لكل نظامٍ وظيفي مستبد ثقافتُه التي يرتكز إليها، ومثقفوه الذين يدافعون عنه ويتبنَّوْنه ويُرَوِّجون له. وبتلك الثقافة وبهؤلاء المثقفين، يعمل النظام على تأصيل سياساته وتكريس أيديولوجيته، وعلى تدعيم نفسه بين أفراد الشعب، مستخدما في ذلك ما يتاح له من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدءا بالمدارس، مرورا بدور العبادة، وانتهاء بكافة وسائل الإعلام وبالجامعات ومعاهد التعليم العالي، مستهدفا المُواطِن منذ ولادته، عبر إعادة إنتاج الثقافة الأُسَرِيَّة التي يتأسَّس في أحضانها ويتكون من خلال تقاليدها، متطورا معه خطوة بخطوة، مؤسِّسا للولاءات في نفسه وروحه وعقله، بما يتناسب مع تركيبة المصالح الطبقية التي يمثلها ذلك النظام، والمهمات الوظيفية التي يمرِّرُها ويدافع عنها.
ومع ذلك فإن الأنظمة الطبقية المستبدة لا تستطيع منعَ بروز التناقضات بينها وبين هؤلاء الذين قضت عقودا من الزمن وهي تحقنهم بكلِّ عناصر الولاء المزيَّف والتغييب الثقافي، إلى الحدِّ الذي يتحولون معه إلى مادة خام لحراكٍ شعبيٍّ يطالب بالتعديل والتغيير والتطوير، بل وبالهدم وإعادة البناء أحيانا.
تُرى ما الذي يجعل أولئك الذين لم يَعرفوا – عبر كافة مؤسسات التنشئة التي عاشوا حياتَهم وهم يتمرَّغون في أكاذيبها – ثقافةً غير تلك التي يروِّج لها النظام، والذين لم يروا في محيطهم وفي بيئتهم إلا كلَّ ما يؤسِّس لسياساتِه ويُنتج الولاءات له ولرموزه، يشعرون بتناقضهم معه، وبرغبتهم في التحرك ضده، حراكا قد يبدأ إصلاحيا ينطوي على نوع من المهادنة النسبية، وقد ينقلب إلى حراك ثوري غير مهادنٍ؟!
أيُّ نوع من الثقافات يتكوَّن بعيدا عن أعين النظام وعن وَقْعِ آلته القمعية الاستلابية، وعن كلِّ ماكينات بلدوزره الإعلامي والتربوي، فيُنْتج كلَّ ذلك التناقض الذي لا يقبل المساومة، ويبدأ بخلق حالةٍ من التململ والتحرُّك، تجعل الناس يتمردون فيثورون على بناءٍ متجذِّر الأساسات؟!
إن التناقضات بين البُنى الفوقية في نظامِ “الاستبداد الطبقي”، أي في نظام “نظام اللاحرية” و”اللاعدالة”، وبين البُنى التحتية في المجتمع، تولد وتتخلَّق وتتكون وتتطور بشكل حتمي وضروري في قلب البُنى المجتمعية نفسِها، وتبدأ بفرزِ ثقافتها بشكل أو بآخر، بتسارعٍ أو بتباطؤٍ، بشكلٍ منظم أو غير منظم، في ضوء مُكَوِّنات الحراك الثقافي في المجتمع، وبصرف النظر عن مستوى التطور في أدوات الاتصال والتواصل فيه.
إن نظام “اللاحرية” و”اللاعدالة” قادر بطبيعته المتعارضة مع ناموس الحرية والعدالة الكوني، على فرز هذه الثقافة المتناقضة مع بُناه الفوقية، في بُنى المجتمع التحتية، سواء كان هذا النظام في مستوى تطور الولايات المتحدة على صعيد وسائل الاتصال والتواصل، أو على مستوى تخلف المجتمعات القبلية البدائية في غابات إفريقيا العذراء.
في ضوء ما سبق، من الطبيعي التأكيد على أن إرهاصات أيِّ حراك شعبي، إصلاحيا كان هذا الحراك أو ثوريا، تتجلى أول ما تتجلى في تجاذبات الساحة الثقافية في المجتمع.
