اخر افلام السينما المصرية من انتاج الجيش ! بقلم اسامة عكنان

ArabNyheter | 2013/07/20لا يوجد تعليقات
فيلم من إنتاج قيادة الجيش المصري، مدته سنتان ونصف، من بطولة "الإخوان المسلمين" و"القوى المدنية"أما المعالجة السينمائية فهي "ضرب سلطة الإخوان" بـ "معارضة المدنيين"، ثم "ضرب سلطة المدنيين " بـ "معارضة الإخوان"، ثم "ضرب الاثنين" بـ "رعب الشعب"، لتنتهي اللعبة بـ "سلطة الجيش"أول مشاهد الفيلم "Bye Bye مبارك"، وآخر مشاهده "Welcome سيسي"أسامة عكنانهذا المقال هو خلاصة محاورات ولقاءات مُكثَّفة ومُعَمَّقة مع نخبةٍ من المثقفين المصريين، وعصارةُ تحليلاتٍ قامت على تلك المحاورات، ونتجت عن قراءةٍ محايدة وموضوعية ومُطِلَّة على تفاصيل المشهد المصري من داخله، وفي ضوء أخذ كلِّ تفاصيلة في الاعتبار، كلُّ تفصيلٍ بحسب موقعه وتأثيره في المشهد، وليس إطلالا عليه من حوافه ومن على هوامشه، ولا غرقا في الفتات الذي يلقيه "صُناعُ الحدث" إلى السُّذَّج الذين يعتقدون أنهم يسهمون في صناعته والتأثير فيه من حيث هم وقوده وأدواته ليس إلا (!!)أولا.. النقاط الرئيسة التي تقوم عليها المقاربة المتعلقة بسيرورة الأحداث في مصرإن المقاربة التي يدور حولها موضوع هذا المقال تقوم على 6 نقاطٍ رئيسة تستند إلى وقائع يعرفها المطلون على كواليس الحدث، وتسنِدُ صحتَها سيرورةُ الأحداث على الأرض، وهي..1 – إن الجيش هو الذي أسهم في سرعة وفي طريقة إسقاط الرئيس "مبارك" على نحوٍ منحه قيادة مصر في مرحلةٍ انتقاليةٍ برضا معظم المصريين بعد أن دفعهم لذلك وجهزهم له، لأنه كان ضد "مبدأ التوريث" الذي كان قد أصبح ديدنَ "مؤسسة الرئاسة" و"مؤسسة الحكومة" و"مؤسسة الحزب الوطني"، فوجد في أحداث الخامس والعشرين من يناير الشعبية وفيما ما تلاها، فرصة لأن يُغير واقع البلاد بشكلٍ لا يظهره انقلابيا من جهة، ومن خلال سيرورةٍ للأحداث لا تمس بُنية الدولة الأساس ومُكوناتها العميقة من حهة أخرى، وهو ما لم يكن لا قادرا ولا مستعدا ولا مؤهلا للقيام به قبل "انتفاضة 25 يناير"، التي جسَّدت خلاصةً لفعلٍ شعبي على الأرض، انتهى بأن طلب منه "صانعو الفعل" أنفسهم التدخلَ لحسم الوضع، فظهر بمظهر المنقذ للشعب وللدولة في الوقت المناسب بالشروط وضمن الظروف ووفق المعطيات التي حددها هو نفسه، أي الجيش.2 – إن الجيش ومن خلال متابعته لأحداث الانتفاضة المصرية منذ 25 يناير وحتى يوم تنحي الرئيس مبارك، وهي الأحداث التي كشفت عن حالة التقاء شكلي غير مؤدلج ولا مؤصَّل ولا متماسك – بسبب حالة الحماس والتوحد الجمعيين التي أصابت المصريين – بين تيارين بدا له أن من السهل إعادة تشكيلهما ليصبحا تيارين متعاديين بشكل تراجيدي، على خلاف ما ظهر منهما خلال الأيام الـ 18 للانتفاضة، هما "الحركة الشبابية المدنية" و"جماعة الإخوان المسلمين".. نقول.. إن الجيش إذ لاحظ ذلك، فقد قرر أن يحرق هذين التيارين الواسعين الجارفين اللذين هيمنا على الفعل التحريكي والتغييري على الأرض، دون أن يتدخل في تفاصيل عملية الحرق، ليبقى على الدوام ذلك الصمام الذي يلجأ إليه المصريون في ذُرى الأزمات حتى وهم يحرقون بعضهم البعض في ميادين الإعلام والسياسة، بل وحتى في ميادين العنف، تاركا المعركة تدور بينهما – أي بين ذينك التيارين – حول السلطة التي أدرك قادة الجيش بحنكتهم أنها ستكون معركة شرسة بين تيارين لا يمكنهما أن يلتقيا، ولابد من أن يُسْتَدْرَجا ليدمرَ أحدُهما الآخر تمهيدا لأن يَهلكا سويا. ففعل ما بوسعه لتحقيق ذلك في هذه المواجهة الدامية بينهما، دون أن يحمِّلَه الشعب المصري وزرَ ومسؤولية أيَّ أمر يقوم به، مادام سيقوم به بناء على طلب الشعب بسبب تلك المعركة وأفرانها الحارقة.3 – إن الجيش وقف وما يزال يقف وراء كافة الأحداث الخفية التي تدور في بُنية الدولة العميقة، وعلى رأسها تمثيلا لا حصرا أزمة الوقود التي لا أحد سواه يستطيع إدارتَها بذلك القدر من الكفاءة، لأن معظم شركات إنتاج وتكرير وتوزيع البترول ومشتقاته، هي أصلا تحت هيمنة وإشراف وإدارة الجيش بشكل مياشر، كما هو حال العديد من المؤسسات الاقتصادية الإستراتيجية في مصر.4 – إن حركة "تمرد" التي بدا أنها تقود الفعل الشبابي في حدث "30 حزيران الأخير"، هي