نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
أسامة عكنان

"أيهما آدم وأيهما الشيطان"

أذكر أنه في عام 1968 عندما كنت في الثامنة من عمري، وفي الصف الثالث الابتدائي، أي منذ ما يقارب الـ 45 سنة، أهداني والدي بسبب تفوقي في اللغة العربية كتابا اسمه "حدائق القراءة"، وهو كتاب منشور في لبنان، ويضم مجموعة من النصوص المنتقاة تناسب مستوىً أعلى بكثير من مستوى الثالث الابتدائي، وذلك كي لا أبقى محصورا في دروس أقل من مقدرتي، وكي أطلع باستمرار على ما يناسب مستوايَ الحقيقي..

على كل حال هذه كانت وجهة نظر الوالد فيَّ، وهو أستاذ لغة عربية بالمناسبة، وقد اقتنع بما اقترحه عليه مدير المدرسة التي كنت أدرس فيها، من ضرورة أن أقفز من الصف الثالث إلى الصف السادس الابتدائي مباشرة، كي لا أضيِّعَ من عمري سنتين هباء منثورا، لكنه عاد ليتراجع ويقبل فقط بأن أقفز إلى الصف الخامس، وهذا ما حصل بالفعل، فأنا لا أعرف الصف الرابع الابتدائي لأني لم التحق به، بل انتقلت من الثالث إلى الخامس مباشرة..

المهم..

أذكر أنني قرأت كتاب "حدائق القراءة" هذا كاملا، وأعجبتني مجموعة النصوص المنتقاة التي كانت مصاغة بذكاء مشرفين تربويين محترفين، ويحتوى كل نص على قصة قصيرة مفعمة بالحكمة..

لكن مع الأسف وبعد مرور 45 عاما على هذه الواقعة، لا أذكر من نصوص وقصص ذلك الكتاب سوى نصٍّ واحدٍ فقط، وقد عشت طول عمرى أذكره بتفاصيله حتى الدقيقة منها، واستحضره في أكثر من مناسبة، لأنه في حقيقة الأمر نصٌّ بهرني وأدهشني، بشكل غير عادي في تلك السن المبكرة، إلى درجة أنه طُبِع في الذاكرة حتى الآن، وكأني أقرأه من الكتاب نفسه مباشرة، بل إني ما زلت أذكر الرسم التوضيحي المرفق بالنص..

ولسبب ما سيعرفه ويفهمه قطعا من يتابع الأحداث الراهنة بتركيز، وجدت نفسي استحضره، فأحببت أن أورِدَه في هذه المداخلة، فأنا متأكد من أن الحكماء من القراء سيعرفون كيف يستفيدون منه..

النص كان عنوانه..

"آدم في ضيافة الشيطان"..

"عنوان مستفز ومثير للوهلة الأولى.. أليس كذلك"؟!!

أما تفاصيل القصة التي وردت في النص فهي التالية..

في يوم شتوي بارد وماطر جدا كان آدم متجها إلى بيته، لكنه من شدة المطر احتمى بشجرة منتظرا أن تَخِفَّ حدَّة هطوله..

أثناء ذلك مرَّ الشيطان من مكان قريب، فلما رآه اتجه نحوه، فقد كان يبحث عن مخلوق يسامره الليل في هذا الجو البارد الماطر..

بعد السلام وبداية الكلام، والمجاملات، لفت انتباه الشيطان أن "آدم" فرك يديه إحداهما بالأخرى، ثم راح ينفخ عليهما أثناء ذلك. ولما لم يفهم الشيطان سرَّ هذه الحركة، فقد توجه بالسؤال إلى آدم قائلا له:

"ماذا تفعل؟"

أجابه آدم وهو مستمر في فعله: "أنفخ على يديَ كي أدفئهما"..

استغرب الشيطان من الأمر، لكن الفكرة على ما يبدو أعجبته، فعلَّق عليها بقوله وهو هاشٌّ باشٌّ:

"هل تقصد أن جوفكَ يخرِجُ هواءً يُدفئ الأشياءَ الباردة؟"..

أجابه آدم بلا مبالاة وهو يواصل النفخ على يديه: "نعم"..

