"قد كنت فينا مرجواً قبل هذا"

جدلية الاستقرار والتغيير

أحمد أبورتيمة

لم تكن الأمم والأقوام عبر التاريخ تعادي أنبياءهاوالآمرين بالقسط من الفلاسفة والعلماء والمصلحين بسبب استقامتهم الفردية، ولمتكن مشكلة قريش مع محمد في أنه الصادق الأمين بل كانت تثني على هذه الأخلاق العاليةفيه، كما لم تكن مشكلة قوم شعيب مع نبيهم في صلاته بل في محاولته تغيير أنظمةالمجتمع الاجتماعية الاقتصادية "قالوا أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤناأو أن نفعل في أموالنا ما نشاء" ..

تظل العلاقة هادئةً مسالمةً ما دام صلاح هؤلاءالأنبياء لأنفسهم حتى إذا اقتربوا من أصنام المجتمع ومقدساته وتحول إيمانهم إلىثورة تنسف مألوفات المجتمع "ما كان يعبد آباؤهم" وتسعى لإقامة مجتمعجديد كان العداء والمحاربة.

لا تمانع المجتمعات في وجود المبدعين والمثقفينوالمتعلمين، فهؤلاء يضفون نكهةً توحي بالتقدم والحضارة، لكن المجتمعاتوالحضارات في ظل صراع البقاء الذي تخوضه تعادي كل فكرة جديدة تخالف الأنماطالسائدة، فوجود المثقف والمبدع والمتعلم مرحب به لكن بشرط واحد أن تكون وظيفتهتعزيز الأوضاع القائمة وإضفاء الشرعية عليها وليس الانقلاب على هذه الأوضاع.. أيأن يكون مثقفاً مدجناً تحتويه قوالب المجتمع وتشذبه وتهذبه في إطارها فلا يغردخارج السرب ولا يخرج عن الخط العام.

بوسع المثقف أن يحتفظ بصفة مثقف وأن يتوسع كمايشاء في العلم والإيمان، وأن يرفع ذكره ويحصد الجوائز العالمية، بل إن السلطاتالحاكمة ذاتها تقيم مهرجانات تكريم لهؤلاء المثقفين وتمنحهم العطايا والوظائفوالمناصب، وتنشئ مراكز لرعاية إبداعهم، ولا مشكلة لدى حاكم لا يؤمن بالله ولاباليوم الآخر في أن يكرم حفظة القرآن في ليلة القدر، وأن يهتم بعلوم التجويد والقراءات، وأن يحييالمناسبات الدينية أو يصلي الجمعة والعيدين، لكن يجب ألا يغيب عن المثقف-تجنباًللتكرار فإنني سأقصد بالمثقف كذلك كل مبدع أو داعية- أنه صاحب دور وظيفي، فهو جزءمن النظام القائم وليس بديلاً عنه، ودوره أن يجمل صورة النظام وأن يمنحه شرعيةًأخلاقيةًً، وليس من مهامه أن يطرح أفكاراً انقلابيةً في المجتمع تخالف ما وجدواعليه آباءهم من قبل فهنا يكون الصدام..

ليس بالضرورة أن يطلب الحاكم من المثقف أن يعملضد قناعاته وأن يكذب في سبيل تبرير الأوضاع القائمة، فهناك كثير من المثقفين المخلصينالذين يصعب تطويعهم إلى درجة أن يبيعوا نفوسهم ويتناقضوا مع ضمائرهم، لكنالحاكم يرضى من هؤلاء أن يقننوا صدقهمويهذبوه حتى لا يبلغ درجة التمرد والثورة.

بوسع هؤلاء المثقفين أن يحافظوا على مبادئهم فيقوالب محددة وأن يوجهوا طاقاتهم في اتجاهات غير ثورية لا تهدد وجود النظام، فإذاكان هذا المثقف متخصصاً في العلوم الطبيعية فإن بإمكانه أن يدرس في أفضل الجامعاتالعالمية وأن ينال أعلى الرتب العلمية وأن ينجز مئات الأبحاث الإبداعية، وبإمكانهأن يلتحق بوكالة ناسا للفضاء وأن يسافر إلى القمر، وبإمكانه كذلك أن ينشئ مراكزعلمية للبحث في علوم النبات أو الحيوان أو الجماد. المهم أن يظل معتكفاً في مختبرهوإذا خرج من هذا المختبر فإن عليه أن يجامل الناس وأن يثني على دور المجتمع فيصناعة الإبداع ورعاية المبدعين، وأن يطرب آذان العامة بما تهواه نفوسهم من الثناءعلى قيمهم وثقافتهم وطريقتهم المثلى، وعليه أن يتجنب القيام بأي دور في التحريضعلى ما ألفى عليه المجتمع آباءه.

وإذا كان المثقف ذا اهتمامات سياسية فبوسعهأن يشتم إسرائيل وأمريكا آناء الليل وأطراف النهار، وأن يلعن أوروبا وروسيا والصينفي كل وقت وحين، بل إن بوسعه أن ينفجر غاضباً من تردي الأوضاع العربية ومهانةالأمة الإسلامية وتخلفها عن ركب الحضارة والتقدم، ولا بأس ما دام ذلك في إطارالعموميات، المهم ألا يقترب من الانتقاد الصريح المؤثر المهدد لوجود النظام القائمفي بلاده..

