الدكتور جيلالي بوبكر
الفكر العربي المعاصر، مدلوله ومصادره
* يمثل الفكر في حياة الإنسان الثقافية والحضارية والتاريخية العامل المحرك الذي يشكل الإنسانية بكل أبعادها في الفرد ويبني المجتمع والدولة والأمة ويحرك التاريخ ويصنع الحضارة، من دون الفكر يبقى الإنسان رهينة لبهيميته لا تشغله إلاّ شهوته وحبيس حاضره في مستوى الحيوانية لا تهمه إلاّ لحظته الراهنة، لكنّه مخلوق مُكرّم بالعقل وقوى أخرى لا تحصى، بها صار على ما هو عليه الآن من رفعة وسؤدد وسيطرة وتحكّم.

* الفكر يصنع الإبداع بشقّيه الكشفي والاختراعي والإبداع قوّة لم تُؤت لغير الإنسان ترتبط بالفكر، تُطوّره وتُجدده باستمرار، والتقدم الذي أحرزه الإنسان في جميع ميادين الحياة عبر العصور وانتهى إلى ما يسمى بالثقافة والحضارة هو نتيجة للتقدم الفكري والعلمي والتقني الناتج عن قدرة الإنسان على الوصول إلى الجديد في النظر والعمل، وذلك هو عين الإبداع وجوهره، ولولا الإبداع ومن وراءه الفكر لبقيت الإنسانية على حالتها البدائية الأولى ولم تعرف الرقي والازدهار الحضاري.

* للفكر كيان فعّال ومنفعل، يتعاطى مع الواقع سلباً وإيجاباً ويعكسه ويندمج فيه أو يقاطعه ويعاديه، كما يتعاطى معه بعمق أو بدون عمق، باندفاع أو بتبصر، بجدّية أو بدون جدّية، يهتم بشكله وصورته أو بمحتواه ومضمونه أو بهما معاً، يعامله بصدق وصراحة أو بنفاق وخداع، يبقى دوره أساسيا في تغيير ظروف الحياة في مختلف جوانبها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، والجانب الفعّال والمنفعل في الفكر هو وراء كل التغيّرات التي تشهدها حياة الإنسان الفردية والجماعية سواء أكانت إيجابية أو سلبية.

* إنّ الفكر ميزة بشرية وجهد إنساني كرّم الله به الإنسان وفضّله على كثير من مخلوقاته، فصار وراء كل ما صنعه الإنسان، سواء في ميدان النظر أو في مجال العمل، والفكر مرتبط بعوامل عديدة، خارجة عن الإنسان وموضوعية وأخرى مرتبطة بذاته، والفكر له كيانه ووجوده المستقل المتعدد والمتنوع في مجالاته و نتاجاته وهو معطى طبيعي بشري يقوم على الحرية والإبداع، فالتعدد والتنوع والتطور في الفكر أمور طبيعية لا تسمح لنا بإخضاع الفكر لمنهج واحد ونمط واحد وفي مجال واحد ووفق إيديولوجية واحدة، فالفكر أوسع عن أن يكون يسارياً فقط أو يمينياً فحسب.

* الفكر يتعدد ويتنوع، يتنوع بتنوع بيئات الشعوب والأقوام والأمم والمجتمعات الجغرافية والسياسية وغيرها، وتنوع الثقافات والحضارات والفلسفات والديانات في هذه البيئات، ويتعدد بتعدد مجالات الحياة التي تتميز بالتنوع والتداخل داخل المجتمع الواحد والبيئة الواحدة والحضارة الواحدة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ودينيا وفلسفيا وعلميا، يتنوع بتنوع الوعي التاريخي والظروف التاريخية التي تعرفها الإنسانية عبر الحقب التاريخية المختلفة التي تمرّ بها جماعاتها، الأمر الذي جعل بحوزة الإنسان أنواعا وأنماطا وأشكالا شتى من التفكير ذات معايير شتى في تصنيفها، يعجز الإنسان عن الإلمام بها جميعا في وقت واحد.

* الفكر العربي الإسلامي نوع من أنواع الفكر التي عرفها تاريخ الإنسانية، له منظوماته وخصوصياته، ارتبط بالوجود العربي وبالوجود الإسلامي وتطوّر عبر العصور متأثرا بسائر التحوّلات التي عرفها الإنسان في حياته، يتحدد بالتراث الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية - المنظومة التأسيسية - وما انبثق عنهما من منظومات فكرية وعلمية وفلسفية منذ القديم حتى الآن، كما يتحدد بالتراث العربي متمثلا في ديوان العرب قبل الإسلام، وفي سائر عناصر الثقافة العربية الفكرية والدينية والأخلاقية والسلوكية، التي جاءت وتطوّرت بعد الإسلام إلى يومنا هذا، ويتحدد كذلك بما أفرزه امتزاج التراث العربي بالتراث الإسلامي بالفكر الإنساني القديم والحديث والمعاصر وبمشكلات وتحدّيات العصر الحاضر وتحوّلاته.

* الفكر العربي الإسلامي المعاصر جزء من الفكر العربي الإسلامي ككل بجميع منظوماته التأسيسية والتجديدية وبما فيه من عناصر ذاتية محلية وأخرى عالمية شمولية عامة، ثوابت أو متغيرات، هو جزء من الفكر الإنساني العالمي العام، يعكس حياة الإنسان بجميع جوانبها في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ويصور المشكلات والهموم والتحوّلات والتحدّيات، كما يعرض الجهود المبذولة والمحاولات القائمة والمواقف والاتجاهات والتوجهات في جميع مستويات الحياة، فلا سبيل للاطلاع على أي مرحلة تاريخية إلاّ بالفكر ومن خلاله.

