هل الفكرالديني يعطل العقل؟؟

أحمد أبورتيمة

أيهما أفضل للمثقف: أن يكون مؤمناً بعقيدة دينية، أم أن يفكارتباطه من كافة المرجعيات والأيديولوجيات والقوالب؟؟

هل الفكر الديني يعطل العقل؟؟

نعم حين يتحول الفكر الديني إلى إيديولوجيا تسجن صاحبها فيصندوق من الرؤى والمعتقدات الجامدةوتطالبه بالتسليم الأعمى وتحرم عليه السؤال والنقاش، حينها تصبح هذه الإيديولوجياعبئاً ثقيلاً تحجب صاحبها عن فضاء التفكير الواسع وتشده بأغلال محكمة من التقليدوالاتباع الأعمى وتلغي عقله..

لكن مفهوم "الإيديولوجيا" لا يستقيم مع المعنىالصحيح للدين وهي ليست من شأن الدين الصحيح لأن الإيمان حالة حركية بينما الإيديولوجياهي الجمود..

الدين يقوم على أساس الإيمان بقيم روحية، فعماد الدين هو أنتؤمن بالله واليوم الآخر، والإنسان لا يستطيع إلا أن يؤمن بقيمة مطلقة عليا، حتىالملحد الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر تجده يؤمن بقيم مطلقة مثل الحق والعدلوالإنسانية، ولا يستطيع أحد أن يعتبر هذه القيم المطلقة قوالب تحد حرية التفكير،وكما أن الملحد لا يرى في الإيمان بمبادئ عليا تناقضاً مع حريته الفكرية بل دافعاًلهذه الحرية، فإن الإيمان برب أعلى مطلق القدرة والإحاطة لا يتناقض مع تحررالإنسان من القوالب التي تحد من حرية تفكيره..

أتفق مع الرأي القائل بضرورة تمرد المثقف على كل القوالبوالأيديولوجيات وأن تظل حاسته النقدية يقظةً دائماً فلا يهاب طرح الأسئلة الحرجةولا يعترف بالمناطق المحرمة ولا يتردد في نسف المسلمات الخاطئة ولا يعترف إلابمقياس وحيد لقبول الأفكار أو ردها وهو مقياس الحجة والبرهان "قل هاتوابرهانكم إن كنتم صادقين"..

الإيمان لا يعطل حرية التفكير لأنه قائم أصلاً على أساس هذهالحرية، والإيمان لا يصح إلا إذا كان نتاج تفكر حر، فالإكراه لا يصنع إيماناً"لا إكراه في الدين"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"،والتدين المتوارث عن الآباء هو أقرب إلى العادات والتقاليد الاجتماعية منه إلىالإيمان.

في القرآن مئات الآيات التي تحث على التفكر والتدبر بل تجعلهفريضةً، وإذا كان شرط استقلال المثقف أن ينسحب من ضجيج المجتمع وألا ينجرف معالتيار فإن القرآن يدعو مكذبيه إلى التحرر من ضغط المجتمع، والتفكر مثنى وفرادىحتى تكون لهم شخصيتهم المستقلة في اتخاذ القرار: "قل إنما أعظكم بواحدة أنتقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"..

والقرآن يذم ثقافة القطيع فيحمل في أكثر من أربعين آية علىأصحاب التفكير الآبائي الذين يؤجرون عقولهم للثقافة المتوارثة: "إنا وجدناآباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".

القرآن يرسخ لمنهج المحاججة العقلية حتى في القضايا الكبرى،فحين تطرح شبهات تتعلق بوحدانية الله وربوبيته فإن القرآن يرد عليها بالحجةوالبرهان ولا يقول للناس: إن مناقشة هذه الأمور كفر وما عليكم سوى السمع والطاعة،بل يطالبهم بأن يأتوا بما عندهم من أدلة عقلية "هل عندكم من علم فتخرجوهلنا"، "قل هاتوا برهانكم"، وحين يتحدث عن حساب المشركين فإنه يربطبين هذا الحساب وبين عدم إتيانهم ببرهان مع أن موقفهم بالإشراك مع الله أسخف من أنيكون هناك برهان يعضده لكنه التأكيد على مبدأ المناقشة الفكرية: "ومن يدع معالله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون".فإذا كان القرآن يفتح الباب للمناقشة العقلية في القضايا الكبرى فمن باب أولى ألايضيق بطرح الأسئلة وإثارة النقاش فيما دون ذلك من قضايا، ومن يؤسس إيمانه علىالدليل والبرهان والوضوح العقلي فإن هذا الوضوح العقلي سيغدو منهجاً عاماً يلونحياته ولن يقبل بعد ذلك بالأفكار الشائعة دون تدقيق وتمحيص وسؤال عن البرهان.

لا أدافع عن واقع المسلمين فنحن لا نشجع حرية التفكير ولانرحب بطرح الأسئلة، لكنه خلل في الثقافة وغياب لمعنى التجديد الديني، وليستالمشكلة في الدين..

