منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    * من مشكاة النبوة *

    توطئة : من مشكاة النبوة يشرق النور ليعمّ دنيا البشر وينتقل بهم من ظلمات الأوهام إلى أنوار الحقائق وضع أمام كل العقلاء أنصع الصور وأكثرها إشراقاً لهذا الدين الّذي يتسم بالكمال والجمال مما يبعث السرور في القلب والنفس . مع واحد من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نمضي لندرك حقيقة من أرقى الحقائق وهي : ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من كفاءة بلاغية في القمة بحيث يجمع المعاني الكبرى في قليل الكلام ولم يسبقه بذلك أحد من بلغاء عصره بل كان سيداً لا ند له في عالم البلاغة , إن الحديث الّذي بين أيدينا جمع فيه الرسول الكريم عليه صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الإسلام من أطرافه كلها بأوجز الكلام . الحديث : أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الدّاريّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدّين النّصيحة . قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم . "
    راوي الحديث : أبي رقيّة , كني بها لأنه لم يولد له غيرها , أسلم عام تسع من الهجرة ومعه أخوه نعيم رضي الله عنهما , خاض مع النبي صلى الله عليه وسلم سائر الغزوات وأبلى بلاء حسناً , روي له (18) ثمانية عشر حديثاً أخرج له الأمام مسلم منها هذا الحديث لا غير فليس له في صحيح مسلم غير هذا الحديث . فهو إذاً من الصحابة المقلّين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم , ربماً أخذاً بالاحتياط خشية الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم , أو لانشغاله بالجهاد وندرة سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم .
    الشرح والتحليل : هذا الحديث قيل إنّه ربع الإسلام , بيد أني أقول مؤكداً أنّه الإسلام كله . حيث صدّر بكلمة الدّين , والدّين من أبرز ما يميّزه الشمول لكل مستلزمات الحياة الإنسانية . هكذا مطلقاً . فما هو الدّين ؟ عرّفة الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى في كتابه , الدّين , فقال : هو وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة إلى الحق في الاعتقاد وإلى الخير في السلوك والمعاملات . وأعرّفه أنا فأقول : الدين هبة من الله لعباده جاء بها رسله وأنبياؤه الكرام عليهم الصلاة والسلام للأخذ بيد الناس إلى طريق الحق في العقيدة والعبادة والمعاملات وكل شؤون الحياة دنيا وأخرى . ويقصد به الإسلام بلا ريب لأنه الدّين الخاتم والمهيمن على كل ما سبقه من الأديان السماوية , والّذي يومئ إليه الحديث هذا المعنى الكلي الجامع , الدّين قوامه وعماده إسداء النصح لكل مسلم . وسر ذلك أن النصيحة منهج الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم , فهذا سيدنا نوح صلى الله عليه وسلم يخاطب قومه بالنصيحة : " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون . " سورة هود " 34 " وعلى طريق النصح مضى رسل الله وأنبياؤه الكرام صلى الله وسلم عليهم أجمعين , لكن نصائحهم جاءت في كثير من الأحيان أما تذكيراً وإما تحذيراً , وإليك هذا النموذج الراقي من النصيحة والذي جمع كلا شطريها . يقول الله تعالى مخاطباً نبييه الكريمين موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام يعلمهما الطريقة المثلى للنصيحة : " اذهبا إلى فرعون إنّه طغى . فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى . " سورة طه الآيتين " 43-44 " . هذا النموذج الوجيز جمع الله فيه النصيحة من طرفيها , والمح إلى آليتها وهي القول اللين , وبيّن شطريها : التذكر من نسيان أو غفلة أو التحذير من الكفر وعواقبه حيث يستيقظ شعر الخشية في القلب . وأما النصيحة فهي : تصفية النفس من الغش للمنصوح . وينبغي على المسلم أن يخلص فيها وينحى بأخيه منحى الخير وأن يحيطها بالسرية ليحافظ على مشاعر أخيه ويصون كرامته , وأن يتحلى بالرفق والسهولة لدى إسداء النصيحة لغيره , ورحم الله الشافعي حيث قال : " من نصح أخاه سراً فقد زانه وصانه ومن نصحه جهراً فقد فضحه وشانه . " ثم قال رحمه الله من عيون شعره :
    تغمدني بنصحك في انفرادي وجنّبني النصيحة في الجماعة
    فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
    وإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة .
    وبعد هذا آن لنا أن نلحظ دقة الانتباه والتيقظ الفكري عند الصحابة الكرام , لما تلقفت آذانهم مطلع الحديث : " الدّين النصيحة " فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم لمن يا رسول الله ؟ والهدف من وراء هذا السؤال أن يدركوا مجالات النصيحة ويعرفوا مواقعها ليمارسوها على وجهها الصحيح , فدلهم النبي صلى الله عليه وسلم على مواقعها وحدد لهم مجالاتها والشرائح الاجتماعية التي يتحركون في إطاراتها بوضوح وجلاء :
    1-النصيحة لله : هذه أعلى درجات النصح , من أعطاها حقها , وصدرت عنه على وجهها فقد حظي بخير عميم , ونفع عظيم , وثمرتها نور في القلب وإشراق في الروح وصفاء في الفكر وتيسير في الأمر . وقوام النصح المناسب لهذه الدرجة الإيمان بالله إيمان تحقيق عبر تسخير الطاقات المودعة فيك بكل أطيافها سمعاً وبصراً ولساناً وعقلاً وقوة واندفاعاً في ولوج أبواب الخير والطاعة بما يعزز الإيمان ويجذّره في قلبك , وعندها ينطلق المؤمن في دنيا الإيمان بثقة عالية تتخطى كل عقبة تعترضه في مسيرته عبر قافلة الإيمان . ثم المعرفة بصفات كماله ونعوت جلاله , والتخلق بأسمائه الحسنى والسعي إلى حفظها على سبيل التعظيم لله تعالى , وأن ينعكس التعرف على فضائلها ومعانيها على السلوك اليومي للمؤمن , ومن آفاق النصح لله تعظيم اسمه سبحانه عن بذله في الحلف عند كل أمر صغر أو كبر " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ... " ومن أفاقها أيضاً تنزيهه سبحانه عن الند والشريك أي إثبات التوحيد الخالص النقي من كل شائبة أو دغل , ومن النصح لله عزّ وجلّ الثقة به سبحانه والإقبال عليه وحضور القلب معه لأنه معك وناظر إليك : " وهو معكم أينما كنتم ..." وهذا الّذي قلنا كله من أعمال القلوب , لكن الجانب الأهم هنا السلوك العملي وهو المقياس الدقيق لتقويم ما سبق الحديث عنه ومراد به تكون ناصحاً لله كلما كنت أكثر عكوفاً على الطاعات وهجراً للمعاصي رائدك في ذلك الحب والتعظيم والخضوع لفاطرك ومولاك .
    2- النصيحة لكتابه : هذه هي الدرجة الثانية من درجات النصيحة أهمية بعد سابقتها . فما هي امتدادات النصيحة لكتاب الله عزّ وجلّ ؟ اعتقد أن ثمة امتدادات ستّ هي التالية :
    أوّلاً : حب كتاب الله تعالى : فمن الطبيعي أن المؤمن إذا تجذّر قي كيانه حب الله عزّ وجلّ تبع ذلك حب كتابه , فهو كلامه الراقي الّذي لا يسمو فوقه كلام , تأمل إذا كنت تحب صاحباً من أصحابك , وجلس يحدثك فإنك تصغي إليه باهتمام وتستحسن كلامه بل تحب كلامه ويجد له أثراً واضحاً في جانب ما من جوانب حياتك . فكيف بما هو أرقى من ذلك . الله يحدثك , فكلامه حديثه إليك وخطابه لك . فلا ريب أنك تحب كلامه لأنه منبثق من عين محبته التي ملأت قلبك . وإذا كتاباً ما فأعجبت بمحتواه الفكري ومادته العلمية واحتلت الأفكار التي يحتويها والمواد العلمية فيه مكاناً في عقلك , فإنك تحبه وتحرص عليه وتعيد قراءته عدّة مرّات لتعلّقك به ومن ثمّ تجهله مرجعاّ لك في بعض شؤونك الفكرية والحياتية , كل ذلك مبعثه حبّك لهذا الكتاب .
