منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (7)

    في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (7)

    الكرسي الأزرق لعبد الله المتقي

    سرد ساحر على حدود الشعر

    د. يوسف حطيني

    في مجموعة (الكرسي الأزرق[1]) للكاتب المغربي عبد الله المتقي يطالع المرء في قصص قصيرة جداً هموم الناس حوله: الفقر والمرض والطفولة والتخلف والقمع، وكل ما يخطر في البال من الهموم الاجتماعية والوطنية والإنسانية، تلك الهموم التي يعاني منها الطفل والرجل مثلما تعاني منها المرأة في مجتمع، يشكّل فيه المهمومون محور اهتمام القاص، فيلتقط شخصياته من أطراف هذا المجتمع، على حد تعبير أوكونور.

    في قصة "مساء العيد" حكاية تكثّف بمرارة انتهاء فرحة العيد بانتهاء يومه الأخير عند الطفل، لأن هذا الانتهاء يعني العودة إلى الفقر والثياب المرقعة مرة أخرى، فالثياب الجديدة سترفع في الخزائن، بانتظار عيد قادم، لا يستطيع الأهل تجديد ثياب الأطفال فيه:

    "عاد الطفل إلى البيت جذلانَ

    بماله وملابسه

    وقبل أن تضع أمّه مائدة العشاء

    يلاحقه صوتها:

    ـ هيا.. اخلع ملابسك للعيد الماجي[2]".

    في قصة "غضب" يختلط الفقر بالحبّ، وتمارس الطبيعة دوراً مهماً على صعيد الحكاية، فالحبّ موجّه نحو البستاني الفقير، الذي يشذّب الطفيليات، وهو يتصببب عرقاً، أمّا الرجل الأنيق فهو غير جدير بهذا الحب، على الرغم من المهابة الصورية التي يتمتّع بها:

    "الشمس ما تزال تطلُّ من نافذة غرفتها، وتتفرج على البستاني، يشذّب الطفيليات بمقص صدئ، يتصبب العرق من أساريره، يمسحه بكم قميصه الأزرق.

    تنهدت الشمس طوييييلاً

    ثم أقبل رجل أنيق كالغبار، وانحنى البستاني ليبوس يده مبصبصاً.

    بصقت الشمس غاضبة، وأغلقت النافذة وراءها بعنف[3]".

    وبغض النظر عن مرموزات النص ودلالاته، مما يمنحه قابلية القراءات المتعددة، فإنّ الشمس تحمل رد فعل القاص ذاته، تجاه أولئك الذين لا يعلقون في الذاكرة، فهم مجرد غبار أنيق، أمّا الذي يحفر عميقاً في تلك الذاكرة فهو النموذج الذي يتكرّر، أنى أدار المرء وجهه، حتى ليغدو كل فرد من أفراد (قاع المجتمع) نسخة مكررة عن الآخر. وفي قصة "فوطوكوبي" استثمار ناجح لتصوير هذه الحالة، حيث يفيد القاص من العنوان لإعطاء قصته بعداً جمالياً عظيماً:

    "أمه تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية، أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين، نظر إلى تقاسيمه في المرآة:

    كان صورة منهما، فقيراً هزيلاً، شاحباً و... جائعاً[4]".

    ويقوم العنوان في الأغلب الأعم، في مجموعة (الكرسي الأزرق)، بدور وظيفي مهم، فقد أعطى القصة السابقة دلالة وعمقاً وجمالاً، في حين إنه يقوم في قصة "مات الكلب" بدور وظيفي لا تكتمل أحداث القصة إلا به؛ إذ إن وقوف الحافلة في القصة ونزول مساعد السائق، وضحك الجميع مما جرى، ليس فيه أي إشارة للحدث الرئيس الذي قام العنوان بحمله منفرداً، فالكلب هو الحاضر الغائب في القصة، ولولاه لما كان للقصة أي معنى، فالكلب الذي مات أمام عجلات الحافلة لم يستجلب من الجميع إلا الضحك، مما يشي بنفاق اجتماعي وإنساني لا حد له:

    "الحافلة توقفت...