ليست القضية في أن الإيمان لا يعطل التساؤل وحرية التفكيروحسب، إذاً لاستوى أن يكون المرء مؤمناً أو ملحداً، وربما لكان خيار الإلحاد أفضللأنه آكد على التحرر من القوالب والقيود..

لكن الإيمان لا يكتفي بالسماح بالتفكير، بل إنه أفضل الطرقلضمان التحرر والاستقلال وولادة المفكر الحقيقي..

كلمة "لا إله إلا الله" التي هي أساس الدين فيعمقها تعني التجديد الدائب، والحذر من الجمود على أي هيئة أو حالة لأن الجمود هوالصنمية..

مهما بلغت من مكانة مرتفعة أو ثناء بين الناس أو تحقيق انتصار، أو درجةمن العلم فإن ارتباطك بمعنى مطلق يحول بينك وبين الركون إلى هذه الحالة والرضا بهاويبقي قلبك متوجهاً نحو الغاية الكبرى التي لم تصلها بعد، وبذلك يظل الإنسان فيحالة دائبة من السعي والكدح "ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاًفملاقيه"، "لتركبن طبقاً عن طبق"، "يا أيها الذين آمنواآمنوا".. لا يعرف الاستقرار إليه سبيلاً في هذه الدنيا، مثله كمثل العائم فوقسطح الماء يقاوم التيار دون أن تستقر قدماه على الأرض، ومن عاش بهذه النفسية سيظل محافظاً على حالة اليقظة العقلية والحاسة النقدية، ولن تغريه مغريات الدنيابخيانة رسالته الإنسانية في الصدع بكلمة الحق والتصدي للسلطة الجائرة..

الإيمان ب"لا إله إلا الله" في معناها الحي المتجددوليس كإيديولوجيا جامدة هو الذي يصنع المفكر الحقيقي لأن قلبه سيظل معلقاً بالمطلقوسيمنحه هذا الإيمان القدرة على تجاوز أي مستوى يبلغه والتطلع لما بعده، وبذلكيواصل السير الحثيث نحو غاية وجوده محاذراً أن يقع في عبادة الأصنام، وكل توقف عندهيئة نفسية أو اجتماعية أو ثقافية هو مثال على الصنمية..



الإيمان بالله واليوم الآخر يوجد لدى صاحبه اليقظةالعقلية الدائمة ويمده قبل ذلك بالطاقة الروحية اللازمة لتحمل التضحية في سبيلالأفكار التي يؤمن بها، إذ ما الذي يجبر إنساناً على تحمل المصاعب التي تسببهامخالفة تيار المجتمع والصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، وترك حياة الدعةوالراحة لو لم تكن هناك قيم عليا يؤمن بهاتهون عليه هذه المصاعب..

ما الذي يجبر الإنسان على السباحة ضد التيار وعلى تحمل قدرهائل من الأذى والمعاناة وعلى حرمان نفسه من الراحة والاستقرار..ما الذي يجبرالمثقف على حياة المنفى التي يتحدث عنها المفكر الراحل إدوارد سعيدوالتي تعنى أن يظل المثقف طوال حياته كالعائم فوق الماء لا يعرف الاستقرار في بلدما أو وظيفة ما أو جماعة ما..

إنها حالة رائعة ولكنها تبدو خياليةً إذا تناولنا الإنسانمعزولاً عن أبعاد أخرى تتجاوز ماديته الملتصقة بالطين المجبولة على حب الدعةوالراحة والشهوات..

إن بقاء حالة اليقظة العقلية النقدية لدى المثقف يحتاج لطاقةروحية تنشطها إذا فترت وتعين صاحبها على الصمود أمام تيار المغريات الجارف.

يفسر معارضو الفكر الديني استعداد الإنسان للتضحية والبذلعلى حساب راحته واستقراره بإيمانه بقيم العدالة والحق والإنسانية..

حسناً..إذاً هناك قيم مطلقة يناضل الإنسان في سبيلها وهذهالقيم لا تنتمي إلى عالم المادة والأشياء، فلا بد من وجود بعد آخر نستطيع من خلالهتفسير استعداد الإنسان للتضحية بل والموت في سبيل هذه القيم وهذا هو البعدالروحي..

نحن نفسر هذا المطلق بشكل أكثر تحديداً من خلال الإيمانبالله واليوم الآخر، بينما يسميه آخرون إيماناًَ بالعدل والحق..واللافت أن منأسماء الله الحق والعدل، فالقيم المطلقة التي يتحدثون عنها لتفسير استعداد المثقفللبذل وحرمان نفسه من الملذات هي في جوهرها أبعاد روحية..