إن التناقضات بين البناءين الفوقي والتحتي، تتكون في العمق المجتمعي، حيث العلاقات الإنسانية في أبسط مُكَوِّناتها، والتقاليد الاجتماعية في طابعها الأسري والعائلي والجِواري الحميم، وحيث الاحتياجات الحياتية اليومية من أكل وشرب ولبس واستمتاع بالحد الأدنى من ملذات الحياة المتاحة لقلة يُرى أنها مستأثرة بأفضل ما في البلاد من خيرات بدون سبب مفهوم، وأنماط المعاناة المختلفة، وحيث تدور المقارنات بين ما يحدث هنا في أحياء الفقر، وما يحدث هناك في القصور وأحياء الثراء، وحيث تتكون أَجِنَّة التساؤلات حول العدل والظلم، وحول الحرية والعبودية، وحيث الحديث عن آلة النظام وعن قمعه، وعن الأمن والشرطة والجيش، وحيث الخوف أو الشجاعة، وحيث التردد أو الإقدام، وحيث تبدأ معادلات الفرز الطبقي تتكون على مستوى الإحساس والشعور، مرفقة بكل ما ينبثق عن الذهن الجمعي من أساطير ومواقف وأخلاقيات، في جلسات المقاهي، ومسامرات الأُسَر، وتطلعات الأطفال وهم يلعبون في الأزقة والطرقات، وادعاءات المراهقين وهم ينسبون لأنفسهم ما يعرفون أنه أبعد ما يكون عنهم، لمجرد أنهم سمعوا عنه أو رأوه هناك لدى مراهقي مناطق يحلمون بها فقط، ولا يأملون بمضاهاتها إلا في كذبهم البريء بعضهم على البعض الآخر في العشوائيات وبين القبور، أو على أكثر تقدير وهم يتجولون في الشوارع الراقية، فقط ليتفاخروا فيما بينهم بأنهم لامسوا تلك المناطق الساحرة بأرجلهم وبأنفاسهم المسمومة بالفقر والألم، ومشاعر المراهقات وهن ينظرن نظرة الحالمات بالمستحيل إلى مستقبلٍ بسيط في بيت زوجية هادئ هانئ، بغرفة نوم وثيرة في حي هادئ، وحزن الشباب المُقَيَّد والمحروم، وأسف الشيوخ على سوء الحال، وحيث تبدأ بالتشكل الأَجِنَّةُ الأولى للرغبة في المساواة وفي الامتلاك كما يمتلك الآخرون، وفي التَّحَرُّر وفي الانطلاق، وهي الأَجِنَّة التي تتطور مُتَحَوِّلَةً إلى تساؤلات عن الحق والواجب، وعن الوطن والمواطنة، وعمن له الحق وعمن ليس له ذلك، وعن الدولة والسلطة، وعن النظام والشعب.. إلخ.
نعم، هكذا وهناك تتكون التناقضات التي تتحول مع مرور الوقت ومع استفحال الحالة، إلى مردود ثقافي يُجَلِّي نفسَه في أشكالٍ مختلفة من الرفض أو التحدي أو التعبير أو التَّنظير أو الإقدام، التي يُكَشِّر النظام الطبقي المستبد عن أنيابه في التعامل معها، كي يمنعَها حتى من الكشف عن أن حالةً من الرفض له موجودة في المجتمع، وإن تكن نسبية وقليلة، إلى أن تبدأ بالتأطُر والتَّحَوُّل من مشاعر ومواقف عشوائية وارتجالية متناثرة، إلى رؤى وأفكار وفلسفات متكاملة، في ظاهرة تُسَمى في علم الثورات بـظاهرة “انشقاق المثقفين”.
لا مجال لثورة في مجتمع لم تتجلَّ فيه هذه الظاهرة، لأن في عدم تجليها دليلا على أن مُسَبِّبات الثورة لم تَتَّخِذ بعد الطابع القادر على تكوينها وتخليقها على شكل حراكٍ فاعل.
إن أيَّ ثورة يعَبِّر عنها حراكٌ شعبي ما ضد نظام من “أنظمة اللاحرية” و”اللاعدالة”، والقمع والاستلاب والاستبداد، يجب أن تُخاضَ أولا وعلى مدى زمني تقرره الطبيعة الجيواجتماعية والجيوسياسية للمجتمع، على صعيد الثقافات.
ثقافةٌ تدافع عن النظام، وعن شرعيته المزيَّفَة، وعن عدالته المزعومة، وعن حقوقه المدَّعاة، وعن إنجازاته المفتراة، وعن رموزه المحترمة والمقدسة ذلك الاحترام وتلك القداسة المُزَوَّرَين، وعن محبة الناس له وولائهم لرجالاته، وثقافةٌ تقاوِمُ ذلك وتكشف عن سوءات النظام وقمعه وظلمه وقلة إنجازاته وضرورة التعامل معه من على قاعدة انتفاء كلِّ الرمزيات والقداسات وأنواع السُّمُو.
