الدكتور جيلالي بوبكر
جمال الدين عطيةوتفعيل مقاصد الشريعة
جمال الدين عطية "1928" واحـد من دعاة تجـديد الفقـه الإسلامـي وأصوله في عصرنا الحاضر، إلى جانب الفقيه "وهبه الزحيلي"، ولكونهما متخصصان في الفقه فإن كتابهما "تجديد الفقه الإسلامي" يدلّ على اتجاه كل منهما في تجديد الفقه و أصوله، والتجديد الفقهي المتعلق بالموضوع عند "عطية" نوعان: «الأول هو التجديد الذي يأتي من خارج النسق الإسلامي أما الثاني هو التجديد الذي يأتي من داخل النسق الإسلامي. ومن أمثلة هذا النوع الأول ما نقرؤه لبعض الكتاب الذين يحاولون إسقاط نظريات غربية حديثة على الإسلام، تاريخه و لغته وفقهه، فيطبقون النظريات المختلفة مثل البنيوية والألسنية والتفكيكية و التركيبية و التاريخية و غير ذلك من النظريات على الدراسات الإسلامية، و هو الأمر الذي يؤدي إلى سحب المفهوم الإسلامي إلى الأنساق الغربية التي جاءت منها هذه النظريات».[1] ويضيف مبيّنا موقفه من المسألة: «وفي تصوري يجب أن يأتي التجديد من داخل النسق الإسلامي. والتجديد مطلوب في موضوعين أساسيين وهما:الفقه و أصول الفقه».[2]
فالحاجة ملحة إلى تجديد الفقه الإسلامي، و تبرز هذه الحاجة «فيما إذا ترتب على تطبيقها الحكم الشرعي الفقهي حرج شديـد أو مشـقة أو مضايقة، ويكون التجديد مطلوبا وضروريا إعمالا لمبدأ دفع الحرج في الإسلام، و للقاعدة الشرعية الكلية "المشقة تجلب التيسير" و"إذا ضاق الأمر اتسع"، وكذلك إذا كان الحكم الفقهي مجافيا لمقتضى المصلحة والواقع، وكانت المصلحة من جنس المصالح المعتبرة شرعا، و مراعاة مقصود الشارع، بحفظ الدين أو العقل أو العرض أو المال فيكون التجديد صائغا إعمالا لمقتضى المصالح وعملا بمقتضى اليسر والسماحة الذي قام عليه التشريع الإسلامي».[3] والتجديد لا يخص المسألة القديمة التي وردت فيها النصوص والاجتهادات بل يتعيّن«التجديد إذا كانت المسألة حديثة النشأة ليس فيها نص ولا اجتهاد معتد».[4]
إن التجديد في الفقه الإسلامي لا يخص الثوابت في الدين و الأحكام الأساسية المتعلقة بأصول الشريعة و مبادئها العامة مثل العدل والحرية والمقررة لغايات تشريعية كبرى مبيّنة بنصوص شرعية آمرة و ناهية كأصول الفرائض الدينية و العبادات و أحكام الأسرة وغيرها. فما لا يقبل التجديد «الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة (البداهة) والتي تثبت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة مثل وجوب الصلوات الخمس»[5]. أما ما يقبل التجديد في الفقه و الاجتهاد فيه «الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت أو دلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها النص و لا إجماع».[6] أي الأحكام التي تتغير مع تغير الأعراف والمصالح و التي تفي بحاجات الناس لتصبح الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان وفي كل مكان.
إن الحاجة إلى الاجتهاد في موطنين هما: «ما لا نص فيه أصلا، أو ما فيه نص غير قطعي، و لا يجري الاجتهاد في القطعيات، و فيما يجب الاعتقاد الجازم من أصول الدين».[7] أما فيما يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي في صلته بعلم أصول الفقه ففي هذا يقول عطية: «والحقيقة أن العلاقة بين التجديد في الفقه و بين التجديد في أصول الفقه علاقة وثيقة. فالتجديد في الفقه يقوم على التجديد في أصول الفقه. بمعنى أنه إذا كان هناك تجديد في أصول الفقه فإنه ينبني عليه بطبيعة الحال تجديد في الفقه، و اجتهاد جديد وفقا للمناهج الجديدة التي توضع في أصول الفقه قد يطول انتظاره حتى تتم بلورته ووضع القواعد المتعلقة به و فهمها ثم تطبيقها في الفروع إلى أن تصل إلى فقه جديد مبني عليه».[8]
