الأسباب الاقتصادية العميقة للصراع السياسي المحتدم في مصر ، بقلم أسامة عكنان


إن المرحلة القادمة في مصر – ونقصد بها السنوات العشر القادمة – ستشهد ضخا استثماريا عالميا تتجاوز قيمته الـ "200" مليار دولار، وذلك إسهاما في تغيير خريطة المنطقة اقتصاديا، وهو الأمر الذي عقدت لأجله مؤتمرات مانحة وداعمة ومشجعة، وبدأت تعد لأجل متابعته وتنفيذه لجان متخصصة.. إلخ. وسوف تتركز الاستثمارات في إقليم سيناء وقناة السويس، في قطاعات السياحة والزراعة والصناعة. يدرك سياسيو مصر جميعهم هذه الحقيقة ويتابعونها، بعد أن حددت الولايات الأميركية إستراتيجيتها في المنطقة بعد التحولات الكبرى الراهنة في الوطن العربي، مؤكدة على أنها ستكون إستراتيجية تقوم على تغيير ملامح الإقليم اقتصاديا، في ظل حالة استقرار سياسي طويلة المدى تجسِّدها العناصر التالية.. * نزوع اقتصادي مصري إلى المركزية والهيمنة في الإقليم، تُبقي على حالة السلام المصرية الإسرائيلية غير مهددة لمدة طويلة جدا.. * إقحام سوريا في عملية إعادة بناء قد تمتد لربع قرن من الزمان بعد استكمال عملية تدميرها على مدى الأشهر أو السنوات القادمة من خلال عمليىة الأفغنة التي لاحت في الأفق، ليكون محتما عليها خلالها تأجيل أيَّ تطلعات سياسية باتجاه أي نوع من المواجهة مع إسرائيل، بصرف النظر عمن سيحكمها بعد انتهاء الأزمة الراهنة فيها، وإن كان لابد أن يكون حكما ليبيراليا تشاركيا يضمن سرعة الاستقرار تجنبا لأيِّ متنفسات قد تضر بأمن إسرائيل.. * حصر إيران في دائرة الحصول على بعض مظاهر النفوذ الإقليمي التي لا تمس مساسا جوهريا بتركيبة الإقليم الإستراتيجية، على حساب تنازلات نوعية في ملفها النووي، ومكاسب معتبرة في العراق بالدرجة الأولى، خاصة وأن تغيير الأوضاع في سوريا بالشكل المشار إليه سوف يضعف إيران بعد أن يكون قد غيَّب حزب الله عن دائرة التأثير الفاعل كذراع متقدمة لإيران في المنطقة.. * فيما تكون إسرائيل قد ضمنت إعادة إدخال القضية الفلسطينية في نفق أوسلوي جديد يمتد لعقدين من الزمان أو أكثر، وذلك عبر شقين، اول "ضفاوي" بسيناريو ما مع الأردن، والثاني "غزاوي" بسيناريو مقابل مع مصر.. * بينما تكون تركيا قد وجدت لنفسها موطئ قدم فعال اقتصاديا وثقافيا في الإقليم، بعد تلجيم النفوذ الإيراني وقصقصة أجنحة الدولة السورية، وإدخال مصر في سرداب الرفاهية الاقتصادية والنفوذ الإقليمي، وخنق القضية الفلسطينية، التي لن يضير إسرائيل ولا الولايات المتحدة عندئذٍ أن تبقى تركيا مستفيدة من بعض مواقفها الأخلاقية التي اكتسبتها فيما مضى تجاهها وملتزمة بها من باب عدم التناقض السياسي..إن هذا الضخ الاستثماري الضخم المسنود بهذه الإستراتيجية التي تتشكّل مكوناتها وعناصرها تدريجيا في كل من مصر وسوريا والأرض المحتلة والعراق، سوف يجعل من الفئة السياسية المشرفة عليه والقائمة على جلبه إلى مصر، فئة ستتمكن من حكم مصر ما لا يقل عن خمسين سنة قادمة، دون بذل أيِّ جهد ثقافي جماهيري يؤثر على بنيتها الثقافية هي، فضلا عن أنه سيتيح لها فرصة إنتاج الدولة في شتى المجالات على نحوٍ يجذِّر سيطرتها على كل مرافق الدولة ومنافذ الثقافة والتواصل الشعبي والجماهيري وعلى مُكَوِّنات الاقتصاد على مدى عقود قادمة من الزمن..وفي ظل مستقبلٍ هذه إرهاصاته، يغدو من الطبيعي أن يسيلَ لعابُ كل السياسيين ومن جميع الأطياف على عمل المستحيل كي لا تفلت منهم فرصة الوجود على سدة الهيمنة والفوذ للانتفاع من المردود السياسي والثقافي والشعبي لهذا الضخ الاستثماري غير المسبوق..