لم تعد هناك مساحات سياسية يلتقي فيها الشعب مع النظام في الأردن..

أسامة عكنان

في البداية كان النظام والشعب يتحركان ضمن "مساحة الفعل السياسي" نفسِها، فيما يتعلق بالمطالب والعروض، فحالات الفرز والاستقطاب بين الطرفين لم تكن بالوضوح والتجلي والعمق التي هي عليها الآن..
فلا النظام كان قد كشَّر عن أنيابه وأظهر معاداته الفاضحة للإصلاح..
ولا الشعب كان يتوقع عزوفا كاملا من هذا النظام عن التجاوب مع أيٍّ من مطالبه، ناهيك عن العمل والتحرك في عكس اتجاهها..
ولكن مع مرور الوقت، وبسبب أن النظام كان يُبَيِّت النيَّة على عدم الإصلاح، فقد بدأت بالتشكّل تدريجيا منطقتين سياسيتين متداخلتين، ما لبثتا أن غدتا متمايزتين ومتنافرتين كليا، هما..
المنطقة الأولى.. وهي تلك التي يتحرك في داخلها النظام، مطالبا الشعب بأن يتحرك معه في داخلها..
وهي منطقة يقوم أداء النظام فيها على عرض ما يساعده على إعادة إنتاج نفسه في ثوبٍ سياسي مخادع..
الهدف منه هو الإجهاز على الفعل الشعبي، قبل أن يمتد تأثيره ليطال جوهر النظام وحقيقةَ بُنيتِه المصلحية الطبقية الوظيفية التبعية..
والمنطقة الثانية.. وهي تلك التي يتحرك في داخلها الشعب، مطالبا النظام بالتحرك معه فيها..
وهي منطقة تتضح حينا وترتبك حينا آخر، بسبب التَّذَبذُب في بُنية الفعل الممثل للشعب على الأرض..
مع أنها انطوت على ملامح واضحة لحالة إصرار على رفض التحرك داخل منطقة النظام الذي بدا مصمما على رفضه أن يكون التحرك من خارج دائرته..
النظام حدَّد لنفسه منطقة تحرك سياسي أحاطها بأسلاك شائكة مكهربة، من القضايا التي اعتبر التعاطي معها محرما، كي تكون كلُّ مفاتيح الفعل السياسي بيده ووفق إرادته، وبناءً على ما يراه هو، وليس استجابة لما يريده الشعب..
وبالتالي فقد أصبح كلُّ توصيف للإصلاح وتجسيد له في مثل هذه الحالة، هو فقط ما يراه النظام توصيفا وتجسيدا له..
فيما أصبح ما يريده الشعب وممثلوه وحراكيوه، غوغائيةً وعدميةً ورعونةً وتَنَكُّراً لحقائق الواقع الموضوعي، بل وجرا للبلاد إلى الكارثة والدمار والفوضى..
بعد أن بدأ ممثلو الشعب يستشعرون الجنوحَ إلى العدائية في الفعل السياسي للنظام تجاه قضايا الشعب ومطالبه، ويعبرون عن ذلك بوضوح..
لا النظام استطاع أن يجبرَ الشعبَ على إبقاء حركته المطلبية في داخل مساحته هو كنظام..
ولا الشعب تمكَّن من سحب النظام ليتحرك بعروضه وسقوف استجاباته داخل مساحته هو كشعب..
فالشعب أدرك أن الوقوع في الشَّرك الذي راح ينصبه النظام، ليس سوى خدعة تهدف إلى إلباس النظام نفسِه ثوبا جديدا يفرِّغ الفعل الشعبي من مضامينه ودلالاته..
فيما أدرك النظام من جهته أن قبوله بأن تنطلق حلول أزمة "الحالة الأردنية" من داخل المساحة التي يتحرك فيها الشعب، هو أمر لا يتناسب مع وظيفيته، وهو بالتالي أشبه بحالة انتحار، أو توبة غير نصوحة لا ينويها ولا هو مستعد لتبعاتها..
ولهذا السبب بالتحديد راحت التداخلات بين المساحتين تتقلَّص، إلى أن وصلتا إلى الانفصال التام، لتغدوَ لكل طرف مساحة تحركه الخاصة به..
بعد أن تكشَّفت الساحة عن أن النظام لا يعنيه الشعب ولا تعنيه مصالحه أو مطالبه، لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما يعنيه هو الحفاظ على المصالح الطبقية السائدة والأدوار الإقليمية التاريخية للوظيفية التي سبغت النظام منذ عام 1921، حتى لو اضطر لإعادة إنتاجها بشكل يمتص احتقانات الشارع..
وبعد أن تبيَّن أن الشعب لم يعد يرى أيَّ بارقة أمل في أن النظام يمكنه أن يتقدم باتجاه تحقيق مطالبه قيدَ أنمُلة..
من يريد أن يكون فاعلا ومنتجا سياسيا في المرحلة القادمة، عليه أن يقرأ الساحة الأردنية في ضوء ما ذكرناه من تمايز كامل في المساحات التي يتحرك فيها كل من النظام بعروضه، والشعب بمطالبه..
هذا التمايز الذي وصل إلى حدِ التنافر واستحالة الالتقاء، يعني أن ما يحصل على الساحة الأردنية هو في حقيقته معركة بين نقيضين لا يلتقيان، وأن حياة أحدهما لا تقوم إلا على أنقاض الآخر..