    يظهر أن الحافلة توقفت...

    وأطلق شرطي المرور صفيراً حاداً.. ثم استرسل في الضحك..

    ومع ذلك لم تتحرك الحافلة التي توقفت قبل قليل..

    كاد الركاب يستلقون على الكراسي من الضحك.. التفت السائق.. وكاد يجن من الضحك.. وقف الشرطي قريباً من نافذة السائق.. ضحكا معاً من مناخرهم، وضحكت كراسي الرصيف، و... نزل مساعد السائق من الباب الخلفي.. صافح الشرطي بالضحك.. وكانت قيامة من الضحك..

    ارتفع صوت المحرك..

    يبدو أن الحافلة ستتحرك..

    و... تحرّكت الحافلة[5]".

    في قصة "ح م ا م" يستثمر القاص العنوان في رسم الفضاء الطباعي لقصته، حيث يزاوج بين صورة الحمام الذي يتفرق في حكاية القصة، وصورة العنوان الذي تفرّق حرفاً حرفاً، ليجعل من هذا التزاوج، صورة راسخة في ذهن المتلقي عن ويلات الحرب التي تحيل كل شيء جميل إلى نقيضه البغيض:

    "حمامتان رشيقتان تهدلان ترفرفان، وطفل يكاد يطير فرحاً.

    لعب الطفل حتى شبع، ثم نام بهدوء في السطح، يحلم بحديقة للحمام.

    حمام يرفرف فوق رأسه، وحمام يمشي رشيقاً فوق العشب، واركسترا من الهديل. و...

    يمرّ سرب من الطائرات الحربية.

    ويختفي الحمام

    و...

    يفتح الطفل عينيه خائفاً[6]".

    ويذكر هنا أن القاص يكرر في بعض القصص أحرفاً معينة في كلمات، ليخدم فضاءه الطباعي، وهي ليست أغلاطاً إملائية، فنجد "طويييييلاً وكثيييراً وما أشبه ذلك. ومثلما يجتهد القاص في رسم فضائه الطباعي، يجتهد كذلك في رسم معالم فضائه الجغرافي من خلال اختراق الحدث والشخصيات لبيئة القص، ومن خلال تأثيث المكان القصصي، على نحو ما نجد في قصة "خنز" التي سنورد بدايتها فقط، حيث يُنوّع في صياغة الفضاء تنوعاً شديداً ويؤثثه بالمساحة والصوت والرائحة، ليبني بداية ناجحة وسهمية، يستطيع البطل أن يتحرّك خلالها:

    "الغرفة شاحبة... الصمت مقلق... الرائحة خانزة.. كان متكوّماً فوق السرير، ...[7]"

    * * *

    في قصص عبد الله المتّقي جنوح إلى حمل الحكاية على أجنحة الشعر، فالمفردات تتجاور بطريقة مدهشة غير مألوفة، والصور تترى، لتشكّل حاملاً أساسياً للسرد، وهذا ما قاد عدداً محدوداً من القصص نحو غموض الدلالة، أو نحو الحالة الشعرية غير الحكائية، على نحو ما نجد في قصة "بروميتيوس"[8] "ونكهة المطر"، حيث تستبد لغة الشعر بالشاعر أيّما استبداد، وتنتج لغة عشق صوفي للمطر والذاكرة وللخبز الحافي الذي يحيل على عنوان رواية مشهورة لمحمد شكري. يقول المتقي في "نكهة المطر":

    "كان للمطر في قلوبنا الصغيرة مكانة الحلوى المغموسة في عسل السكر، كان يبلل وجوهنا، يعطّر الجو برائحة التراب، ويدغدغ مسامنا الصغيرة التي نشفت من القحط.

    كنا نخرج لاستقباله كما لو كان عائداً من الطاليان، ينقط بارداً فوق جلودنا العارية، يتسلل عبر ثقوب السقف، وينام معنا في الفراش...

    وكان للمطر في قلوبنا نكهة الشاي البارد والخبز الحافي[9]".

