الدكتور جيلالي بوبكر
الخميس27/10/2011
جائزة "ساخاروف" تتويج للحراك الثوري العربي الراهن
الكثير من أبناء العالم العربي المعاصر لا يعرفون من هو "ساخاروف" ولا الجائزة التي خصّه بها البرلمان الأروبي في الإتحاد الأروبي، تخليدا لاسمه ولشخصه ولمساره الفكري والسياسي في الحياة على ما قام به كرجل علم وفكر وسياسة روسي، عارض بشدّة طيلة حياته منطق المنظور الأحادي، وحكم الفرد وتسلّطه، وسياسة القمع والاستبداد والتعسف في الاتحاد السوفيتي وفي غيره، مما عرّضه للاعتقال والمضايقات، فكانت له بذلك مواقف مشرقة ومشرّفة في جميع الحالات، في عالم الفكر الحر والرأي الحر والقلم الحر، وثبت على ذلك على الرغم من المعاناة التي تسبب فيها النظام الشمولي الذي لا يمنح فرصة لحرية الرأي والتعبير والمعتقد ويمنع فرص الإسهام الفعلي للفرد في الحراك الاجتماعي بمختلف جوانبه، علميا وسياسيا واقتصاديا، فتُكبت المواهب، وتتكلس الآراء، ويسيطر الجمود والركود على مستوى النظر والعمل، ويغيب كل أمل في التغيير والتجديد بغياب الحرية والإبداع، ماء وسماد تربة كل ضيعة اجتماعية تنحو في اتجاه الحراك التاريخي والبناء الحضاري، وماء وسماد كل دورة حضارية عرفها التاريخ.
وعالمنا العربي المعاصر مأزوم بأزمة الحرية والديمقراطية وأزمة الإبداع، فلا حرية في ظل الأنظمة العربية الشمولية التي تمارس الاستبداد بكل أشكاله المكشوفة والخفية، وتتفنن في ممارسته، لا للهدف سوى بقاء المستبد وأعوانه في الحكم وحبّا في السلطة والتمسك بها إلى النهاية، والحرص على توريثها، ولا إبداع في غياب الحرية وفي استمرار القمع الفكري والاستبداد السياسي والفساد الاجتماعي، على الرغم من أنّنا نعيش عصرا انتصر فيه الأقوياء بالحرية والإبداع، وبعيدا عن الرأي الواحد، وكانت لهم الغلبة الحضارية في كل المجالات بثورتهم على الاستبداد الفكري والثقافي والديني والسياسي الموروث وغيره، وانتقلوا إلى الحديث الجديد المتميّز بالعقلانية والتنوير وبالعلمية والتكنولوجية، فأبهر ذلك شعوب العالم وانبهرت به، ولم يكن للنظم السياسية الراهنة في العالم العربي بدّا من سبيل للاقتداء والتأسي في محاولة الخروج من التخلّف والانحطاط، إذ مارست وتمارس القهر على شعوبها وتعمل على شرعنته بمبررات شتى مستعينة بقوى خارجية ومستغلة كل الإمكانات المتاحة التي هي ثروات الشعوب ذاتها، فبدلا من استثمارها لصالح المواطن العربي تستعملها لقمعه وقتله.
في ظل القمع الفكري والديني والثقافي وعند سيطرة الاستبداد السياسي وفي حال الفساد الاجتماعي، ومع وجود قوى في السلطة تعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه، تحفظ مصالحها الفئوية الضيقة غير مبالية بعامة الناس وما يقاسونه من مآسي ومظالم، يتساءل المرء عن المخرج ومنفذ النجدة، هل هو السكون والاستكانة والرضا والخضوع للأمر الواقع على سنّة العيش في ظل الاستبداد مئة سنة أفضل من ليلة واحدة يبيتها المرء في فوضى وبدون حاكم؟ أم على سنّة المطالبة السلمية والفوضى الخلاقة المبدعة عند الضرورة أو المغالبة وعسكرة الحراك الثوري كما حدث ويحدث في العالم العربي الراهن؟، خاصة إذا تعلّق الأمر بشأن داخلي لشعب ما وليس بالتصدي لعدوان من الخارج كما هو حال الشعوب العربية التي تعرّضت للاستعمار في كرامتها وأراضيها وثرواتها، فصنعت ثورات قمّة في المجد والخلود والنبل، منها الثورة الجزائرية المظفرة التي اندلعت في وجه الاستعمار الفرنسي واسترجعت السيادة والكرامة والاستقلال للشعب الجزائري، فكانت بذلك مفخرة العصر والتاريخ، وفي مثل الثورة الجزائرية يشكل أي حراك ثوري في وجه الطغيان والظلم سنّة كونية وحتمية اجتماعية وضرورة تاريخية لابد منها، وهذا حال الحراك الثوري الراهن في عالمنا العربي.
لقد كشف الربيع العربي بجلاء وبقوّة عن مدى تمسك الحكام في البلاد العربية بالسلطة، وعن حاجتهم إليها التي لا تعرف النضوب، وعن دفعهم الغالي والنفيس لأجلها، وعن الذود عنها ولو بقتل أكبر عدد من الشعوب والزج بها في السجون وممارسة أبشع صور التعذيب في حقها من دون اعتبار للنساء أو الأطفال أو الشيوخ، فهم مرضى بجنون بالسلطة، فكرسي الحكم لدى الحكام مقدس لا يمسه سوى صاحبه وورثته، وأيّ حراك معارض من أيّة جهة مردود ويواجه بقوة الحديد والنار، والكلام عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مجرد شعارات لتزييف الواقع، وتحريف مظاهر الفساد والتعفن في كافة جوانب الحياة ومن دون استثناء، وصرف الرأي العام عن حقيقته الحبلى بالأزمات وعلى رأسها أزمة نظام الحكم، ولم يتعظ الحكام وأعوانهم أم أنّ لذّة الحكم والراحة على كرسيه أشد وأعظم، فعند ذي عقل يتدبر وذي وجدان يعي ويشعر و ذي روح فيها شيء من النبل والكرامة وذي ضمير يحكم ويحاكم لا يجد سبيلا أمام معارضيه إلاّ الحسنى متعظا بدلالات الوحي ودروس التاريخ ومجريات الواقع وما أكثرها.