صنيعة المخابرات العسكرية المصرية التي كلِّفت بإحداث اختراقات نوعية وعميقة في قلب القوى الشبابية والثورية عبر أداة شبابية جديدة تكتسب زخما جديدا. فكانت هذه الحركة التي مثلت القوى الشبابية التي أريد لدورها ولتحشيدها ولقيادتها ولمهماتها ولأدواتها أن تكون تحت الإشراف المباشر من القوات المسلحة التي وعدت الشباب ومن خلفهم "جبهة الانقاذ" الهرمة المترهلة الرموز والأفكار والمشاريع، بالإسراع في إسقاط مرسي وجماعته، إذا تمكنوا من حشد ما يلزم في الشوارع والميادين والتحرك بشكل مناسب يجعل تحرك الجيش لصالحهم تحركا مشروعا لا إنقلابيا. وأوفى الجيش بوعده، ولم يكِّلف الحركة الجديدة أكثر من ثلاثة أيام من التظاهر والتجمهر أعقبها بالتنفيذ الفوري للحلقة الثالثة من حلقات خطته.5 – إن المعارضة التقليدية الهرمة فكريا وسياسيا وتنظيميا، والتي يقف على رأس عجائزها المهترئين أشخاص مثل "البرادعي" و"عمرو موسى" و"حمدين الصباحي" و"أيمن نور" و"رئيس حزب الوفد" وغيرهم، لا تملك من أمرها شيئا، وهي مجرد بالونات اختبار لتوجيه حركة المنطاد العسكري. ومعظم هؤلاء قد تمَّ حرقهم سياسيا ولن يكون لهم أيُّ وجود في المرحلة القادمة أيا كان شكل الدولة، بل هم لن تقوم لهم قائمة سياسية بعد اليوم، وبالأخص الثلاثي الذي ظن في لحظة فارقة من زمن مصر أن المستقبل له وحده وهو "برادعي، موسى، صباحي". وبعضهم يتجه بسرعة البرق نحو المحرقة، وبعضهم مختفٍ وخائف ومرعوب في ضوء قراءته لسيروة المشهد المصري ككل، لأنه مُطل على اللعبة بكامل تفاصيلها، ولأنه لا يريد أن يفعل ما يرشحه ليكون وقودا لمحرقتها، وأداة من أدوات إجهاض مشروع "25 يناير"، الذي مثَّل جوهرَ الخطة الكواليسية التي وضعها الجيش خلال الفترة من "25 يناير" إلى "11 فبراير" ليزيحَ الرئيس مبارك فقط، وليعيدَ إنتاج الدولة على نحوٍ لا يمس بجوهرها العسكري.6 – إن "موجة" الثلاثين من حزيران منذ بُدِئَ الإعداد لها بأداتي "تمرد" الشبابية الثورية، و"جبهة الإنقاذ" السياسية الهرمة، وإلى أن تمكنت من حشد ما ساعد الجيش على التحرك للإطاحة بالرئيس مرسي وبجماعة الإخوان المسلمين، بل وحتى الآن وإلى أن تنزوي رغم أنفها عن المشهد السياسي الريادي الذي سيطرت عليها نشوة أوهام إنجازه، هي صنيعة عسكرية بالكامل – نقصد موجة الثلاثين من حزيران – يتلقي قادتها توجيهاتِهم من المجلس العسكري، ولا يخرجون عن خطته، وهم غارقون في وهم أن الجيش سوف يسلمهم الدولة المدنية على طبق من ذهب بعد أن يكون قد حررها من الإسلاميين ومن إرهاصات الدولة الدينية، دون أن يعوا طبيعة الجيش المصري الذي لا يمكنه أن يتعايش مع فكرة "الدولة المدنية" بالقدر نفسه الذي لا يمكنه أن يتعايش مع فكرة "الدولة الدينية"، لأنه في نهاية المطاف لا يقبل بأن يتمَّ المساس بسلطاته شبه المطلقة على السياسة وعلى الاقتصاد وعلى كل مراكز السيطرة والتوجيه في الدولة.إن محطة الثلاثين من حزيران محطة مهمة من محطات خطة الجيش للقضاء على انتفاضة الشعب المصري، عبر الانتهاء من مسيرة قصقصة أجنحتها التي بدأت منذ نزلت القوات المسلحة إلى الشوارع في الثامن والعشرين من يناير 2011. ولقد كان الجيش بحاجة إلى محطة من هذا النوع وبهذا الزخم كي يعطي لخطوته اللاحقة وللمرحلة الأخيرة من خطته شرعيتَها التي تبعدُ فعلَه عن توصيفات الانقلابات العسكرية سيئة السمعة. ولعل ما يفسر لنا هذا التكتيك الذكي لدى المجلس العسكري، تلك الحالة من الهستيريا التي أصابت الجيش وكل الأدوات الإعلامية التي حركها وجندها أبواقا تنعق بما لا تعلم وغالبا بما لا تفهم، عقبَ تَرَدُّدِ الكثير من الدول الأجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في حسم مسألة حدث الثلاثين من حزيران، من حيث كونه ثورة وليس انقلابا عسكريا. فحسم هذه النقطة في الذهن المصري عبر حسمها في الذهن العالمي كان يحظى لدى القيادات العسكرية بالأولوية على كلِّ المسائل الأخرى التي ترتبت على الحدث.وإذن تعالوا نتابع معا خفايا الحدث المصري الكبير منذ "25 يناير 2011" وحتى الآن، علنا نتمكن من تلمُّس سيناريوات المستقبلين القريب والبعيد في مصر.