مسافـــة القـــوة
تاريخ المقال: 7/18/2011


مسافـــة القـــوة
د. محمد كمال مصطفى
استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية

حتى أستطيع أن أقدم لكم فهما مبسطاً لما يعنيه مصطلح مسافة القوة ، سأحكى لكم أنه عندما كنت أحاضر طلبة الدراسات العليا فى أكاديمية الشرطة ، فقد كنت أمازح العاملين منهم فى أمن الدولة والمباحث الجنائية ، بأنى على أتم الاستعداد أن أبادل أيا منهم بكل مؤهلاتى وخبراتى العلمية والعملية وأيضاً مدخراتى وممتلكاتى ، مقابل أن أمارس وظيفته لمدة شهر واحد .
وكانت إجابتهم لى أنهم لا يشعرون بهذه القوة ولا يستمتعون بها لأنها أصلاً لا وجود لها فهم يمارسون عملهم ومهامهم المنصوص عليها سواء فى تعليمات وأوامر العمل أو فى وصف الوظائف الخاصة بهم لا أكثر ولا أقل ، ولم أجادل فيما قالوه ، لأن معنى مسافة القوة أمر مختلف ، فقد كان ردى عليهم بأننى أرجو هذا البدل غير الممكن ليس بسبب تميز وظائفهم بالعمل فى مؤسسات ذات طبيعة خاصة ، ولكن السبب هو شعور الآخر عند تعاملك معه فى الممارسات العادية للحياة أنك مختلف عنه وأنك أعلى منه بما تملكه أنت من قوة لا يملكها هو ولا يمكن أن يملكها إلا إذا كان فى مكانك .
السبب هو الشعور لدى الآخر الذى قد يفوقك مالا وربما علماً وموقعاً مهنياً ووظيفياً أنك تفوقه فى القوة ، هو الإحساس الذى يكون مترسخاً لدى الآخر بأنك مواطن سوبر أو درجة أعلى .
وكان تلاميذى فى ذلك الوقت يقسمون لى أن هذا ليس إحساسهم الداخلى ولا يمكن أن يكون لديهم أدنى اعتقاد أنهم مواطنون سوبر أو درجة أعلى من غيرهم لأى سبب من الأسباب ، ربما كان السبب لردهم هذا هو أن كل من قمت بتدريس مادة الموارد البشرية فى الدراسات العليا بأكاديمية الشرطة كانوا من الكوادر عالية الخلق والتميز العلمى ، حتى أننى كنت اسألهم متعجباً إذا كنتم أنتم على مثل هذا الخلق والتميز ، فلماذا هذه الصورة الشديدة السلبية من الجمهور والناس على اختلاف مستوياتهم نحو الشرطة ... وإجابتهم عن هذا السؤال ليست موضوعنا ، فقد أتناوله فى مقال لاحق .. ولكن موضوعنا هو مسافة القوة .
لذلك كنت أقول لهم فى هذا الصدد ، أن المشكلة ليست فى عدم إحساسهم بهذه القوة، ( وإن كنت أشك فى هذا ) ولكن فى إحساس الآخر بهذه القوة ، وشعوره المسبق دائماً عند التعامل معكم أن هناك مسافة بينك وبينه من القوة التى تمتلكها أنت ويفتقدها هو ، وهذه المسافة هى مسافة القوة .
وكان ردهم الذكى أن هذه الحالة ليست قاصرة على العاملين فى الشرطة فهى تمتد إلى العاملين فى مجالات كثيرة ، بل وأيضاً قد يشعر بها كل من لهم علاقات وطيدة أو يدخلون فى أنساق قرابية وعائلية مع هذه الفئات التى تمتلك القوة أو يمكن لها أن تصدر الإحساس إلى الآخر التى تتعامل معه بأن هناك مسافة للقوة بينها وبينه ، وقد لا يكون هناك مبرر لذكر هذه الفئات فقد يشعر بمسافة القوة هذه إن لم يكن كبار العاملين فى مختلف وظائف الدولة وكبار أصحاب الرتب الشرطية والعسكرية ، وحتى من يملكون من المال ما يجعلهم يؤثرون به فى المواقف الذى يتعاملون معها ، ولكن أيضاً قد يشعر بها أبنائهم وذويهم نتيجة هذا الانتماء وهذه القرابة .