    وكم كان ممكناً وبديعاً أن يفيد القاص من صياغة تتقابل ما مع (كان) و(كنا) معتمداً على (صار) و(صرنا) مثلاً، لأن من شأن ذلك أن يخلق المفارقة التي تخلخل رتابة النص.

    وإذا كان كثير من كتاب القصة القصيرة جداً يعتمدون على التعاقب أساساً لبناء حكاياتهم، فإن عبد الله المتقي يفضل مغامرة خوض أشكال متنوعة للحكاية، كالاعتماد على التوازي، والبنية الدائرية للحكاية، دون أن يضرب صفحاً عن الشكل التقليدي التعاقبي. فقد اعتمد حالة التوازي مثلاً في قصة "ح م ا م" التي سبقت الإشارة إليها، مثلما استخدمها في قصة "زغب الشيطان" التي تقدّم رجلاً وامرأة يقومان بأفعال مشتركة وبأفعال متوازية، ولكنهما في النهاية يبتعدان عن بعضهما على الرغم من انتمائهما لفضاء جغرافي واحد:

    "كان الليل، وكان ثمة طبق من السمك، قنينة نبيذ، علبة دخان، رجل بشاربين على حافتهما قليل من الشيب، وامرأة تجلس على حافة السرير، يتابعان فراشة تحوم حول المصباح في تلك الساعة من الليل. حكى الرجل للمرأة عن (...)، فراشته، وطفولته المشاغبة. ظنّت المرأة أن الرجل احتساه النبيذ، وظن الرجل أن المرأة لا تنتمي لجزيرته[10]".

    وثمة مثالٌ راقٍ آخر للتوازي في قصة "مطر... ومطر" التي تحكي حكاية جميلة تجسّد وجهتي نظر مختلفتين في حدث واحد، وتحمل دلالة عميقة، مخيفة لأنها تشير إلى خلاف جذري بين شخصين يسلكان المسلك ذاته، وهما مؤهلان في المستقبل لأن يكونا طرفين متصارعين، لا يملك أيٌّ منهما الحقيقة الناصعة:

    "رجلان في طريقهما إلى بيت الله.

    قال أحدهما للآخر:

    ـ المطر أضرب عن السقوط لأفعالنا العارية.

    ـ النصارى يتضاجعون في الشوارع العمومية.

    و... يتساقط المطر خيوطاً من السماء.

    التفت الآخر للثاني، والتفت الثاني للآخر، ومشيا كما يمشيان دائماً[11]".

    وإذا كان هذا التوازي قد أنتج في النهاية بنية دائرية تعيد فعل النص التمهيدي مرة أخرى، فإنّه أنتج مجموعة من حكايات أخرى تقوم على الأصوات المتعددة، التي تحمل وجهات نظر مختلفة تجاه موضوع محدد، على نحو ما نجد في "قوارير زرقاء"، حيث تشكو السيدات الثلاث (على اختلاف مشاربهن ومواقعهن) جوعاً جنسياً، في حين أن زوجة سي السيد تعضّه وتصرخ في وجهه: "كم أنا جائعة[12]".

    وإذا كانت "قوارير زرقاء" تحكي أصواتاً مختلفة تجاه قضية محددة، فإن القاص يكتفي في قصة "مدونة" بصوتين متوازيين متقابلين لـ "هو" و"هي"، ويستثمر المفردات لتؤدي غرض الدلالة على أكمل وجه، على نحو كلمتي (مخلاة) و(علف) اللتين تنذران بقطيعة بين الزوجين، وتسيران بعلاقة الحب بينهما نحو البهيمية:

    "هو: كان مستلقياً فوق السرير، يلاعب لحيته المشتعلة شيباً.

    هي: كانت في المطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف.

    هو: يتنصل من ملابسه و... يكحّ ليذكرها بالسرير.

    هي: توغّلت الكحة فيها كما السكين، وتحركت صوب الغرفة بكثيييييير من القرف[13]".