    ثانياً : الثقة واليقين أنّه منزل من عند الله : أنزله على رسوله سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحياً نزل به ملك الوحي سيّدنا جبريل عليه السلام , ويحتل ذلك مكاناً في قلبه لأنّه جزء من عقيدته , عقيدة التوحيد , بل إنّه واحد من مستلزمات إيمانه , حيث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان , فقال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه " .
    ثالثاً : تلاوته بإتقان قائم على العلم : بوجوه القراءات المعروفة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهي سبع قراءات , ألحقت بها ثلاث قراءات فأصبحت عشراً , وينبغي أن يلم المسلم بقراءة واحدة على الأقل يتلو طبقاً لأصولها كتاب الله عزّ وجلّ , وإليك القراءات المتواترة مع رواتها :
    1- قراءة عاصم بن أبي النجود " قارئ الكوفة " : رواها عنه راويان هما حفص بن سليمان الكوفي وشعبة بن الحجاج البصري رحم الله الجميع . وبها يقرأ أهل المشرق من المسلمين .
    2- قراءة نافع بن أبي نعيم المدني " قارئ المدينة " : رواها عنه راويان هما عيسى بن مينا الملقب قالون , وعثمان بن سعيد المصري الملقب بورش ويقرأ بها أخوتنا في المغرب العربي .
    3- قراءة أبي عمرو بن العلاء المازني " قارئ البصرة " : رواها عنه يحيى بن المبارك اليزيدي ورواها عن يحيى راويان هما حفص بن عمر الدوري وصالح بن زياد السوسي .
    4- قراءة عبد الله بن كثير " قارئ مكة " : رواها عنه راويان هما : أحمد بن محمد بن عبد الله البزي وأبو عمر محمد الملقب قنبل .
    5- حمزة بن حبيب الزيّات : من رواتها عنه خلف بن هشام البزاز وخلاد بن خالد الكوفي.
    6- قراءة علي بن حمزة الكسائي : رواها عنه راويان هما : الليث بن خالد وحفص الدوري
    7- قراءة عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي " قارئ الشام " : رواها عنه راويان هما : هشام بن عمار الدمشقي و عبد الله بن أحمد بن ذكوان .
    ومن القرّاء الذين اتفقت الأمة على قراءاتهم وألحقوا بالقراء السبع أبي جعفر يزيد بن القعقاع ويعقوب بن إسحاق الحضرمي وخلف بن هشام .
    وليس من النصح لكتاب الله تعالى أن تقرأه هكذا بلا ضوابط وكأنّك تقرأ أي لون من ألوان الكلام أدباً من شعر أو نثر . فاجتهد جهدك لتعلم قراءة واحدة على الأقل لتتلو كلام ربك تلاوة صحيحة بصوت حسن جميل .