وإن لإرهاصات هذه الثورة الثقافية ثمنا قد يكون باهظا، يأخذ طابعا قمعيا حينا، وطابعا تنازليا حينا آخر، وطابعا توافقيا أو تعايشيا في طورٍ متقدم، إلى أن تصبحَ الساحة المجتمعية مؤهلةً لتحويل السيرورة المجتمعية من حالة ثورة ثقافية تُخاض من فوق المنابر العلمية والمعرفية، ومن قلب المؤسسات الأكاديمية والإعلامية، عبر كافة أدوات الفعل التثقيفي التي تبدأ من الجلسة الحوارية المفتوحة، وتصل إلى الفعل الحزبي المنظم، إلى معركة جماهيرية تُخاضُ في الشارع والميدان ومؤسسة العمل، وذلك بعد أن تبدأ الجماهير بتبني مقولات المثقفين، وبعد أن ترى فيها تعبيرا حقيقيا عن حالتها وعن طموحاتها وآمالها الحبيسة في الصدور، فتُبْدي استعدادَها لأن تكون وقودا لها.
فهل نعي نحن في الأردن أننا ما نزال بعيدين عن مرحلة “الثورة”، وأننا ما نزال ندور حول أنفسنا في مرحلةٍ لا نعتبرها أكثر من مرحلة التأسيس لـ “حراكٍ” فاعلٍ يمهِّد للثورة لم ننجزْها بعد، بسبب أن ظاهرة “انشقاق المثقفين” ما تزال ظاهرةً قيدَ التشكُّل، ولم تصبح بعدُ ظاهرةً متشكِّلة كي تؤسِّسَ لثورة، مع أنها تعاني خلال عملية تشكُّلِها من مخاطر التراجع حتى عن التشَكُّل، بسبب عدم قدرة مُكَوِّنِها الأساس المُفترض الذي هو الحراك على إعطائها حقَّها الضروري لتستكملَ عملية تشكُّلِها تلك؟!
نعم هذه حقيقة يجب أن تكون واضحة لنا جميعا.
فالثورة تعني في أول ما تعنيه “شعبٌ يرفض واقعَه ويتمرد عليه”، و”نظامٌ يدافع عن بقائه ويستميت فيه”.
والحراك المؤسِّس للثورة يعني في أول ما يعنيه “تحفيزٌ للشعب كي يزحف باتجاه ثورته، عبر زحزحة صواعقه عن أمكنتها الساكنة إلى المواقعِ المفجِّرة”، و”نظامٌ يختبر الشارع ويحاصره، كي يُبْقي عليه متمركزا في مرحلة ما قبل الحراك، خشية أن يصل مزلزلا إلى مرحلة ما بعد الثورة”.
والظاهرتان، “الثورة” و”الحراك” المؤسِّس لها، تتجسَّدان في المواجهات الثقافية أولا، ثم في المواجهات الميدانية ثانيا.
ومادامت “الثورة” هي المرحلة التي تمثل ذروةَ سنامِ الفعل الشعبي المواجِه للنظام، فلا شك في أنها تمارس فعلا مواجهاتيا في الميدان يتسِّم بالتجلي والوضوح، مسنودا بتخمةٍ ثقافية ثورية أسَّسَت لها مرحلة الحراك، الذي من الطبيعي أن يكون – بسبب واقعةِ أنه أسبقُ من الثورة – أكثرَ انصباغا فالفعل الثقافي من الفعل الميداني، فقط لأنه فعل تأسيسي، والفعل التأسيسي ينصبغُ أكثر بما يُفْتَرَض أن يكون لونا أساسيا في “الفعل المستهدف” في نسخته النهائية، واللون الأساسي في الفعل التأسيسي للثورة – التي هي النسخة النهائية المستهدفة للحراك – هو اللون الثقافي.
وإذا كانت الثورة يجب أن تُسْبَق بظاهرة “انشقاق المثقفين” كمقدمةٍ حتمية تُنْتِجها، فإن الحراك يجب أن يُؤَسِّسَ لهذه الظاهرة بنماذج ثقافية واضحة وجلية صارمة وحاسمة في تمردِها على ثقافة النظام، كي تمثِّل القدوة الحقيقية والأسوة المرموقة التي ستتأسَّس عليها ظاهرة “انشقاق المثقفين” في سيرورتها التاريخية.
