التركة الدائمة للعلماء والمفكرين والفنانين المسلمين
تاريخ ضائع
تأليف :مايكل ه. مورغان



مايكل ه. مورغان، مؤلف هذا الكتاب هو دبلوماسي سابق. تحوّل إلى الاهتمام بمناصرة قضايا السلام في العالم والحوار الثقافي بين الشعوب. سبق له وقدّم العديد من الدراسات وساهم في البرامج الإذاعية والتلفزيونية الخاصة بمظاهر السياسة الخارجية للدول. من كتبه «حرب الفجر» «مقبرة المحيط الهادئ» و«صدمة التاريخ».

« تاريخ ضائع» الذي يقصده في عنوان هذا الكتاب هو ما يتم نسيانه غالبا في الحقبة الراهنة التي يسودها التوتر في العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. هذه الحقبة، وكما يعبّر مايكل مورغان، محكومة بحالة من الحذر وسوء الفهم، مما يؤدي إلى «تجاهل» التاريخ، خاصة نسيان واقع أن الحضارة الإسلامية كانت في فترة العصور الوسطى هي مصدر العلم والتنوير بينما كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل ومحاكم التفتيش. إن مؤلف هذا الكتاب يكرّس صفحاته التي يزيد عددها على الثلاثمئة صفحة للبرهان على أن الإنجازات العلمية والثقافية المبكّرة التي حققها العالم الإسلامي شكّلت «حجر الزاوية الأساسي» في عصر النهضة الأوروبية التي بدأت ملامحها الأولى بشكل واضح اعتبارا من القرن الخامس عشر تعززت مسيرتها خلال القرن السادس عشر.

وهكذا لا يتردد في القول إن الحداثة الغربية عامة، والأوروبية حيث أرست أسسها مع الثورة الصناعية، إنما هي، وإلى حد كبير، وليدة مسيرة انطلقت خطواتها الأولى من أرض الإسلام. وبهذا المعنى كان العديد من المفكرين، وحتى السياسيين الأوروبيين، تحدثوا عن «الجذر الإسلامي» للحضارة الأوروبية الحديثة وليس الاكتفاء كما هو سائد بالحديث عن الجذر «اليهودي ـ المسيحي».

يبدأ المؤلف تحليلاته اعتبارا من بدايات العصر الإسلامي الأول وصولا إلى الحقبة الحديثة. هكذا يجد القارئ أمامه تأريخا للعديد من المحطات الهامة التي عرفتها العلوم والآداب والفنون التي برز فيها مسلمون واستلهم منها الغربيون بعد ذلك ما شكّل منطلقات نهضتهم. إن أسماء ابن الهيثم وابن سينا وابن خلدون وابن رشد والخوارزمي والفارابي وعمر الخيام وغيرهم تتردد عند حديث المؤلف عن علوم الرياضيات وعلم الفلك وعلوم الطب في عصر النهضة الأوروبي الذي نقلها لتشكل القاعدة الأولى التي ما كان له لولاها أن ينطلق.

هؤلاء العلماء والمفكرون والفلاسفة المسلمون هم الذين «مهّدوا الطريق أمام نيوتن وكوبرنيك وغيرهما»، كما يقول المؤلف ويضيف أن الفنون والعمارة والآداب لمعت في الغرب انطلاقا من الفضاءات الإسلامية. يرى مايكل مورغان أن العودة إلى التاريخ واستقراءه عبر مراحله السابقة يمكن أن يكون عاملا حقيقيا في تشجيع السلام والاستقرار في العالم. وذلك على قاعدة المساعدة على التخلص من الكثير من الأفكار الخاطئة التي قادت إلى حالة «اللاتسامح» القائمة، وبالتالي إلى «العنف» والمواجهات بين الشعوب والأمم.

وتتم الإشارة في هذا السياق إلى واقع الغياب شبه الكامل لتدريس التلامذة حقيقة التقدم الذي عرفته قرون عديدة في إطار الحضارة الإسلامية والتي استمر ازدهارها ما يقارب السبعة قرون، وخاصة التي ساهمت بشكل فعّال في عصر النهضة الأوروبي.

لقد ترك المسلمون إرثا هاما في ميادين علم الفلك والرياضيات والطب وعلوم الصيدلة والعمارة والفلسفة وفي الفنون وذلك على خلفية «حث معتقدهم الديني لهم على البحث عن العلم»، كما يشرح المؤلف لقارئه الغربي الذي يجهل تماما في أغلب الأحيان مثل هذه الحقيقة التي غابت تحت الصرة السائدة عن الإسلام في الغرب اليوم على أنه دين العنف والحرب.

ولا يتردد المؤلف في التأكيد على أن الغرب يجهل إلى حد كبير، وتقريبا إلى حد مطلق باستثناء بعض الباحثين الذين يذكر أسماء العديد منهم، «الجانب المضيئ» من التاريخ الإسلامي، الذي يبدو وكأنه يقتصر على «الحرب الصليبية» سابقا وعلى تفجيرات 11 سبتمبر «لاحقا». هكذا يتم تجاهل واقع أن المفكرين المسلمين الكبار في الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام التي امتدت حتى نهاية العصور الوسطى كانوا يتحلّون بـ «عقل خلاّق» واستطاعوا أن يحققوا إنجازات و«مبتكرات» في الكثير من ميادين العلوم والمعارف.

