الهرولة نحو الذكاء الحلقة الأحدث في عالم التكنولوجيا
يكتبها: جمال غيطاس


كان عقد الثمانينيات من القرن الماضي هو فترة نشأة وانتشار الحواسيب الشخصية واشتداد تأثيرها على البشرية، أما عقد التسعينيات فكان فترة شهدت انفتاح الإنترنت وتحولها إلى مرفق عالمي للمعرفة والبحث والتجارة والإنتاج والخدمات، ثم جاء العقد الأول من القرن الـ21 ليسجل لنفسه فضل إنجاز وإنضاج الأسس اللازمة لتحقيق التلاحم والاندماج أو «التمازج» بين صناعات الاتصالات والبرمجيات والإلكترونيات وشبكات المعلومات ووضعها في إطار يسمح لها جميعا بالعمل المشترك الذى يكمل بعضه بعضًا، والآن يدلف عالم التكنولوجيا إلى حلقة أحدث في رحلة تطوره، أبرز ما يميزها أنه يهرول فيها بسرعة نحو «الذكاء»، في خطوات تسحب معها المجتمعات المختلفة صوب نمط جديد للحياة، يقوم على فكرة العمل المتواصل «بذكاء» بدلاً من النمط السائد حاليا والمستند لفكرة العمل المحدود «بكفاءة».
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
والذكاء الذي نقصده هنا ليس هو الذكاء كما نعرفه عند البشر والكائنات العاقلة الأخرى، ولكن المقصود به أن يمتلك شىء ما - عاقل كالإنسان أو غير عاقل كالحيوان والنبات أو جماد كالأجهزة والمعدات والسلع ..إلخ ـ القدرة على التقاط وتجميع ومعالجة بيانات ومعلومات عن نفسه أو عن غيره، ثم التواصل مع غيره عبر إرسالها أو استقبال بيانات أخرى بشأنها. وهنا يكون هذا الشيء قد امتلك نظامًا متكاملاً يمنحه قدرًا من الوعي والإدراك والمعرفة بما يدور حوله بشأن وظائف وأغراض محددة، وما يتعين عليه عمله أو القيام به في أوقات معينة أو تحت ظروف معينة، وهو ما يطلق عليه في هذه الحالة «الذكاء».
من هنا فإن ذكاءا من هذا النوع يمكن «تصنيعه» وتوليده وإضفاؤه على أي شيء، من الحجر إلى الشجر فالحيوانات فالبشر فالكيانات والمؤسسات، عبر مد هذه الأشياء بالأدوات الأساسية التي تكفل بناء نظام لالتقاط البيانات وجمعها، ثم معالجتها ثم القدرة على التواصل مع أنظمة أخرى بغية تحقيق وظيفة أو هدف معين.
وقد بدأ هذا الأمر يتجسد عمليا في ظواهر شتى، منها الحواسيب اللوحية المحمولة التى تعد «خلطة ذكاء» شديدة التركيز، حيث تندمج فيها قدرات الحواسيب المحمولة مع التلفونات المحمولة على نحو يقدم لمئات الملايين من مستخدمي الجهازين حول العالم أرضية واسعة للعمل والإنتاج والترفيه بروح «إبداعية» تستمد طاقتها من قوة الحوسبة المتاحة في أداة خفيفة سهلة الاستخدام، وقوة العمل أثناء الحركة اعتمادًا على تواصل لاسلكي عبر شبكات المحمول، وهذه النوعية ستدق أكبر مسمار في نعش الحواسيب المكتبية والمحمولة بصورتها التقليدية، وتؤسس لفئة «ثالثة» هي الأجهزة التى يمكننا تسميتها بــ «تيل موب كومب tell mob comp» أو الحاسوب المتلفن المحمول.
يعزز هذا القول أن التلفونات الذكية أصبحت النجم المكافىء لما فعله الحاسوب المكتبي في تسعينيات القرن الماضى والحاسوب المحمول في العقد الأول من القرن الحالي، لكنها ستتميز عنهما بأنها أحد ملامح «عقد الذكاء»، بما تحتويه من ذكاء في نظم التشغيل والتطبيقات والخدمات وطرق الاتصال بالإنترنت ومواقع المحتوى، فضلا عن ذكاء في الجمع بين باقة ميزات أخرى منها: أشكال نحيفة جذابة ومعالجات سريعة وشاشات تعمل باللمس وملفات موسيقى وصوت حاده وكاميرات ثابتة ومتحركة وخاصية تحديد المواقع والتوافق مع معايير الجيل الرابع للاتصالات المحمولة.
وإذا وجهنا النظر إلى زاوية أخرى من الصورة صوب الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية وفى قلبها التلفزيونات والكاميرات الرقمية وأجهزة الألعاب، فسنجد أن القافز منها إلى المستقبل منجذب تمامًا إلى العمل بمفهوم «الأبعاد الثلاثية» سواء في التقاط وإنتاج المحتوى من صور وأفلام وألعاب أو في عرضه على الشاشات أمام مشاهديه ومستخدميه أو مستهلكيه، ويرى مصنعو هذه الأجهزة جميعًا أن مفهوم «الأبعاد الثلاثية» هو الذي سيمنح اجهزتهم قدرًا أعلى من الذكاء في العمل، ويمنح مستخدميها قدرًا أكبر من الإبداع في الاستخدام، بما يتناسب والتوجه الرئيسي الذي يتوقع أن يسود في العقد الجديد، فالعمل بالأبعاد الثلاثية في إنتاج المحتوى أو تقديمه يقتضي أن تكون منتجاتهم على قدر أعلى من الذكاء في العمل، بمعنى أنها تستطيع العمل على مسارين متزامنين بدلا من مسار واحد، أو تتطور لديها قدرات التعامل مع البيانات ليس على مستوى السعة ولكن على مستوى طريقة المعالجة واستنباط ملامح جديدة للصورة المعروضة أو الملتقطة. أما بالنسبة للمستخدمين فإن الأمر يتجاوز مجرد المشاهدة العادية إلى ضرورة الإبداع في تطبيق والتعامل مع ما باتت هذه الأجهزة تحتويه من ذكاء.
ليست هذه المظاهر نهاية المطاف في موجة الهرولة نحو الذكاء، لأن التطورات التي تشهدها الأجهزة والبرمجيات والنظم والأدوات المختلفة ستدور دورتها ثم تعود إلى منطقة التلاقي أو القلب أو محور الأمر برمته، وهي شبكة الإنترنت لتضفي عليها قدرًا إضافيًا من النضج، فكل ما سبق يعد في ميدان «ذكاء الأطراف» ومادامت الأطراف تهرول نحو الذكاء فإن القلب «الإنترنت» بدت عليه إرهاصات التحول من شبكة واسعة الانتشار إلى شبكة «كلية الوجود»، تتاح في كل مكان وكل وقت، ويمكن الوصول إليها بكل الوسائل، وترتبط بها كل الأشياء العاقلة وغير العاقلة، في منظومة كبرى هائلة لا تستثني بشرًا ولا حيوانًا ولا نباتًا ولا حجرًا.
http://www.alarabimag.com/Arabi-Elmy/2012/Issues/Issue_8/Elmy019.htm