أما إذا كان المثقف صاحب توجه دعوي فله أن يفرغ طاقته الإيمانية عن طريق التخصص في علوم القراءات والتجويد، فليس من مشكلة لدىالنظام في أن يصبح الشعب كله مجوداً للقرآن، وبإمكانه كذلك أن ينشئ جمعيات لمساعدةالفقراء واليتامى، أو لمساعدة المنكوبين في بورما والصومال، وبإمكانه أن ينشئمؤسسات للاهتمام بالكتاب الإسلامي، أو لدراسةتاريخ الفتوحات والأمجاد الإسلامية، وبإمكانه أن ينشئ مؤسسات متخصصةً لدراسة"الإعجاز العلمي في القرآن والسنة"، وبإمكانه أن يجند جيوشاً من الدعاةويبتعثهم لبلاد غير المسلمين من أجل نشر الإسلام..

كل أوجه النشاط هذه مع تقديرنا لها ومع توفر الإخلاص في نفوسالقائمين عليها إلا أنها تمثل انسجاماً مع الأنظمة الطاغوتية وليس تناقضاً معهافهي من جهة تجمل صورة هذه الأنظمة وتعطيها شرعيةً للبقاء وإذلال البلاد والعباد،وهي من جهة أخرى توجه طاقة المخلصين في اتجاهات غير ثورية فيظل المثقف مدجناً تحت السيطرة..

من الأمثلة النموذجية لإشكالية تدجين المثقف هوطريقة تعاطي فريق من الدعاة مع الثورة السورية، فهؤلاء الوعاظ بحكمنشأتهم الفكرية يحملون عداءًً تاريخياً للشيعة والعلويين، وما حدث هو أن الأنظمةالحاكمة استغلت هذه المشاعر استغلالاً سياسياً، فهذه الأنظمة أيضاًحريصة على الظهور بمظهر العداء للنظام السوري لكن من منطلقات أخرى غير منطلقات هؤلاءالدعاة، وجاءت أحداث الثورة السورية لتمثل فرصةً نموذجيةً للانسجام بين الأنظمةالسياسية وبين المؤسسة الدينية التقليدية، فوجه هؤلاء الدعاة كل طاقاتهم المكبوتةفي اتجاه لعن النظام العلوي الطائفي الكافر، واستثاروا كل معاني النصرةوالأخوة والأمة الواحدة التي طالما آمنوا بها ولم يجدوا سبيلاً لتحقيقها على أرضالواقع في تنظيم حملات إعلامية ومالية لنصرة الشعب السوري، ووصل الأمر بأحدهم أن يستأذن حاكم بلاده في الجهاد في أرض الشام، وهو بهذا الاستئذان يرسخ شرعيةالنظام القائم ويعمق حالة الانسجام بين المثقف والسلطة.

إن هؤلاء الدعاة صادقون في عواطفهم الإيمانية تجاه إخوانهمالسوريين، وهم لا يوفرون جهداً في استحضار كل شواهد القرآن والسنة والتاريخ لتعبئةالناس ضد النظام السوري ومن والاه من الشيعة والشيوعيين، وتعديد مناقب الجهاد وأجرالشهيد، ويذرفون الدموع الغزيرة تأثراً بمصاب إخوانهم وتشوقاً لمشاركتهم في المعركة،لكن قد غاب عن بالهم في غمرة عواطفهم الإيمانية أنها طاقة موجهة بما يخدم الحساباتالسياسية لبعض الأنظمة، وأن دورهم مع الأسف لا يزيد عن أحجار الشطرنج التي يحركهااللاعب كما يشاء دون إرادة لها.

يبرز هنا سؤال وهو أين المشكلة في الانسجام بينالمثقف والسلطة ما دام هذا الانسجام يحقق الهدف، وهل التصادم مطلوب لذاته، وإذاكان التصالح مع النظام يؤدي إلى إصلاح نسبي أو إلى إنشاء جمعيات لإطعام الفقراءورعاية الأيتام، ألا يعود هذا بالخير على المجتمع..هل المطلوب جني العنب أم مقاتلةالناطور؟؟

سؤال وجيه، والمشكلة ليست في تحقيق الأهدافالمشتركة بين المثقف والسلطة، والمثقف لا يتصادم مع السلطة رغبةً في الصدام أوينتقد الأوضاع القائمة حباً في النقد والمعارضة، بل هو إنسان يحب السلام والتعايشويود لو قضى حياته في هدوء وسكينة مع أهله وقومه، لكن هذا الصدام يفرض عليه فرضاًفي بعض الأوقات نتيجة التناقض بين إيمانه وواقعه "كتب عليكم القتال وهو كره لكم".

