رواية المغرب العربي الفرنسية


بين الأصالة والتقليد
ترجمة الدكتور حسيب الياس حديد

كلود روا
عن مجلة نوفيل اوبزرفاتور الفرنسية






أعتقد إننا كنا في السابق ولا نزال مع استقلال الشعب العربي ويبهجنا كثيراً أن نجد كتّاباً من المغرب العربي يكتبون رواياتهم بلغة فرنسية صحيحة تماماً (وأستطيع القول بأفضل لغة فرنسية) . وقد عبّر جوليان كراك عن دهشته من الروايات الفرنسية التي تدخل عربات ميترو الأنفاق وتحمل في طياتها ميّزات محببة للنفوس . إن الذين يؤلفون باللغة الفرنسية يواجهون بعض العقبات كما يتمتعون بفوائد جمّة للبعد المكاني دون أية مضايقة من الهوس الموجود في باريس .
إن لدى هؤلاء الكتّاب تجربة ومصادر أقل انحصاراً من الكتّاب الفرنسيين أنفسهم ، فإن الكتّاب الجيدين من غير الفرنسيين من الذين يكتبون باللغة الفرنسية ينبعون أصالة وحرية أمثال كاتب ياسين وايمي وسيزير وراموز ومالكولم غاستون ميرون من كويبك إلى جورج شهادي من لبنان . ولا يبدو على هذا الجيل من الكتاب أنهم منقطعون فإن هذا التقليد لكتابة باللغة الفرنسية من قبل غير الفرنسيين يتمتع بحرية كبيرة .
وعند قراءتنا للروايات الفرنسية التي كتبت من قبل كتّاب من المغرب العربي والتي صدرت عام 1985 فإننا نرى أنه من الضروري إظهار تحرر الكتّاب المغاربة من التحذلق والتكلف في الأسلوب الفرنسي وكذلك بعض الإدعاءات والتظاهر بالمعرفة الباريسية في مجال الأدب وإنهم متحررون أيضاً من الرطانة اللغوية ، في هذا المجال نستطيع القول بأن هؤلاء الكتّاب يتمتعون بالاستقلالية .
وعلى سبيل المثال نأخذ ثلاثة مؤلفين موهوبين وهم حيلي بيجي الكاتبة التونسية وطاهر بن جلون الكاتب المغربي ورشيد بوجدرا الكاتب الجزائري ، إذ طبعت رواياتهم خريف عام 1985 من قبل دور النشر موريس نادو وسيوي ، فالحديث عن السمات المشتركة لهذه الروايات يعني التشويه .ان ما يربط هذه الكتب يوشك ان يكون أقل فالأدب الذي يقتبس ويقلّد لا قيمة له . فجمل رشيد بوجدرا الكاتب الجزائري طويلة جداً تذكرنا بفوكز وكلود سيمون ، وهنا نقف أمام مقلدين لمقلدين ، لذلك فإنه يحاول جمع كل الحياة وربما أكثر من حياة واحدة وعائلة كبيرة وماضٍ عريق ، إذن ما هو المشترك بين روايتي رشيد بوجدرا وطاهر بن جلون ؟ نجد أن رواية طاهر بن جلون البحث عن الإمساك بالعالم بأسلحة الحكايات وكذلك منابع للسمة الغنائية وإيمائية القاص العربي وفي الوقت نفسه تعبئة التقليد الموجود في ألف ليلة وليلة .
ومن جهة أخرى تقترب حيلي بيجي من بروست إذ تنطلق للبحث عن الوقت المستعاد في الشارع المار لطفولتها التونسية . ففي هذه الروايات هنالك عشرات الصفحات التي تؤثر فينا والسبب ان هؤلاء المؤلفين وحدهم الذين يستطيعون كتابتها لكي يجعلونا نشعر بعالمية وطنهم الأم ، وهي أن تكون برجوازية تونسية صغيرة في بيت رجالي أو تكون شاباً مغربيا بين فاس وطنجة أو جزائريا يبحث عن ذكريات طفولته . ان الذاكرة الكلية تعني بالأعماق وخارج اللغة ويجب أن تكون هناك قراءة رؤيوية موجهة