هذا يعني أن جلَّ جهد الحراك ومعظم فعالياته يجب أن تنصبَّ باتجاه التأسيس الثقافي المذكور، بصرف النظر عن أدوات ذلك التأسيس، وإلا فإن كلَّ ما يفعله ذلك الحراك سيذهب هباء منثورا بلا فائدة.
فإذا كان الحراك هو في ذاته – في العادة – تجسيدا لحالةِ تحرُّكٍ مجتمعي ابتدائية غير مكتملة في “ثوريتها الثقافية”، فهل يعقل أن ينجحَ في نقل السيرورة الشعبية إلى مرحلة متقدمة من حركتها، باتجاه “الثورة الشعبية” الفاعلة التي تحتاج إلى ظاهرة “انشقاق ثقافي” مكتملة ومتكاملة، وهو يغرِّد خارج سرب التأسيس لمتطلبات تلك النقلة النوعية؟!!
وكي يصلَ الشعبُ إلى مرحلة من سيرورتِه يرفض فيها واقعَه، بعد أن لم يعد هذا الواقع يوائمُ تطلعاتِه وحقوقَه ومتطلباتِ نموِّه ونهضته وتطوره، فإن حراكا ثقافيا متواصلَ الحفر في البُنى الذهنية للعقلين الفردي والجمعي لذلك الشعب، يجب أن يكون قد بلغ مدىً مؤثرا وفاعلا ودافعا إلى تجسيد فعله الثوري على الأرض.
وكي يبدأ هذا الفعل بالتجسُّد في الواقع الموضوعي المجتمعي، يجب أن تكون عملية الحفر الثقافي المشار إليها والمتراكمة على مدى زمني كافٍ، قد أسفرت عن ظاهرة “انشقاق المثقفين” عن النظام، أو أن تكون قد أسفرت بتعبير آخر، عن بروز كينونةٍ واضحةٍ ومستقلة ومتنامية وفاعلة، لثقافةٍ جديدة متناقضة أشدَّ ما يكون التناقض مع الثقافة التي تؤسِّس للنظام القائم.
إن أيَّ حديث عن الحراك الشعبي أو عن الثورة الشعبية، إنما يقوم في الأساس على الاعتراف غير القابل للجدل بحالة التَّخلف والقهر والاستبداد والاستفحال الطبقي، باعتبارها حالة الواقع الذي نسعى من خلال الحراك ومن بعده الثورة لتغييره والنهوض به. إن هذه الحالة التي نتحدث عن ضرورة التخلص منها بالثورة، إنما حدثت في الأصل بسبب عدم قدرة أفكارنا ومُخْرَجات ثقافتنا على التجاوب مع متطلبات واقعنا في سيرورته التاريخية، كما فرضت نفسها علينا في خضم أشكال المواجهات والصراعات المختلفة التي نَسْبَحُ في أتونها، ما جعل ذلك الواقع يستسلم أمام زخم الهجمة في الثقافة الضد رغم أنها ثقافة تنطوي على مناكفة للمسار التقدمي الطبيعي لحركة التاريخ.
لا يمكن لشعب أن يثور كي ينهضَ من براثن الاستبداد والظلم، ما لم ينطلق في معركة نهضته من معالجة النقطة التي سببت هذا الاستبداد وذلك الظلم، ألا وهي البُنْيَة “الثقافية” التي حصل ذلك الطلاق المُرَوِّع بينها وبين حركة الواقع، مؤديا إلى ذلك الانحدار إلى أتون الظلم والاستبداد والطبقية. والشعب الأردني – شأنه في ذلك شأن باقي الشعوب – يجدر به أن يؤسِّسَ لثورته بثقافةٍ ثورية تنبع من صميم مشكلاتِه الخاصة التي أنتجت حالةَ “الاستبداد الأردني”، وظاهرة “الوظيفية الأردنية”.. إلخ.
إن هناك العديد من الذهنيات التي تتحكم في تشكيل ثقافة المواطن الأردني، مثل ذهنية “تسوُّل الحق”، وذهنية “الأُلْفَة مع السائد”، وذهنية “الخوف من الجديد”، وذهنية “البداوة السياسية”، وذهنية “قمع الآخر”.. إلخ، الناجمة كلُّها عن ثقافة “العصبية”، والمؤدية إلى مأسَسَة الفساد والتأسيس لاعتباره “ثقافة”، وليس مجرد حالات خارجة عن القانون.
