الدلالة الاجتماعية لتسليم الخاصة
الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
وأخرج أحمد في المسند عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام تسلموا".
وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
وروى مالك في الموطأ عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن الطفيل بن أبي بن كعب أخبره: "أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق. قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل فجئت عبد الله بن عمر يوما فاستتبعني إلى السوق، فقلت له وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق، قال وأقول اجلس بنا ها هنا نتحدث، قال فقال لي عبد الله بن عمر يا أبا بطن، وكان الطفيل ذا بطن، إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا".
وأخرج أحمد في مسنده والطبراني في الكبير: عن الأسود بن يزيد قال: "أقيمت الصلاة في المسجد فجئنا نمشي مع عبد الله بن مسعود، فلما ركع الناس ركع عبد الله وركعنا معه ونحن نمشي، فمر رجل بين يديه فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فقال عبد الله وهو راكع: صدق الله ورسوله، فلما انصرف سأله بعض القوم: لم قلت حين سلم عليك الرجل صدق الله ورسوله؟ قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة". وفي رواية أخرى للطبراني في الكبير: عن علقمة قال: لقي عبد الله بن مسعود أعرابي ونحن معه فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فضحك فقال: صدق الله ورسوله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى يكون السلام على المعرفة...".
وفي رواية أخرى لأحمد في المسند والحاكم في المستدرك: عن طارق بن شهاب قال: "كنا عند عبد الله جلوسا فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة، فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعا في مقدم المسجد، فكبّر وركع وركعنا، ثم مشينا، وصنعنا مثل الذي صنع، فمر رجل يسرع، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق الله ورسوله، فلما صلينا ورجعنا دخل إلى أهله، جلسنا، فقال بعضنا لبعض أما سمعتم ردّه على الرجل: صدق الله وبلّغت رسله؟ أيكم يسأله؟ فقال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج، فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة...".
حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتضمّن للأمر على سبيل الندب بإفشاء السلام، هو عبارة عن محدّد لقاعدة سلوكية اجتماعية أي متعلّقة بالعلاقات بين الناس في مجتمع واحد. تقوم هذه القاعدة على أمر بفعل إلقاء التحية الإسلامية مع بيان للحكمة من ذلك.
الأمر بالفعل هو: "أفشوا السلام"، فيفيد طلب بذل السلام للكل. وقد جاء التعبير هنا بالإفشاء للدلالة على الانتشار والكثرة. فالمطلوب أن ينتشر السلام بين المسلمين ويكثر. ويتأكد لنا هذا المفهوم من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: "وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
وأما الحكمة، وهي الغاية من التشريع أي الهدف الذي يهدف إلى تحقيقه الشارع من طلب إفشاء السلام، فهي المحبة والسلام. وكأن الشارع يقول لنا: إنّ إفشاء السلام يوجد المحبة بينكم ويرسّخها، وإذا وجدت المحبّة بينكم وترسّخت أنتجت سلما. فإذ فشا السلام أي إلقاء التحية الإسلامية وهي قولك: السلام عليكم، فشا تبعا له السلام أي الأمان والرحمة والأخوة والمحبة وغير ذلك مما يمكن إدراجه تحت مسمى السلام من معان إيجابية.
ولاحظ هنا، أن الشارع قد احتاط لردّ الفعل العكسي، بمعنى أن إفشاء السلام شرع لينتج علاقة إيجابية في المجتمع، فلا يجب أن ينتج علاقة سلبية، ولذلك كان ابتداء السلام مندوبا وردّه فرضا. قال تعالى: {وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيُّواْ بِأحسن مِنْها أوْ رُدُّوها إِنّ اللّه كان على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبًا}.
والمراد بالمفهوم السلبي هنا أثر عدم ردّ السلام على الفرد والجماعة. فالفرد يتأثر بعدم الردّ فيكون ذلك مدعاة للكره والقطيعة، وإذا فشا هذا بين الناس، فشا الكره في المجتمع، فيتحقّق عكس مقصد الشارع من طلب إفشاء السلام.
والمعنى الإيجابي لإفشاء السلام أدركه عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لذلك كان يتقصد تحقيقه من خلال جولة يومية في أسواق المدينة كما في الرواية المنقولة عن الموطأ لمالك. وعندما تعجّب صاحبه الطفيل من فعله هذا قال له بكل بساطة: "إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا". وبالطبع فخلف هذه البساطة والتلقائية في الفعل التي كان عليها الصحابة، تتخفى عبقرية في الفهم واستنارة في الإدراك. وخلف هذه البساطة والتلقائية في الفعل، تتخفى إرادة صلبة وعزيمة حادة صغّرت في أعينهم العظائم.