والاجتهاد مثل الإبداع، ملكة خصّ بها الله البعض من عباده، و يكون في المستجدات الجزئية كفوائد البنوك أو الكلية مثل دور الدولة في الحياة الاقتصادية. وينبغي أن يتسع فلا يقف عند البحوث النظرية بل ينزل إلى الواقع ليكشف عن رأي الشريعة فيه، كمـا يعيد النظر في المسائل القديمـة. و بعد التقدم المعرفي على الساحة الإسلامية ينبغي إقامة ضوابط شرعية للعلوم الجديدة تحدد مقاصد كل منها وفق مقاصد الشريعة العامة، وتحدد الأحكام الشرعية في الكتاب و السنة التي تضبطها فتنشأ نظريات إسلامية تقارن مع غيرها في الأديان والفلسفات الأخرى و في هذا توسيع لمجال الاجتهاد.
إن علم مناهج الفقه أو علم أصول الفقه نما و تطور في القرون الأولى ولم يعرف حاليا الاجتهاد في إطار قواعده، و لا يملك أدوات لمواجهة التغيّرات المتباينة لظروف الحياة في القرون الأولى و لواقع التشريع فيها فراح التجديد يتعلق بما يضمن الغرض منه.
إنّ ما ينبغي أن يمسّه الاجتهاد الأصولي الفقهي السلطة الشرعية ومأسستها أي تحويل الإجماع و الاجتهاد و الشورى إلى مؤسسات و كذلك فروع الفقه وأصوله، لأن المذاهب الفقهية اختلفت آراؤها في فروع الفقه وفي أصوله، فالمتأخرون لهم أن يجددوا في الفروع و لهم أن يجددوا في الأصول، فالبحوث والدراسات الإسلامية المعاصرة بدأت تتبلور متحررة ومطلقة من المذهبية الفقهية والمذهبية الأصولية، حيث صارت غير مقيّدة بأصول مذهب معين، بل تسير على التوفيق بين أصول فقه المذاهب المختلفة. وصار منهجها هو الاستنباط المباشر من النصوص القرآنية و النبوية من أجل الوصول إلى فقه اجتهادي جديد أو نظريات إسلامية معاصرة ترتبط بعلوم الاجتماع و الاقتصاد والسياسة و غيرها.
توجد العديد من الكتابات التي تحدد أهلية المجتهد و شروط الاجتهاد لكنها تسقط شروط معرفة الواقع. و لقد انتبه "الإمام أحمد بن حنبل" إلى ذلك لماّ ذكر الخصال الخمس للفتيا و جاءت الخامسة "معرفة الناس". فالمجتهد المعارض لا تكفيه دراسة بعض العلوم التي ساعدته على فعله الاجتهادي في التشريع بل لا بد أن يكون متخصصا و أن يتلقّى تكوينا خاصا وإعدادا متميزا و ذلك لعدم وجود المجتهد المطلق، و المجتهد المتخصص لا في الجانب الشرعي فقط بل في التخصص الذي ينتمي إليه طب أو اقتصاد أو علم النفس أو غير ذلك.
دعا "عطية" في كتاباته إلى تطوير مباحث مقاصد الشريعة و كتابه "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" يطرح فيه تصوره الجديد للمقاصد و الأسس التي يقوم عليها هذا التصور ومبرراته، و يرى أن « الذي تتبع ما كُتب في المقاصد لا يفوته أن يلاحظ أن ما أورده اللاّحقون على "الشاطبي" لم يـخرج عما كـتبه واقتصر عملهم على اختصاره أو إعادة ترتيبه».[9] والعقل قادر وبمعية التجربة ومثل الفطرة على معرفة المصالح و المفاسد في حالة غياب النص هذا ما قرره السابقون على "الشاطبي"، فإذا وجد من ينكر في هذه المصادر فليس لذاتها بل لمحاربة فكرة التحسين والتقبيح المعتزلية وخشية القول بالاستغناء عن الشريعة بالعقل وحده.
اختلف الأصوليون في ترتيب المقاصد، فهي ليست على رتبة واحدة فإن حصل اختلاف في الترتيب قام كل مجتهد بتطبيق الترتيب الذي اخـتاره و ينتج عن ذلك الاختلاف في الأحكام الاجتهادية. و بالرغم من ذلك هناك حد أدنى ينبغي الإجماع عليه، وهو حالة وجود نص يحدد الحكم في حالة التعارض. و يقدم "عطية" "المنظومة الدائرية" لتجاوز مشكلة ترتيب المقاصد و هي عبارة عن ضرورات تتضمنها ضرورات أخرى، و« فكرة المنظومة الدائرية بديلا عن الترتيب التقليدي جديرة بالاهتمام».[10]