إن لكل ذهنية من الذهنيات السابقة دلالاتها في الواقع الموضوعي، وهي عندما تتفاعل بعضها مع البعض الآخر، فإنها تُنْتِج في هذا الواقع أداءاتٍ تظهر على شكل محاربةٍ لـ “الفكرة”، ومعاداةٍ لمبدإ “المأسَسَة”، وتناقضٍ مع فكرة “القانون”، أو بكلمة أخرى، تظهر على شكل محاربةٍ لاستخدام العقل الاستخدامَ الأمثل.
1 – تنطبق ذهنية “تسوُّل الحق” على من يستجدي حقوقَه ولا ينتزعها ممن اغتصبها منه، معتبرا أن هناك من يحق له أن يفكرَ عوضا عنه، وأن يكون صاحب القرار بدلا منه، في تقرير شكلِ حقوقه ومداها ومصيرها وسقوفها وأنماط التعاطي مع مغتصبيها، ارتكازا إما إلى مرجعيات دينية أو مذهبية أو عائلية، مثلما هو الحال تماما في “العشيرة” و”القبيلة” و”الحمولة” و”الجماعة الدينية”، حيث يكون “كبير العائلة” أو “أمير الجماعة” هو الوصي على الجميع والنائب عنهم في صياغة أشكال التعاطي مع منظومات الحقوق تلك، بعيدا عن المأسَسَة المفقودة في الأعراف العشائرية والقبائلية والحمائلية والجَماعيَّة.
2 – أما ذهنية “الألفة مع السائد” فتنطبق على من يألف الواقعَ ويتوَحَّد معه إلى درجة التردُّد في تغييره أو حتى في قبول فكرة تغييره مهما كانت دواعي هذا التغيير عميقة وضرورية ومُلحَّة، لأنه يتوجَّس من الجديد ومن تَبِعَةِ البدء في بناء الألفة معه. إنها ذهنية ترتكز إلى الاستكانة والهدوء والدَّعَة وخشية الصخب الناتج عن التغيير أو المُرَافق له عادة.
3 – أما ذهنية “الخوف من الجديد” فهي تنطبق على من كثرت ثوابته الأسطورية والخرافية البعيدة عن العلم. ولأن الثابت الأسطوري والخرافي محفوف بالمخاطر دوما، وعلى رأسها مخاطر التردي والانهيار أمام ما يشع به الواقع من إمكانات تُعَارِضُ تلك الثوابت، فإن مساحةً هائلة من خشية المساس بها – أي بتلك الثوابت – تبدأ بالهيمنة على ذهن المعني بالأمر. وتتفاقم مؤثرات هذه الذهنية في الغالب لدى من يتواجد في واقع متغير ومتقلب يؤمن بضرورة التعامل معه من جهة، في الوقت الذي تزخر معتقداته الموروثة بكَمٍّ هائل من الثوابت اللاعلمية واللامنطقية التي تحول بينه وبين كفاءة هذا التعامل من جهة أخرى.
4 – ثم تأتي بعد ذلك ذهنية “البداوة السياسية” لتستكملَ رحلة “التَّسَمُّم الذهني” الذي يعاني منه المواطن الأردني، وهي تقوم على قناعته بأنه متمَيِّز بعقلية البداوة وبأعرافها، حتى وهو يجسِّدها في السياسة والعمل المدني، حيث يُفْتَرَض ألا مكان سوى للمأسَسة والفكرة. فعندما يتوهم المواطن الأردني أن تميُّزَه متحققٌ بسبب انتمائه إلى “القبيلة”، التي هي بطبيعتها المولِّد الحتمي للشوفينية والعنصرية والاستعلاء، عندما تتجاوز دورها الاجتماعي الترابطي، إلى أن تكون أساسا مرجعيا لدور سياسي فاعل، فإن رابطة “القبلية” وفكرة “البداوة”، ستحظيان لديه بنوعٍ من القداسة والاحترام والتقدير التي لا ينطوي عليها “البرنامج”، والتي يفتقر إليها “القانون”، والتي لا تضاهيها “المؤسسة”، حتى في العمل السياسي، إلى درجة انتشار ظاهرة “البداوة السياسية” بشكل وبائي، سواء على مستوى النظام ومؤسساته، أو على مستوى المعارضة الحزبية وطريقة أدائها، أو على مستوى الحراك الشعبي ومخرجاته التنظيمية. والبداوة السياسية تعني – لمن لا يعرف – تَحَكُّمَ قيمِ البادية وتقاليدها وأعرافها، حيث الدور الأبرز لشيخ العشيرة، وحيث منطق الوصاية الأبوية غير المؤسسية في الحكم وفي اتخاذ القرارات، وحيث كثرة الخطوط الحمراء وسقوف الممنوعات في التعامل مع فكرة “الرموز” و”الطواطم” العشائرية والدينية.. إلخ، في سيرورة الفعلين السياسي والمدني.