وإنه بصرف النظر عن موقفنا الأخلاقي والسايكولوجي من شخص الرئيس مرسي، الذي تتيح طبيعته نوعا من التعاطف معه والميل إلى تصديقه والثناء على سلامة وحسن نواياه، إلا أن السيرورة السياسية في مصر كما هي في أيِّ مكان آخر في العالم، لا تقوم على شخصية الرئيس الطيبة، ولا على صدقه وحسن نواياه انطلاقا مما تفرضه عليه أخلاقيات كونه رئيسا للشعب وليس ابنا لحزب أو تنظيم بعينه، وإنما على وجهة موازين القوى على الأرض. وفي هذا السياق فإننا نستطيع أن نقرأ عنصرا هاما آخر في مُكونات التنافس المحتدم على إدارة الدولة المصرية واقتصاداتها الضخمة المنبئة عن عملاق اقتصادي قادم، ألا وهو عنصر التنافس بين ليبراليتين تتصارعان على السيطرة على الاقتصاد المصري وتوجيهه، ألا وهما الليبرالية الرأسمالية الإسلامية التي يتزعمها الإخوان المسلمون والسلفيون من جهة، والليبرالية الرأسمالية العلمانية التي تتزعمها تيارات الليبرالية الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق بمفاهيمه الغربية الصرف من جهة أخرى.أي أن هناك تنافسا محتدما على السيطرة والتحكم، بين الرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها أصحاب التوجهات الدينية الإسلامية، والرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها أصحاب التوجهات العلمانية، مع العلم بأن هذا التقسيم ينطوي على بعض التداخلات، بحيث من السهل أن نرى أن الرساميل التي يملكها ويديرها ويخدمها "أهل التصوف" في مصر تعتبر جزءا من معسكر "الليبرالية العلمانية" لأسباب تاريخية جعلت من هذا التيار الديني حليفا للنظام السابق، في الوقت الذي تميل بعض الرساميل التي يملكها "بعض الأقباط" إلى أن تكون جزءا من خندق "الليبرالية الدينية الإسلامية". وهو الأمر الذي يكشف عن واقعة أن الصراع في جوهرة هو صراع على الهيمنة الاقتصادية التي هي أساس الهيمنة السياسية، خاصة وأن مصر ستنتقل خلال العشرية القادمة إن استقرت أوضاعها، إلى الدولة الاقتصادية المركزية في الشرق الأوسط وغرب آسيا وإفريقيا، ممثلة في المنطقة ما تمثله "كوريا الجنوبية" و"ماليزيا" و"تايوان" و"أندونيسيا" مجتمعة. وهو الوعد الذي حصلت عليه الدولة المصرية من الغرب عموما ومن الولايات المتحدة خصوصا، عبر القوات المسلحة، والإخوان المسلمين، وكافة قيادات المعارضة السياسية خلال الفترة الانتقالية وتجاذباتها التي سبقت الانتخابات الرئاسية، إذا تمَّ ضمان الهدوء التام لعقود قادمة على الجبهة الشرقية.الكل في مصر "إخوانا" و"معارضين"، مسلمين" و"أقباطا"، أن طبيعة الدولة المدنية التي تضمن التشاركية والتعددية مكفولة ومضمونة ولا خوف عليها بضمانات أميركية، وإخوانية، خاصة بعد أن أبدى الرئيس مرسي في خطابه الأخير استعداده الكامل لتبني مقترحات المعارضة فيما يتعلق بأي تعديلات دستورية تطرحها معتبرا أنه لن يستدرك عليها وأنه سوف يقدمها باعتبارها مقترحات مؤسسة الرئاسة نفسها. وبالتالي فالمبالغة في التباكي على مدنية الدولة التي يختبئ وراتءها كل المعارضين لمرسي وللإخوان بهذا القدر من اللامهادنة، هي مبالغة لا تريد أن تكشف حقيقة المكون الاقتصادي العميق الذي ذكرناه للصراع. هذه هي الأسباب العميقة التي تقف وراء السعي المحموم والمسعور باتجاه السيطرة على الدولة ومؤسساتها ومنافذ القرار فيها تحت أيِّ عنوان، ومهما كلف الأمر من خسائر ومن تناقضات، قبل أن تهل بركات هذا الضخ الاستثماري المربك والمسيل للعاب الجميع، وقبل أن تبدأ مصر بأخذ مكانتها الاقتصادية المركزية في الإقليم، وقبل أن يتحدد مصير الملف السوري والملف الإيراني والملف الفلسطيني.. إلخ.