قد يرى البعض من هم في السلطة أو خارج السلطة ممن يدينون سياسيا بنظرية المؤامرة، يتخذونها إستراتيجية لتمديد فترة البقاء في الحكم عند الحاجة، وقد لا تكون فكرة المؤامرة محل إيمان وصدق لديهم، بل مجرد وسيلة لتبرير الواقع الذي يميّزه الفشل التام على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيره، ولإخفاء دور السلطة ومسؤوليتها عن الفشل، فتشمل فكرة المؤامرة لديهم اختيار البرلمان الأروبي لجائزة (ساخاروف) المرموقة خمسة من عناصر الثورات العربية الراهنة والمعارضة للنظم الديكتاتورية في فئة الشباب والشيوخ معا، وفي الجنسين المرأة والرجل، بعضهم قضى نحبه وبعضهم من ينتظر في تونس الثورة، وفي مصر الحضارة والتاريخ، وفي ليبيا الإسلام وحفظ القرآن وفي سوريا العروبة والدين العلم والتاريخ، وكذلك في اليمن الثورة ظاهرة نادرة ومتفردة في العالم الراهن حضاريا وسياسيا، ثورة ضربت أروع مثال في السلمية والشبابية والوعي السياسي والثوري والاستمرارية والتنظيم ودور المرأة في الحياة السياسية، المرأة اليمنية التي نالت جائزة نوبل للسلام، على الرغم من الطابع القبلي المسلح للشعب اليمني، وعلى الرغم من التقتيل والتشريد والتعذيب وسائر صنوف القهر والقمع التي يتعرّض لها شعب اليمن على مرأى ومسمع الأقوياء في العالم، الذين يكيلون بأكثر من مكيال في التعاطي مع المقهورين، ورغم تعنّت النظام اليمني أمام مطالب شعبه وضربه أروع مثال في المراوغة والخداع والنفاق، أمام كل هذه الظروف الصعبة لا يزال اليمنيون صامدين مطالبين سلميا بالحرية والكرامة وبرحيل الاستبداد والمستبدين.
وبعد التوقيع على شرعية الثورات العربية وتتويجها عالميا وإنسانيا وأخلاقيا بمنح جائزة نوبل للسلام للناشطة الحقوقية اليمنية والثائرة العربية (توكل كرمان)، يُتوج الربيع العربي مرّة ثانية بمنح جائزة (سخاروف) لسنة 2011 لخمسة من رواد الحراك الثوري العربي الراهن الجائزة ذات قيمة رمزية كبيرة ودلالة عظيمة معبّرة في كل الحالات عن المشترك الإنساني والملتقى الأخلاقي والتوافق العالمي في القيّم والمبادئ التي تمثل الإنسانية في فطرتها والكونية في سننها، وهي قيّم الحق والعدل والجمال والحرية، فلا التزييف ولا الظلم ولا الإكراه ولا الاستبداد ولا الشر يكفل للإنسان حقوقه، بل ذلك عدو له وللفطرة البشرية، تجب مقاومته بكل الوسائل والسبل، لأنّ الفطرة الكونية تعافه ولا ترضى عن قيّم الخير بديلا، كما تنبل الوسيلة بنبل الغاية، فالغاية استرداد الكرامة المهانة والحرية المسلوبة وسائر الحقوق المادية والمعنوية المهدورة، وما أعظمها غايات، تُحق الحق وتُبطل الباطل، الوسيلة والغاية مشروعتان عقلا ووحيا وتاريخا وواقعا، فبغض النظر عن تعدد الموازين لدى الغرب السياسي والأمني والعسكري، ولدى جهاته الحقوقية والقانونية، فإنّ نيل اليمن وثورته السلمية النادرة في الزمان والمكان الراهنين لجائزة نوبل للسلام في ظل ظروف خالية تماما من الأمن السلام، ونيل الثورات العربية الأربع: التونسية (محمد البوعزيزي الذي أطلق بانتحاره شرارة الثورة في تونس) والمصرية (أسماء محفوظ ناشطة في المعارضة) واللّيبية (أحمد الزبير أحمد السنوسي 77 عاما المنشق اللّيبي السابق الذي قضى 31 عاما في السجن بسبب معارضته لنظام معمر ألقذافي) والسورية (رزان زيتونة المحامية المعارضة التي تبلغ من العمر 34 عاما وعلي فرزات رسام الكاريكاتير الذي تعرّض لضرب مبرح بأيدي قوات الأمن السورية وكسرت يداه)، فإنّ هذا التتويج إنساني أخلاقي فطري راقي جدّا، يعكس انتصار قوى الحق والعدل والحرية والجمال على قوى الباطل والظلم والاستبداد والرأي الواحد والشرّ، ويعكس انكسار وهزيمة الطغاة وأعوانهم في كل عصر وفي كل مصر، ويدل بقوّة على فشل الاستبداد فكرا وممارسة ومشروعا، فهل من مُدّكر؟.