* نحتاج في هذا البحث إلى التعرض لمدلول الفكر العربي الإسلامي المعاصر، من حيث كونه عربيا ومن حيث كونه إسلاميا ومن حيث هو منظومة فكرية عربية إسلامية فيها العناصر الذاتية المحلية وفيها الكثير من الجوانب الإنسانية المشرقة وغيرها ذات الطابع العالمي الشمولي العام، ونتعرض لتياراته الكبرى التي انبثقت من التواصل بين الموروث والوافد وتأثرت من دون شك بما يجري في العصر من مستجدّات ومتغيّرات في كل مستويات الحياة، ونتعرض لمدارسه الفلسفية المختلفة التي ارتبطت هي الأخرى في نشأتها واستمدادها بالتيارات الفكرية وبالموروث والوافد، ونتعرض للتحدّيات التي تواجهه وتحوّلات العصر، وللآثار والتداعيات والانعكاسات التي خلّفتها تحوّلات العصر وتوجّهاته، ونشير بصفة عامة ومن وجهة بعض المفكرين في العالم العربي والإسلامي إلى السبل الكفيلة بحل المشكلات وتجاوز الصعوبات وتمنع انعكاسات تحوّلات العصر الخطيرة، وتضمن معادلة متوازنة تجمع الحداثة والتحديث والتراث وتسمح للفكر العربي الإسلامي بالتطور والازدهار والإسهام في بناء حضارة عصره دون أن يتخلّى عن خصوصياته.
* تتكون التسمية من أربعة مفاهيم هي الفكر والعربي والإسلامي والمعاصر، أما الفكر فهو قدرة الإنسان على النظر العقلي في الموضوعات وتعقيلها أو تعقّلها، وإنتاج المعرفة وتداولها والاعتماد على العقل في الإصلاح ورسم التقدم وفي تنظيم حياة الفرد وتوجيه حياة المجتمع في جميع مجالاتها، والفكر هو قدرة الإنسان على التأمل والتدبر والتفكّر والتبصر والتعقّل والتنظير وإعمال العقل باستخدام كل فعّاليات الذهن ونشاطاته في الوجود الفردي الذاتي الباطني وفي الوجود الاجتماعي الموضوعي الخارجي وفي الوجود الإنساني العام وفي الوجود الطبيعي الموضوعي وفي الوجود الغيبي الميتافيزيقي، والفكر يختلف من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر من حيث الأسلوب والاهتمامات والغايات والمبادئ والمنطلقات ودرجة الصحة ومعاييرها ودرجة العمق وشروطه ودرجة الوفرة والكفاية ومجالها ومدى الدقة وحدودها، الأمر الذي يدل على أنّ الفكر تتحكّم فيه عدة عوامل متداخلة بعضها ذاتي في الإنسان وبعضها موضوعي، بعضها داخلي وبعضها خارجي اجتماعي وطبيعي وغيره، بعضها قديم وبعضها حديث وآخر معاصر.
* نظرا لاختلاف الأفراد والجماعات والأزمنة في التفكير ونظرا لتعدد موضوعات ومجالات التفكير ونظرا لاتساع المجال الواحد بحيث لا يمكن للتفكير أن يتصدّى له كاملا دراسة وبحثا، وكلما ازداد التفكير تعمقا في تفاصيل وجزئيات مجال ما كلما ازداد المجال المدروس في آفاقه توسعا وتبحرا، الأمر الذي جعل الفكر الإنساني في تطوّره ينتقل من العصور القديمة إلى العصر الحديث والعصر الحاضر من التوجّه الفكري النمطي الموسوعي إلى التوجّه الفكري التخصصي اللاّنمطي، ويعرف كل تخصص من التخصصات اتساعا وعمقا كلما ازداد تقدما في البحث والدراسة، لهذا عرف الإنسان أنواعا شتى من التفكير تتعدد وتختلف باختلاف مصادرها ومحدداتها وموجهاتها، ومن هذه المصادر والمحددات والموجهات تكون جغرافية ولغوية وبيئية ودينية، وهي مصادر ومحددات وموجهات الفكر الذي ارتبط بالجغرافيا العربية وباللغة العربية وبالثقافة العربية وبالسلوكيات والممارسات العربية المختلفة وبديوان العرب وبالديانة الإسلامية والبيئة العربية الإسلامية عامة وتطوّر بالاحتكاك والتواصل والانفعال والتفاعل مع أنماط التفكير الأخرى، ومرّ بظروف ومراحل تاريخية أسهم فيها وأسهمت فيه، حتى وصل إلى العصر الحديث والمعاصر بالصورة التي هو عليها، وفيه التقت عدة أفكار وعدة ثقافات وعدة ديانات وعدة فلسفات، خاصة بالنسبة للجانب الإنساني العالمي فيه، وله من العناصر الذاتية والمحلية ما يتميز به عن غيره، هذه المكونات بقسميها الخاصة والعامة تدل بجلاء على وجود نوع من الفكر هو جزء من رصيد الفكر العالمي الإنساني العام هو الفكر العربي الإسلامي له كيانه وخصوصياته.
* أما الفكر العربي وكونه عربيا فالفكر هنا مرتبط في أساسه باللّغة العربية وبالثقافة العربية وبالعنصر العربي بالدرجة الأولى أي بالعروبة عنصرا ولغة وثقافة وجغرافيا وبكل ما يخص العرب وحياتهم في العصور القديمة وفي العصر الحديث وعصرنا الحاضر، ويشمل الفكر العربي إسهامات العديد من المفكرين الأعاجم التي جاءت باللغة العربية، على أساس أنها لغة القرآن والسنّة أسست لحضارة عربية إسلامية مزدهرة وقوية، وارتبطت قبل ذلك بثقافة عربية قوية تمثلت مظاهرها في فنون أدبية نثرية وشعرية وفي ألوان أخرى من الفكر والثقافة والديانات بعضها عربي صرف وبعضها دخيل بفعل احتكاك العرب بغيرهم من شعوب العالم، عن طريق الأسفار والتجارة والغزوات والحروب وغيرها، ويشمل المعطى الثقافي والفكري والديني والأدبي لدى العرب قبل الإسلام عدة اتجاهات أهمها الديانة اليهودية والديانة المسيحي ومذهب الصابئة ومعطى الثقافة العربية المتمثل في ديوان العرب بالإضافة إلى اللغة العربية والتاريخ والكثير من المعتقدات والأفكار التي استوعبها الإسلام وهذبها وأصبحت من جوهره وروحه.