هذا التحديد الذي يتسم به الفكر الديني ضروري لتقديم تصورمتكامل يحقق التوافق والانسجام ويجنبنا الشعور بالتناقض والعبثية، فالحديث عن قيمالحق والعدالة والإنسانية حين ننزعها عن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفيلتحقيق التوافق والتكامل، لأن الإنسان ربما يحب الحق والعدل والإنسانية ويناضل فيسبيل هذه القيم، ولكن في ظل غياب تصور متكامل يربط هذه القيم بقدرة عليا تنصرها وتقدرالعاقبة لها فإنه يصاب باليأس والإحباط وتتأثر دافعيته للتضحية لأنه ليس متأكداًوهو يناضل في سبيل الحق أن هذا الحق سينتصر حتماً في نهاية المطاف، ولن يكونمتأكداً بأن مجريات التاريخ تجري وفق خطة حكيمة، فظاهرها يوحي بالعبثية إذ تجدظالماً طغى وتجبر ومع ذلك يتمتع بالملذات ويبات آمناً من الحساب والعقاب، وفيالمقابل تجد مظلوماً عاش ومات بقهره دون أن يسترد حقه..

إن هذا التناقض الظاهري يصيب الإنسان بالإحباط ما لم يكنهناك إيمان بإله حكيم وباليوم الآخر ينقذه، وحين يرى المثقف كل هذا القدر من التناقضالذي تتصف به الحياة فإن دافعيته في النضال في سبيل الحق والعدل ستتأثر إذ ما الذييجبره على التضحية في سبيل مبدأ ليس متأكداً أنه سينتصر وأن العاقبة ستكون له فينهاية المطاف..

التصور المتكامل يقتضي بأن تكون هناك قدرة عليا مطلقة وحكيمةوعليمة تدعم هذا الحق والعدل وتسير أحداث التاريخ في اتجاه محدد بما يخدم الحقوينصره..

لا شيء يمنح الإنسان قوةً لمواجهة قوالب المجتمع وأصنامه مثلأن يستمد العون من إله مطلق أعلى قوي قادر محيط عليم حق عدل، ولا شيء يعزي الإنسانعن فقدان راحته واستقراره في هذه الدنيا أكثر من إيمانه بدار آخرة فيها السعادةالمطلقة والخلود الأبدي، أما من يؤمن بأن هذه الدنيا هي نهاية المطاف وأن كل شيءينتهي بمجرد مواراة الإنسان في التراب فسيكون لإيمانه بالمبادئ حدوداً وقد يخذلههذا الإيمان حين يخضع الأمر لموازانات المصلحة فيرى أن تنعمه في هذه الحياةالقصيرة خير له من حياة التعب والعناء في سبيل الآخرين الذين لن ينفعوه شيئاً بعدأن يموت..

إن إضافة البعد الروحي يبدو ضرورياً ليكون لنضالنا في سبيلالعدالة معنى..

يلجأ معارضو التفكير الديني للخروج من التناقض بتعليل تحملالمثقف للأعباء التي يسببها له الإيمان بمبدئه وحرمان نفسه من المكافآت الماديةبأن حياة المبادئ على صعوبتها تحمل مكافآت وامتيازات

، من هذه المكافآت ما أسماه إدوارد سعيد (فرح الاندهاش)،وعدم قبول أي شيء كبديهي، وتعلم البديل المؤقت في ظروف عدم الاستقرار المتزعزعالتي تربك معظم الناس..

إذاً الهدية التي يجنيها المثقف المناضل هي تحقيقه لفرحالاندهاش وشعوره بالسعادة النابع من قدرته على الطمأنينة مع عالم مضطرب..

هذه السعادة هي في جوهرها سعادة روحية-أي أنها تنتمي لبعدآخر غير البعد المادي- هذه الفرحة الروحية تؤكد الإيمان بالله واليوم الآخر ولاتحل بديلاً عنه لأنها البرهان على وجود عالم آخر يتجاوز عالمنا المادي المحدود..

إن وجود المفكر الحر حريةً حقيقيةً كاملةً خارج دائرةالإيمان بالله واليوم الآخر هو ضرب من الوهم، فهو يخرج من قيود الدين، ولكنه يدخلفي أسر قيود أكثر إحكاماً وهي قيود نفسه بارتكاساتها وإشراطاتها، وهذه الارتكاساتالنفسية تشكل عائقاً خطيراً أمام أداء رسالته الأخلاقية، فهو كثيراً ما يتعرضلجاذبية هذه النفس وأهوائها وانفعالاتها وعقدها، بينما الإيمان هو الذي يطلق النفسمن عقالها ويحررها من إصرها وأغلالها فيشعر صاحبها بخفة روحه وهي تحلق في السماءفيمنحه ذلك قدرةً مضاعفةً على العطاء والبذل في سبيل مبدئه الذي يؤمن به..



خلاصة القول أن الفكر الديني معطل للعقل ومدمر إذا تحول إلىإيديولوجيا تضع أتباعها في قوالب محكمة الإغلاق وتقدم لهم حلولاً جاهزةً لا تقبلالمراجعة والنقد، لكن حين يقوم الدين بدوره الصحيح في منح صاحبه قوةً روحيةًواتصالاً بالمطلق ويشجعه على التفكر والتدبر فإن الإيمان يكون هنا ضرورياً ولا غنىعنه لتحمل القدر الهائل من الابتلاءات والمحن التي تعترض طريق المفكر في أداءرسالته..

والحمد لله رب العالمين..