يبحث جمال الدين عطية ترتيب وسائل المقاصـد في الوازع الجبلّي والدينـي والسلطاني، الوازع الديني تناط به الوصايا الشرعية أما الوازع الجبلي فتناط به «المنافع التي تتطلبها الأنفس من ذاتها و بالتحذير من المفاسد التي يكون للنفوس منها زاجرا عنها»،[11] وعند ضعف الوازع الديني يصار إلى الوازع السلطاني. و مراتب الضروري و الحاجي والتحسيني تتعلق بالوسائل لا بالمقاصد. والجديد الذي يضيفه "عطية" هو تحديد المراتب في المقاصد إلى خمسة و ليس إلى ثلاثة و في هذا يقول:«و لكن الذي أضيفه هو أنّ الحالة التي لا يتحقق فيها مواصفات الضروري، و كذلك الحالة التي يزيد فيها الإسراف عن الحد التحسيني كلاهما بحاجة إلى دراسة، لوضعهما موضع الاعتبار، و ترتيب ما يلزم الأحكام بشأنهما، بل لإعطائهما الأولوية في الإزالة باعتبار أنّهما حالتان غير مشروعتين».[12] وترتيب المقاصد إلى ضروري و حاجي و تحسيني هو إطار ثابت للكليات و فيه يتم وضع الكليات وهو يتغير بتغير ظروف الزمان و المكان والأحوال والأشخاص وهذا معنى النسبية في التطبيق.
و ضع "عطية" تصورا جديدا للمقاصد ينبني على توسيع المقاصد المعروفة من خمسة إلى أربعة و عشرين دفعة واحدة، كما قدّم تصورا آخر حول التقسيم في المقاصد من "الكليات الخمس" إلى المجالات الأربعة فالمقاصد تتوسع من خمسة إلى أربعة وعشرين مقصدا موزعة على أربعة مجالات هي: مجال الفرد و مجال الأسرة، ومجال المجتمع و مجال الإنسانية.
وفي إطار الدراسات التي توظف مقاصد الشريعة، و تمثل الوضع الحالي لاستخدام المقاصد من خلال ما كُتب قديما و حديثا، وفي هذا يقول "عطية": «الاجتهاد المقاصدي بالصورة التي عرضناها في الصفحات السابقة لا تستحق أن يطلق هذا المصطلح- الاجتهاد المقاصدي- فما هي في الحقيقة إلا المصلحة المرسلة أو الاستصلاح كدليل شرعي تكلّم فيه الأصوليون منذ القديم، و ما عملنا فيه إلا التطوير لما كتبوا و البناء عليه».[13] ونظرية المقاصد لم توضع لتأسيس الأحكام وبنائها بل لتبرير ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون، و لم تعرف المقاصد تطوّرا يُذكر في البحوث و الدراسات الحديثة، و لتطويرها ينبغي تجاوز الثغرات وتقييم الدراسات و نشر الكتب التراثية التي لم تنشر بعد وما يلزم من أعمال موسوعية ومعجمية و فهرسة وغيرها.
ترتبط المقاصد بأصول الفقه و ضروري تطويرهما معا أما ما يذهب فيه "محمد الطاهر بن عاشور" في بناء علم مستقل للمقاصد عن علم أصول الفقه فهو أمر يسيء إلى العلمين ويضر بهما معا، و ما تثيره بحوث أصول الفقه عند "عطية" السؤال التالي: هل يظل إطلاق "أصول الفقه" على المباحث مطابقا لمضمونها أم الأحرى و ضع اسم جديد؟، فالبحث هو الذي يكشف عن الإجابة، إن كانت النتيجة جزئية بقي الاسم على حاله و إن كانت شاملة وكلية فضرورة إنشاء علم منهجي يكون علم أصول الفقه جزءا منه، و يمكن أن تندرج علوم المناهج في علم واحد مع إمكانية إضافة مناهج جديدة.
ففي الفكر العربي الإسلامي المعاصر ومن خلال ما سبق نجد إيحاءات ودلالات جديدة انبثقت أساسا من دعوة المفكرين والباحثين المعاصرين ومبادراتهم في السعي إلى تجديد أصول الفقه وفق منظور معاصر يأخذ في الحسبان التطوّر الجاري في العالم العربي والإسلامي المعاصر فكرا وعلما ومناهجا، وهو جزء من العالم ككل الذي شهد ويشهد تقدّما في جميع المجالات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وهي أوضاع مغايرة للأوضاع التي شهدها أصول الفقه التقليدي وتفاعل معها الأمر الذي يدعو إلى الاضطلاع بمهمّة تجديد الفقه وأصوله ليساير الرّكب الحضاري.




[1] جمال الدين عطية، وهبة الزحيلي: تجديد الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط 61 سنة 2000، ص 16.

[2] المرجع نفسه: ص 16.

[3] المرجع نفسه: ص 168.

[4] المرجع نفسه: ص 176.

[5] المرجع نفسه: ص 190.

[6] المرجع نفسه :191.

[7] المرجع نفسه: ص 192.

[8] المرجع نفسه: ص17.

[9] جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر، دمشق، سوريا ، سنة 2001، ص 15.

[10] المرجع نفسه: ص 48.

[11] المرجع نفسه: ص 50.

[12] المرجع نفسه: ص 55.

[13] المرجع نفسه: ص 197.