* فالفكر العربي أي في جانبه العربي يشمل كل ما هو عربي صرف عربي، عربي يهودي، عربي مسيحي عربي صابئي، عربي بمعتقدات وأفكار ومعارف أخرى، ويظم كل ما هو عربي ممزوج بغيره استوعبته الثقافة العربية والبيئة العربية في توافق وانسجام قبل الإسلام، كما يشمل كل ما هو عربي تطوّر وامتزج بالإسلام وتطوّر بعد امتزاجه بالإسلام، وبعد امتزاجه بثقافات وديانات وفلسفات أخرى، بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية واحتكاك العرب والمسلمين واللغة العربية والثقافة العربية بشعوب وأمم غير عربية في مشارق الأرض ومغاربها، عن طريق الفتوحات الإسلامية والتجارة والأسفار العلمية وغيرها، ولعبت حركة الترجمة دورا كبيرا في نقل التراث الفكري والفلسفي والأدبي وغيره إلى العرب والمسلمين، فانكبوا عليه دراسة وفحصا ونقدا وتحصيلا، كما يشمل ما هو عربي تطوّر عبر العصور الإسلامية والعصور الوسطى، خاصة ذلك الذي ارتبط بالبيئة العربية ويحمل خصوصيات عربية، ولما دخل عليه العصر الحديث تفاعل معه في توافق ووئام وانسجام في حين وفي تنافر وتباين واصطدام في حين آخر، حتى جاء العصر الحاضر الذي أصبح فيه الفكر العربي يطلق على أي إنتاج فكري وثقافي للعرب وللغة العربية وللبيئة الثقافية العربية نصيب فيه، في العصور القديمة وفي العصر الحديث وفي عصرنا الحاضر، سواء أكان الإنتاج الفكري والثقافي العربي صرفا في عروبته أو ممزوجا بغيره، والفكر العربي الإسلامي من إنتاج امتزاج الفكر العربي بالإسلام وبالفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام إلى اليوم.
* أما الفكر الإسلامي وكونه إسلاميا لارتباطه بالإسلام عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، ولاتصاله بالثقافة الإسلامية وبحياة المسلمين، وبسائر التطورات التي عرفتها هذه الحياة منذ مجيء الإسلام إلى اليوم، خاصة وأنّ قوّة الإسلام ومناعته وفي المقابل هشاشة المعتقدات والديانات والثقافات الأخرى جعل الإسلام ينتشر بسرعة ويُقبل عليه الناس مجتهدين في تكييف معتقداتهم وثقافتهم وفلسفاتهم مع المعتقدات والتعاليم الإسلامية أو متخلين عنها مندمجين تماما في الحياة الإسلامية، وارتبط الإسلام والفكر الإسلامي باللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم ولغة الديانة الإسلامية ولغة التعبد في هذه الديانة، فاحتضن الإسلام الثقافة العربية التي سبقته بما في ذلك ديوان العرب وقام بإصلاحها بتهذيبها، فأصبحت الثقافة آنذاك مركبة مما هو عربي ومما هو إسلامي، والأمر نفسه ينطبق على الفكر في تلك الحقبة، الفكر الذي ازداد اتساعا وازدادت معه الثقافة غنى وثراء.

* مادام الإسلام يدعو إلى التأمل والتدبر والتفلسف في الوجود والكون والحياة عامة، ويدعو إلى إنتاج الفكر والمعرفة والاجتهاد في ذلك باستمرار، فإنّ هذه الدعوة فتحت كل الآفاق على البحث والدراسة والاطلاع، من طرف المسلمين العرب وغير العرب، الأمر الذي جعل الساحة الفكرية والعلمية والفلسفية والثقافية عامة في العالم العربي والإسلامي تشهد ازدهارا هائلا، خاصة بعد اتصال الثقافة العربية والإسلامية بالثقافات الشرقية القديمة، الثقافة المصرية القديمة والثقافة الفارسية والثقافة الهندية والثقافة الصينية، واتصالها بالفلسفة اليونانية وبالعلم اليوناني، هذه الفلسفة وهذا العلم اللذان يمثلان قمّة التطور الذي عرفه اليونان القديم بعد حكمة الشرق القديم، هذا التطور سنح لبعض المفكرين والفلاسفة في الغرب الأوربي الحديث والمعاصر برفع شعار "الحضارة حكر على الغرب" قديما وحديثا ومعاصرا، وهو موقف يجانب الحقيقة في كافة أوجهها، لأنّ الحضارة لا عنوان لها والتقدم العامي لا وطن له والحكمة ليست حكرا على أحد فالحضارة عرفتها الشعوب الشرقية القديمة، والحكمة الفلسفية والعلمية اضطلع بها اليونان القديم والتقدم العلمي أنتجه المسلمون في حضاراتهم، كما نجد الحضارة في العصر الحديث والعاصر تحوّلت إلى أوربا لما توفرت شروطها، وحصا الأخذ والعطاء بين الحضارات في التاريخ.
* يبقى التواصل العربي الإسلامي بالفكر الإنساني الذي سبقه والذي عاصره على مدى مختلف الحقب التاريخية هو الذي كان وراء ظهور الكثير من الاتجاهات الفكرية والفلسفية والعلوم والفنون والآداب وغيرها، وتبلورت تلك الاتجاهات في شكل أنساق علمية، فظهرت علوم الحكمة أو العلوم العقلية وتمثلت في الفلسفة وعلم الكلام وفرقه وفي علوم التصوف، كما ازدهرت العلوم الطبيعية والتجريبية وتطورت معها الفنون العملية والصناعات المختلفة، وظهر العديد من العلوم الدينية، مثل علوم التفسير وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلوم الحديث وعلم السيرة النبوية وغيره، وفي خضم هذا التقدم العلمي الذي تميّز به الفكر العربي الإسلامي وتميّزت به الحضارة العربية الإسلامية تطورت علوم اللغة العربية تطورا هائلا لاحتوائها ثقافات متنوعة وتعبيرها عن حضارة الإسلام والمسلمين، هذا التطور الذي أسهم في فيه المسلمون من عرب وعجم انتهى باكتمال ظهور فكر جديد تولّد عن امتزاج اللغة العربية والثقافة العربية بالإسلام وبثقافات وديانات وفلسفات أخرى شرقية وغربية، وكانت المعايير في هذا الفكر الجديد هو ما جاء به الإسلام من معتقد وشرعة ونظام، كل منها مُثبّت في القرآن الكرم والسنة النبوية الشريفة، باعتبارها تمثل أصول العقيدة ومصادر التشريع الإسلامي.