    وإذا كان هذا النوع من النهايات التي تحيل على التكرار اللانهائي مفضلاً لدى الكاتب، فإنه يقدّم في بعض الأحيان نهايات تغلق دائرة الحدث على نحو ما نجد في قصة "محو" التي تقدم في خاتمتها نهاية زوج خائن:

    "ذاك الرجل الذي فقد ذاكرته، في حادثة سير، امّحى فجأة من البيت.

    زوجته تجلس الآن على كرسي من قصب، ترقب أطفالها يشاغبون.

    وحين يداهمها النوم تنهض إلى النافذة، وليس أمام عينيها سوى:

    صورة زوجها الممدد على المنجورة

    جثة القحبة النحيفة

    و... قنينات الجعة التي ضبطها الدرك في السيارة[14]".

    كما يقدم القاص حين يغلق دائرة الحدث في بعض القصص نهايات تفاجئ القارئ ولا تفاجئ السرد، على نحو ما نجد في قصة "توم وجيري"؛ إذ ينجح القاص في إقامة علاقات غير متوقعة بين عالم التلفاز، وعالم البشر الذي يشاهده، حيث يدخل الطفل ساحة الحدث بشكل غير متوقع، لينهي تلك الحكاية:

    "توم يبحث عن جيري بالريق الناشف، ولما لم يجده، شرع في تكسير أواني المطبخ.

    أقبلت الخادمة بسيقانها البدنية والسوداء، وأمسكت جيري من أذنيه، لوّحت به كثيراً، ثم قذفته بيمناها السمينة، فقط كاد توم يستلقي على قفاه، و... انقطع البث، وتمرّغ الطفل كثييييييراً بالقرب من التلفاز[15]".

    * * *

    ويقدّم القاص في قصصه ترسيخاً لنماذج متنوعة من الشخصيات، فنرى نماذج للكهل المتصابي، والطفل الشغوف بالحكايات، والمرأة التي تبحث عن حقّها من اللذة، وغير ذلك. إلا أنّ أكثر النماذج حفراً في الذاكرة هو نموذج الجدة (امتداد الأم) الذي يصرّ عليه القاص، ويكرره أكثر من مرة، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "دادة[16]" حيث تموت الجدة والحكايات والأحجيات، وقصة "رقية لفقيه" التي تعيد إنتاج النموذج من خلال حكاية تشبه الحكاية الأولى:

    "يجنّ الليل، ونتكوّر جوار جدّتي، مثل كتلة لحم واحدة. وحين تنام أختي تمنحني جدتي مفتاح ذاكرتها اللذيذة. تدغدغني بالقبل، وتغلق الباب الخلفي.

    أرى هينة تتوسل الغول فوق سرير من قصب.

    وأبكي من الضحك لشغب احديدان.

    وحين انفتحت أصابع جدتي، كانت تبكي في الليل.

    ....

    ماتت جدتي.

    ضاع المفتاح.

    تشتت عقيق المسبحة،

    ونبت ما يشبه الطفيليات على عتبة ذاكرتها[17]".

    وفي خضمّ ترسيخه لحالة بنائية ذات قواعد محددة، يصرّ القاص على أنسنة الجمادات، والكائنات الحية غير البشرية، على نحو ما نجد في "الكرسي الأزرق[18]" حيث يشغل الكرسي وظيفة شخصية رئيسية، وفي قصة "قصيدة"، حيث االقصيدة كائن قادر على النهوض والسهر والأرق:

    "نهضت القصيدة مبكراً إلى الواجبات التي عليها، رغم سهرها البارحة حدّ الأرق، صحبة شاعر مجنون، وقنينة نبيذ، وعلبة سجائر شقراء.

    نزلت درج العمارة، تركت الباب مفتوحاً على مصراعيه، لأنها تعرف مسبقاً أنّ اللصوص لا يهتمون بدواوين الشعر ومسودات القصائد.

    ودونما حاجة إلى سائق، يفتح لها باب سيارة فاخرة، مشت على الرصيف خبباً[19]".