خطة المجلس العسكري في إجهاض حدث 25 يناير كي لا يصبح ثورة وكي لا ينتج دولة تنازع الجيش في مكتسباتهلقد تم اتخاذ القرار في كواليس الجيش المصري بتنفيذ هذه الخطة على 4 مراحل..* الأولى "عسكرية انتقالية"، بإدارةٍ يتم خلالها تمهيد الواقع على الأرض ليؤسِّسَ لنجاح المراحل الثلاث التالية، وتبدأ هذه المرحلة برحيل مبارك في اللحظة التي يصبح فيها المنتفضون جاهزين لتسليم الجيش مقاليد الأمور بشرعية ثورية، ليكملَ بالنيابة عنهم مشوار الثورة الناقص جدا. وعلى مدى هذه المرحلة يتم اللعب بكل ما يتاح أمام الجيش من أوراق لتوجيه دفة السفينة نحو المرحلة الثانية بتؤدة وروية.* الثانية "إخوانية انتقالية"، تبدأ بالزج بالإخوان المسلمين إلى محرقتهم الحقيقية عبر استدراجهم إلى السلطة، كي يتم كشفهم، وكي تتم تعريتهم وإظهار خوائهم وفوضويتهم وفشلهم وعجزهم وشموليتهم وانعدام أسس التعايش مع الدولة المدنية الحقيقية لديهم، فضلا عن كشف أنهم غير أمناء لا على مستقبل مصر، ولا على مستقبل العرب الذين تحتل بينهم مصر موقع الصدارة الأبوية، ولا على مستقبل الإسلام الذي يتحدثون باسمه، أمام الشعب المصري الذي كان متعاطفا معهم بحكم التدين الطبيعي لديه من جهة أولى، وبحكم أنهم امتلكوا على مدى عقود طويلة بريق المعارضة الملاحقَة والمضطهدة من جهة ثانية.وفي هذه المرحلة أيضا سيقوم الجيش وعبر كافة أدوات الدولة العميقة بتوجيه دفة السفينة إلى حيث تصبح الساحة جاهزة لاحتضان المرحلة الثالثة، بعد أن يكون قد أسَّسَ لها بإعادة تأهيل الشباب الثائرين المُستثنَيين والمُحيَّدين من قبل جماعة الإخوان المسلمين على مدى سنة حكمهم الأولى. كما يكون الجيش قد تسبب بكل الاختراقات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية التي سيتم إحداثُها بشكل متتابع وتواتري يقطع الأنفاس من قبلِ معارضةٍ تترسَّخ وإعلامٍ يساندها مساندة مطلقة، في بذر بذور، ومن ثم في تخليق مكونات، الفجوة السحيقة بين الإخوان المسلمين وبين الشعب عامة من جهة، وبينهم وبين الشباب وجبهة الإنقاذ خاصة من جهة أخرى، لتكون الساحة جاهزة ضمن سيناريو عاطفي مُحدَّد لاحتضان حدثٍ تغييري ملائم لطيِّ صفحة المرحلة الثانية التي ستكون نتيجتها حرق "جماعة الإخوان" سياسيا بشكل تراجيدي، وفتح صفحة المرحلة الثالثة.* الثالثة "مدنية انتقالية معشَّقة بالنكهة العسكرية"، تبدأ بالإطاحة بالإخوان لصالح "القوى المدنية" بشقيها "الشباب الثائر ممثلا بتمرد"، و"جبهة الإنقاذ" التي تصدى لتمثيلها "محمد البرادعي"، بعد أن تمَّ تأهيل تلك المعارضة على مدى سنة كاملة لتتمكن من الإطاحة بالإخوان بدعمٍ عسكري، عرف المجلس العسكري كيف يُجَنِّبُ نفسَه من خلاله كلُّ التوصيفات القاطعة للانقلابات العسكرية الفَجَّة، عندما ظهر متدخلا باسم شرعيةِ شارعٍ أفقدت شرعيةَ الصندوق قيمتَها. وهكذا تصبح المعارضة ممثلة في مختلف القوى المدنية في هذه المرحلة هي الجهة التي تُعِدُّ نفسَها لاستلام السلطة بعد مرحلة انتقالية سريعة تُطَبَّق بشكل دستوري مسلوق سلقا لكنه مقبول ومستساغ، وسيجد الكثير من الأبواق الإعلامية والسياسية والعسكرية المتقاعدة والثقافية التي تروج له وتدافع عنه.* الرابعة "عسكرية دائمة تتدرج في شكل تجسيد ديمومتها من منتهى القمع إلى استعادة الوضع الذي كان سائدا قبل 25 يناير لجهة وضع وموقع ومكتسبات الجيش"، وتبدأ المرحلة الرابعة بالإطاحة بالسلطة المؤقتة التي انبثقت لتكون وقودا في محرقة "المرحلة الثالثة"، إذا كانت تفاصيل الخطة قد مرت على الأرض كما هي مرسومة في أدراج المجلس العسكري، ليستلم الجيش زمام الأمور في البلاد بالكامل، ولتتحول مصر إلى دولة تحت حكم عسكري شرس، يعيد إنتاج الدولة على نحوٍ قادر على أن يحتضن في وقتٍ لاحق شكلا مدنيا أليفا وناعما من النوع الذي لا يجد تعارضا جوهريا في تعايشِ المدنية مع النكهة العسكرية اللاذعة، ومع رائحة القوات المسلحة الحادة، وهذا ما تفرضه حقيقة أن الجيش المصري لا يقبل بأيِّ شكل من أشكال "مدنية الدولة" إذا كان هذا الشكل سيتدخل في صلاحياته وسيطرته على مرافقها، وفي توجيهه لسياساتها الإستراتيجية العميقة التي كانت تحت إمرته منذ عام 1952. أما إذا كانت الأمور قد سارت على غير ما خططت له القوات المسلحة – وهو الأمر الممكن والمستبعد في الوقت نفسه – فإن السيناريوهات المتوقعة تبقى مرهونةً بشكل وبطبيعة الخروج الذي تم عن سكة خطة المجلس العسكري. وهذا يتطلب منا أن نلقي إطلالة على محتوى خطة الجيش للمرحلة الثالثة وما سيتبعها، كي نستطيع رسم السيناريوهات المحتملة لكل الحالات المحتملة.