* أما الفكر العربي الإسلامي المعاصر وكونه معاصرا فهذا يدل دلالة واضحة على أنّ الفكر متغير ومتطور تاريخيا وباستمرار عبر العصور، فهو مرتبط بالعصر الذي يتواجد فيه وبظروفه، ويتغير بتغير انشغالات واهتمامات ومشكلات العصر، ولما كانت الغاية القصوى في صدر الإسلام التمكين للإسلام على أرض الله ونشر عقائده وتعاليمه والدفاع عنها وشرحها وتوصيلها إلى الناس خاصة لأصحاب الديانات والثقافات والفلسفات الأخرى، كالفرس والروم والإفرنج واليونان وغيرهم كثير، جاء الفكر بطابع عقلي جدالي يقوم على الحوار والمحاجة والجدل ويستخدم الاستدلال العقلي المنطقي في إثبات عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنها، وفي الردّ على الخصوم والمعارضين الذين هم من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه، الطابع العقلي الاستدلالي المنطقي الفلسفي للتفكير في هذه الحقبة التاريخية عكسته الفرق الكلامية والاتجاهات الفلسفية.
* بعد مرحلة استخدام الاستدلال العقلي المنطقي للذود عن الدين وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وظروف فكرية وثقافية مغايرة للتي سبقتها ازدهرت حركة التصوف والمتصوفة، وازدهرت حركة العلم والعلماء والبحث العلمي ومناهجه، وانتهت إلى نتائج علمية متطورة جدّا بالقياس إلى الحركات العلمية السابقة وما تميّزت به في الشرق القديم أو في الحضارة اليونانية، تمثلت هذه النتائج في ظهور عدد من العلوم المزدهرة، فلسفية ودينية مثل علم الكلام وعلوم التصوف وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث وغيرها، وطبيعية تجريبية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضة والفلك وغيره، وإنسانية واجتماعية من التاريخ والعمران البشري وعلم الاجتماع وغيره، بهذا ارتبط الفكر العربي الإسلامي بأوضاع وظروف ومشكلات الإنسان في المجتمع الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى الآن، كما ارتبط بحضارة عربية إسلامية مزدهرة قائمة بذاتها انبثقت من مبادئ وقيّم ومفاهيم الإسلام عقيدة وشريعة في تفاعلها وتواصلها مع الديانات والثقافات والفلسفات والحضارات السابقة.
* لما كان الفكر نشاطا إنسانيا مرتبطا بالظروف التاريخية وحركة بشرية تمليها الأوضاع التي يعيشها الفرد وتعيشها الجماعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا في عصر من العصور، فإنّ الظروف التاريخية والاهتمامات والانشغالات والمشكلات والتحديات والتحولات التي عاشها ويعيشها الإنسان في العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث والمعاصر تختلف تماما عن تلك التي عرفها المجتمع الإسلامي القديم، وهي كثيرة منها الاستعمار، الاستقلال، الإصلاح، النهضة، التخلف، التحرر، الحداثة، ما بعد الحداثة، التجديد، التنوير، القومية، الليبرالية، الاشتراكية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، العلمنة، العلمانية، الأتمتة، والعولمة وغيرها، فالفكر العربي الإسلامي المعاصر يشمل كل البحوث والدراسات والمشاريع الفكرية والفلسفية التي تشتغل ببحث المشكلات والقضايا والانشغالات في العام العربي الإسلامي المعاصر، وهي اهتمامات المجتمع المعاصر بصفة عامة واهتمامات الشعوب المتخلفة ومنها الشعوب العربية الإسلامية، ولكونها شعوبا تراثية فإنّ الفكر لديها مرتبط بالتراث العربي الإسلامي من جهة وبالوافد من جهة أخرى، فهو يخضع لمحددات ثلاثة الموروث والوافد والواقع المعيش، ويتصدى لهذا الفكر عدد من المفكرين والباحثين منتشرين عبر أقطار البلاد العربية والإسلامية، كما يمثله عدد من الاتجاهات الفكرية والدينية، ويستجيب لاهتماماته عدد من المشاريع الفكرية تمثل الموقف الحضاري فيه.
* إنّ أهمّ ما تميّز به الفكر العربي الإسلامي عامة، والفكر العربي المعاصر خاصة ظاهرة التعدد والتتنوع والتركيب، ففيه الموروث المحلي والدخيل، وفيه المعاصر الوافد وغير الوافد، وبين الوافد والموروث يوجد تعدد كبير وتنوع هائل في عناصر ومكونات المنظومة الفكرية في العالم العربي والإسلامي، هذه المنظومة التي تتفاعل بداخلها سائر عناصر المظاهر الثقافية والفكرية والمعرفية فيما بينها من جهة ومع تحولات العصر وتحدياته من جهة أخرى، والتفاعل الداخلي بين عناصر المركب للمنظومة يتم في توافق وانسجام على مرّ العصور واختلاف ظروفها التاريخية وتجدد الأبنية المعرفية والثقافية باستمرار مع تجدد أوضاع الحياة، والذي يدل على مدى التفاعل داخل شبكة المنظومة الفكرية العربية والإسلامية عامة هو ارتباط الفكر في هذه الشبكة بالحياة الثقافية والفكرية والفلسفية والعلمية وغيرها، وبكل ما هو عربي فكرا وممارسة وتاريخا وغيره وبكل ما هو إسلامي عقيدة وشريعة وفكرا وممارسة وتاريخا وغيره، وبكل التحولات والتحديات المعاصرة في العالم بصفة عامة وفي العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وباستجابات هذا الفكر لهذه التحديات وبآفاقه وتطلعاته، وبحكم تركيبه فهو ينطوي على ما هو ثابت وعلى ما هو متغير، فلكونه إسلاميا ففي الدين ما هو هدي إلهي أزلي خالد لا مكان للتجديد فيه، والفكر الإسلامي نتيجة للتفاعل بين المسلمين وأحكام الدين الخالدة، هذا التفاعل الذي يستمر مع أجيال المسلمين التي تضطلع بالتفكير في الإسلام يتأثر ويتكيف وينفعل بالظروف القائمة التي تحيط به، وبمطالب وحاجات الناس وبالوسائل والإمكانيات المتاحة، مما يدل على احتواء الفكر الإسلامي للمتغيرات واستيعابه للجديد وممارسته التجديد في ظل الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي وبيّنته السنة النبوية الشريفة، هذه الثنائية ثنائية الثبات والتغير في الفكر الديني الإسلامي سنة كونية وحكمة إلهية قامت عليها الحياة، والأمر نفسه مع الفكر العربي الذي يتضمن قيّما ثابتة قد تكون مشتركة بينه بين الفكر العالمي العام وقد تكون خاصة به، عرفها ومازالت تحدده ويتحدد بها، وهكذا مع كل أنواع الفكر سواء أكان الفكر مشتركا بين بني الإنسان ولهم عامة أو كان خاصا ببعضهم فهو متعدد المكونات متنوع الروافد فيه الثوابت والمتغيرات، يتّجه نحو الأوضاع التي تميّز عصره يشهد لها أو عليها، يكرسها ويبررها أو يثور في وجهها، يسكّن الواقع أو يحركه، يتميّز بالفعّالية والتأثير أو بالسكون والجمود، يُسهم في تغيير الواقع وتطوير الحياة أو يكتفي بالإتباع والنقل من موروثه أو مما يعاصره.

* ففي حقل التفكير الفلسفي وهو نوع من أنواع التفكير الذي عرف أحوالا متباينة عبر تاريخه الطويل تراوحت بين القوّة والضعف وبين العمق والسطحية وبين الدقة والعفوية وبين الكفاية والقلّة وغيرها، ارتبط هذا النوع في كل مرحلة من مراحل تاريخ الطويل بالظروف التاريخية وبأوضاع الناس المختلفة، ارتبط بعقلية الإنسان وبلغته وبمعتقداته وبنمط عيشه وبثقافته وبالجغرافيا التي يعيش فيها وبكل ما يعانيه وما يعنيه ككائن حي وكإنسان، بالمشترك الوجودي والمشترك الإنساني، بما هو عام في المشترك الإنساني وبما هو خاص داخل المشترك الإنساني، لذا تعددت الفلسفات وتباينت، ومنها الفلسفة التي ارتبطت بالبيئة العربية الإسلامية، وتمثل الفكر الذي انبثق وتشكّل من التوحيد بين ما هو فكري فلسفي وبين ما هو عربي وبين ما هو إسلامي، وتمّ واكتمل نموذجا من نماذج التفكير الفلسفي يطلق عليه التفكير الفلسفي العربي الإسلامي، واستمر هذا الفكر عبر التاريخ يتفاعل وينفعل في داخله وذاتيا كما يتواصل بالتحدي والاستجابة مع الظروف التاريخية التي تمرّ عليه بالتفوّق أو بالإخفاق حتى العصر الحاضر، ففي عصرنا تلتقي الفلسفة بالثقافة العربية وما شهادته من تطورات وبالثقافة الإسلامية وما عرفته من تجديد، وذلك في الجامعات وخارجها، ففلسفة الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة روادها لم يكونوا من ذوي الاختصاص في الفلسفة الإسلامية أو العربية أو ما يُسمى بالفلسفة العربية الإسلامية، فجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومحمد رشيد رضا الذي هو تلميذ محمد عبده وهم الرواد الأوائل للفكر الإصلاحي الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة قدّموا اجتهادات في الفلسفة الإسلامية لم ترق إلى مستوى الأنساق الفلسفية التي عرفها الفكر الفلسفي في الغرب الحديث، ولكنّها استطاعت أن تضع بذور تفكير تميّز ببعده الفلسفي في قراءته للواقع وفي تحليله ونقده له وفي تصوره لمناهج حل المشكلات و التعامل مع الأزمات ومعالجتها، كما أثرت هذه الاجتهادات الفلسفية في الجيل الذي جاء فيما بعد ومن أفراد هذا الجيل مصطفى عبد الرازق الذي يُردّ إليه تأسيس الدراسات الفلسفية المعاصرة في العالم العربي، وكذلك أحمد لطفي السيد الذي يعتبره الكثير فيلسوف الجيل الأول بعد جيل الحركة الإصلاحية بدون مُنازع، وكان لهذا التداخل بين الفلسفة والفكر العربي والفكر الإسلامي أثره البالغ الكبير في الفكر الفلسفي السياسي المعاصر، كما وقع تداخل الفكر الفلسفي والعلمي المرتبط بالتقدم العلمي والتكنولوجي الحديث والمعاصر مع الفكر العربي والعلماني، وأبرز رواد الفكر العلمي العلماني شبلي شميل وفرح أنطوان وسلامة موسى وغيرهم، ولم يكن هؤلاء من داخل الجامعات، التقى فكرهم مع الفكر الفلسفي العلمي من داخل الجامعة، وأبرز رواد الفكر الفلسفي العلمي من داخل الجامعة زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، اتسع مجال الاهتمام بالفلسفة وبقضاياها ومشكلاتها العامة والخاصة بالعصر والمجتمع العربي الإسلامي المعاصر، فلم يعد الاهتمام بالفلسفة يقتصر على المتخصصين في الفلسفة أو في الفروع التي تقاربها وتوازيها بل ساهم في الاهتمام بها أئمة وعلماء وقضاة شرعيون ومصلحون دينيون ومفكرون سياسيون وأدباء وصحفيون وكتاب وأصحاب أقلام، واتسع مجال الفكر الفلسفي ليشمل مجالات واسعة من الفكر الفلسفي العام الذي يظم الفكر الديني والعلمي والسياسي داخل الجامعات وخارجها، واتسع أكثر ليشمل كذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، مثل علوم اللغة واللسانيات وعلم النفس وعلوم التربية والجغرافيا والتاريخ و السياسة والأدب والقانون وغيره، فالفكر العربي الإسلامي المعاصر بهذه الاهتمامات اندمج في العصر وشكّل ساحة فكرية بانت فيها روافده ومصادره وتوجهاته التراثية القومية والإسلامية، والمعاصرة المادية الاشتراكية والليبرالية الغربية.