    وإذا تم إنعام النظر في القصة السابقة، فإنّ القارئ يلمس إدراك القاص لدور الجملة الفعلية في تسريع الحدث، إذ تقوم القصيدة بدور الفاعلية المطلقة، من خلال جمل فعلية متلاحقة، تبدو في غاية التناسب مع سرعة الحدث الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً. ويستطيع قارئ هذه المجموعة أن يجد إصراراً كبيراً على شحن الجمل بطاقة فعلية لافتة، على نحو ما نجد في قصة "كابُتشينو"، حيث تلتوى الموسيقى وتتصاعد ويندلق العرق والفنجان، ويتكوّر الرجل ويدخن، وتتكوم المرأة وتتلمظ الفستق، ويحتسيان معاً الجعة الألمانية:

    "كانت الموسيقى ملتوية، متصاعدة، في غفلة من أنين الغرفة، وكان العرق يندلق على جسديهما، في غفلة من العالم الناشف.

    يندلق الفنجان، وتتكوم المرأة في الزاوية اليمنى، تتلمظ نكهة الكابتشينو.

    يتكور الرجل في الزاوية اليسرى، فيدخن بشراهة سيجارة شقراء.

    ثم ريثما يحتسيان الجعة الألمانية، ويتلمظان الفستق[20]"...

    أما المرآة التي عادة ما يتخذها القاصون تكؤة مناسبة لإنتاج مفارقات القصة القصيرة جداً، فإن عبد الله المتقي ينوع في استخدامها وطرق توظيفها، فهو يجعلها وسيلة كاشفة لعقدة الحكاية في "انتبه من فضلك[21]، ويحمّلها وظيفة إيقاعية في قصة "مرايا[22]"، حيث يتكرر لفظ المرآة، ويقوم كل مرة بدور يجسّد رؤية نسائية مختلفة، بينما تقوم المرآة ذاتها بدورها المألوف في صناعة المفارقة في قصة "figures":

    "نظّف وجهه وعينيه، ونظر في المرآة.

    لم تنظف المرآة وجهها وعينيها.

    اندهش الرجل الملتحي، تساقطت المرآة، وتشظّت وجوهاً متعددة لوجه واحد، الوجه الملتحي الذي كان قبل قليل أمام المرآة[23]".

    * * *

    ومن الطبيعي ألا يكتفي القاص بما يفرضه نظام الحكاية، لأن ما يفرضه، يختلف عمّا يتيحه، والقاص المبدع هو الذي يستثمر المتاح، ولا يكتفي بإعادة إنتاج القواعد على شكل نص أدبي. فالمتقي يفيد من إمكانات اللغة في إنتاج نص ذي خيال تأليفي، فيجنح نحو غرابة لذيذة، على نحو ما نجد في قصة "غرقى[24]": إذ يغضب البحر، ويغادر لوحة الطفل، ليُغرق المعلم والأطفال، وفي قصة "ضحك القصة" حيث تغادر شخصيتان قصصيتان الورق لتصبحا جزءاً فاعلاً في الحكاية:

    "الكاتب يكتب فوق طاولته بالمقهى،

    يكتب مثلاً عن مومستين تمشيان على رصيف يوم السبت،

    تلتفتان، تضحكان مجاناً، تلتقيان برجل ما، برجلين،

    وتعودان إلى الرصيف.

    قبل الليل بقليل، اختفتا من الرصيف،

    واختفى الكاتب من المقهى،

    .....

    فتح الكاتب باب شقته، باب غرفة نومه، ليجد المرأتين على سريره،

    كانتا تهرّان بعضهما، وتضحكان كما المجانين،

    ضحك بدوره كالمجنون وارتمى من الضحك فوق السرير[25]".

    كما يجد قارئ (الكرسي الأزرق) ظلالاً أسطورية وفكرية وأدبية، فيحيله السرد على أوديب[26] و"يروميتيوس[27]" وعلى "طوق الحمامة[28]" و "تفاحة نيوتن[29]" ولحية تولستوي[30]، وغير ذلك، مثلما يحيله على الأدب الشعبي؛ حيث يغني الأطفال أغنيات المطر، على نحو ما نقرأ في قصة "سحابة عابرة":

    "تحرّك الهواء رذاذاً، وسقط المطر،

    نظر الأطفال إلى السماء ببهجة، وصاحوا بمرح:

    ـ أشتاتا تا تا... أولاد الحراثة.