وأؤكد هنا أنى لا أعنى بالإحساس بمسافة القوة ، تلك القوة التى يفرضها التأثير الرسمى للوظيفى وللعلاقات الرسمية المترتبة عليها ، ولكن اقصد بمسافة القوة هنا ، شعور الآخر عند التعامل فى الممارسات والمواقف الحياتية العادية والمعتادة واليومية بالضعف فى مقابل من يتعامل معه ، والذى يتجلى عندما يتم ذكر " أنت مش عارف أنت بتكلم مين ، أو يتضح فى تلك الهالة والهيبة التى ترتبط أو تصنع عمداً لبعض ذوى المناصب العليا ، منها على سبيل المثال مواكب الوزراء فى الشوارع ومجموعة عربات الحراسة التى ترافقهم ، وإفساح الطريق بأسلوب مستفز ، وعدوانية قد تؤدى إلى حدوث اصطدامات بين السيارات ، ومواكب التشريفة التى ليس فقط تعطل المرور وتهدر آلاف الساعات من العمل المنتج ، ولكن مضمونها المستفز الذى يشعر الآخر بأنه لا شىء مهما كان هو بالنسبة لمن يتم هذا الموكب أو التشريفة له .
وأنا لم أكن أشعر بافتقاد القيمة إلا عندما كنت أشاهد مواكب مرور الوزراء أو تشريفة مرور الرئيس ، هذا الشعور هو مسافة القوة ، كنت اشعر بمسافة القوة التى يشعر بها المواطن العادى عندما كنت أنجز أى معاملة عادية ومعتادة فى أى مكان حكومى ، ثم يتأخر دورى ، بسبب أفراد أتوا توا وأظهروا وظائفهم أو أظهروا بطاقات توصية لتنجز أعمالهم على الفور ويترك الآخرين .
إن الحديث عن هذه الأمثلة قد يثير أحزان القراء ، لأن الأمثلة كثيرة والأمر لا يحتاج إلى تدليل .. فالكل أيا كان هو قد شعر فى العديد من المواقف التى مر بها وربما يمر بها فى الممارسات الحياتية المعتادة بمسافة القوة هذه بينه وبين الآخر .
وفى اعتقادى الذى ربما يكون صحيحاً أن أحدد أسباب ثورة 25 يناير هو ذلك الاتساع الرهيب خصوصاً فى العقود الثلاثة الأخيرة لمسافة القوة والشعور بها ليس فقط بين المواطن العادى والعاملين فى الأجهزة الأمنية والسيادية ، ولكن حتى ممن يحملون بطاقات عضوية الحزب الوطنى ، وما ساعد على تدعيم الثورة أيضاً هو تلك الهوة الرهيبة فى الإحساس بمسافة القوة ، ليس فقط بين المواطن العادى والعاملين فى الأجهزة الأمنية والسيادية والمنضمين إلى الحزب الحاكم ، ولكن الإحساس بين المواطنين السوبر أى من يملكون قدراً من مسافة القوة ، وبين تلك الفئة القليلة الحاكمة ومن يدور فى فلكها عن قرب .
مسافة القوة واتساعها بين الفئات المختلفة ، والإحساس بعمقها واتساعها بين المواطن العادى البسيط وبين العاملين فى الأجهزة الأمنية والسيادية ، بل وبين المواطنين من ذوى المكانة الوظيفية الأعلى ، وبين الفئة الحاكمة ومن يدور فى فلكها كان هو الدليل الحاسم على شيوع ثقافة القهر والجهل والعجز ، لأن انحسار مسافة القوة وانعدام الإحساس بها بين مختلف المواطنين هو الدليل القاطع على وجود ثقافة دافعة نحو الانتماء والتقدم ، والأهم هو أن انعدام إحساس المواطن العادى بمسافة القوة بينه وبين الآخرين هو الطريق لشيوع ثقافة العدالة والمساواة وقبول الآخر .