* إذا ما أردنا تصنيف الأبنية والأنساق الفكرية والثقافية والمعرفية التي تتشكل منها منظومة الفكر العربي الإسلامي منذ القديم إلى يومنا هذا ومن باب الوصف العام، لأن التدقيق والتفصيل في الموضوع يتطلب جهدا معتبرا ودراسة مطولة وبحثا عميقا، لكن هذا لا يمنع من تحديد ووصف هذه الأبنية والأنساق، هذه المنظومة كانت عربية قبل أن تكون إسلامية، تكوّن الفكر فيها بداية وتمهيديا من الثقافة العربية التي هي بحوزة العرب قبل مجيء الإسلام، هذه الثقافة التي تضمّنت أربعة اتجاهات أساسية هي الديانة اليهودية والديانة المسيحية والصابئة ومجمل ما احتواه ديوان العرب من شعر ونثر وحكم وأمثال وأخلاق وغيرها، هذه الثقافة السابقة على الإسلام تحتاج الآن إلى دراسة وتحليل ونقد، لما جاء الإسلام شكّل مجالا واسعا للتفاعل مع البيئة الثقافية والفكرية القائمة، وهو يمثل المنظومة التأسيسية التي تشمل مصادر وأصول الحكمة الإسلامية متمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والعقل والإجماع وبعد ذلك جاءت أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والعلماء، وأصبحت المنظومة التأسيسية مهيمنة على الساحة الفكرية والثقافية، مُعدلة ومطوّرة للأبنية والأنساق الثقافية السابقة وذات تأثير بالغ على الأبنية والأنساق الفكرية التي جاءت بعدها، وارتبطت هذه المنظومة بالعرب تاريخا ولغة وثقافة كما ارتبط العرب بالإسلام اعتقادا وشرعا وديانة وفكرا فحصل الاندماج بين الجانبين في توافق وانسجام، المركب مما هو عربي ومما هو إسلامي دخل في تفاعل وانفعال مع نفسه ومع الثقافات الديانات والفلسفات الأخرى الغربية والشرقية القديمة والمعاصرة له، ارتبطت المنظومة التأسيسية بالعروبة لغة وتاريخا ثقافة وبالديانة اليهودية والديانة المسيحية، وبالثقافات الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية وبالفلسفة الرومانية وبغيرها، وعلى الرغم من أنّ قوام المنظومة التأسيسية ثابت يتمثل في القرآن الكريم إلاّ أنّ ممارسة التدين في الإسلام تتطلب التكيّف مع المتغيرات والمستجدات والتحوّلات التي تعرفها ظروف الحياة، الأمر الذي يقتضي فهم هذه المنظومة فهما عصريا في ضوء التطور الحاصل في الحياة المعاصرة، بالإضافة إلى المنظومة السابقة على الإسلام والمنظومة الإسلامية الخالصة التأسيسية وبعد التفاعل الإسلامي الديني والفكري مع التعدد والتنوع الديني والثقافي والفلسفي والعلمي القديم والذي عاصره وتمّ بأساليب ووسائل عديدة أهمها الفتوحات الإسلامية وحركة الترجمة، نتج فكر تحصيلي تخصيبي يشمل المعرف المزدهرة والعلوم المتطورة وكل ما أنتجه المسلمون وارتبط بالحضارة العربية والإسلامية وساهم فيه كل المسلمين من عرب وعجم وساهمت فيه كل الثقافات والحضارات التي احتك بها أهل الإسلام، وتمثل الإنتاج الفكري في هذه المنظومة كل العلوم الدينية والشرعية وفي العلوم الطبيعية والتجريبية وفي علوم الحكمة، علم الكلام وعلوم التصوف والفلسفة وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية ، التاريخ وعلم العمران وغيره، هذا الإنتاج الذي يحتاج إلى دور نهوضي وعمل يعيد قراءته والاستفادة منه، خاصة بالنسبة للإنتاج الفكري الذي يحتوي على الجوانب الخاصة والذاتية في الثقافة العربية والإسلامية، أما ما هو مشترك وإنساني عام يمكن قراءته في ضوء التحولات الفكرية الجارية في العالم المعاصر ككل، إلى جنب الفكر التحصيلي الفلسفي والشرعي والعلمي يوجد نظام آخر من الفكر داخل المنظومة العامة، هو الفكر التأصيلي ويشمل جميع الرؤى ذات الأبعاد الدينية الشرعية والقواعد والأصول التي يتم الاعتماد عليها في فهم واستيعاب المنظومة التأسيسية، ومن ذلك فهو يتضمن التفكير المنطقي والمنهجي بكل أشكاله، ويمثل الفكر العقلاني الشامل في الفكر العربي الإسلامي، ويحتاج هذا الفكر إلى إعادة قراءة ونظم واستشراف في ضوء انتقاد كل عمليات المراجعة والتحديث المتتالية والمتعاقبة، هو الأمر الذي حدث ومازال يحدث من خلال جهود المراجعة والتحديث الأولى وكذلك مسار جهود النهضة واليقظة والدعوة إلى الاستعادة وبعد ذلك مجهود التيارات والتوجهات الفكرية المعاصرة، وفي المقابل مازالت جهود النهضة واليقظة بالدعوة إلى الاستعارة قائمة وهي جهود التيارات القومية الليبرالية، خاصة بعد التطور الهائل الذي حققه العالم المتقدم في مجال العلم والتكنولوجيا وفي إدارة المجتمع ونظام الحكم وتنظيم الاقتصاد، كما توجد جهود أخرى تبني فكرها في المراجعة والتحديث لا على الاستعادة وحدها ولا على الاستعارة وحدها بل على الاستفادة من التراث ومن العصر معا، وهي الجهود التي تشغل الحيز الأكبر في حقل الفكر العربي الإسلامي المعاصر، هذا الأخير الذي يعوّل أساسا على المراجعة والتحديث من خلال إعادة قراءة وصياغة التراث العربي الإسلامي وفق ما يجري في العصر، وتوجد العديد من المحاولات في هذا التوجه تحتاج إلى المتابعة للوصول بها إلى درجة أرقى من خلال الاستفادة من الماضي ومن التجربة الإنسانية المشتركة، والإسلام لا يجد صعوبة في التعاطي مع روح العصر، فهو دين الفطرة والعقل والعلم والحضارة، يتجاوز سائر المفاهيم الملفقة والمعيقة لعملية المراجعة والتحديث، أخلاقه تقوم على الحوار والتسامح ومنهجه مبني على التحليل النقد للتركم الفكري والمعرفي التاريخي وللتجربة الإنسانية القديمة والحديثة والمعاصرة، كما يقوم على التحديد الدقيق للمشكلات القائمة والقادمة، ومن منظور إسلامي معاصر تتحقق الاستعادة والاستفادة معا بتحقق الوعي بالذات وممارستها لدورها الإيجابي.