تكمن وراء الواقع ، إلا أن المتوازي النصي لا يعد خيالياً فهو مكتوب على الجسم نفسه ، ولا يعد طاهر بن جلون فعالياً بالنص بل هو قادر على سرد قصة احمد وفاطمة ببساطة جميلة ومشوقة لراوٍ يروي لنا الأحداث وعند قراءتنا للرواية ، نجد قطعاً من الخرسانات المجتمعة معاً في كتاب واحد حية جداً وممتعة في الوقت نفسه ولكن تبقى السمة المغربية التي تضفي عليها المزيد من الزينة والجمال . ونستنتج أن ضرر التبجح الحضاري مكروه وخطير في طنجة وباريس على حد سواء .
أما السرد عند حيلي بيجي فهنالك حضور دائم لمنزل حي لاسيما الصورة المعبرة للجدة التي تعبر عن العدالة والرقة والحنان بحيث نشعر أنها رقيقة ونميل إلى حبها كأنها جدتنا . وبالرغم من الفجوات التي تذكرنا بالأدب في باريس فإن العمل يظهر برّاقاً ولكن ليس بالدرجة التي نتصورها ، فالصفحات التي تتعلق بالجدة كتبت بشفافية القلب وتنعكس هذه الشفافية على الكتابة نفسها ويستهل الراوي كتابه بافتنان كبير سرعان ما يتبدد ويخرج كتاب حيلي فجأة من طابعه الكلامي تجاه نشوة معينة بلغة مسهبة تحمله على قمم شاهقة دون أي ادّعاء للوصول إلى ما يرمي إليه كالصياد الذي يرمي بشباكه في البحر ليصطاد ما يقع في شباكه إلا أنه يعلق في شبكته حيوان كبير أسطوري بحيث تصبح القراءة المستودع الأسطوري . ويقينا أن حيلي بيجي عندما تتحدث عن عائلتها ومنزلها وعن تونس فهي كاتبة بحق .
أما رشيد بوجدار فإنه واحد فإنه واحد من الذين عرضوا حضاراتهم الأصلية والأصيلة وجزءاً من الحضارة الباريسية خاصة في كتابه العاشر الأقرب إلى الإنجاز والذي يقترب كثيراً من أسلوب الكاتبة التونسية . ففي روايته (المرث) هنالك قوة كبيرة وغزارة وفيرة في الذكريات وإيجاز شديد في الإحساس وكل ذلك يدل على موهبة جارية للحياة إلا أن جمله الطويلة وعباراته تقترب من أسلوب فوكنر وروب – غريبة وكلود سيمون ويمكننا أن نتساءل عن سبب هذا التقليد غيد المجدي لأمور غير ضرورية .
ومن المحتمل أن عز الدين بونمور لم يكن أقل ثقافة من زملائه المغاربة فهو يكتب بفرنسية رصينة جداً كما تتجلى في النصوص التي وردتنا . فقد عكست رواياته الظلم والبؤس اللذين أديا إلى تمرد فلاحي شمال قسنطينة الذي سيصبحون في الطليعة أبان حرب الاستقلال كما تعرض ذلك روايات السنوات التي سبقت الحرب والمسببات التي أدت إلى الانتفاضة .
ويتجنب عز الدين بونمور عادة العقبات التي من شأنها تبديد مشاريعه مبتعداً عن اللغة التخطيطية والمانوية وينقاد حذراً إلى الواقعية الاشتراكية ولكنه على الطريقة الجزائرية . وكما ذكر فإن رواياته تعكس نضال الشعب الجزائري عبر التاريخ ، ابتداء من الرومان وانتهاء بالفرنسيين فإن الطبيعة والنور والرجال والليالي والأيام انغمست كلها في الحقيقة الجزائرية ، علماً أننا قرأنا عشرات الكتب أو المئات التي تناولت تاريخ الجزائر وحربها التحررية إلا أن ذلك يختلف تماماً عن الذي يقدمه عز الدين بونمور فهو يجعلنا نعيش تلك الحرب من خلال الفضاء الداخلي للشعب الجزائري وفي أعماق قلبه .