إن الجيش الذي بدأ بالتحرك منذ أن أحسَّ بخطورة التوريث عليه، ومنذ أن وضع نفسه في خندق التعارض الشديد مع سياسة نظامٍ – يُفترض ألا دخل له فيها إذا لم يأتِ رفضُها من قِبَل البُنى والمؤسسات غير العسكرية للدولة – هو جزء لا يتجزأ منه من حيث المبدأ، راح يستشعر بوادر أزمةٍ جعلته يقف عاجزا عن فرض ما يريده على القيادة السياسية، عندما التقت "الرئاسة" مع "الحكومة" مع "الحزب الحاكم" مع "رجال المال والأعمال"، وهي كلُّ القوى الحاكمة من غير العسكر في البلاد – إذا استثنينا الرئيس الذي سيكون في حال نجاح سياسة التوريث آخر العسكر السياسيين في مصر – في خندق واحد يؤسِّس للتوريث اللاعسكري دون اكتراثٍ برغبات العسكر، الذين لم يكونوا يرغبون في أن تنتقل السلطة السياسية لنظامٍ لا توَلِّدُه وتسيطر عليه وتوجهه المؤسسة العسكرية بالكامل، وهو ما كان سيحدثُ فيما لو نجحت سياسة التوريث. وهو الأمر الذي كان ينذرُ بتحويل الجيش بالفعل ومع مرور الوقت إلى مؤسسة مستقلة ومحايدة سياسيا واقتصاديا وبالمواصفات التي يُغْدِقُها عليها المصريون لجهة ابتعادها عن السياسة وتفرُّغِها لحماية حدود الدولة وحماية أمنها القومي فقط، في حين أنها أبعد ما تكون عن تلك المواصفات، بسبب ولوغها الكامل والعميق إلى حدِّ السيطرة والتوجيه والهيمنة في الشأنين السياسي والاقتصادي للبلاد.إن هذا الواقع الجديد الذي راحت تؤسّس له القيادة السياسية لنظام الرئيس مبارك متناقضةً من خلاله مع فلسفة الجيش المصري، وهي الفلسفة التي تجعله لا ينسجم ولا يستطيع التعايش مع بُنية دولة مدنية مرتقبة كانت تتكون في الأفق، ومن شأنها أن تُحَجِّمَ من مَديات الهيمنة والتوجيه والسيطرة التي تتمتع بها القوات المسلحة المصرية على الدولة ومرافقها ومؤسساتها واقتصادها بالدرجة الأولى.. نقول.. إن هذا الواقع الجديد جعل القوات المسلحة تسارع في النزول إلى الشوارع والميادين لحماية المتظاهرين والمعتصمين المطالبين برحيل النظام، كي لا يستخدم معهم النظام وقواه الأمنية وبلطجيته وجهاز أمن دولته.. إلخ، القمع الذي قد يُفشلُ المشروعَ الذي بدأ يتشكَّل في ميدان التحرير، والذي رأى فيه قادة الجيش بادرةَ الأملَ في القضاء على سياسة نظام مبارك عبر رحيل الرئيس، والإبقاء على ما من شأنه أن يكون سهل الانقياد للجيش، من بُنى الدولة العميقة وغير العميقة، كي يُعاد إنتاج الدولة على النحو الذي يستجيب لبعض المطالب التي صدح بها الثوار، مع الإبقاء على الهيمنة والسيطرة والتوجيه للجيش ضمن حالة تماسٍ عن بعد مع بُنْيَةٍ مدنية أليفة وناعمة يمكنها أن تلعب بكلِّ شيء إلا فيما يتعلق بالعسكرية العميقة الراسخة للدولة المصرية منذ عام 1952.إذن فقد نتج عن نزول الجيش إلى الشوارع والميادين لحماية المتظاهرين أمران في غاية الأهمية حددا لوجهة الأحداث اللاحقة كلِّها وجهتها هما..* حماية المنتفضين من قمع الآلة الأمنية للنظام، فظهر النظام عاجزا إلا عن الاستعطاف عبر تظاهر رئيسه في خطاباته الثلاث التي ألقاها قبل أن يرحل، بتقديم التنازلات. وهو ما كان يسابق به الزمن كي يجعل "المولد" ينفض قبل أن يستكملَ الجيش عناصرَ شرعيةِ تدخُلِه ذلك التدخل الذي لن يوصف بأنه انقلاب عسكري. وهو ما أتاح الفرصة لتقليص عدد ضحايا تلك الانتفاضة إلى أدنى الحدود المتصورة، مهيئا الظروف للثوار كي يواصلوا انتفاضتهم وهم يستشعرون حالةً من الأمان في كنف حمايةٍ دافئة من القوات المسلحة، اقتنعوا بكونها جزءا لا يتجزء في فلسفة جيشهم، فاعتنقوها دينا لانتفاضتهم فأفشلوا قفزها إلى مرحلة الثورة.