يشعر المواطن الأردني بألفة دائمة وحميمة مع ما هو سائد من “ثقافة عصبية” ومن “بداوة سياسية”، ويحسُّ بأن تميُّزَه في الدولة على الصُّعد القانونية والسياسية والحقوقية والاقتصادية قائم على بقاء هذا المألوف وعلى استمراره في حياته بصورته التي أَلِفَها، فيخاف من أيِّ محاولةٍ تَنْصَبُّ باتجاه المساس بالصورة المألوفة لثقافته، لأنها محاولة لا تُقرأ في لا وعيه إلاَّ تحت عنوانِ هذا المساس بمألوفاته وبتميُّزِه بالتالي. فَيُحاَرِبُ وعيُه دفاعا مستميتا عمَّا هو كامن في لا وعيه، كلَّ من يتصدى لهذه المهمة – مهمة المساس – ويقمعه بكل ما أوتي من قوة.
ولما كانت ثقافة “الفكرة” هي سيدة المبادرة دائما، فقد وقع عليها عبءُ دفع الثمن. وذهنية المواطن الأردني في صراعها مع ثقافة “الفكرة” – عدوة مألوفه وتميُّزِه الزائفين – لا تجد نفسَها معنيةً بغير الذود عن هذا المألوف وعن ذلك التميُّز، بصرف النظر عن مدى حاجتها – بالاستناد إلى مقاييس موضوعية – إلى هذا المألوف، أو عن مدى صدق ادعائها – بالاستناد إلى تلك المقاييس نفسها– التميزَ بناءً على التدثُّر بعباءاته.
فهل من طريقة إذن لتخليص المواطن الأردني من عدائه المستحكم لثقافة “الفكرة”؟!
في الواقع لا سبيل إلى ذلك إلاَّ بتخليصه من ذهنيتي “الألفة مع السائد” و”البداوة السياسية”، ومن ثم من نتائجهما.
فمادام قمعُ ثقافة “الفكرة” ناتجا في الأساس عن الخوف منها بسبب مساسها بـ “المألوف” المرتكز إلى “البداوة السياسية” والقائم عليها، فيجب أولا أن تتحطم في أغوار الذهن المتعايش مع الأُلْفَة، مرتكزات تلك الألفة، أي يجب أن يتحرر المواطن الأردني من وطأة الألفة وثقلها على تفكيره ومردودها في حياته. يجب أن يتحرر من ألفة أيِّ شيء تُعْتَبَرُ أُلْفَتُه في الوقت الحاضر متعارضة مع التقدم والتطور والقفز إلى آفاق المستقبل. إن هناك – بمعنى آخر – معايير جديدة للتميُّز تحكم مسار الحضارة الإنسانية في لحظتها الراهنة، يجب على المواطن الأردني أن يُعيد بناء ذهنياته وِفْقَهَا وفي ضوئها.
يجب أن تتحطم إذن في ذهن المواطن الأردني وتتفكَّك لبناتُ “الأُلفة مع السائد” ولبنات “البداوة السياسية” – بالصورة التي وضحناها لهما فيما مضى – كي تُحَلَّ مشكلته المستحكمة والمتمثلة في موقفه العدائي من ثقافة “الفكرة”، وفي موقفه الموالي بشكل شوفيني لثقافة “العصبية”. لأنه إذا تحرَّرَ من عُقْدَةِ المألوف، فلن يعود هناك ما يخيفه من الجديد الذي سيمَس هذا المألوفَ بالتأكيد. وإذا هو تحرَّر من عقدة “البداوة السياسية” المرتكزة إلى هذا المألوف، وأقام فلسفة تميُّزِه على عناصر ومُكَوِّنات جديدة أكثر ارتباطا بالفكرة وبقيم الحضارة الإنسانية، فإنه لن يخشى على تميُّزِه هذا إذا تمَّ المساس بمرتكزه الحالي الموهوم، تعديلا وتطويرا وتغييرا. وبالتالي فإن عُقْدَة الخوف من أداة هذين المساسين والتي هي ثقافة “الفكرة” ستتفكَّك لوحدها وسوف تختفي من ذهنه، ليجدَ نفسَه وقد تخلَّص منها نهائيا، ولن يغدوَ مضطرا إلى معاداة ثقافة “الفكرة” التي كانت ترعبه وتَقُضُّ مضجعَه فيما مضى، بل هو مضطر إلى مصادقتها وإلى استحضارها دائما، كي تكون عونا له على تشكيل مرتكزات تميُّزِه الجديدة وبناء مألوفاته الجديدة.