    رابعاً : حفظ القرآن الكريم : كل من يستطيع أن يحفظ القرآن كاملاً ويسخّر الله له رجالاً من حملة القرآن يعينوه على ذلك , فلا يتهاون في ذلك بل يقبل عيه بكليّته لأنه ذخر له في الدنيا والآخرة , لكن علينا أن ندرك جميعاً أنّ الحفظ في الذاكرة والتلاوة عن ظهر قلب في الصلاة وغيرها على جليل نفعه وعظيم مكانته , وجسامة أهميته , لا يشكّل إلا أحد طرفي المعادلة , ولا غنى للمسلم عن الطرف الآخر لتحصيل الكمال في الحفظ وهو حفظ العمل المقترن بالحفظ في الذاكرة ولنسمّه تنزيل القرآن الذي تحفظه على أرض الواقع سلوكاً وعملاً في كافة مناحي حياتك , بحيث تكون في أجواء القرآن وتعيش معه وتتخذ منه صاحباً وفيّاً , واعلم أنه خير الأصحاب لك في الدنيا والآخرة نور لك في الأرض لا تضل وأنت معه وذخر لك في السماء يشفع لك عندما يشتد الأهوال يوم القيامة , وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا قال : " اقرؤوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه . " خامساً : الفهم التدبر عند التلاوة : وتحصيل ذلك يكون بالتأمل الهادئ والتفكير مليّاً فيما تتلو من القرآن الكريم لتعرف ماذا يريد الله منك , لأنّك أنت الخاطب بالقرآن ومن أجلك أنزل , وأضرب هنا مثالاً مبسّطاً لأقرّب الفكرة لك : هب أنّك تتلو سورة النور , وتلوت فيها قوله تعالى : " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلّكم ترحمون . " لا ريب أنك هنا تسأل نفسك , ماذا يريد مني ربي ؟ فتجيب , يريد مني ربي أن أقوم بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها المحددة , وإخراج زكاة المال عند دخول الحول الهجري وملك ما زاد عن النصاب ملكاً تاماً وأن هذا المال زائد عن حاجاتي الأساسية , وعند جني المحاصيل الزراعية حيث لا يشترط الحول هنا , وأعطي الزكاة المفروضة لمستحقيها كما أمر الله , والتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأتأسّى به في قدر المستطاع في مناحي حياتي , والثمرة حصول الرحمة من الله تعالى لك يغمرك بها أي يدخلك في رحمته وتلك غاية المنى . سادساً : أن تجعل لنفسك ورداً من القرآن تتلوه كل يوم : لتبقى مع القرآن دائماً , وتعيش في أجوائه , وتعتبر بما جاء فيه من وقائع وقصص وأحداث , وتتعلم منه الحلال والحرام , وترتقي في سلم الكمال أدباً وخلقاً فيستقيم سلوكك وترتقي حياتك نحو الأفضل والأحسن في إطار ما يرضي الله عز وجل .
    تلك هي امتدادات النصيحة لكتاب الله وضعتها أم ناظريك فتأمّل – هداك الله ورعاك - .
    ثالثاً : النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم : هذه هي الدرجة الثالثة من درجات النصيحة , وهي ذو أهمية كبرى لأن النصيحة لله ولكتابه لا قوام لها إلاّ بها , فلا يمكن بحال أن يكون المسلم ناصحاً لله ولكتابه دون أن يكون ناصحاً لرسوله سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم . فواضح أن النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطريق المتعيّن لبلوغ رتبة النصح لله ولكتابه . فما هي أبعاد النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم وما هي امتداداتها ؟ النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم تحصل عندما يلزم المسلم نفسه بأمرين اثنين : هما التصديق والاتباع , أما التصديق فهو: اليقين القلبي الجازم أن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا ريب فيه ويشمل ذلك الدين كله قرآناً وسنّة . والاتباع هو: التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم وبذلك أمر الله عزّ وجلّ , فقال : " قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . " فالاتباع لا يأتي إلا عقب التصديق وكلاهما يثمر المحبة بقطبيها حبك لله وحب الله لك , ومحو والذنوب والخطيئات وغسلها بوابل من ماء المغفرة . ولا يخفى عليك أن الاتباع المقترن بالتصديق , الباعث عليه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اقترن بالفعل الذي هو الدليل على ما يختزنه القلب من حب له صلى الله عليه وسلم , وهذا هو النصح في أعلى وأجل صوره وأرقاها .
