قراءة في
رواية عندما يُزهر البرتقال (*)
تأليف
الأسير الفلسطيني عمّار الزبن (**)
عدنان
كنفاني

إن
القيمة الحقيقية التي تحملها هذه الرواية، ليست في الجانب الفني أو الروائي أو
الحداثي فقط، بل بالمعنى الأكبر الذي رمت إليه..
وكي
أكون دقيقاً في التوصيف، أجد من الإنصاف والموضوعية أن أمضي في مسارين متوازيين،
المسار الأول يتعلّق تحديداً بشخصية الكاتب من خلال النصّ الروائي السردي، والمسار
الثاني هو في النص الروائي نفسه، "الفكرة والهدف من هذه الرواية".
في
قراءة الجانب الشخصي شديد الخصوصية للكاتب، علينا أن نضع في أول الاعتبارات وضع
الكاتب، وهو مناضل فلسطيني، طحنته المعاناة، فانتصب باذلاً كل ما يستطيع من أجل
تحقيق كينونته، وانتمائه للمكان، الوطن.. وهو أسير، عانى من ربقة الأسر طويلاً،
ومن زنازين التعذيب وغرف التحقيق، وما زال يعاني، وهو محكوم بكثير من
"المؤبدات" والأحكام التي، لو بقيت قيد التنفيذ، لن تنتهي حتى بعد عدد
من الأجيال.
أسيرٌ
يعيش الغربة والوحشة، بعيداً عن دفء أسرته، ورائحة أرضه، ونسائم فضائه، لكنه، ومن
خلال هذه الرواية، يقول لنا أنه أكثر حريّة من كثيرين، انتصر على نفسه، ومارس
نضالات وهو في الأسر، قد تبدو صغيرة، لكنها في حقيقة الأمر كبيرة عندما ينتصر الدم
على السيف، تعايشَ مع واقعٍ مرّ، فداء لموقفٍ آمن به، وهو بذلك يحتلّ موقعاً
متقدماً عن الإنسان العادي، وموقعاً متقدماً أكثر عن الانهزاميين، وموقعاً متقدماً
أكثر فأكثر عن المفرّطين والمتخاذلين، وموقعاً متقدماً مسافات لا تحصى عن الخونة
والمأجورين..
نقرأ
في الأحداث، فنشتّم من خلال المفردات والسطور رائحة كاتب نبيل، ممسك بقيمِه
الدينية، والنضالية والأخلاقية والإنسانية، كاتب، تجاوز محنته، وأصبح يقدّم لنا
الخبرة ومفردات الصمود، ومعاني التضحية.. كاتب، انصهر في بوتقة الوطن، فصار رمزاً
يفرض علينا أن نقدّم له فروض التقدير والعرفان..
لم
يسعَ من خلال هذه الرواية إلى مجدٍ إعلاميّ، ولا إلى مكان في قوائم المشاهير، ولا
إلى استعراض قدراته الأدبية والإبداعية بقدر ما كان كلّ مراده ومراميه توصيل
معلومات على غاية من الأهمية، وطرح مشكلات نعيشها، ومعالجةٍ شجاعة لأمور، قد يخشى
البعض من مجرد الخوض فيها.
نشعر
ونحن نقرأ، أننا نحن الأسرى وهو الطليق، يملك من فضاءات الحريّة ما يفتقده
الكثيرون ممن يعيشون خارج الأسر، يقول لنا، دون أن يقول، إن أسر الروح والإرادة
والأمل هو الأسر الحقيقي..
وسنجد،
ونحن ندخل في توصيف الجانب الآخر "الروائي" بعض ملامح مما أشرت إليه عن
خصوصية شخصية الكاتب.
أما
في الجانب الآخر، الروائي، الفكرة والهدف من هذا العمل الروائي، ولن أدخل في إعادة
سرد للرواية، بقدر ما أقف عند مفاصل تضيء على النص، وتتناول بحيادية الفكرة وما
وراء الفكرة.
لقد
اشتغل الكاتب، ويبدو أن هذا ما كان توجهه الأساس، على فكرة تمضي في جدول متواصل
الدفق، تطرح موضوعاً، إلى جانب عدد من الموضوعات، على قدر كبير من الأهمية، وهو
باختصار "الخيانة، أو العمالة" وتحديداً في مجتمعٍ مساره نضالي، وفي
أسرة يعيش أفرادها في صراع متواصل، بين الانتماء للأسرة، والانتماء للوطن.. فهناك
واجب وطني عام، وهناك أيضاً واجب أخلاقي خاص، فماذا لو كان واحد من أفراد أسرة
موصوفة بالنضال والتضحية، وهو عميل ومأجور.؟
وماذا
لو كان ربُّ الأسرة، ممن (لا تقل لهما أفٍّ) هو العميل.؟
ألسنا
بحاجة ماسة لمناقشة هذا الموضوع والبحث عن طرائق العلاج والخلاص.؟
بين
أسرة كاملة، يعرفون عمالة ربّ الأسرة، وهم في صلب العمل النضالي والفدائي التضحوي،
وكم طالهم من سلوكه هذا هوان، وكم آذى بسلوكه هذا الأقرباء والجيران، وهو، بكل
الأحوال يتشدّق بإعلان عمالته، وخيانته الموصوفة..