فهل أنجز الأردنيون هذا المشروع الثقافي الذي لا مجال لأن ينجزوا ثورتَهم بدونه بوصفه المقدمة الضرورية لها، بعد تسعين عاما قضاها النظام وهو يحفر في أرواحهم أساساتٍ عميقةُ لثقافة “العصبية” الموغلة في بدائيتها؟!
وهل يبدو الحراك الشعبي مجسِّدا عمليا لحالةٍ مجتمعية تهتم بهذا المشروع الثقافي باعتباره الفعلَ الأهمَ بالنسبة للحراك، وباعتبار أن دور الحراك يجب أن ينصبَّ بالدرجة الأولى والأهم نحو التأسيس له تمهيدا للثورة، أكثر بل وقبل أن يهتم بأيِّ شيء آخر؟!
أم أن الثورة ما تزال بعيدة بسبب عدم تجسُّد الإرهاصات الحقيقية لمشروعها الثقافي، وأن الحراك يسير فوق “الصراط” الذي تضطرمُ أسفل منه نيران جهنم تترقب سقوطه لابتلاعه، وهي تراه غيرَ مسلَّح بما يُمَكِّنُه من استكمال اجتياز الصراط كي يصل إلى الجنة؟!!
دعونا نختبر ذلك بإلقاء نظرة سريعة على المُخرجات السياسية للثقافة السائدة، ألا وهي ثقافة “العصبية” و”البداوة”، القائمة على “الألفة” و”التسوُّل” و”القمع”، لنتأكد مما إذا كنا – بالفعل – قد حقَّقْنا النقلةَ الثقافية النوعية المطلوبة للحديث عن فعل ثوري مرتقب وقريب وأصبح على الأبواب، أم أننا في ضوء الأحداث المتسارعة على الساحة، وفي ضوء الخريطة السياسية للمتعاطين مع الفعل السياسي، ما نزال نحبو باتجاه لملمةِ أشلاء ثقافة الفكرة المتناثرة هنا وهناك، معانيةً من حماقة الكثيرين ممن يريدون مناجزةَ نظامٍ بثقافته التي استعبدتهم ذاتِها؟!
ينقسم أصحاب المشاريع السياسية الأكثر انتشارا وهيمنة على الذهن الشعبي الفردي والجمعي في الأردن إلى..
* فئة تعمل على تخويف الأردنيين من “المطالبة بوحدة حقيقية للضفتين” باستخدام أسطورة “الوطن البديل”.
* وفئة تعمل على تخويف الأردنيين من “الاقتتال والاحتراب” باستخدام أسطورة “الهاشميون هم صمام الأمان”.
* وفئة تعمل على تخويف الأردنيين من “الفوضى والانهيار” باستخدام أسطورة “ومَنْ هو البديل؟!”.
* وفئة تعمل على تخويف الأردنيين من “الدولة الدينية اللامدنية” باستخدام أسطورة “الإسلام السياسي”.
* وفئة تعمل على تخويف الأردنيين من “الدولة المدنية اللادينية” باستخدام أسطورة “الغزو الثقافي اليهودي الماسوني”.
* وفئة تعمل على تخويف الأردنيين من “محاربة الفقر والطبقية” باستخدام أسطورة “شح الموارد المحلية”.
وكلُّ هؤلاء يعملون على خدمة فئة تعمل على تخويف الأردنيين من “الحرية” ومن “العدالة”، ألا وهي فئة “أبواق النظام”. فيما كلًّ الأردنيين يريدون أن تسودهم “الحرية” وأن تتفشى بينهم “العدالة”، دون أن يقعوا في براثن “البَعابِع/جمع بُعْبُع” الستة السابقة التي يتمُّ تخويفهم منها.
