الملك الحزين

أسامة عكنان

إن الفرق بين "ملوك الأردن"، والملك الهولندي الراحل "بودوان"، الذي كان يُلَقَّب بالملك الحزين..
كالفرق بين من يقطف وردة ليعبث بها، ثم يرميها ويدوسها بقدميه وهو حال "ملوكنا"..
ومن يقطفها ويدثرها برموش الأعين، كي يهديَها لشعبه، اعتذارا عن ساعة مرَّت من عمره لم يستطع أن يكون خلالها في خدمته، كما كان عليه حال الملك الحزين "بودوان"..
فلنستمع إلى قصة "الملك الحزين" الذي لم يبكِ شعبٌ على فراق زعيم كما بكى الهولنديون على فراقه..
إن الملك في الدستور الهولندي ليست له سلطات، خارج نطاق الإجراءات البروتوكولية التي تعطيه شرف التوقيع على القوانين "واجبا وفرضا" قبل أن تصبح سارية المفعول بعد صدورها عن البرلمان..
ولأن الملك الهولندي قد يكون فاقدا لوعيه أو في غيبوبة أو مُقالا أو مستقيلا أو خارج السلطة لسبب أو لاخر..
فإن واضعي الدستور الهولندي تركوا فسحة لجهة غير الملك في مثل هذه الحالات كي تتولى التوقيع على القانون بدلا منه، كي لا تتعطل الحياة التشريعية، وتقع البلاد في حالة فراغ دستوري..
ولم يخطر في بال أحد أن الملك قد يمتنع عن التوقيع على قانون أقرَّه البرلمان، لأن توقيعَه مجرد إجراء بروتوكلي شرفي إلزامي، وليس تعبيرا عن حق سياسي يمارسه الملك بحرية، لذك لم توجد تغطية دستورية لمثل هذه الحالة، التي شاء لها القدر أن تحدث، محدثة معها إرباكا تشريعيا في هولندا قبل حوالي ربع قرن، لم يقم بحله سوى الملك نفسه..
فما الذي حصل؟!
أقر البرلمان الهولندي قانونا يبيح "الإجهاض" بناء على ضغوطات من منظمات حقوق المرأة ودعاة الحرية الجنسية.. إلخ..
فتوجه القانون إلى الملك "بودوان" الحزين ليوقع عليه..
الملك "بودوان" ملك محافظ ومتدين ولا ينقطع عن صلاته في الكنيسة، ولا يشرب الخمر، ومعروف عنه نبل الأخلاق ومكارمها..
فلم يكن قادرا على المواءمة بين محافظته التي تأبى عليه التوقيع على قانون رأى فيه تشريعا يقر قتل النفس البشرية، وبين ضرورة توقيعه على القانون بصفته ملك هولندا الذي لا يحق له مخالفة إرادة شعبه..
قرأ الدستور عدة مرات ليجدَ لنفسه مخرجا يحميه من الوقوع في الحرام الذي رأى شعبه يقع فيه، دون ان يتجاوز إرادة هذا الشعب..
لكنه لم يجد..
فحتى الجهة الأخرى المخولة بالتوقيع في حالات معينة، هي في الواقع مخولة بالتوقيع في إحدى حالات لم تكن متوفرة ولا موجودة في ذلك الظرف المربك للملك..
لم يجد الملك أمامه إلا مخرجا وحيدا لم ينتبه إليه أحد، ولا حتى واضعو الدستور الهولندي..
قرر أن يُقحِمَ نفسَه وشخصَه في واحدة من الحالات التي يتحدث الدستور عن أن توفرها يجعل من حق جهة أخرى غير الملك التوقيع، لاستكمال القانون للقنوات التشريعية التي تجعله نافذا..
ولأنه لا يستطيع أن يُدْخِلَ نفسَه في غيبوبة أو فقدان وعي، ولأن شعبَه يحبه، وهو لم يفعل ما يوجب الإقالة، فلم يعد أمامه سوى أن يكون خارج السلطة بأن يستقيل من منصبه كملك..
وهذا ما كان وسط اندهاش الشعب والبرلمان والسياسيين لما يفعله ملكهم المحبوب..
وعندما فهموا أن الملك يفعل ذلك لأنه لا يستطيع التوقيع على قانون رآه يمثل حراما وخرقا لقداسة النفس الإنسانية واعتداء عليها..
ولأنه لا يستطيع ولا من حقه في الوقت ذاته أن يمنعَ شعبَه من ممارسة حقه في تمرير القانون الذي يريده..
فقد تغير كلُّ شيء..
صحيح أنه تم التوقيع على القانون في فترة استقالة الملك الذي لم يعد إلى الملك إلا بعد أن تأكد من أن يده لن تكون آثمة بأي شكطل من أشكال المشاركة في إقرار قانون كهذا..
لكن فئات كثيرة من الشعب الهولندي خرجت منذ ذلك التاريخ تؤيد إرادة الملك في رفض هذا القانون..
وخرج من يقول أننا نريد لهذه الإرادة الطاهرة أن تكون نبراسا نهتدي به وشريكة لنا في السلطة..
انظروا المفارقة..
ملك عظيم لا إراة سياسية له، خرج الشعب متظاهرا مناديا بمنحه إرادة حقيقية بعدما اكتشفوا أنها إرادة ستكون في صفهم بالمطلق..
بينما نحن محرومون من كل شيء بفعل إرادة ملك سرق منا هو وبطانته كل أثر لإرادتنا، كي يتم تمرير كل باطل يتعارض مع مصالحنا وإرادتنا..
رحم اله الملك "بودوان" الحزين..
رحم الله الملك "بودوان" الحزين، وأسكنه فسيح جنانه مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين..
وتبا لكلمة توحيد ينطق بها مسلم، لا تجعله يفهم أن الطريق إلى الله يبدأ بخدمة عباده لا بالسطو على إرادتهم..