ومقابل هذا النموذج التطبيقي المثالي الذي لمسناه في السلوك الاجتماعي لعبد الله بن عمر، نجد في قصة عبد الله بن مسعود مع الرجل الذي ألقى عليه التحية نموذجا مختلفا للسلوك الاجتماعي. فالرجل ألقى التحيّة على ابن مسعود متجاهلا من كان معه، فقال: "السلام عليك يا أبا عبد الرحمن".
ولاحظ هنا كيف تعامل ابن مسعود مع هذا السلوك؛ فقد ربطه مباشرة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة" أي ربط هذا الفعل مباشرة بقاعدته الفكرية أي عقيدته، فأعطانا رضي الله عنه وأرضاه نموذجا للعقلية الإسلامية النيرة المتميّزة.
والسؤال الآن: لماذا كان تسليم الخاصة من أشراط الساعة أو من الدلالات السلبية؟
والجواب هو: لأن التسليم كمظهر اجتماعي يدل على رؤية لعلاقة الفرد بالجماعة.
فبالنسبة للمبدأ الرأسمالي فهو يتصوّر المجتمع كذرّات متنافرة، يتكوّن من أفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته الخاصة؛ لذلك فهو ينظر إليه من زاوية فردية بحتة، ويخصّ نظرته بالفرد وحرياته الثابتة له، ويعتبر وظيفة المجتمع محصورة في حماية مصالح الفرد واحتياجاته، وفي ضمان حقوقه وحرياته العقدية منها، والسياسية والشخصية والاقتصادية وغير ذلك. ولذا، فإن الفرد في المجتمع الغربي ينكفئ على ذاته، فيعيش في دائرة ضيقة، ولا يعنيه ربط العلاقات مع غيره من الأفراد. ومن المظاهر الاجتماعية الدالة على هذا التصوّر: أنّ الجار لا يعرف جاره، وأن الأفراح تحضرها قلة، وأنّ الجنائز تشيعها قلة، وأن الفرد لا يسلم إلا على من يعرف ضمن الدائرة الضيقة التي يعيش فيها.
وأما الإسلام فهو يرى أنّ الفرد جزء من الجماعة غير منفصل عنها، كاليد جزء من الجسم. ولذلك اعتنى الإسلام بهذا الفرد بوصفه جزءا من جماعة لا ينفصل عنها بحيث تؤدي العناية به إلى المحافظة على الجماعة ككل، واعتنى بالجماعة بوصفها كلا مكونا من أجزاء لا بوصفها ذرات متنافرة لا رابط يربطها ككل. أخرج البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا". وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (متفق عليه). وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا [وشبك بين أصابعه]» (متفق عليه). وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على العلاقة التي يتصوّرها الإسلام بين الناس في المجتمع، فالفرد المسلم جزء من جماعة، والعلاقة بينهم علاقة وطيدة لا تنفصل؛ ولذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجماعة بالجسد، وعبّر عن الفرد بالعضو، وذلك لإبراز مدى الترابط بين أفراد الجماعة.
ولأن الإسلام يتصوّر الفرد كجزء من جماعة، فقد حرص على أن يخرج الفرد من الدائرة الضيقة وهي دائرة الأسرة والعائلة والقبيلة والحي إلى الدائرة الأوسع وهي دائرة الجماعة المسلمة ككل، وحرص أيضا أن يشعر الفرد بهذا الانتماء وأن يعبّر عنه. ومن هنا كان تشريع إفشاء السلام مظهرا من مظاهر الانتماء للجماعة، وعاملا من عوامل التعبير عن هذا الانتماء؛ فإذا تحقّق هذا الإفشاء بالامتثال للأمر النبوي تحقّق القصد منه أي إذا فشا السلام فشا تبعا له السلام، وسادت في المجتمع ككل روح الإخاء والمحبّة المعبّرة عن التوحد الشعوري والفكري للأمة الإسلامية.
وعليه، فإن تسليم الخاصة هو انتكاسة في المجتمع، تدلّ على تفكك الرابطة التي تصوّرها الإسلام لتنظيم علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد. فتسليم الخاصة هو دلالة على التقوقع في دائرة ضيقة، ودلالة على تغلب النزعة الفردية، ودلالة على غياب الوحدة الشعورية والفكرية في الأمة الإسلامية.
فيا أمة الإسلام: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس" (رواه أحمد عن سهل بن سعد الساعدي). وقال: "المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله" (رواه مسلم عن النعمان بن بشير). فمتى نفيق من غفوتنا، لنعود أمة كما كنا: أمة فكرها واحد، وشعورها واحد، ونظامها واحد.
المصدر
http://rwafd.com/vb/t37375.html