* إدارة الحدث وتوجيهه نحو القنوات المرسومة له عبر اللقاءات والحوارات والمباحثات التي كانت تتم من خلال المجلس العسكري، سواء مع القادة السياسيين للحركات والتنظيمات والأحزاب، أو مع الثوار في ميدان التحرير، ليصبَّ الحدث في نهاية الأمر في خانة التغيير الناعم الذي يقبل تكليف المجلس العسكري باستكمال المهمة بعد رحيل الرئيس. فالمجلس العسكري الذي كان يستعجل إزاحة الرئيس مبارك قبل دخول الحدث مرحلة الخروج عن السيطرة وتشكيل محكمة ثورية ومجلس قيادة ثورة في ميدان التحرير، كان حريصا على أن تتمَ صياغة التغيير المرتقب تحت إشرافه وبقيادته وبطلب من الثوار أنفسهم، كي يظهر الجيش وكأنه شريك فعلي في الثورة وحامٍ لها، ومتمِّمٌ لسيرورتها، فتزداد قداسته، ويصبح هو الملجأ في كل الأزمات القادمة. لقد كان يريد إزاحة الرئيس مبارك بتكليفٍ من الثوار والقوى السياسية والحزبية ورموز المجتمع المصري، في لحظة فارقة تُبقي على بُنْيَة الدولة العميقة قائمة كي يحسنَ استخدامَها لاستكمال خطته التي رسمها وحدَّد ملامحَها خلال الأيام الممتدة من "25" يناير، إلى "11" فبراير من عام 2011.إذن فقد أراد الجيش المصري أن يسيطر على هذا المفصل التاريخي الخطير في عمر مصر، وهو المفصل الذي سيعيد تشكيل الدولة المصرية، كي يعادَ هذا التشكيل تحت سيطرته، فيتمكن من ثم من الاستفادة منه وتوجيهه بالشكل الذي يُمَكِّنُه من تحقيق بنود خطته الساعية في الأساس إلى الإبقاء على الطبيعة العسكرية للدولة المصرية أيا كانت التغييرات التي ستحصل فيها.إن الحدث المفصلي ذاك كشف عن خريطة مصرية موزعة على النحو التالي..* جماعة الإخوان المسلمين بصفتها أكبر قوة منظمة قادرة على السيطرة على الشارع في تلك المرحلة، والتي وإن لم تكن هي صانعة الحدث ولا مفِّجَرُته، ولا حتى مشاركة فيه مشاركة فعالة في يوْمَيْه الأولين، فإنها تمكنت عندما غدا حدثا يُقرأ لديها تحت عنوان "المفصلية" ذاتها التي قرأها الجيش، من أن تحسِنَ ركوب موجته أكثر من أيٍّ كان، وأن تتفوق في ذلك حتى على الثوار الأوائل أنفسِهم.* الثوار غير المنظمين والمشتتين بصفتهم القوة الثانية والمُكَوِّن النبيل في كل مُكونات الحدث المصري، والمفتقرين إلى الخبرة التنظيمية وإلى الرؤية الواضحة وإلى المشروع السياسي الناضج والشامل.. إلخ.* الأحزاب السياسية الديكورية التي لا تختلف كثيرا عن المستحاثات والمومياءات المحنطة، والتي لم تكن في الأساس معنية بتغيير النظام بهذا الشكل الراديكالي، لتركبَ موجتَه عندما أصبح حقيقةً في الأفق ثم أمرا واقعا على الأرض، رغم تدني فعاليتها في سيرورة الحدث نفسه.* الشخصيات ذات الطبيعة الرمزية السياسية والثورية والقانونية والتي قذف بها الحدث إلى المقدمة لكل الأسباب المتصورة، النبيلة منها وغير النبيلة.* بقايا وفلول النظام السابق الذي رحل رئيسه، سواء في قطاع الأعمال، أو قطاع الأمن الخفي، أو البلطجة المقنَّنة، أو في بُنية الدولة العميقة، وهؤلاء جميعا كانوا تحت سيطرة الجيش، وعلى مرمى بصره وإرادته الفاعلة والحقيقية.* كافة الشرائح الشعبية التي خرجت إلى الشوارع لتساند هذا الطرف من أطراف الانتفاضة أو ذاك، لهذا السبب أو لذاك.* كافة الشرائح الشعبية التي ليست من الفلول بالتوصيف السابق، وإن تَكُن مساندةً للنظام السابق ومتعاطفة معه، ولا تجد أيَّ تناقض بينها وبينه إما جهلا أو انتفاعا أو طبقية.* كافة الشرائح الشعبية التي وقفت موقف المتفرج الذي لا يعنيه شيء في كل هذا "المولد"، ولا يهتم سوى بالمراقبة، وسيتعامل مع النتيجة أيا كانت بالاستسلام والقبول نفسه الذي تعوَّد عليه دائما.القوات المسلحة المصرية تمكنت من كبح فرامل الانتفاضة بدهاءٍ منقطع النظير عند نقطة كانت الحالة المجتمعية والثورية والسياسية المصرية على النحو المشار إليها سابقا، بعد أن رأت أنها نقطة التوقف الأنسب لاستكمال الخطة. وحصلت على ذلك التكليف التاريخي من قبل الثوار والقوى السياسية والإخوان المسلمين، بأن تستكملَ الحدث بعد رحيل الرئيس، واستعد كلُّ طرف ليبذلَ كل ما في وسعه لتجيير الحدث لصالحه في إغفاءة البلداء تحت شجرة الجيش الآمنة الوارفة الظلال، انتظارا لطعنةٍ غير نجلاء تأخذ الغافين في غفوتهم.كل الأطراف كانت خاسرة إلا القوات المسلحة، وكل الأجندات سقطت إلا أجندة الجيش، وكل الخطط غرقت في الوحل الذي ألقاه في طريقها قادة الجيش، إلا خطة المجلس العسكري التي ما تزال تُنَفَّذُ بحذافيرها. فبعيدا عن تفاصيل تجاذبات السنة والنصف التي سبقت الانتخابات الرئاسية مسفرةً عن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في المؤسستين "التنفيذية" و"التشريعية"، تمكن الجيش من دفع الحالة المصرية التي كانت سائدة إلى تلك النقطة من الخطة، وهي "ضرورة أن يتم حرق الإخوان" بتسليمهم السلطة بشكل شرعي، وهو ما يعتبر في نظر الجيش أنه قيام بتسليم الإخوان إلى الشعب المصري. فالإخوان سُلِّموا إلى شعب مصر عبر تسليمهم السلطة التي كان متوقعا أن يفشلوا فيها. ولأن الجيش يريدهم أن يفشلوا ولا يقيم سياسته فقط على توقعاته بأن يفشلوا، فإنه لم يكتف بيقينه، بل عمل على استخدام ما أتيح له من خطوط خلفية في مُكونات الدولة العميقة وبقايا النظام، واشتغل من خلال الإعلام على الإخوان وعلى الشعب، لكي يصل بالدولة وبكل مُكوناتها إلى حالة من هستيريا "رفض" الإخوان، وهوس "الفوبيا" منهم، بعد أن أصبحوا – بغبائهم وبجهالاتهم وبانعدام الرؤية لديهم وبسيطرة فلسفة التمكين والحاكمية عليهم أولا وقبل أيِّ شيءٍ آخر، ثم عبر نتائج خطة العسكر التي راحت تُنَفَّذ وتُؤتي أُكُلَها وهي تتفاعل في مخرجاتها مع ذلك الغباء ومع تلك الجهالات ومع ذلك الانعدام في الرؤية ومع تلك الرغبة المهووسة في السيطرة والتمكُّن ثانيا وبالتبعية – أسوأ ما يمكن للمصريين أن يقبلوا به، إذا ما قورنوا بأيِّ بديل ممكن ومتاح ومتصوَّر، وهذا ما كان.تم حرق الإخوان، وتم التأسيس سياسيا وحركيا وتنظيميا لمن سيسقطهم شعبيا، وتم ترتيب كلِّ الأمور ليتم إخراج العملية بشكل سينمائي فيه قدر من الإقناع يحرر الفيلم من زلات وعثرات المخرجين الهُواة، ومن أخطاء "الراكور" التي يقع فيها مساعدو المخرجين عديمو الخبرة، وهذا ما حدث، لتبدأ المرحلة الثالثة، وهي المرحلة الراهنة التي تمثل المرحلة الانتقالية الثانية في الحدث المصري الذي يفترض أنه ما يزال في مرحلته الانتقالية العامة أصلا مادام لم يحسم أمر مؤسساته ودستوره (!!)ولكن هل كانت خطة الجيش تقضي بالوقوف عند حدِّ حرق الإخوان وإسقاطهم ليخلوَ الجو للقوى المدنية لتستلم الدولة بدلا منهم؟!بالطبع هذا غير صحيح، فالجيش المصري كما مر معنا، وبحكم طبيعته التكوينية والفلسفة التي تهيمن عليه لا يستطيع التعايش مع قوى مدنية ولا مع قوى دينية تدير الدولة، إذا كانت هذه القوى أو تلك ستنتزع سلطاته وصلاحياته ومكتسباته التاريخية في توجيه المسرح من وراء الكواليس، ليبقى هو سيد المسرح بلا منازع دون أن تخدش نزاهته وحياديته ووطنيته باعتباره فقط حامى الحمى والحدود (!!)فهو – أي الجيش عبر قادته في المجلس العسكري – يدرك جيدا أن حدث 25 يناير وإن كان بالنسبة له فرصة سانحة للقفز على مشاريع نظام "حسني مبارك" بإسقاط رأس النظام الذي كان قد بدأ بالتأسيس للاعسكرية الرئيس، وبالتالي للاعسكرية الدولة لاحقا.. نقول.. هذا الجيش يدرك جيدا أن هذا الحدث الزلزالي الكبير قد يكون وبالا عليه أكثر من النظام السابق في القذف به إلى الخطوط الخلفية إذا لم يتم التعامل معه بذكاء يفرِّغه من كل مضمونه ويقلم كل أظافره ومخالبه التي كانت وبسبب تطلعاتها المدنية أو الدينية سوف تلقي بالجيش إلى الوراء بأكثر مما كان سيفعل النظام السابق ذاته. وبالتالي فبقدر ما كان سير الجيش في دعم مشروع 25 يناير تخلُّصا من خطرٍ قائم على مستقبل مكتسباته التاريخية، بقدر ما كان عليه أن يكون جاهزا كي لا يكون التخلص الأول بلا قيمة، لأن يُفْقِدَ الحدث الكبير الذي بدأ في 25 يناير قدرتَه على تحقيق ما عجز عن تحقيقه النظام السابق بفعل الحدث نفسه.ولأن قادة الجيش يعرفون أن القوى المدنية من جهة أولى، والإسلام السياسي برأس حربته الإخوانية من جهة ثانية، يلتقون جميعهم على ضرورة إعادة إنتاج جيش جديد لمصر يأتمر بأمر المؤسسات السياسية للدولة التي تختص وحدها بوضع سياساته وإستراتيجياته، ولا يكون هو الآمر لها أو المحدِّد لسياساتها وإستراتيجياتها.. نقول.. ولأن قادة الجيش يعرفون ذلك جيدا، فقد كان عليهم من خندق الحفاظ على مكتسباتهم التاريخية التي أسَّسَت لها ثورة 23 يوليو عام 1952، أن يكونوا جزءا فاعلا من حدث 25 يناير، لا بل كان عليهم أن يكونوا هم الجزء الأكثر فاعلية فيه، ليتمكنوا من منع سيرورته باتجاه إنتاج دولة دينية أو مدنية تحجمانه. لذلك فقد كانت القوى المدنية والإسلام السياسي عنده سيان من حيث خوفه منهما، ومن حيث عدم رغبته في أن يكونا أسياد الدولة الجديدة.