    ثمّ توقّف المطر، وكأنّ قطرات لم تكن.

    ظلّ الأطفال يراقبون السماء بدهشة وإعجاب.

    بعد فترة، أشرقت الشمس، وعاد الأطفال لدائرة البلي[31]".

    * * *

    سأذكر أخيراً أنني عندما انطلقتُ إلى مدينة الناظور المغربية في آذار (مارس) 2013 للمشاركة في المهرجان الثاني للقصة القصيرة جداً، كان اسم عبد الله المتقي واحداً من الأسماء القليلة المشاركة في المهرجان ذاته، ممن استطاعوا اجتياز الحدود، بفضل اجتهادهم[32]. وكانت مجموعته القصصية (الكرسي الأزرق) تأخذ مكانها في مكتبتي منذ أكثر من خمس سنوات، وها أنا ذا أقدّمها للقارئ كما أراها: مجموعة قصصية جديرة بالاهتمام، وهي تعدّ تجربة مهمة في مجال القصة القصيرة جداً، لأنها تمثل رؤية متقدمة لبنية القصة وإمكانية تطويرها.

    [1] عبد الله المتقي: الكرسي الأزرق، منشورات كلية الآداب، الدار البيضاء، ط1، 2005
    [2] المصدر نفسه، ص16.
    [3] المصدر نفسه، ص28.
    [4] المصدر نفسه، ص57.
    [5] المصدر نفسه، ص47.
    [6] المصدر نفسه، ص 10.
    [7] المصدر نفسه، ص60.
    [8] المصدر نفسه، ص12.
    [9] المصدر نفسه، ص40.
    [10] المصدر نفسه، ص13.
    [11] المصدر نفسه، ص30.
    [12] المصدر نفسه، 34
    [13] المصدر نفسه، ص48.
    [14] المصدر نفسه، ص25.
    [15] المصدر نفسه، ص14.
    [16] المصدر نفسه، ص15.
    [17] المصدر نفسه، ص17.
    [18] المصدر نفسه، ص67.
    [19] المصدر نفسه،ص18.
    [20] المصدر نفسه، ص20.
    [21] المصدر نفسه، ص26.
    [22] المصدر نفسه، ص44.
    [23] المصدر نفسه، ص63.
    [24]المصدر نفسه، ص23.
    [25] المصدر نفسه، ص38.
    [26] المصدر نفسه،ص27.
    [27] المصدر نفسه، ص12.
    [28] المصدر نفسه، ص61.
    [29] المصدر نفسه، ص19.

    [30] المصدر نفسه، ص22.
    [31] المصدر نفسه، ص24.
    [32] أذكر للقارئ الكريم هنا أنني كتبت في رحلة الطائرة إلى الدار البيضاء أبياتاً أعبّر فيها عن شوقي للقاء هذا الرجل، أقول فيها:

    جداولَ أيامنا صفّقي/ ويا شمسَ أيامنا أشرقي// وصبّي رحيقكِ في المغربيـ / نِ وهاتي من السلسل الريّقِ// فإنّا الغداةَ سنلقى حبيباً / أريباً يقالُ له المتّقي// ليسمعنا من عجيب الكلامِ / يداوي به علّة المرهَقِ// ويجلسنا في ظلال الحروفِ/ على حرف كرسيّه الأرزقِ.

  2. #2
    طبيب وشاعر من سوريا دير الزور
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    3,402
    ما شاء الله د. يوسف بحوث أدبية عالية المستوى

    بارك الله بك وبدراساتك وجزاك خيراً

    أمدك الله ببحر من العلم والأدب لا ينقطع أبداً
    واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم

المواضيع المتشابهه

  1. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (3)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-28-2013, 03:12 AM
  2. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (11)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-24-2013, 05:03 AM
  3. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (2)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 02:53 AM
  4. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (6)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 02:47 AM
  5. في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (1)
    بواسطة د.يوسف حطيني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 02:35 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •