفة ( مالية، شبقية، الخ) إن لم يكن ذلك لجعل الأشخاص الذين يشاهدون التلفزيون يعيشون فعلا من خلال تمضية كل هذا الوقت أمامه؟ فهل تمثل هذه "العائلة" عهد التسلية الصرف؟ نعلم أن التسلية كانت في الماضي محصورة بالملك ضمن نطاق دعمه للجميع، في حين لم يكن يلقى دعما من أحد. وتفاديا للخطر الكبير بإصابة الملك بالسويداء، لم يكن هناك من وسائل أخرى سوى تسليته باستمرار. قد نكون اليوم في وضع مشابه، بفارق أنه اليوم،وفق ما تفرضه ديمقراطية السوق،يجب تسلية الجميع. (..) هكذا بات الجميع مطلعا على أقوال السيد باتريك لولاي، رئيس قناة ( TF1 ) التي أدلى بها أساسا في اجتماع صغير : " الهدف من برامجنا هو وضع " دماغ المشاهد"في حالة من الجهوزية، أي تسليته وراحته من أجل تحضيره لرسالتين. فما نبيعه لكوكاكولا هو وقت من جهوزية الدماغ البشري،وما من شيء أصعب من الحصول على هذه الجهوزية". (..) وأنا أطرح هنا إذا الفرضية القائلة بأن ما يسمح لهؤلاء المشاهدين بالتحول إلى متعبدين للتلفزيون يجد تفسيرا له في لعب التلفزيون دور العائلة الافتراضية البديلة. من الضروري إذا أخذ هذه "العائلة" بعين الاعتبار لمن يريد فعلا وصف عالمنا وناسه والتعمق بهم. فذلك سيسمح له بالكشف عن طبيعته الحقيقية. هكذا، يشير برنار ستيغلر في كتاب حيوي صغير حول التلفزيون والبؤس الرمزية {هكذا} إلى أن :
(( "المرئي والمسموع" يؤدي إلى تصرفات قطيعية وليس إلى تصرفات فردية، بعكس إحدى الأساطير. إن القول بأننا نعيش في مجتمع فرداني ليس سوى كذبة واضحة وخدعة مزيفة بصورة مذهلة (..) إننا نعيش في مجتمع قطيع، كما فهمه واستبقه " نيتشه" ..)). إن العائلة هي إذا في الواقع "قطيع" يقتصر الأمر فقط على أخذه إلى حيث نريده أن يشرب ويأكل، أي نحو منابع ومصادر محددة بوضوح.[B] (..) ففي كت