الاستعبادالخفي

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

أخطر أنواع الاستعباد هو ذلك الاستعباد الخفي الذي تتوهم معه بأنك حر في اختياراتك بينما لا تستطيع أن تختار إلا ما يرسم لك..

هذا النوع من الاستعباد يمارسه الإعلام ضد الجماهير فيعبئهم بمعلوماتصحيحة أو خاطئة بشكل انتقائي وممنهج لصياغة وعيهم في اتجاه محدد بما يخدم سياسات معينة..

هذا الاستعباد أخطر من الاستعباد الواضح المكشوف الذي يحكم فيهالطغاة بالحديد والنار لأنه في الحالة الثانية تكون الشعوب متنبهةً بأن هناك منيصادر حريتها فيكون ذلك مستفزاً ومحرضاً لها على الثورة أما في الحالة الأولى فتتوهمالشعوب أنها تملك الحرية الكاملة في اتخاذ قراراتها وهي غير متنبهة لأثر المصادرالتي تستقي منها معلوماتها في تشكيل وعيها في اتجاهات محددة..

كثيراً ما نظن أننا مخيرون بينما نحن مسيرون في مساحات كبيرة..فالطفل ينشأ في بيت أبويه فيشكل أبواه مصدر وعيه الأول فيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ويشربانه قيمهم وسلوكياتهم، فينشأ كما عوده أبوه يوالي من والاه ويعادي من عاداه وهو يظن أنه حر فيقراراته وأنه اتخذها بمحض إرادته ولو خلا مع نفسه في ساعة صفاء لأدرك أنه يسير فياتجاه حتمي دفعته إليه البيئة التي نشأ فيها ولو قدر له أن ينشأ في بيت تلكالعائلة التي يعاديها أبوه لاتخذ نفس موقفها ولعادى أباه الذي يواليه الآن..

وما ينطبق على حالة الفرد ينطبق على حالة الشعوب فنحن نظن أنالشعب الأمريكي مثلاً ينعم في حرية مطلقة وأن للمواطن حق التفكيروتقرير اختياره دون قيود لكن حقيقة الأمر أن حرية الشعب الأمريكي لها سقف معلوم لا يستطيع تجاوزه، لكن المواطن الأمريكي لا يشعر بأن هناك من يتحكم في إرادته فهوحين يتوجه إلى صندوق الاقتراع ويختار أحد المرشحين الديمقراطي أو الجمهوري لا يدري بأنه مأسور داخل صندوق، وأن الدنيا لا تنتهيعند هذين المرشحين وحدهما بل كان يفترض أن تكون هناك خيارات أوسع، وأن ما يظن أنهقراره الذاتي الحر ما هو إلا نتاج الضخ الإعلامي المتواصل ليلاً ونهاراً منماكينات الإعلام الضخمة التي تصب في عقله الباطن وتسرب إلى لا شعوره ما تريده منمعلومات منتقاة وتخفي عنه ما لا يتناسب مع أجندتها، إنه في حقيقة الأمر يفكر تبعاًلما تمليه عليه السي إن إن أو الفوكس نيوز، ومقتضى الحرية هو أن يخرج من الصندوقوأن يستكشف آفاقاً جديدةً وأن يسير في الأرض ليرى الحقائق التي لا تعرضها هذهالوسائل الإعلامية الضخمة التي تقوم بدور سحرة فرعون: "وسحرواأعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم..

يتشكل وعينا وفق المصادر التي ننهل من معينها، والعكوف علىمصدر واحد أو مصادر متعددة ذات اتجاه واحد أو تنهل من نفس المعين الثقافي يبقينافي أسر الجبرية وإن توهمنا أننا أحرار، ومن أراد أن يتحرر حريةً حقيقيةً فإن عليهأن يخرج من الصندوق وأن يسير في الأرض فيرى المسائل من زوايا جديدة ويستشرف آفاقاًأوسع..

في عالمنا العربي نضرب مثالاً قناة الجزيرة، فهذه الآلةالدعائية الضخمة تمارس توجيهاً لوعي الجماهير في الاتجاه الذي يخدم الخط السياسي للجهةالممولة فكثيراً ما نفكرونقرر ونرتب أولوياتنا كما ترسم لنا قناة الجزيرة، مثلاً هي التي قررت إثارة قضية مقتل عرفات في الوقت الذي رأته، فلم يسعنا إلا أن نتلقاه تلقياً سلبياً ونسارع إلى إصدار ردود الفعل ظانين أننا نفعل ذلك بخالص حريتنا بينما حقيقة الأمر أننا لم نخرج قيد أنملة عن الخط الذي رسمته الحسابات السياسية لقناة الجزيرة.

إن تركيز هذه الآلة الدعائيةالضخمة على موضوع محدد وتعمد إثارته وتضخيمه يشعرنا بأهميته ويضعه في دائرة أولوياتنا ونحن نظن أننا أحرار في اختيارنا ولكن لو لم يثره الإعلام لما تنبهنا له..

ناقشت ذات مرة شباناً مصريين فوجدت نظرتهم سوداويةً تجاه الحركةالإسلامية ويخشون من وصولها إلى الحكم-قبل فوزها- مع أنهم لم يقابلوا في حياتهم ولو عنصراً واحداً من الحركة الإسلامية ولم يقرءوا أفكارها، ففطنت إلى المصدر الذي استقى منه هؤلاء نظرتهم السلبية وهوالقنوات المصرية الرسمية أو شبه المستقلة التي لا يشاهدون غيرها، فقلت لهم: معكم حق في أن يكون هذا هوانطباعكم، وأنتم لم تختاروا هذه القناعات بل اختيرت لكم وأمليت عليكم.أنتم تظنون أنكم أحرار في تفكيركمبينما لا تفكرون إلا وفق ما يريده الإعلام المصري،فهذا التفكير تفكيرهم ولكنهم سحروا أعينكم وزيفوا قناعاتكم حتى ظننتم أنكم تفكرون بخالص حريتكم.

إن هذا النوع من تزييف الوعي خبيث لأنه يخدع الجمهور فيغرسفيه أن هذه هي قناعاته الذاتية التي يجب أن يتحمس لها ويدافع عنها وربما يموت من أجلها، بينما قد حولالجماهير إلا أبواق تردد ما يريده منها..

ليست الحرية في أن تتخلص الشعوب من الأنظمة التي تحكمهابالحديد والنار وحسب، بل من مقتضيات الحرية كذلك أن تتخلص من سحر فرعون المتمثل في الآلة الدعائية الضخمة التي تواصل حشو دماغ الإنسان ليلاً ونهاراً دون أن تسمح له بساعة صفاء يخلو فيها مع نفسه ليتخذ قراره بإرادته الخالصة.

إن من مقتضيات الحرية أن تتاح أمام الشعوب فرص متساوية للاستماع إلى مختلف الألوان والاتجاهات، ونصيحتي للأفراد حتىيكونوا مستقلين في تفكيرهم أن يعددوا مصادر معلوماتهم، وألا يرتهنوا إلى مصدر واحدمهما كانت مصداقيته حتى لا يقعوا في أسره فتصادر حريتهم وهم لا يشعرون.

والله أعلم..