ويعني أيضا – وهذا هو أهم ما في المسألة – أن من يقبل بالتحرك ضمن المساحة التي يعرِضُها النظام، يكون قد تخلى عمليا عن انتمائه إلى المساحة التي تمثل مطالب الشعب، لأن مناطق التداخل والالتقاء بين المساحتين أصبحت معدومة..
ليست الفكرة فيما يحدث على الساحة الأردنية من حيث معارضةِ هذا الفعل السياسي أو ذاك، أو من حيث عدمِ الموافقة على قانون هنا أو تشريعٍ هناك، في القول بأن هذا يفيد أكثر من ذاك، أو في تصوُّر أن ذاك يضُرُّ أقل من هذا!!!
المسألة ليست بهذا التوصيف على الإطلاق..
فهذا التوصيف هو ما يسعى النظام إلى جعله إطارا حاكما لتقييم ما يحدث على الساحة الأردنية، كي يُبْقي على مواقع الشرعيات ثابتا كما هو..
إنه توصيف أقل ما يقال عنه أنه قاصر جدا في قراءته للخريطة السياسية التي استُكْمِلَ ارتسامُها في الأردن بعد أكثر من عام ونصف العام من التجاذبات، بين شعب يحاول التحرّر، ونظام يحاول شغلَه عن متطلبات تحرُّرِه، عبر إغراقه في تفاصيلَ تُدخلُ العملية السياسية برمتها في منطقة هيمنة النظام، بعد أن تكون قد أخرجتها برمتها أيضا من منطقة الفعل والتأثير الشعبيين..
لا يمكن لمن يقبل بالتحرك ضمن مساحة عروض النظام، أن يؤسِّسَ لمرحلة جديدة وقادمة تتماهى مع حقوق الشعب الحقيقية، أو تؤدي إلى الانعطاف إلى مساحة مصالحه الفعلية، المرتكزة إلى روح التغيير التي تسود المنطقة والعالم..
إن التحرك ضمن تلك المساحة التي حدَّدَها النظام وقدَّم من داخلها كامل عروضه، يعني حتما إسقاط شرعية مساحة المطالب الشعبية، والاعتراف بلا شرعيتها، وبتطاولها على أبوة النظام "الرائع" الذي يحكم الأردنيين، وحقن فساده وتبعيته واستبداده ووظيفيته، بجرعاتٍ تتيح له إعادة إنتاج نفسه، بما لا يتعارض مع منظومة المصالح التي أسَّسَها وتأسَّس عليها منذ أكثر من تسعين عاما خلت..
جوهر المعركة مع النظام إذن، هو أنه كنظام يبذل كلَّ ما في وسعه لجرِّ الفعل السياسي الشعبي مَطالباً وسقوفا، ليتحرك داخل المساحة التي قرَّرها ورسَّم حدودها هو – أي النظام – استعداداتٍ وعروضا، لكي تصبح المعادلة مصاغة على النحو التالي..
نظام يريد أن يصلح، وشعب يختلف معه في تفاصيل الإصلاح..
بعد أن كانت قد وصلت بتمايزِ مساحات المطالب والعروض إلى صيغة..
نظام لا يريد أن يصلح ولا هو مؤهل له، وشعب يريد أن يفرض على النظام ما يريده، لا أن يطلب منه ما يدعي أنه يستطيعه، أو ما يبدي استعداده للتكَرُّم به..
لأننا عندما نقبل من النظام بما يدعي أنه يستطيعُه، وبما يبدي استعداده للتَّصَدُّق به علينا، فنحن نعترف له بأن القرار هو قرارُه، وبأن المشروعية هي مشروعيته، وبأننا بالفعل لا نملك سوى الإقرار له بأن جوهر علاقتنا به، يقوم على أنه مالك وصاحب حق، وعلى أننا متسولون نقف على أبوابه نستجديه، منتظرين منه كصاحب حق، لفتةً حانية تجود بها الحكمة، ويمُنُّ بها القلب الكبير..
وبأننا يجب أن نكون في مطالبنا متواضعين كي يتسنى للنظام الحاكم بحكمته وحرصه وانتمائه الحقيقي لشعبه، أن يتكرَّم علينا بالاستجابة..
أيها الأردنيون إذا لم تفهموا جيدا أن جوهر حراكِكم ومشروعُ ثورتكم، يرتكز إلى إسقاطِ ثقافةٍ تأسَّس عليها النظام الأردني منذ أكثر من تسعين عاما، وتفاقمت أكثر منذ قرابة الخمسين عاما، بكل تداعياتها وتبعاتها ومضاعفاتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، لإنشاء ثقافة جديدة تسود المجتمع الأردني وتهيمن عليه، هي ثقافة "الاستعادة" و"الاسترجاع" و"الانتزاع"، عبر تحويل الأردن من "قبيلة" إلى "دولة"، ومن مزرعة" إلى "وطن"، ومن "مرتعِ فساد" إلى "مؤسسةِ قانون شفافة"، ومن "تابع" إلى "مستقل"، فلن تنجحوا في تحقيق أيِّ خطوة على طريق تحرُّرِكم..
لأن النظام يتقن فن اللعب على حبال تمييع جوهر المعركة، ليحولَها من معركة تهدف إلى ما ذكرناه، إلى "جاهة" و"صلحة" تهدف إلى تحديد "دِيَة" القتيل، كي يرضى أهلُه ويسكتون عن دمه المهدور..