بعد لحظة وقد أُعجِب الشيطان بهذا المخلوق العجيب الذي يستطيع أن يُخرجَ من جوفه في عز البرد والصقيع، هواء يُدفئ الأشياء، دعاه إلى كهفة كي يكملا السهرة حتى يتحسَّن الطقس، فلديه حساء ساخن يتناسب مع هذا الجو البارد..

قبل آدم الدعوة وذهب برفقة مضيفة "الشيطان" إلى كهفة، فقد كان العرض مغريا..

في الكهف وقرب النار دارت بينهما أحاديث شرَّقت وغرَّبت، والشيطان منشغل بإعداد الحساء الساخن لضيفه..

ثم بعد أن انتهى من إعداده، سكب له في صحن وقدَّمه إليه ليشرب..

شرب آدم أول رشفة من الحساء الذي كان يغلي، فأحس بحرارته الشديدة، فماذا فعل؟!!

راح ينفخ على الحساء، والشيطان يراقبه..

اختلط الأمر على الشيطان واستغرب ما يراه، فسأل آدم قائلا: "ماذا تفعل؟"..

قال آدم وهو منشغل بالنفخ على الحساء: "أنفخ على الحساء الحار كي يبرد"..

قطَّب الشيطان جبينه وهو شارد في التفكير، ثم سأل وهو محتار ومحرج وقلق:

"هل تقصد أن الهواء الذي يخرج من جوفك يبرِّد الأشياء الساخنة؟"..

قال آدم بلا مبالاته المعهودة، وهم منشغل بتبريد الحساء: "نعم"..

غضب الشيطان وانتصب واقفا وقال لآدم بعصبية وبقلق:

"أخرج من كهفي يا هذا.. فأنا لا أستطيع أن أرافق مخلوقا بإمكانه أن يُخْرِجَ من جوفه هواء واحدا، مرة يدفئ الأشياء، ومرة يبرِّدُها"..

هذا فوق طاقتي على الاحتمال!!!

يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااه:

"الشيطان نفسه، مُسَبِّب كل الفتن، وخالق كل الإشكالات، لم يستطع أن يتعايش مع هذه الازدواجية المتناقضة التي بدت له ضد الطبيعة، مع أنها ازدواجية مفهومة فيزيائيا لنا نحن معشر البشر!!!!

لا داعي للوقوف مطولا عند حرفية الأحداث، إنها رسالة وصلتني منذ كنت طفلا، وما تزال تصلني كلما واجهت موقفا فيه ازدواجية في المعايير الأخلاقية..

تُرى هل أن الفساد الأخلاقي الناجم عن هذا النمط من الازدواجية هو حكرٌ على الإنسان، إلى درحة أن الشيطان نفسه خاف على نفسه منه؟!

إن كلَّ ما أذكره بعد هذه الواقعة التي حدثت منذ 45 عاما، أنني سألت والدي الذي لم يجبني طبعا وضحك فقط، وتركني أفكر قائلا: "هكذا يبدأ حياته كل من كان قدره أن يصبح فيلسوفا"..

لم أفهم حينها، لكنني فهمت لاحقا عندما خضت معاركي مع ابن رشد والفارابي والرازي وابن سينا وسقراط وأفلاطون وأرسطو وهيوم وهيجل وباركلي ولوك وديكارت وماركس، وغيرهم..

سألت والدي:

"أيهما كان الشيطان حقا في القصة، هل هو "الضيف" أم "المضيف"؟!

صدقوني ستفقد القصة رونَقها لو أُعْطِيَت أيَّ جرعة من المنطق والجدل..

إنها حكمة عبر عنها كاتبها بجنون بتلك الصياغة، وعبر عنها قارئها الطفل ببراءة بذلك السؤال الذي جعل والده يتنبأ له بأنه سيصبح فيلسوفا..

فاقبلوا جنون الكاتب المجهول، وبراءة القارئ منذ كان طفلا، ونبوءة الوالد الحكيم..

وتأملوا القصة وواقعنا فقط..

أرجوكم لا تمنطقوها فتشوهوها (!!)