    رابعاً : النصيحة لأئمة المسلمين : أئمة المسلمين هم حكامهم الّذين يسوسون أمورهم ويرعون مصالحهم ويقيمون فيهم شرع الله قرآناً وسنّة , ونصب الحاكم من صميم شرع الله عز وجل وقد أشار الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية إلى مكانة الحاكم في الأمة فقال : الحاكم قائم مقام النبي في حراسة الدّين وسياسة الدنيا , وهذا دليل واضح على أن نصب الحاكم فرض من فروض الدّين بل من أعظمها , وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : " إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . " وإذا تبيّنت أهمية الحاكم فاعلم أنه بشر يغضب ويرضى , يتذكّر وينسى , يخطئ ويصيب , لذلك لابدّ من تعاهده بالنصيحة عندما تدعو الحاجة إلى ذلك . والسّؤال المطروح هنا , من الّذي يتولّى نصح الحاكم ؟ هم علماء الأمة العاملين المخلصين إن أراد أن يفعل خيراً أعانوه وإن أخطأ وأراد أمراً ما نصحوه بتركه مبيّنين له منعكساته على حياة الأمة من حيث يلحق ضرراً بمصالحها الدنيوية أو الأخروية , وهذه وقائع من ذاكرة التاريخ تبيّن للأمة اليوم كيف كان العلماء ينصحون الحكام , وكيف كان هؤلاء يتقبّلون نصحهم , تأمّل وقارن فيما ستقرأ في هذه النماذج لتعلم كم أصبح البون شاسعاً بين ناصحي الأمس وناصحي اليوم . 1- قام رجل في مجلس عمر بن الخطاب وقال له : يا أمير المؤمنين اتقّ الله , فقالوا له : أو تقول لأمير المؤمنين اتقّ الله . فقال عمر رضي الله عنه دعوه فليقلها ولا خير فيكم إن لم تقولوها . 2- هارون الرشيد الخليفة العادل , أراد أن يجعل من موطأ مالك بن أنس قانوناً يحكم به الدولة الإسلامية , فقام مالك وقال : لا يا أمير المؤمنين , ما منا من أحد إلا ويؤخذ منه ويردّ عليه إلا صاحب هذا القبر , يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم . 3 – العز بن عبد السلام : كان معروفاً بمناصحته الحكّام حيث كان يدخل عليهم ناصحاً واعظاً ومن ذلك : وقوفه في وجه الانحراف والظلم وإنكاره على الملك الصالح إسماعيل تحالفه مع الفرنجة , كما أنكر فتنة الحشوية عند الملك الأشرف محذراً من مخاطرها على الدين الحق . دأبه النصح لله والأمانة على شرعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجميع الناس حكّاماً ومحكومين . هذه وقائع مبسطة أعرضها على قدر ما يسمح به المقام تدل بوضوح على مناصحة الحكّام والّتي هي قاعدة من قواعد هذا الدّين لا غنى للأمة عنها في كل عصر إلى يوم القيامة .
    خامساً : النصيحة لعموم المسلمين : هذه هي الدرجة الأخيرة من درجات النصيحة , وتمثل مع التي قبلها الجانب الاجتماعي الحركي الذي يمس كل شرائح الأمة مباشرة , وهي السلوك العملي للمسلم مع أخيه المسلم , تدل على اهتمام المسلم بأخيه المسلم وحرصه عليه ديناً ودنيا , وهي حق ثابت للمسلم تجاه أخوته المسلمين حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإذا استنصحك فانصح له . " ومضمون النصيحة بين المسلمين : إرشاد هم لعمل الخير وتحذيرهم من الوقوع في الشرّ والإثم . وأضرب بعض الأمثلة التوضيحية لذلك :
    أولاً : صاحب لك يريد الزواج من عائلة ذا سيرة سيّئة ومعروفة بالبعد عن شرع الله , تنصحه سرّاً بينك وبينه بالعدول عن هذا الزواج وترشده لما هو أفضل رعاية لنسله في قادمات الأيام .
    ثانياً : جارك يريد سفراً إلى بلد من بلاد الفرنجة للعمل تحصيلاً للرزق تنصحه بالسفر إلى بلد مسلم حرصاً على دينه وأخلاقه .