والسؤال هنا هو ، هل انحسرت مسافة القوة والشعور بها بين المواطن العادى وبين باقى المواطنين ممن كان يشعر أن بينه وبينهم مسافة قوة قبل ثورة 25 يناير أم لا ؟
وأنا لا أريد أن أقطع بالإجابة بنعم أو لا ، لأنه يجب أن نعلم جيداً أن السبيل الوحيد لانحسار وانعدام مسافة القوة والإحساس بها فى أى مجتمع هو احترام القانون وتأكيد سيادته ، بل وتقديسه بالعدالة واحترامه بعدم الاستثناءات ، وحمايته بعدم التلاعب والالتفاف عليه أو البطء فى تطبيقه ، والأهم أيضاً فى هذا الصدد هو إيجاد ثقافة المواطنة والمساواة بين كل الناس فى التعاملات الحياتية ، والأكثر أهمية هو أن تختفى كل المظاهر غير الضرورية أو المبالغ فيها ، فيما يتعلق بتحركات وتعاملات ذوى المناصب العليا فى الدولة من مواكب ومراسم وتشريفات .
ومن الضرورى التأكيد على أن هيبة الأجهزة الأمنية والسيادية ليست فى التأكيد على تصدير الإحساس بمسافة القوة عند التعامل الرسمى والعادى مع مختلف المواطنين، ولكن بالتأكيد على أنها والعاملين فيها هم المسؤولين عن تطبيق القانون ، وحماية الوطن ، وصيانة المجتمع بكل العدل والمساواة ودون تمييز أو استثناء حتى ولو كان على أنفسهم .
إن أهم المعايير الحقيقية لقياس مدى نجاح ثورة 25 يناير فيما يتعلق بمدى حدوث تغيير فى ثقافة الناس نحو الأفضل ، هو التغير فى إحساس الناس بانحسار مسافة القوة التى كانت تشعر به تجاه العاملين والمنتمين إلى الأجهزة الأمنية والسيادية وكبار موظفى الدولة ... وأن لهم حقوق مساوية لحقوقهم ، وأنهم معهم سواسية أمام القانون .
وكذلك فإن أحد أهم جوانب المواطنة هو إنحسار بل وانعدام الإحساس بمسافة القوة، وحتى لا تختلط الأمور بين مفهوم مسافة القوة الذى أتناوله هنا ، وبين كسر حاجز الهيبة والحدود الواجبة فى التعامل بين المواطنين وبين رجال الشرطة ، والذى قد ظهر فى شكل حالات وظواهر محدودة بعد الثورة .. قد يرجع أهم أسبابه إلى أنه رد فعل لاسترداد إحساس المواطن العادى بأن الثورة قد ردت إليه الإحساس المفقود بالكرامة والمساواة ، قد يأخذ فترة وجيزة لتتوازن العلاقة إذا ما تأكدت العدالة والمساواة بين الجميع أمام القانون ، وانعدمت كل أشكال الاستثناء .
لكن يظل أخطر ما فى الأمر هو رفض الكثير ممن تمتعوا بالإحساس بمسافة القوة أن يفقدوا هذا الإحساس سواء بسبب الثورة أو غيرها ، فيحاولون بكل السبل تأكيده والحفاظ عليه .. وهنا ستحدث الطامة الكبرى لأن من ثاروا أو دعموا الثورة دفاعاً عن الكرامة وطلباً للعدالة والمساواة ، ورفضا للإحساس باتساع مسافة القوة ، سيقاومون بشدة العودة للخلف .
أم لك رأى آخـــر ...