هي
ليست حالة فريدة في مجتمعنا، ومن المفترض أن نطرحها بشجاعة، ونعالجها بحكمة وحسم،
وهنا، يشتغل الكاتب على هذا المنحى الهام، فيقول:
(لقد
أخبرتك قبل ساعة، أن حسام "وهو ابن العميل" يعيش في زمن أبيه مكرهاً
وينتظر الساعة التي يحرر فيها نفسه وأمّه وعائلته من هذا الواقع السيئ) ص40
وعندما
أزفت الساعة، وتلقّى والده رصاصة طائشة في معركة مواجهة مع الجنرال وزلمه،
واستشهدت أمه في الوقت نفسه، نراه، لا يحزن على مقتل أبيه، بل يجدها فرصة للخلاص
من عاره، لكنه ينتحب حزناً على وفاة والدته..
وعندما
يتحدث عن الأم، نكاد نلامس وحشة الفقد، وهذا المدى الواسع الذي يترقرق على لسان
الأم، يدحض مقولة راجت في الأوساط البعيدة، أن الأم الفلسطينية مجرّدة من العاطفة:
(وددت
لو أزرعك مجدداً جنيناً في أحشائي ولا أخرجك أبداً فلا ينعم غريب بنعمة النظر
إليك) ص13..
وهكذا
تتوالد المفاهيم على لسان "بيسان"، فتقول:
(أخذت
تسقي الزيتونة من دمها المتدفق كالنهر، حينها لم أستطع الصراخ، تسمّرت في مكاني،
حتى الدموع أبت النزول، شعرت حينها بالحقيقة، تلك الحقيقة التي تولد مع أطفال
المخيمات، مع أطفال نابلس وجباليا وجنين والخليل) ص139
ولا
تغيب "قيسارية" عن مسار الروي، مختصرة كل قرى ومدن فلسطين، لكنها، ما
تزال تنبض في ذاكرة البطل كلما رفّ به الحنين إليها، وهو مسار توثيقي يقبض على
اللحظة والصورة والمصير:
(حدثني
عن بلدتنا قيسارية، عن شاطئها ورمالها، عن شوارعها العتيقة وحجارة بيوتها الطينية
فكلّ ذلك مرسوم في الخيال من أحاديث الأهل في مخيم عين الحلوة.. "يجيب
حسام": شاطئها والرمال، لم يتغير عليها شيء سوى الأجساد الصفراء الغريبة التي
تقتل لقاء اللحظات الجميلة التي عرفها الأجداد هناك، أما الشوارع والأحجار فأصبحت
أثرا بعد عين غير أن مسجدها لا زال يعاند الغرباء بصموده، ومحرابه منتصب كالجبال
يحتضن المصلين رغم الذئاب التي تحاول افتراس جنباته) ص147
وفي
مكان آخر يقول:
(
ما نسيت قيسارية ووجهها الذي رسمته بيدك على وجهي، فتنفّس عميقاً عميقاً حتى ما
وراء العظم، ما نسيت الذئاب التي افترست يأسها الجميل) ص17
وهنا
نلاحظ إشارته إلى موضوع هام كان مؤرّقاً في فترة من مراحل النضال الفلسطيني، ونظرة
الفلسطينيون إلى أهل فلسطين 48 داخل الخط الأخضر، فيقول في مسار الروي:
(أهلا
وسهلاً بك يا بطل والله لقد رفعت رؤوسنا وأثبتّ بأن أهلنا في الثمانية والأربعين
هم أهل التضحية والفداء) ص128
حتى
عندما يجنح إلى الذهنية في توصيل فكرُه الثوري، وفي طرح المسألة دون فلسفة، ودون
دخول في متاهات المستحيل، فهو يأتي بذلك من خلال جلسة حشد أصوات لانتخاب حزب
صهيوني بعينه ومكاشفة، نجدها تمثّل أصل الصراع كله، فالسائل يحاول أن يمارس نضاله
حتى في أشد المواقف خطراً، ويحاول أن يبيّن للجنرال استجابته للتعاون، بل ويغريه
بأن حوله أصوات كثيرة يمكن أن تعمل على نجاحه، يقول بشيء من السخرية:
(ولكن
على شرط، شرط صغير وشخصي، أن تتبنى أنت وكتلتك داخل الحزب دعمي في مساعٍ لإعادة
أرضي المصادرة منذ عام 48 فأنا لا زلت أملك أوراقها الثبوتية والقانونية، وهي لا
تزال موجودة على حالها في قيسارية، وأنا في ذات الوقت أحمل الجنسية الإسرائيلية
مثلك تماماً.. فما رأيك.؟
تلوّن
وجه الجنرال وصمت هنيهة ثم قال: كما تعلمون فإن الموضوع أكبر من أن يتبناه حزب،
فالقضية سياسية بامتياز، ولا يمكن قطع الوعود لذلك، لكنك تستطيع التوجّه
للمحكمة.!) ص35
وفي