ليس بذي أهمية عند قادة الجيش المصري أن تكون الدولة دينية يرسم معالمها الإخوان المسلمون، أو مدنية يرسم معالمها المدنيون – لأن ذلك في ذاته لن يؤثر عليه في شيء، مادامت اللعبة السياسية في مظاهرها وشكلانياتها لا تقع ضمن مهماته وأدواره الفعلية كمؤسسة عسكرية، فأيا كانت مستويات الحريات وأيا كانت آليات تداول السلطة، فالجيش غير معني بها من واقع العسكرية ذاتها، وأيا كان مستوى التدين في مؤسسات الدولة بل وفي تشريعاتها وقوانينها أيضا، فذلك لن يتاقض مع واقعةِ أن معظم أفراد القوات المسلحة مسلمون متدينون يؤدون جميع فرائضهم، وهم ينحدرون من أسر محافظة لا ترى أيَّ تناقض بينها وبين أن يقام حدُّ قطع اليد على سارق أو حدُّ الجلد على زانٍ من حيث تأثيره عليها مؤسَّسِيا وحقوقيا ومكتسبيا – إذا استطاع أن يضمن أن معالم تلك الدولة سواء عند هذا الفريق أو عند ذاك، لن تعتدي على مكتسباته التاريخية.ولأنه يعلم علم اليقين بأن طرفي معادلة الحدث المصري يرفضان الاعتراف له بتلك الصلاحيات، فكان لابد له من أن يفكر على نحوٍ يجعل الشعب المصري نفسه بشرائحه الثلاث الكبرى وهي "بقايا النظام الذين أطلق عليهم الفلول"، و"أولئك الذين ليسوا ضد نظام مبارك السابق ولا يجدون بينهم وبينه أيَّ تناقض وإن لم يكونوا فلولا"، و"المحايدون المتفرجون من الشعب المصري"، وهؤلاء يمثلون الغالبية العظمي من شعب مصر.. نقول.. كان عليه أن يفكر على نحوٍ يجعل هؤلاء هم من يطالبونه بإسقاط الطرفين السابقين وإبعادهم عن السلطة، بل وبالتدخل لحماية الدولة والشعب والوطن من مراهقاتهم ومن ضعفهم ومن عنفهم.. إلخ.ولكي يتحقق ذلك ويصبح الجيش قادرا على امتلاك أوسع شرعية شعبية ممكنة لدولة عسكرية لا مدنية ولا دينية، فقد كان لزاما أن يتم حرق الإخوان عبر استفحال التجاذبات بينهم وبين القوى المدنية، ثم حرق القوى المدنية بعدهم بإظهار عجزهم عن حماية الدولة من إرهاب وعنف الإخوان في ظل حياد الجيش، ليكون الحل الوحيد المحتمل والمطلوب والحتمي هو قفز الجيش على الديمقراطية وعلى مدنية الدولة لحمايتها من عنف العنيف ومن ضعف الضعيف عبر خروجه من دائرة الحياد ليتخندق في دائرة الفعل والمبادرة المباشرتين، تمهيدا لترتيب الأوضاع لخلق مدنية ناعمة لا مانع من أن تَمْنَحَ حقوقا سياسية يفرح بها المصريون، على أن تُبقي على وضع الجيش راسخا كما هو في الإدارة والتوجيه السياسي الإستراتيجي وفي الاقتصاد بالدرجة الأولى.إن "أكبر خازوق" يمكن لقادة الجيش أن يتعرضوا له هو أن يعترف الإخوان المسلمون بالأمر الواقع فلا ينزلقون إلى العنف ويعودون إلى صفوف المعارضة، لأن الدولة عندئذ لن تتعرض لما من شأنه أن يجعل الشعب يطالب بعد فترة بتدخل الجيش لحماية البلاد من العنف والضعف. أما الخازوق المقابل الآخر الأكثر خطورة على خطة "العسكر"، هو أن تبدأ قوى المعارضة المدنية التي هي الآن بصدد التمهيد لاستلام سلطاتها في الدولة، بفتح خطوط التحاور الحقيقي والتوافقي مع الإخوان لحماية البلاد من مخاطر المغالبة التي يحاول الجيش تكريسها.إن جيشا سعى مستميتا لإنهاك ممثلي الدولة الدينية، ويعمل مستميتا على إنهاك ممثلي الدولة المدنية، ليحظى في نهاية المطاف بشرف مطالبة الشعب له بالتدخل لتخليصه من كارثة الدولة المدنية ومن مأساة الدولة الدينية، هو جيش سيصاب بخيبة أمل كبرى إذا حصل توافق بين طرفي المعادلة يحرمه من فرصة استعادة السيطرة على الدولة لضمان أن تتم إعادة تأهيلها على النحو الذي يريده.أي أن الجيش هو الذي لا يريد أن يقبل الإخوان بالحوار، وهو الذي لا يريد أن يسمح للمعارضة المدنية بإبداء أيِّ لين في المواقف تجاه رؤوس الإرهاب (!!)، وهو الذي يدفع باتجاه تأجيج العنف والصدام بين الطرفين، وهو الذي يحرص على أن تبقى الأوضاع متفجرة في سيناء وعلى مشارف قطاع غزة أطول مدة ممكنة وقادرة على توطين الرعب من مدنية ودينية الدولة على حدٍّ سواء، وهو الذي يستفز القوى المدنية بالدفع نحو إظهار اللامهادنة لدى الجانب الآخر، وهو الذي يعمل على استفزاز الإسلاميين بكل الطرق الخفية التي لا تظهره متورطا بشكل مباشر بطبيعة الحال، كي يقتنعوا باستحالة أيِّ حل توافقي مع الطرف الآخر، وهو في نهاية الأمر من يريد أن يزداد عمق الخندقين إلى الحد الذي يستحيل معه الخروج منها إلا إلى الهاوية.والجيش إذ يفعل كل ذلك، فلأن تلك هي المساحة التي كان ينتظر تبلورها كي يعمل ويتحرك فيها وبها ومن خلالها لضمان عدم المساس بمكتسباته التاريخية.لذلك – وبعد كل هذا الشرح والتفصيل – نؤكد على أن السيناريوهات المقبلة للمشهد المصري تنحصر في سيناريوهين لا ثالث لهما نذكرهما في التالي..* الأول.. أن ينجح الجيش في إفشال كلِّ آفاق التوافق بين الطرفين، فتبقى الدولة في حالة ترنح، يجعل القوى المدنية التي استخدمها الجيش لطرد نظام الإخوان المسلمين عاجزة أمام حالة العنف والرفض والانقسام والاستقطاب غير المسبوق في البلاد، فيصبح تدخل الجيش أمرا لا مفر منه، ينتظره الشعب المصري الذي سيكون قد كفر بالثورة وبالحركة الإسلامية وبالقوى المدنية بل بالثورة نفسِها، متمنيا أن يعود الهدوء والاستقرار إلى البلاد تحت "حكم العسكر". وهذا لا يضمن للجيش الحفاظ على شكل الدولة المستقبلي حتى بعدما تعود إليها بعض مظاهر المدنية كما كان حالها في عهد "حسني مبارك" فقط، بل هو يضمن ألا تتخلق في الشعب المصري أيُّ عناصر ثورية حقيقية إلا بعد مرور عقود طويلة تتغير فيها الكثير من الأمور في مصر وفي الإقليم وفي العالم.* الثاني.. أن ينجح خصماء الدهر "الإسلام السياسي" و"القوى المدنية" في القفز على ذواتهم، وفي الانتباه للخديعة الكبرى التي أوقعهم الجيش في حبائلها، وفي الاقتناع بأن الدولة المصرية الديمقراطية التشاركية هي دولة توافقية بين الطرفين، تقوم في الأساس على رفض بُنية الدولة العسكرية بالدرجة الأولى، فيسعى الطرفان إلى تحييد الجيش بتوصلهم هم أنفسهم إلى الحل الذي يُفقد تلك الطغمة العسكرية أيَّ فرصة لتمرِّرَ مشاريعَها التي تريدها لضمان رهن واستلاب وإفقار الشعب المصري لعقدين قادمين من الزمان. فالجيش يقتات على هذه الخصومة، وهذه الخصومة هي التي ستعيد إنتاج الدولة على النحو الذي يريده الجيش.وأيا كان سقف توقعاتِ أيِّ طرفٍ فيما يتعلق بما يعتقده حقَّه وشرعيتَّه، فإن عليه أن يعلم أنه في ظل وجود فتنةٍ تراق خلالها الدماء، ويغيب فيها الأمن، ويفتقر بسببها الناس، وعندما يقف الشعب المصري مطالبا بتدخل الجيش الذي غدا بالنسبة له مقدسا صادقا يمتلك وحده كل صمامات الأمن والأمان والاستقرار، لوقف نزيف الدم والفوضى والعبثية والفقر وانهيار الدولة، فإن أيا من تلك الأطراف المتخاصمة لن يحقق أيَّ إنجاز. فغالبية الشعب عندما تطلب من الجيش حمايتها، فإن الآخرين أيا كانت قوتهم سيكونون ضعفاء أمام هذه الإرادة الجديدة التي تكون قد تكونت بفعلِ انعدام الحلول التوافقية بين من يفترض أنهم نخب المجتمع وقادة الدولة المفترضون.هذا هو مصير كل ثورة لا تدرك أن أنصاف الثورات هي ثورات سالبة، وأن الثورات لا تَسْتَأمِن الجيوشَ على توجيهها وإدارتها، ولا تُسْلِمُها أعناقَها كي تجزها بلا رحمة، بل تضع هي – أي الثورات – للجيوش إستراتيجياتِها وسياساتِها التي عليها أن تنفذَّها وتخضعَ لها دون مناقشة، إلا عندما يكون الأمر أمرَ استشارة في خوض حرب أو ما شابه ذلك.وهذا هو مصير كل ثورة لا تمتلك مشروعَها السياسي والنهضوي الخاص والشامل والواضح والدقيق، وتعتقد أن مهمتها تنتهي عند هتافات المطالبة بالتغيير التي يتقنها الجهلة والأميون أكثر من أيِّ عاقل متزن.وهذا هو مصير كل ثورة تقبل بأن تتوقف قبل أن تنشئَ مجلس قيادتها الثورية ومحكمتها الثورية وقانونها الثوري، كي تطبق كل ذلك على القضاء وعلى الجيش وعلى بقايا النظام السابق، قبل أن تطبقه على أيِّ مواطن من المواطنين البسطاء.إن مصر تدفع ثمن أخطاء أبنائها، وتعبِّد الأرض لعودة العسكر فاتحين محررين بكاريزميةٍ وعظمةٍ وأبَّهةٍ لا تقل عن عظمتهم وأبهتم التي دثرتهم عشية الثالث والعشرين من يوليو عام 1952.فليهنأ ثوار مصر مدنيين وإسلاميين، "تمرديين" و"إخوانيين" وليهن سياسيوها وإعلاميوها ومثقفوها، بما فعلوه بوطنهم وبشعبهم وبأمتهم العربية التي أصبحوا قريبين جدا من لحظة الإجهاز على بارقة الأمل الوحيدة الباقية في أرواح أبنائها، وهم يرون مصر تعود لتحضن العسكر وفلسفة العسكر، بعد أن كنا نعتقد أن زمن العسكر العرب قد ولى واندثر منذ الخامس والعشرين من يناير 2011.