في حين أن “الحرية” و”العدالة” المستهدفتين، واللتين تمثلان طموحا حقيقيا لكل الأردنيين الخائفبن المرعوبين من تلك “البعابع”، لن يتحققا في واقع حياة الأردنيين إلا بالتالي..
* إذا عملوا على استعادة “وحدة الضفتين” بتحريرهما على وجه الحقيقة، الأولى من “النظام الوظيفي” لإنجاز “التغيير” الدافع إلى “التحرير”، والثانية من “الاحتلال الصهيوني”، لإنجاز “التحرير” القائم على ذلك “التغيير”، وذلك على قاعدة أن هذه “الاستعادة” هي الطريقة الحقيقية لإفشال أسطورة “الوطن البديل”، بتحرير الأردنيين من العيش في أكناف أسطوريتها المبتذلة.
* وإذا انطلقنا من حقيقة أن “الهاشميين” في الأردن هم “أسُّ البلاء”، و”أساس الفساد”، و”حماة الوظيفية”، بل و”مؤسسوها ورعاتها”، منذ نشأة الإمارة قبل تسعين عاما، وليسوا بأيِّ حال “صمام أمان”، بل إن بقاءَهم رعاةً للمنهج الوظيفي للدولة هو أكبر خطر يهدِّدُ مستقبلَها.
* وإذا أيقنا أن البديل ليس شخصا يحلُّ محلَّ شخص، بل نظاما للحرية والعدالة، يحلُّ محلَّ نظام للظلم والاستبداد.
* وإذا فهمنا أن الإسلام السياسي شريكٌ في الوطن وليس دخيلا عليه، أيا كانت الخلافات معه، على الأقل في مرحلة التأسيس للثورة وإضعاف النظام. وسيبقى كذلك حتى يحدِّدَ لنفسِه خيارات أخرى تجعله في الخندق الآخر.
* وإذا أدركنا أن الدولة المدنية الديمقراطية اللادينية، ليست شرا مستطيرا، ولا نوعا من “الشيطنة”، بل هي مطلب كلِّ البشر، وألا تعارض بينها وبين الإسلام ذاته، والذي يراد للشعب الأردني أن يخيَّرَ بينه وبين قبوله بتلك الدولة.
* وإذا علمنا أن الأردن غَنِيٌّ بموارده، وقادر على إثراء شعبه وانتشاله من براثن الفقر والجوع والعطش، وإعداده لدوره القومي التحرُّري النهضوي.
إذن فعلى الأردنيين أن يرفضوا كلَّ تلك الأساطير، وأن يرفضوا كلَّ الفئات التي تخوِّفُنا بواسطتها من أشياء لا وجود لها على أرض الواقع، لأن تلك الفئات ستحرمنا من تحقيق الحرية والعدالة، وتُبْقي لنا أسَّ البلاء، وتؤجِّجُ بيننا الاقتتال والاحتراب، وتحرمنا من فرض النظام البديل الذي نصبو إليه، وتدفننا في مغبَّة التبعيَّة الناتجة عن الفقر والجوع والعطش، وتبقينا بعيدين عن القيام بدورنا المفترض في تحرير أرضنا ووحدة أمتنا.
أي أننا معنيون في محصِّلَة القول بالتأسيس لثقافةٍ جديدة، تتجسَّد مُخرجاتها السياسية في التالي..
نريد دولة أردنية “مدنية ديمقراطية لا دينية”، يقوم نظامها على “الحرية” و”العدالة”، نتحلَّص فيها من الهيمنة المطلقة لـ “الهاشميين” ومن يختبئ وراءَهم، على قاعدة أن كلَّ الأردنيين شركاءٌ حقيقيون في الوطن، الغني بموارده، والقادر على النهوض والنمو من براثن الفقر والاستبداد والتخلف والتبعية، لأداء دوره العروبي على أكمل وجه، والذي لن تكتمل حريته تلك، ولن يتجسَّدَ دوره العروبي ذاك، إلا بعودة ضفته الغربية المحتلة إلى سيادته حرةً مستقلةً”، بكلِّ ما لكلمتي حرية واستقلال من معاني وفضاءات.
فهل تسود غالبية الأردنيين ثقافة تؤدي إلى المُخرَج السياسي سالف الذكر، كي نتحدث عن جاهزية الشعب الأردني للثورة المجتمعية الشاملة، على أسسٍ ثقافية مُؤَصِّلَة للثورة، أم أن الطريق ما يزال طويلا قبل الوصول إلى هذه المرحلة؟!