هذا المنحى الواقعي الذي يمثّله الاحتلال، يقول:
(أعرف
يا إيناس أن الكثير منا يعيش أزمة هوية، فلا هو قادر على القول بأنه عربي فلسطيني
وحسب، ولا إنه إسرائيلي بحكم الجنسية الإسرائيلية التي يحملها رغماً عنه) ص77
وفي
مكان آخر، وفي هذه المرة على لسان فاطمة، وهي من الفيليبين، التي استعذبت الفداء
من أجل قضية إنسانية عادلة، تقول وهي في مواجهة المحقق الصهيوني:
(عليك
أولا أن تكون مظلوماً مسلوب الأرض والحرية، ترى عدوك يقتل ويسلب ويأسر وينعم
بخيرات أجدادك، يعبث بتراثك وحضارتك، يصطنع الأكاذيب كي يسوّغ لنفسه فعل ما عجزت
الحقائق عن إثباته، عندها فقط تستطيع مشاهدة الصور التي أراها الآن) ص117
لكنه
في لحظات تدفق الذاكرة، واستعراض كم الجرائم التي يمارسها الاحتلال على أهله، نجده
يتدفق كبركان أطلق حممه فيقول:
(سحقاً
للظرف الخاص الذي يجعلني أرى أهلي يذبحون كالخراف وأكتفي بالشجب والاستنكار
والتصدق عليهم ببعض المال انظري إلى أهلنا في نابلس وبيت لحم ورفح صامدين ومع ذلك
يقاومون) ص103
ولا
بد للكاتب أن يدخل في تفاصيل الأسر، وقد أتقن ذلك بامتياز، وكيف لا وهو الذي اكتوى
بحرّه وظلمه وعذاباته، يقول:
(كانت
فترة الزنازين حافلة في اللحظات الفارقة في حياة حسام، والتي جذّرت في أعماقه
قناعات لطالما ظلّت محل نقاش في داخله، فأصبح يرى الصورة في وضوح تام فكل يوم كان
يرى شكلاً من أشكال الظلم والتعسّف والاضطهاد، ويسمع قصصاً جديدة من أفواه
المكتوين بنار الاحتلال، وزاد على ذلك، حقد المحققين الذي كان يرسم صورة هذا الغزو
البغيض) ص160
وفي
مسار التحقيق يحاول المحقق الصهيوني أن يبسّط الشرح فيقول:
(في
صراعنا على البقاء لا يحكم الأمر المبادئ والأخلاق وما تسمونه "إرادة
الشعوب" بل يحكمة القوة، والقوّة فقط) ص161
وتأتي
الرسالة الأكثر أهميّة واضحة جليّة، يقول:
(يجب
أن أكمل ما بدأته بصورة تصبح أنموذجاً للأجيال القادمة، يولد ألف حسام) ص185
وتأصيلا
لهذه الرسالة باليقين الواقعي، يقول الكاتب في آخر مقطع في الرواية:
(بعد
أسبوع من استشهاد حسام وسعاد، أعلنت الصحف العربية، وحتى صحف العدو الصهيوني، أن
مائة مولود ولدوا خلال أسبوع، قد حملوا اسميّ حسام وسعاد، وأن أهل مدينة الطيبة
تحدوا الاحتلال وأطلقوا اسم فاطمة الفيليبينية على أهم شوارعهم) ص194
ولو
دخلت بحرص واختصار على قراءة نقدية فنية للرواية، أقول، إنها رواية على النمط
الكلاسيكي، وأعتقد أن في معالجة أفكار، كما الأفكار في الرواية وواقعيتها، لا بأس
من نمط كلاسيكي كي يكون أقرب إلى ذائقة المتلقين.
رواية
زاخرة بالمعاني القريبة والبعيدة، وقد تكون فرادَتها في وصف حالة الأسر، ومجريات
التحقيقات، وأساليبها، والتركيز على الصمود ومواصلة التضحيات للوصول إلى هدف
التحرير والتحرر لكل فلسطين.
تميّز
الحوار بعدم الإطالة، ومن خلال جمل فعلية دالّة، ولم تخلُ الرواية من لقطات فنية
إبداعية كانت في مواضعها.
إنها
رواية تلامس الألم بكثير من الأمل، كتبها من عاش في قلب الأحداث، فكان المعبّر
الأصدق عن مضامينها.
ـ ـ ـ

(*) عندما
يزهر البرتقال، رواية من إصدارات مؤسسة فلسطين للثقافة 194 صفحة من القطع فوق
المتوسط.
(**) الكاتب
عمار حماد الزبن، مواليد نابلس 1975 عانى من الاعتقال مرات كثيرة آخرها في العام
1998 ومحكوم بـ 26 مؤبد، و 25 سنة، له العديد من المؤلفات والمقالات التي كتبها من
داخل زنزانته.
المزيد

https://www.facebook.com/home.php?sk...type=1&theater