* على الرغم من الاندماج بين الفكر العربي والفكر الإسلامي واشتمال كل منهما على الآخر وتعبير كل منهما عن الآخر وتطوير وازدهار كل منهما للآخر منذ القديم إلى اليوم، فإنّ صعوبة الجمع بين الفكر الإسلامي والفكر العربي وكون الفكر عربيا وإسلاميا في الوقت نفسه تطرح إشكالية لدى الكثير من المشتغلين بالفكر والثقافة في العالم العربي الإسلامي وخارجه، من منطلق وجود فرق ملحوظ بين ما هو عربي صرف وما هو إسلامي بحت، ومن منطلق وجود منظومة فكرية وثقافية سابقة على الإسلام لها كيانها المستقل وتتمتع بخصوصياتها، وتميّزت بالتنوع الفكري والثقافي والديني، والإسلام ومنظومته الدينية يختلف في عقائده وفي تعاليمه عما سبقه في البيئة العربية وفي غيرها، فالفكر العربي ينطوي على ما هو عربي غير إسلامي مثل الفكر العربي المسيحي واليهودي والصابئي وغيره، والفكر العربي القومي الليبرالي أو الاشتراكي حينما يعالج قضايا ومفاهيم عديدة في سياق عربي قومي بحت بعيدا عن أي سياق ديني فهو بذلك يكون منفصلا ومستقلا عن الفكر الإسلامي، والفكر الإسلامي ينطوي على ما هو إسلامي بحت وليس عربيا تماما، ويتمثل في الأفكار الإسلامية التي عولجت من غير العرب أو أفكار سادت في بلدان إسلامية غير عربية، كما توجد أفكار غير عربية وغير إسلامية دخلت حقل الفكر العربي الإسلامي وامتزجت به، وارتباط هذه الأفكار والمفاهيم الأعجمية بالفكر العربي الإسلامي ومعالجته لها قديما وحديثا ومعاصرا لا يكفي بأن توصف بأنّها عربية إسلامية مثل الحداثة، الديمقراطية، اللبرالية، الاشتراكية، العلمانية، العلماوية، العولمة وغيرها كثير في عصرنا الحاضر، هذه الاعتراضات على التوحيد والجمع بين الفكر العربي والإسلامي لابد من معالجتها، وإن كانت لا تؤثر بشكل ملحوظ في واقع المحاولات الفكرية في العالم العربي الإسلامي الذي احتضن العروبة والإسلام في كل واحد موحد لا يقبل التجزئة والانقسام، واستمد ذلك من روح العروبة الإسلامية ومن روح الإسلام العربية، وأي ثقافة أو لغة تقوم بالدور نفسه الذي قامت به الثقافة العربية واللغة العربية تكون جديرة باحتضان الإسلام وحري به أن يحتضنها، هذا فضلا عن كون ظهور الإسلام في البيئة العربية وباللغة العربية من الحكمة الإلهية، وبغض النظر عن صعوبة الجمع بين ما هو عربي وما هو إسلامي في الفكر حسب الاعتراضات السابقة الذكر، فإنّ الفكر العربي الإسلامي سار في الريادة والاستكشاف والتفتح والازدهار والتنظير والتأصيل والتأسيس، وأنتج أفكارا ومعارف وفنونا وعلوما كثيرة في وقت قصير، وورث منتجات الحضارات التي سبقته، بما في ذلك ما جاءت به الأديان والفلسفات، وسقطت مقولة الدين سكون وتحجر وكتب المفكرون عن شمس العرب والمسلمين وهي تسطع على الغرب وعن الإسلام وهو ينتشر، وجعلوا نبي الإسلام أعظم عظماء البشرية قاطبة من قبل ومن بعد، استطاع الفكر العربي الإسلامي أن يحاور مختلف الديانات والثقافات والحضارات التاريخية، وأن يناقش مختلف القضايا والمسائل والدعاوى والاعتراضات ومعالجة سائر المشكلات التي تواجهه، فجاء فكرا جامعا شموليا وموسوعيا يغطي كل ما أنتجه من خلال فعّالياته المتواصلة.
* للتأكيد على الطابع العربي والطابع الإسلامي للفكر في العالم العربي والإسلامي ينبغي التأكيد على منظوماته الفكرية التاريخية، بالنسبة لمنظومة النسق الفكري قبل الإسلام أشاد القرآن الكريم وأشادت السنة النبوية الشريفة بالكثير ما كان للعرب فيها من أفكار وأخلاق وسجايا ومعتقدات دينية و بعض العادات والتقاليد وبعض الأفكار المنسوبة للعقل، يضاف إلى ذلك كل ما تُرجم إلى اللغة العربية من ثقافات أخرى، وجد قبولا كبيرا لدى المسلمين واستحسنه الفكر الإسلامي واستساغه على سبيل الاشتمال والتضمن لا على سبيل الإنتاج والإصدار، أي على أساس تفاعلي، وصارت الأفكار الناتجة عن التفاعل الإسلامي مع الحضارات والديانات والفلسفات وسائر الثقافات السابقة على العربية هي من صميم وروح الحضارة العربية الإسلامية، مما يؤكد أنّ جميع الحضارات اللاحقة والحديثة تلقت معارفها بشكل أساسي مما هو حضاري وثقافي وفكري قبل الإسلام وغير إسلامي، فضلا عن الثقافة العربية الإسلامية وبواسطة المنتج الفكري للحضارة العربية الإسلامية، هذا المنتج الذي نهض بمهمة الحفاظ على الفكر الإنساني بشكل عام وتهيئته مجددا على نحو راق جدّا، إنّ تفاعل الفكر العربي الإسلامي ومفكروه مع توجهات الحضارات اللاّحقة الحديثة والمعاصرة ممثلة في الفكر الغربي تحديدا بتوجهه الليبرالي العلماني وبتوجهه المادي الاشتراكي وما ينطوي عليه كل توجه من التوجهين من أفكار وقيّم تتعارض مع توجهات الفكر العربي الإسلامي،هذا التفاعل الذي تمّ بالترجمة والدراسة والمحاورة والنقد ومحاولة الاستفادة منه أو تبنّيه ومحاولة استعارته من طرف بعض الجهات الفكرية والسياسية، على العموم أحدث هذا الاحتكاك العديد من التوجهات والتيارات التي نادى بها مفكرون عرب ومسلمون محدثون ومعاصرون بصرف النظر عن مدى تطابق الفكر الغربي الحديث والمعاصر مع العروبة والإسلام أو من أية جهة صدر، كان في أغلبه موضع دراسة وتحليل ونقد ومعالجة من منظور عربي إسلامي.