الأمثلة التي يضربها المؤلف على علماء المسلمين ومفكريهم كثيرة. ويذكر في رأس القائمة ابن سينا الذي ألّف حوالي 300 دراسة في مجالات الطب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك. ويؤكد أن كتابه الخاص بـ «قانون الطب» ساهم في تطوير الطب الأوروبي في بداياته أكثر مما طوّره أي عمل آخر. ويشرح في هذا الإطار بالتفصيل العامل الآليات والسبل التي تمّ بها نقل تعاليم ابن سينا إلى الأوروبيين. ويفعل الأمر نفسه بالنسبة لجميع العلماء والمفكرين والفنانين الذين يتعرّض لهم.

ما يؤكده المؤلف منذ الصفحات الأولى في كتابه هو أنه ليس كتابا في الدين، وإنما عن حضارة لعب فيها الإسلام دورا جوهريا، كما يشرح على مدى الفصول الثمانية التي يتألف منها. وهو يستعرض حياة وأعمال كبار مفكري الإسلام ومبدعيه في شتى الميادين بطريقة يغدون فيها «مألوفين» تماما بالنسبة لحضارة كانوا قد ساهموا في إيصالها إلى ما هي عليه. وكذلك يتحدث عن مدن كبغداد ودمشق والقدس والقاهرة وقرطبة واشبيلية وكأنها المهود الأولى للآمال التي أثمرت فيما بعد في رحاب القارة الأوروبية.

في معرض حديث المؤلف عن مدينة القدس يتحدث عن شخصية صلاح الدين الأيوبي بطريقة فيها الكثير من «التعاطف» بعيدا عن «الكليشيهات» السائدة. ويصف هذا القائد المسلم ، أنه كان شديد الورع والتقوى، إلى جانب كونه فارسا ومحاربا «لا يشق له غبار»، إذ كان قد قهر الصليبيين وخلّص مدينة القدس منهم في عام 1187، لكن الدماء لم تسل حسب الشهادات التي يقدمها المؤلف ممن عايشوا أو عاشوا تلك الأحداث.

وكان صلاح الدين قد حرص على استخدام العقل والحكمة في نقاش شروط الاستسلام مع الصليبيين وأبدى استعداده لقبول فديات مالية عن الأسرى. ولم يتردد في أن يقوم هو نفسه بدفع ما هو مطلوب عن حوالي ثلاثين ألفا من الأسرى «الفقراء» واختار مائة ألف من المسيحيين في الشرق طريق المنفى حيث اصطحبوا معهم جميع ممتلكاتهم.

ويؤكد المؤلف في تحليلاته على حرص ملوك وخلفاء المسلمين أنفسهم على التزود بأكبر قدر ممكن من العلوم والمعارف، بل ويذكر أن السلطان سليمان الأول كان يقرض الشعر، الأمر الذي أثبته عبر تقديم مقاطع من قصيدة له حصل عليها من إحدى المخطوطات النادرة القديمة.

تتمثل إحدى النقاط التي يؤكد عليها مؤلف هذا الكتاب في القول إن «التركة العلمية والفكرية» الكبيرة لكبار علماء العالم الإسلامي ومفكريه. جرى «تمثّلها»، بالتالي المحافظة عليها، من قبل الثقافة الأوروبية، هذا في الوقت الذي نسيها فيها إلى حد كبير المسلمون. و«نسيت» أوروبا لاحقا هذا الإرث، بل إنها اعتبرته جزءا من تراثها بعيدا عن «نسبه» الأصلي.

ويتم التأكيد في هذا السياق على أهمية التذكير بتلك الحقائق كي يفهم الجميع الانتماء للمسيرة المستمرة للعقل الإنساني وللتعريف أن العالم ليس عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها البعض. على قاعدة مثل هذا الفهم للتاريخ يمكن للسلام أن يصبح ممكنا بين مختلف حضارات العالم وشعوبه. «فالنزعة الإنسانية» هي ذات منشأ إسلامي في الأصل.

وتتم الإشارة في أكثر من موضع في هذا الكتاب إلى أن الجهل بالدور الكبير الذي لعبه العلماء والمفكرون والمبدعون المسلمون في شتى المشارب والمجالات في انبثاق عصر النهضة الأوروبي، ليس محصورا بالأوروبيين، الذين قد يتجاهلونه عن سابق إصرار وتصميم، وإنما أيضا من قبل الأغلبية العظمى من المسلمين أنفسهم.

ولعلّ أكثر الفترات ازدهارا، ولكن أيضا أكثرها جهلا وتجاهلا في الوقت الحاضر، هي فترة الوجود العربي ـ الإسلامي في اسبانيا التي كانت فترة «برّاقة» على الأصعدة العلمية والاقتصادية والأدبية والفلسفية والفنية. تجدر الإشارة إلى أن المؤلف يتعرض كثيرا في شروحاته لأفكار ابن خلدون وابن رشد اللذين كان لهما تأثير كبير على مدى حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله. أما الاسم الأكثر ترددا في مجال الإبداع الفني فهو زرياب.

في المحصلة يمكن اعتبار كتاب «التاريخ الضائع» بمثابة صلة الوصل الغائبة، أو المغيّبة، في العلاقة بين العالم الغربي والعالم العربي ـ الإسلامي اليوم، العلاقة التي يسودها الحذر وسوء الفهم. الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كان قد تحدّث ذات مرّة عن «جذور أوروبا الإسلامية بمقدار ما هي المسيحية».

*الكتاب:تاريخ ضائع - التركة الدائمة للعلماء والمفكرين والفنانين المسلمين

*الناشر:ناشيونال جيوغرافيك واشنطن 2007

*الصفحات: 320 صفحة من القطع المتوسط

Lost history, the enduring legacy of muslim scientists, thinkers and artists

Michael H. Morgan

National Geographic Washington 2007

P.320