مرجع الصدام الاضطراري بين المثقف والسلطة هو أنرسالة المثقف في الأساس رسالة إصلاحية للواقع، ولو كان الواقع على ما يرام لما كانهناك مبرر لوجود المثقف أصلاً، لكن كما أن هناك إيجابيات في المجتمع يكون من وظيفةالمثقف أن يبرزها ويعززها "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فإن هناكسلبيات لا يملك المثقف حين يكون صادقاً مع نفسه إلا أن يرفضها ويصدع بمعارضتها،وهنا تأتي ساعة الصدام الحتمية التي يتمايز فيها الصادق من الكاذب، فالمبادئ لاتقبل التجزئة، والمثقف الصادق مع نفسه لا يملك أن يكون انتقائياً فيظهر شجاعته فيمواطن ويجبن في مواطن أخرى، بل إن عليه أن يستمسك بمعيار عالمي موحد للعدل والحق،وكما يهاجم بقوة ممارسات نظام استبدادي آخر فإن عليه أن يتحلى بنفس القدر منالشجاعة ليهاجم نفس الممارسات حين يقوم بها النظام الحاكم في بلاده.

يقولالمفكر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد: "مثلما ندين الأعمالالعدوانية التي يرتكبها الأعداء بغير وجه حق علينا ألا نتردد في إدانة حكوماتناإذا قامت بغزو بلد أضعف"..

إن مقياس الشجاعة ليس في أن تهاجم الآخرين البعيدينالذين لا يملكون إيذاءك، بل في مهاجمة من يمتلك السطوة والسلطة والمال وهو قريبمنك يستطيع أن يؤذيك مادياً ومعنوياً.

تريد السلطات الحاكمة من المثقف أن يكون موظفاً لاصاحب رسالة فيكون دوره منسجماً مع الحسابات السياسية لها فيثني علىإنجازاتها العظيمة، ويلعن المؤامرة التي تحاك ضدها، بينما صدق المثقفيأبى عليه أن يكون مطبلاً لا يخط قلمه سوى عبارات الثناء والتمجيد، فالمثقف هو ثائربالضرورة يحمل في داخله بذور ثورة، ومن كان قلمه دائم الثناء والتمجيد فهو خائنلرسالته ولأمانة العلم التي ائتمنه الله عليها "لتبيننه للناس ولاتكتمونه".

نبقى مع المثقف الرائع إدوارد سعيد الذي يقول :"تستخدم الحكوماتالمثقفين فهي تستدعيهم لا ليقودوا بل ليعززوا سياسة الحكومة ويطلقوا الدعاية ضدالأعداء الرسميين والتعابير اللطيفة.

ويضيف أن وظيفة المثقف هي مقاومة القولبة، وعدم القبولبالمسوغات التي تقدمها السلطات، بل إن المطلوب منه في هذه الأوضاع نزع الأقنعة أوتقديم روايات بديلة يحاول فيها قدر استطاعته أن يقول الحقيقة.

إن مهمة المثقف الحقيقي شاقة بلا شك فهو يجب ألا يقبل بمايقبل به عامة الناس من إجابات سهلة، بل إن عليه أن يدقق في الأطروحاتالسائدة وأن يتحلى بيقظة فكرية وقوة أخلاقية دائمة ليقاوم الروايات الرسميةللسلطات ويتمرد على القوالب الجاهزة للمجتمع غير عابئ بسخط الجماهير أو الحكام علىحد سواء فليس من مهمة المثقف أن يكون باني إجماع أو مهدئاً بل إن عليه أن يكونمثيراً للقلاقل الفكرية في المجتمع "رافضاً للأفكار المبتذلة الجاهزة أو التأكيداتالمتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون وما يفعلونه،ليس فقط على نحو معارض سلبياً بل أن يكون مستعداً لقول ذلك علانيةً وعلى نحو نشط"حسب تعبير إدوارد سعيد..

يستطيع المثقف أن يعيش في راحة وأن يجنب نفسه صداع الرأس،وأن ينال رضا الجماهير والحكام بشرط واحد، أن يتخلى عن رسالته الثورية وعن صدقه معنفسه، وأن يتخذ من علمه سلعةً يشتري بها ثمناً قليلاً من راتب أو منصب أو جاه أوسمعة وثناء حسن، فيسخر هذا العلم في إضفاء الشرعية على الواقع لا في السعي إلاإصلاحه.

أما الآية التي اخترتها عنواناً للمقالة فهي جواب قومثمود على دعوة نبيهم صالح: "يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أننعبد ما يعبد آباؤنا"..هذا الجواب يلخص محنة المجددين عبر التاريخ في مواجهةالأقوام المتمسكة بالأوضاع التقليدية التي وجدوا عليها آباءهم، فهؤلاء المجددون مرحببهم في أقوامهم بشرط أن يتخلوا عن رسالتهمالثورية وأن يحافظوا على استقرار الأوضاع القائمة!!

فهل يختار المثقف الصدق مع نفسه ويتحمل في سبيل ذلك العناء والمشقة، أم يختار مداهنة الناس وإرضاءهم حتى يظل مرجواً فيهم فيخسر الدنيا والآخرة؟؟

"وكفى بالله وكيلاً"..