عود ثقاب
نقض ثقافي آخر تحديث:الاثنين ,18/02/2013
محمد عبدالله البريكي

ليس أسهل من أن تطلق على شخص ما صفة ناقد، بمجرد أنه كتب مقالاً، أو عمل تحقيقاً صحفياً، أو نشر خبراً، أو أجرى حواراً في مجلة أو غيرها، فهو بهذا العمل يعتقد أنه حصل على مؤهل أكاديمي، أو اكتسب خبرة ومراساً وثقافة عالية واطلاعاً في الحقل الذي يمارس فيه هذه العملية المهمة والخطيرة والحساسة، مع أنك لو تتبعت خفايا ما يقدمه، لوجدت أن عمله يمر على مراحل عديدة تهذبه، حتى تبدو للقارئ في وجه حسن مقبول، وقد يتم تغيير وصياغة اللغة وأسئلة الحوارات التقليدية والساذجة في بعض الأحيان .

هذا الاستسهال انتشر بكثرة في الصحافة الشعبية، والأمر عائد إلى غياب المختصين الذين يتعرضون إلى هذه العملية، ما فتح الباب على مصراعيه للبعض ليقول كلمته، ويسجل الناقد هنا غياباً آخر في التصدي لمثل هؤلاء المضللين إن جاز التعبير، لأنك لو راجعت ما ينظرونه ستجد أنه لا يستند على معرفة ودراية وثقافة، فمثل هؤلاء المنتقدين لا يملكون أدنى أدوات النقد، ولا يعون معرفة وماهية هذه العملية، فالنقد الأدبي مثلاً لا يعني أن يقال إن هذا العمل غير جيد، أو تقليدي، أو عمل جيد و”صح لسان قائلة”، فهذه مفردات يقولها المتلقي العادي الذي يحضر فعالية، أو يستمع إلى صاحب معرفة ما، سواء أكان شاعراً أو قاصاً أو روائياً أو فناناً أو نحو ذلك، إنما النقد هو الغوص في أعماق العمل وقراءة تفاصيله، ثم تمحيصها وتدقيقها وتفسيرها وفق أسس علمية معرفية، ثم إدلاء دلوه في قيمة هذا العمل، بحيث يكون مؤهلاً ممتلكاً للأدوات الخاصة بهذا المجال، ولا أعني بذلك الشهادة العلمية كالدكتوراة في النقد الأدبي، مع أن هذه المرتبة العلمية مطلوبة، فهناك من لا يمتلك هذه الشهادات، لكنه متسلح بمعرفة تستند إلى قراءات من مشارب ثقافية مختلفة، ومعايشة للحقل الذي يكتب فيه، يستطيع من خلالها توضيح مكامن الضعف والقوة في العمل، أو توضيح جماليات النص أو التجربة التي بين يديه، من خلال قراءة ثقافية عالية، تستند إلى ما ذكرت من معرفة بتفاصيل الحقل الذي ينتمي إليه العمل، ومعرفة بالدلالات والإيحاءات وفنيات اللغة، وبالرموز والشخوص والإسقاطات، وبالثقافة التي ينتمي إليها العمل وبيئته التي يتكئ عليها في عملية التوصيل .

وقد وصل بعض النقاد إلى أبعد من إطلاق كلمة نقد على العمل الأدبي، وتم طرح “القراءة، بدلاً عن النقد، ويرى الناقد المصري الدكتور محمد عبدالمطلب عن القراءة الثقافية أنهاتسير على مستويين، الأول “القراءة الجمالية” التي تتابع ظواهر التعبير إفراداً وتركيباً ومدى التزامها بمرجعيتها المعجمية، أو انتهاكها لهذه المرجعية، وهذه القراءة في حاجة إلى “الكفاءة اللغوية”، أما المستوى الآخر، فالمقصود به تلك القراءة التي تتجاوز الأفق الجمالية التي ناوشتها في مواجهة النص، ثم تتسلط على المنتج الدلالي لترده إلى مرجعه الثقافي الذي ولد أنساقه الدلالية، وإذا كان المستوى الأول في حاجة إلى الكفاءة اللغوية، فإن المستوى الثاني في حاجة إلى “الكفاءة الثقافية”، ويرى أن بين المستويين ترابطاً حميماً، ذلك أن العلاقة بينهما علاقة جدلية، إذ لا لغة بلا ثقافة، ولا ثقافة بلا لغة، وخلص محمد عبدالمطلب إلى القول: آثرنا مصطلح “القراءة” على “النقد” حتى لا نقع في شرك إصدار الأحكام التي تتسلط على الثقافة أكثر من تسلطها على النص، وهنا يتحول مصطلح “النقد الثقافي” إلى “نقض ثقافي” .

لذا نقول لكل منظر يطلق على الغير صفات مجانية، رفقاً بالأدب، ففاقد الشيء لا يعطيه .