* الفكر العربي الإسلامي تاريخيا لا يغطي ما هو عربي سابق على الإسلام وما هو إسلامي تأسيسي ديني شرعي وما مصدره التفاعل العربي الإسلامي مع ما هو ديني وثقافي وفلسفي وحضاري وتمّ بالمحاورة والنقد وعلى سبيل الاشتمال والاحتواء لا على سبيل الإنتاج وما كان مصدره التفتح والازدهار والتنظير والتأصيل والتأسيس والريادة والاستكشاف لدى العرب والمسلمين عموما، بل يشتمل كذلك على ما جاء من مصادر أخرى حديثة ومعاصرة تمّ استيعاب البعض منه ومازال يبحث ويناقش البعض الآخر، ونتيجة التفاعل الفكري العربي الإسلامي التاريخي والمعاصر صار الفكر في العالم العربي والإسلامي المعاصر ممثلا في مجمل التيارات الفكرية المعاصرة ، يهتم بمشكلات وأوضاع العالم المعاصر بصفة عامة وبهموم العالم العربي والإسلامي المتخلف بصفة خاصة وبمشكلة التخلف فيه، كما يعتني أيّما اعتناء بالمنظومة التأسيسية لتكون في مكان الصدارة من حيث الاهتمام في خضم التحديات القائمة والتحولات المتسارعة ولأنّها تمثل زاد الأمة الفكري والروحي وهويتها التاريخية والحضارية، ويعتني كذلك بالدرجة الثانية بالفكر الليبرالي الذي صار الفكر الأبرز بعد انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية، صار الإسلام بتوجهه الإنساني العالمي الشمولي والفكر العربي الإسلامي في العالم المعاصر هو اللاعب الأساسي إلى جانب اجتهادات ومبادرات التيارات الليبرالية ذات الاتجاه العولمي، وتعود العناية في الفكر الإسلامي المعاصر بالإسلام لما فيه من قوّة ويقين وقدسية وصلاحية وإنسانية، وبالليبرالية لالتقائها في كثير من الجوانب مع الإسلام، ولنجاحها في إنتاج مجتمعات حديثة ومتطورة، الأمر الذي دعا العديد من الدول إلى انتهاج الليبرالية سبيلا للتقدم، والفكر العربي الإسلامي مدعو الآن إلى ممارسة تجديد منتجه الفكري وتحديث محتوياته ومعالجة الفكر الليبرالي بطابعه العولمي مع العمل بمقتضى منهج نقدي ملائم للتجديد والتحديث والتعاطي مع تحولات العصر وتحدياته بإيجابية من منظور الثوابت في المنظومة التأسيسية.
* إنّ إطلاق عبارة الفكر العربي الإسلامي هكذا من غير تقييد تاريخي دلالي أو زمني تغطي كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي وكل ما ارتبط بالعروبة والإسلام بالاحتكاك والتواصل، ويبدأ من قبل الإسلام إلى اليوم ، كما لا نجد البتة انفصالا بين الفكر العربي والفكر الإسلامي ولم يسجل التاريخ ذلك رغم وجود اعتراضات ذُكرت بعضها من قبل، واستمر هذا التداخل والتزاوج بين الاثنين حتى الآن، فرائد الفكر الإسلامي الحديث ومؤسس الإصلاح الديني جمال الدين الأفغاني لم يكن عربيا وقبله وبعده كثير، ومحمد إقبال وأحمد خان من الهند، وسعيد النورسي من تركيا وعلي شريعتي وطالقاني والإمام الخميني من إيران، أما أبناء الجيل الحالي فمنهم الكثير، فريد إسحق وعبد الله الطيب وإبراهيم موسى من جنوب إفريقيا، وأغل التيارات في الفكر العربي المعاصر لها امتداداتها خارجة في العالم الإسلامي، لأنّ العروبة قلب الإسلام ومهبط وحيه ومصدر فكره ولغته وثقافته.
* يُطلق اسم الفكر العربي الإسلامي المعاصر في العالم العربي والإسلامي على ما يلي: مفاهيم وتصورات ومقولات بعضها تراثي وبعضها حداثي وبعضها معاصر عن الإنسان والحياة والوجود والكون والطبيعة وما بعد الطبيعة وغيرها؛ دراسات وبحوث لقضايا ومسائل ومشكلات مطروحة في البيئة الفكرية والثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للعالم العربي والإسلامي المعاصر، وهي قضايا قديمة وحديثة ومعاصرة؛ مناهج بحث وأساليب دراسة متبعة في البحوث العلمية والفكرية والفلسفية والدينية بعضها تراثي وبعضها حداثي ومعاصر؛ تيارات ومدارس ونزعات دينية وثقافية وفكرية وفلسفية وعلمية تستمد عناصرها مما هو تراثي ومما هو معاصر؛ إيديولوجيات ونماذج ومناهج دينية وفكرية وسياسية وغيرها مقترحة لتجاوز الأزمات وحل المشكلات المختلفة خاصة أزمة النهضة ومشكلة التخلف.