    ثالثاً : ربما أقدم أخ لك على الاقتراض بالربا انصحه بالابتعاد عنه رعاية للدين وترسيخاً لأحكامه وأرشده إلى البديل .
    رابعاً : أخ لك أقدم على اختيار صاحب له من ذوي الأخلاق الهابطة وجب عليك نصحه ليعدل عن اختياره هذا حفظاً لدينه وخلقه لأن صحبة الأشرار ضرر في الدّين والدنيا .
    وهكذا هو المسلم ناصح أمين لا يضنّ بالنصح على أحد من إخوانه هو في هذا السلوك ينتقل من طاعة إلى طاعة يكتب له ثوابها تفضلاً من الله وتكرّماً .
    فوائد سريعة : بعد أن فرغنا من بسط الكلام في هذا الحديث الهام على قدر ما منّ الله به علينا نعرض طائفة من الفوائد عرضاً سريعاً لعلّها تكون بمثابة الخلاصة لمحتواه :
    1-العناية بالنصيحة والاهتمام بها فهي الدّين كله . وعليها مضى الأنبياء والرسل جميعاً صلى الله عليهم أجمعين .
    2- ينبغي على العالم أن يعرض على طلابه الأمر جملاً ثم يأتي بعد الإجمال بالبيان , وهذا أسلوب نبوي راق حري بالإتباع .
    3- وجوب النصيحة على المسلم لأخيه المسلم على أيّ حال وفي كلّ زمان ومكان .
    4- النصيحة لحكّام المسلمين عون لهم على اتباع نهج الحق وإرشاد لهم إلى الأرفق والأصلح للأمة .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    مصادر البحث :
    1- الأحاديث الأربعين النووية مع ما زادها ابن رجب . تأليف عبد صالح المحسن . الطبعة الرابعة 1407 هجري مركز شؤون الدعوة في المملكة العربية السعودية . " نص الحديث فقط والاستئناس بالفوائد في آخر الشرح دون غيرها . "
    2- مجلة نهج الإسلام العدد 48 عام 1992- 1412 السنة الثالثة عشرة , مقال للدكتور محمد الزحيلي حفظه الله بعنوان:العز بن عبد السلام ابن دمشق البارّ ص 62 وما بعد.


    وما بكم من نعمة فمن الله

  2. #2

    رد: * من مشكاة النبوة *

    السلام عليكم
    موضوع كبير ونص نحن بحاجة له وبقوة وقد قرات شطرا منه واكرر سؤالي لماذا لم يعد معظم الناس لايتقبل النصيحة الان؟
    مع الف تحية وشكر
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد: * من مشكاة النبوة *

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , السيدة الفاضلة أم فراس ردّ عال في القمة , حيث أكدت على مدى الحاجة للموضوع وبثقة عالية , أما لماذا لم يعد الناس اليوم يقبلون النصيحة ؟ فذلك فيما أعتقد عائد لسببين :
    الأول : الكبر وقسوة القلوب . الثاني : الظن الخاطئ لدى من تنصحه أنه اوسع منك علماً وخبرة واطلاعاً . وربما يكون للجهل نصيب وافر أيضاً . أشكرك أم فراس على سهرك وصبرك , فأنت حقاً امرأة عظيمة . موفقة بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
    وما بكم من نعمة فمن الله

المواضيع المتشابهه

  1. من هدي النبوة
    بواسطة رياض محمد سليم حلايقه في المنتدى فرسان الحديث
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 07-11-2013, 05:59 PM
  2. من مشكاة السنّة النبوية المطهّرة
    بواسطة أسعد الأطرش في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-05-2011, 03:15 AM
  3. * من مشكاة النبوة *
    بواسطة أسعد الأطرش في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-11-2010, 03:12 AM
  4. شمس النبوة....
    بواسطة جهاد المعاضيدي في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 09-13-2009, 06:14 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •