مسؤولية الأجهزة الأمنية عن أخطائها في سوريا

مسؤولية الأجهزة الأمنية عن أخطائها في سوريا
في اطار القانون السوري
---------- بقلم : الدكتور عبد الحي السيد

طبع ممارسات الجهات الامنية السورية نمط اعتقال تعسفي للكثير من المواطنين بدون محاكمة على فترات طويلة. لا نريد الخوض في الظروف السياسية التي رافقت هذه الممارسات. غير اننا نعتقد بأن دولة لجميع مواطنيها يسودها القانون قادرة على اعمال الضمانات الموجودة في نظامها القانوني والتي تسمح للمواطن الضحية باللجوء الى قضاء عادل من أجل التثبت من الخطأ والتعويض عن الضرر.
سنستعرض في هذه المقالة امكان مطالبة الجهات الامنية بالتعويض عن الاخطاء المرتكبة نتيجة الاعتقال التعسفي بدون محاكمة، والمعاملة المهينة اثناء الاعتقال. سنطرح أولاً مسألة تحديد الجهة الامنية التي يمكن مقاضاتها. سنعالج ثانياً مسألة الطريق القضائي الانجع لمثل هذه المطالبة. سنتطرق ثالثاً الى الاساس القانوني الذي يمكن الاستناد عليه من اجل المطالبة بالتعويض. سنبحث أخيراً في الصعوبات التي يمكن ان تعترض سبيل مثل هذه الدعوى. وسنتطرق في شكل خاص الى مسألة حصانة الجهات الامنية والصعوبات المرتبطة باثبات وقائع الاعتقال التعسفي والمعاملة المهينة، كذلك حالة الاحتجاج بحالة الطوارئ لتبرير عدم التقيد بضمانات حقوق الانسان وللدفع بعدم الزاميتها المطلقة.

1- الجهة الامنية التي يمكن مقاضاتها
تشير شهادات عديدة الى تعدد الاجهزة الامنية في جسم الدولة. كما تشيرالتجربة الى ان تبعية هذه الاجهزة من الناحية الادارية غير واضحة. وعليه فانه يصعب على رجل القانون، الذي تعود على المصادر التقليدية في البحث عن القانون. أن يقدم وصفاً لأي من الاجهزة الامنية العاملة في البلاد او لطبيعتها او لمدى سلطاتها.
ان البحث المنظم في القوانين الناظمة لعمل اي من الاجهزة الامنية العاملة يقودنا الى ملاحظة عدم وجود اي نص قانوني منشور. ان كل ما يمكن استخلاصه هو وجود رأي للجمعية العمومية للقسم الاستشاري للفتوى والتشريع بمجلس الدولة الرقم 654 العام 1997(1) يشير الى قانون ناظم لعمل ادارة المخابرات العامة، بقي بحد ذاته غير منشور. لقد استفتى مجلس الدولة حول ما اذا كان يجوز ملاحقة العاملين في ادارة المخابرات العامة اثناء قيامهم بالاعمال الموكلة اليهم او في معرض قيامهم بها. وقد اعتمد مجلس الدولة في رأيه الاستشاري على القوانين الناظمة لعمل ادارة المخابرات العامة التي كانت ابرزتها له الادارة المذكورة. لقد جاء في المادة 16 من المرسوم التشريعي الرقم 14 بتاريخ 15-1 -1969 الذي يبدو انه تضمن احداث ادارة المخابرات العامة ما نص: "يشكل في ادارة المخابرات العامة مجلس لتأديب العاملين فيها او المنتدبين او المعارين اليها. ولا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الادارة عن الجرائم التي يرتكبونها اثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة اليهم او في معرض قيامهم بها الا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن مدير الادارة". كما جاء في المادة الرابعة من المرسوم الرقم 5409 العام 1969 الذي يبدو انه ناظم لاعمال الادارة ما نصه: "لا يجوز ملاحقة اي من العاملين في ادارة المخابرات العامة او المنتدبين او المعارين اليها او المتعاقدين معها مباشرة امام القضاء في الجرائم الناشئة عن الوظيفة او في معرض قيامه بها قبل احالته على مجلس التأديب في الادارة واستصدار أمر ملاحقة من قبل المدير ويبقى استصدار امر الملاحقة واجباً حتى بعد انتهاء خدمته في الادارة". وبناء على هذه النصوص أقرت الجمعية العمومية للقسم الاستشاري للفتوى والتشريع الرأي الذي مفاده: "لا يجوز ملاحقة العاملين في ادارة المخابرات العامة او المنتدبين او المعارين او المفرزين اليها او المتعاقدين معها مباشرة عن الجرائم التي يرتكبونها اثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة اليهم او في معرض قيامهم بها قبل احالتهم على مجلس التأديب في الادارة واستصدار أمر ملاحقة من قبل السيد مدير ادارة المخابرات العامة".
وعليه يتضح من القانون الناظم لعمل ادارة المخابرات العامة بأنه يتضمن نصوصاً تجعل ادارة المخابرات العامة وافرادها وملفاتها مشمولة بحصانة مبدئية يمكن مديرها ان يتنازل عنها.
ان الطبيعة غير المنشورة للمرسوم التشريعي الرقم 15 العام 1969 تستدعي التساؤل حول قيمته القانونية من حيث نفاذه على المواطن العادي. كما ان الباحث غير قادر على تخمين سبب عدم نشر نص المرسوم كاملاً أو سبب السماح بنشر النصوص التي تؤسس لحصانة العاملين في الادارة فقط! قد يقول قائل ان عدم النشر سببه رغبة حكومية مشروعة في عدم الكشف عن طرق عمل ادارة تضطلع بمهمات جسام في الحفاظ على أمن البلاد وخصوصاً الخارجي منها. غير ان انعدام وجود اسباب موجبة يمكن ان يسمح بالطعن بعدم دستوريته رغم ان النص الصريح للدستور الدائم للعام 1973 لا يسعف فهو لا يشترط لنفاذ القانون النشر المسبق (2). قد يكون من الممكن الاستناد الى المرسوم الاشتراعي الرقم 5 بتاريخ 11/2/1936 المتضمن تحديد الطرق الواجب اتباعها في نشر القوانين التي تصدرها الجمهورية السورية وحفظها (3). فقد نصت المادة الاولى من هذا المرسوم ان القوانين والمراسيم التي لها علاقتها بالادارة العامة والمتضمنة "نظاماً عاماً دائمياً" تصبح "نافذة من تاريخ نشرها في الجريدة الرسمية". كما يمكن الاستناد الى العرف الدستوري في مجال التشريع الذي اختطته الممارسات الدستورية للبلاد (4). لقد جرى العرف على نشر كل قانون في الجريدة الرسمية كشرط لنفاذه. ولقد تعارفت سوريا على هذه الممارسة على انها ملزمة في جميع الحقب الدستورية التي مرت عليها. وعليه فانه من الممكن الاعتداد بعدم نفاذ المراسيم المتعلقة بادارة المخابرات العامة لعدم نشرها (5).
وفي كل الأحوال فان صعوبة تحديد الجهة الامنية والجهة الوصائية التي تتبع لها ما زال قائماً من اجل مقاضاتها كطرف قانوني له شخصية اعتبارية تترتب عليه مسؤولية عن اخطاء يرتكبها وذمة مالية يمكن التنفيذ عليها. قد يكون من الممكن الاعتماد على الاوراق الصادرة عن هذه الاجهزة كاستدعاء حضور او غير ذلك على فرض توافرها، والتي قد تتضمن تحديداً للجهة الادارية الوصائية التي يتبع لها اي جهاز.

2- الطريق القضائي الامثل
إن الاعتقال بدون محاكمة والمعاملة المهينة اثناء الاعتقال الذي قد يكون تعرض له المواطن المتضرر تنشئ مسؤولية جزائية في الدرجة الاولى. غير ان عدم الوضوح في طبيعة الرتب الوظيفية للعاملين في اي من الاجهزة الامنية، يترك الباب مفتوحاً على مسألة تحديد الجهة الجزائية المختصة لمقاضاة المتورطين جرمياً، فهل ترفع الشكوى امام القضاء الجزائي العادي ام العسكري ام الاثنين معاً (6)؟ كما ان الغموض الذي يكتنف عمل الاجهزة الامنية والحصانة الفعلية التي يتمتع بها عاملوها من شأنها ان تجهض اي جهود جدية تهدف الى التحقيق في الجرائم المدعى بها، مما يعرقل تحريك اي دعوى عامة في هذا الصدد.
اما الطريق المدني الذي يتمثل في مطالبة المواطن المتضرر بالتعويض عن خطأ الادارة بالاعتقال التعسفي بدون محاكمة والمعاملة المهينة اثناء الاعتقال فانه يمكن محاولته امام قضاء مجلس الدولة (7). ان تحريك الدعوى المدنية امام مجلس الدولة يمكن ان يؤدي الى تفادي العراقيل المتوقعة امام القضاء الجزائي (8).
ليس لمجلس الدولة سلطات فعلية في اجبار اي من الاجهزة الامنية على التقيد بأي من القرارات الاجرائية، او المتعلقة بالموضوع، التي يمكن اتخاذها. غير ان المقاضاة امام مجلس الدولة سيوفر فرصة لدعوة الجهاز الامني المدعى عليه للمثول امام المحكمة. وفي ذلك قيمة رمزية تتجلى في تذكير الاجهزة الامنية بأن تصرفاتها يمكن ان تخضع للمحاسبة امام قوس المحكمة. من المفيد التذكير أيضاً بالحدود الفعلية لأي احكام يمكن ان تصدر عن مجلس الدولة ضد اي من الاجهزة الامنية. فالادارة الامنية تستطيع تجاهله، ولا احد يستطيع اجبارها عملياً على التنفيذ. ولكن هذه الاحكام سيكون لها قيمة قانونية رمزية، فهي ستجبر الاجهزة الامنية على الاخذ بما تتضمنه من حدود على سلطاتها لتفادي المساءلة في قضايا مشابهة. وهو سيفتح الباب امام مزيد من المطالبات بالشفافية التشريعية وبضرورة التقيد بقيم حرية الانسان وكرامته في كل الاوقات. يمكن ان تذكّر الاحكام الجريئة لمجلس الدولة الاجهزة الامنية بضرورة حصر نشاطها في مهماتها الوطنية وكفها عن التسلط الاخرق على حرية الانسان المقدسة. ليس الهدف من مساءلة الاجهزة الامنية الانتقام الشخصي من موظفين مهما كانت مرتبتهم الوظيفية (كما يمكن ان يدل على ذلك اللجوء الى القضاء الجزائي) وانما التأكيد على امكان ان تتحمل الدولة مسؤوليتها بجبر الضرر عند تعسف احد اجهزتها (كما يدل على ذلك اللجوء الى القضاء الاداري). وفي كل الاحوال فانه من الممكن الاستشهاد بالقواعد القانونية الواردة في القوانين الجزائية امام القضاء الاداري، من غير ان يكون القصد اعمال العقوبات الواردة فيها وانما التدليل على انها تجليات قانونية لمبادئ عامة تتصل بقيم المحافظة على حياة الانسان وحريته وكرامة جسده وفكره.
على الرغم من ان الاجراءات القضائية في مجلس الدولة تتميز بطابعها الكتابي وبسريتها (9)، فانه من المفيد أيضاً الاصرار على فتح باب المرافعة العلنية لما يمكن ان يكون لذلك من قيمة رمزية تضميدية للمتضرر خصوصاً ولغيره من المتضررين مع عائلاتهم في شكل عام.

3- الاساس القانوني لدعوى التعويض
تتأسس الدعوى على المطالبة بالتعويض عن خطأ الجهاز الامني المدعى عليه والذي سبب ضرراً يستحق من اجله الطرف المتضرر التعويض. وتعتمد هذه الدعوى في شكل خاص على قاعدة وجوب التعويض عن الخطأ في حال تسبب بضرر للغير كما نصت عليه المادة 164 من القانون المدني. كما يمكن الاستشهاد باجتهاد المحكمة الادارية العليا المستقر، كأعلى مرجع قضائي في القضايا الادارية التي تعرض على مجلس الدولة، الذي حدد فيها الشروط التي يجب توافرها للحكم بالتعويض جبراً لاخطاء الادارة التي سببت ضرراً للغير. لقد جاء في قرار المحكمة الادارية العليا الرقم 107 للعام 1967 بان "مسؤولية الدولة عن اعمالها التي تبنى على الخطأ تستلزم توافر اركان ثلاثة هي: (أ) أن يكون هناك خطأ منسوب الى الادارة; (ب) أن يصيب الفرد ضرر بسبب هذا الخطأ; (ج) ان تقوم علاقة سببية بين الخطأ والضرر، ويندرج في مدلول الخطأ العمل غير المشروع وهو يتناول الفعل السلبي والفعل الايجابي وينصرف معناه الي مجرد الاهمال والفعل العمد على السواء" (10).
اما من حيث الخطأ، فأن حالة الاعتقال التعسفي بدون محاكمة والتعرض للمعاملة المهينة اثناء الاعتقال يختلط فيها الخطأ الشخصي لكل موظف تعرض للمواطن المتضرر من قريب أو بعيد أثناء مدة احتجازه، مع الخطأ المرفقي للجهاز الامني المدعى عليه كادارة بكاملها.
لن يصعب تحديد ماهية اخطاء الادارة الامنية بحق المتضرر. انها تتمثل بالخرق المنهجي للمبادئ العامة التي أقرها الدستور الدائم للعام 1973 وكذلك للمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الانسان التي انضمت اليها سوريا فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من القانون الوطني بالاضافة الى قواعد قانونية اخرى موجودة في قانون العقوبات العام.
نستطيع ان نميز ثلاثة انواع من الخروقات. نجد أولها ما يتعلق بالتوقيف التعسفي، وثانيها ما يتصل بالاستمرار في الاعتقال بدون وجه حق، وثالثها يتصل بالمعاملة المهينة اثناء الاعتقال. إن التوقيف التعسفي يتضمن بحد ذاته خرقاً واضحاً للمادة 28 الفقرة 2 من الدستور التي توجب عدم توقيف أي شخص الا وفقاً للقانون. وكذلك فهو يشكل انتهاكاً للمادة التاسعة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن الجمعية العمومية للامم المتحدة العام 1948 التي تحرم التوقيف التعسفي. ومن المفيد التذكير أيضاً بأن سوريا انضمت الى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بموجب المرسوم التشريعي الرقم 3 بتاريخ 12/1/1969 والمنشور بكامله في عدد الجريدة الرسمية الرقم 6 للعام 1969 في الصفحات 2698 - 2720 (11). وقد نصت المادة 9 الفقرة 1 من هذا العهد على انه "لا يجوز، تحكماً، القبض على اي انسان واعتقاله". كما ان المادة 357 من قانون العقوبات العام تحرم على كل موظف، عسكرياً كان او مدنياً، توقيف المواطنين في غير الحالات التي ينص عليها القانون (12). إن القواعد القانونية الوارد ذكرها ما هي الا تجليات لمبدأ عام يقضي بتحريم التوقيف التعسفي. كما يجدر التأكيد على سمو هذا المبدأ العام بقوته القانونية الآمرة فهو من النظام العام لارتباطه بصلب القيم الضامنة لكرامة الانسان؟
اما عن الاستمرار في الاعتقال بدون وجه حق فانه يشكل خرقاً للمادة 25 من الدستور التي تعلن بأن الحرية "حق مقدس"، وهو يكفل للمواطنين المحافظة على حريتهم وكرامتهم وأمنهم. كما أن المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تمنع حرمان اي انسان من حريته الا بناء على الاسباب ووفقاً للاجراءات التي ينص عليها القانون. وكذلك فان المادة 358 من قانون العقوبات العام تجرم مديري وحراس السجون اذا قبلوا شخصاً دون مذكرة قضائية او قرار قضائي واستبقوه الى أبعد من الاجل المحدد. وكذلك فان المادة 555 من قانون العقوبات تجرم كل من حرم آخر حريته الشخصية بأية وسيلة كانت.
واما الخروقات المتعلقة بالمعاملة المهينة واعمال التعذيب على جسد المتضرر فإنها تشكل خرقاً للمادة 28 الفقرة 3 من الدستور التي تقضي بأنه "لا يجوز تعذيب احد جسدياً او معنوياً او معاملته معاملة مهينة". كما ان المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تحظر "تعذيب اي انسان او معاملته او عقابه بقسوة او بما ينافي الانسانية او يهين الكرامة". وكذلك فإن قرار محكمة النقض السورية الرقم 62-28 بتاريخ 20/2/1970 اعتبر أن اي نوع من أنواع التعذيب مهما كانت نتائجه يرافق حجز الحرية يعطي جريمة الحرمان من الحرية وصفاً جنائياً يستحق مرتكبها عقوبة الاشغال الشاقة الموقتة بموجب المادة 556 من قانون العقوبات (13). أما في حال عزل المواطن المتضرر عن العالم الخارجي فإن ذلك يشكل خرقاً للمادة التاسعة الفقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي توجب اعلام كل مقبوض عليه بأسباب القبض عند القيام به واعلامه على وجه السرعة بالتهم الموجهة اليه. كما توجب المادة العاشرة من العهد بأن يعامل كل من يتعرض للحرمان من حريته "معاملة انسانية مقرونة بالاحترام اللازم لكرامة الشخص الانساني الاصيلة". ويتطلب العهد في مادته الثالثة عشرة الفقرة 3 أيضاً بتمكين كل معتقل من التمتع بما يعتبره الضمانات الدنيا لكرامته كالحق باعداد دفاعه عن التهم الموجهة اليه وبمحاكمته في شكل عادل (14).
من المفيد التذكير هنا أيضاً بأن القواعد السابقة ما هي الا تجليات قانونية لمبادئ عامة تحرم الاعتقال التعسفي والتعذيب الجسدي والمعنوي. ان هذه المبادئ ذات الطبيعة الآمرة فيها من السمو ما يمنع المساس بها تحت اي ظرف لاتصالها بقيم حرية الانسان وكرامته.
ان احقية المواطن المتضرر بالتعويض تتأسس بالاستناد الى المادة التاسعة الفقرة الخامسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تنص على: "لكل انسان يتعرض للقبض او الاعتقال بصورة لا قانونية حق لازم بالتعويض".

4- مسألة حصانة الاجهزة الامنية
تحدثنا سابقاً بأن المرسوم التشريعي ذا الرقم 14 بتاريخ 15/1/1969 المتضمن احداث ادارة المخابرات العامة يحتوي على نصوص تجعل ادارة المخابرات العامة وافرادها وملفاتها مشمولة بحصانة مبدئية يمكن مديرها ان يتنازل عنها. وقد رأينا انه من الصعب معرفة الحكم القانوني في ما يخص الاجهزة الامنية الاخرى، لعدم وجود نصوص قانونية منشورة. كما انه من غير الممكن، مع انعدام النشر، التأكيد اذا كانت الاجهزة الامنية الاخرى ملحقة بادارة المخابرات العامة. غير ان التشابه الوظيفي وفي طرق العمل بين الاجهزة الامنية يسمح بالقياس على الحصانة "القانونية" او الفعلية التي يتمتع بها العاملون في ادارة المخابرات العامة. وعليه نستطيع ان نفترض في شكل معقول أن مسألة حصانة العاملين ستعترض اي دعوى لمقاضاة اي جهاز امني. إذ ان اول ما تشير اليه النصوص المتعلقة بالحصانة هو وجوب استنفاد طرق الطعن الداخلية المتمثلة في مجلس التأديب المفترض انه محدث في كل جهاز امني. وعليه فان اي دعوى من المواطن المتضرر ستصطدم بحجة انه كان يجب طرق باب مجلس التأديب حسب الاصول من أجل مباشرة التحقيق الداخلي في الوقائع المزعومة.
كما ان ثاني ما تشير اليه النصوص المتعلقة بالحصانة هو وجوب استصدار أمر ملاحقة من مدير ادارة المخابرات العامة بحق اي عامل في الادارة، حتى بعد انتهاء خدمته، اذا ثبت لدى مجلس التأديب ضلوعه في جرائم ارتكبت اثناء تنفيذ المهمات الموكلة اليه او في معرض تنفيذها.
إن ثالث ما تشير اليه هذه النصوص هو مبدأ حصانة الاجهزة الامنية كمؤسسات وعاملين عند القيام بالمهمات الملقاة على عاتقها. وقد يمكن القول إن الاجهزة الامنية تضطلع بمهمات جسام. فالعاملون فيها يسهرون على واجب الحفاظ على أمن البلاد وسلامتها ضد الاخطار التي تحيق بها، ان القائمين على كل جهاز يعملون في ظروف مهنية صعبة، فهم يقبعون دوماً تحت التهديد الذي يمس شخصهم مع اسرهم. وعليه فان حصانتهم وحصانة الاجهزة التي يعملون فيها وكذلك الملفات التي يتعاملون بها ضرويتان لتمكين هذا المرفق العام من الاضطلاع بالمهمات الغير العادية في المحافظة على أمن الوطن وسلامته. ومن هذا المنطلق، اخضع المرسوم التشريعي الرقم 14 للعام 1969 اي مساءلة حول عمل الادارة امام القضاء الى موافقة مديرها المسبقة. وعليه فإن الاجهزة الامنية يمكن ان تحتج بأن الحصول على موافقة مديريها أمر ضروري للسماح بالموازنة عند كل حالة على حدة بين مد جسامة الاخطاء المنسوبة الى الادارة او العاملين فيها والاضطراب الذي يتوقع حدوثه في عمل الادارة من جراء هذه المساءلة. وعليه فإن اي جهاز امني سيكون قادراً على الدفع بعدم اختصاص مجلس الدولة طالما انه لم يتم استنفاد طرق التظلم الداخلية بما في ذلك استمزاج رأي مدير الجهاز الامني المسؤول في الوقائع المدعى بها. قد يكون من السهل على مجلس الدولة التذرع بحصانة الاجهزة الامنية وبحجة عدم استنفاد طرق التظلم الداخلية لرد مثل هذه الدعوى. كما انه من المتوقع ألا تسمح طرق التظلم الداخلية بالتوصل الى رفع الحصانة عن اي من موظفيها. فالمواطن المتضرر يلجأ الى جهة هي الخصم والحكم.
غير اننا رأينا أن المراسيم الخاصة بانشاء ادارة المخابرات العامة مثلا يمكن اعتبارها غير نافذة بحق المواطن العادي لمخالفتها عرفا دستورياً مستقراً بنشر كل قانون كشرط لنفاذه. وفي كل الاحوال فانه يمكن قانونا الاحتجاج بجهل المواطن المتضرر ما تنص عليه هذه القوانين حول الاجراءات الواجب اتخاذها للتظلم داخل الاجهزة الامنية. ان القرينة التي تقضي بأن جميع المواطنين عالمون بمحتوى القانون وبأنه لا يمكن احداً ان يحتج بجهله للقانون يجدر دحضها في حالة عدم نشر القانون حسب الاصول. إن المراسيم المتعلقة باحداث ادارة المخابرات العامة واية جهة امنية اخرى ليست واجبة التطبيق ولا يمكن الاحتجاج بها ضد المواطن المتضرر. ان جهل المواطن المتضرر بأصول التظلم الداخلية لدى اي من الجهات الامنية يترك الباب مفتوحاً للتظلم بموجب القواعد العامة التي يطبقها مجلس الدولة. ان ذلك من شأنه ان يبقي على الاختصاص معقوداً لمجلس الدولة.

5- مسألة اثبات الوقائع
تتمتع الجهات الامنية بسلطات واسعة لها بعدم ترك اي ادلة اثبات على وقائع التوقيف التعسفي بدون محاكمة او استمرار الاعتقال او المعاملة المهينة. ان ما يميز ممارسات الاجهزة الامنية هو حدوثها في شكل لا يتقيد بالضمانات المنصوص عليها في القانون في احوال الاعتقال العادية. ان الحصانة الفعلية وسرية عمل الاجهزة الامنية تجعلها تتحرك بدون رقابة وفي شكل مواز لعمل المؤسسات الملحقة بالقضاء العادي. فقد يقع التوقيف بدون شهود عيان او امام شهود تربطهم بـ"المواطن المتضرر علاقة قرابة" (15). كما يمكن ان يستمر الاعتقال بدون ان يكون للسجين وجود في اي من السجلات الرسمية. وقد يتعرض المتضرر لكافة انواع التعذيب من دون ان يكون بالامكان تحديد مكان وقوع الوقائع المدعى بها او شخصية من قام بتلك الافعال.
إن البحث عن وسائل اثبات لوقائع التوقيف والاعتقال بدون محاكمة مع المعاملة المهينة قد يكون صعباً جداً. وقد يكون في بعض الاحوال مستحيلاً بسبب الغموض الذي يكتنف سجلات الاجهزة الامنية واسلوب عملها. لقد سمحت تجربة العديد من المعتقلين السابقين في تكوين صورة تقريبية عن الممارسات التي يتم استخدامها من جانب الاجهزة الامنية في التوقيف او الاعتقال (16). غير انه من المفيد التذكير بوجوب عدم الخلط بين المعرفة او التجربة الشخصية للمواطن المتضرر وادلة الاثبات الموضوعية. ان ما يدركه المواطن المتضرر في تجربته الشخصية لا يمكن ان يشكل دليلاً موضوعياً يمكن الاعتداد به. إن المعرفة الشخصية للمواطن المتضرر، ولو تم تدوين ذلك كتابة، يمكن أن تعتبرها المحكمة جزءاً من الادعاء الذي يبقى من الواجب اثباته بأدلة موضوعية كالسند الكتابي الصادر عن جهة ثالثة او الاقرار او القرائن او الشهادة في بعض الاحيان. ان القدرة على الوصف التفصيلي لتجربة التوقيف والاعتقال بما في ذلك من مشهادات حسية لا يمكن ان يعوض ضرورة تأسيس الدعوى على أدلة موضوعية. فقد تعتبر المحكمة أن مثل هذا الوصف مبالغ فيه من قبل المواطن المتضرر، وهي بحاجة للاستكانة الى أدلة بعيدة عن عواطف الاطراف او مصالحهم في الدعوى.
إن الحصانة "القانونية" او الفعلية التي تتمتع بها الجهات الامنية تجعل من الصعب الحصول على ادلة موضوعية تتعلق بظروف التوقيف التعسفي او اوضاع الاعتقال التي قبع تحتها المواطن المتضرر. وحقيقة الامر فان استحالة تقديم ادلة مفصلة عن التوقيف والاعتقال قد يشكل عائقاً كبيراً في وجه اي مطالبة بالتعويض عن اخطاء الاجهزة الامنية. وقد لا يكون ذلك ممكناً الا بعد صدور ارادة سياسية يجعل الاجهزة الامنية وملفاتها اكثر شفافية.
إن دعوى المواطن المتضرر قد تعج بالادلة التي تثبت فداحة الضرر ولكنها يمكن ان تبقى شحيحة عندما يتعلق الامر باثبات خطأ يؤسس لمسؤولية الجهاز الامني المدعى عليه.
إن فقدان القدرة العملية على تأسيس الدعوى من حيث الوقائع يجب ألا يثني اي طرف متضرر من جمع كل ما يعتقد أنه يشكل اثباتاً لدعواه، رغم ظروف المعاناة الصعبة التي يتعرض لها. وقد يكون من الممكن الاعتماد على شهادات متضررين آخرين لاثبات خطأ الادارة حول معاناة المواطن المدعي. غير ان تقديم شهادات متضررين آخرين يجب ان تحكمه قواعد صارمة في التزام الصدق وعدم المبالغة (التي يمكن تفهمها في موضع آخر غير قوس المحكمة) والاكتفاء بسرد ما تمت مشاهدته وسماعه شخصياً حول معاناة المواطن المدعي فقط، وذلك من اجل تعزيز صدقية الشهادة وقوتها الاثباتية. وليس خافياً أن انعدام الادلة قد يؤدي الى محاولات وصم المواطن المتضرر بصفات غريبة كالعته او الجنون لتبرير اختفائه وظهوره المفاجئين. وفي كل الاحوال فان ذلك سيؤدي الى رد دعوى المتضرر من حيث المضمون.

6- مسألة وجود حالة الطوارئ وأثر حق عدم التقيد بحقوق الانسان
في حالة النجاح في بناء دعوى مدعومة بادلة اثبات قوية من حيث الوقائع، قد يبرز موضوع وجود حالة الطوارئ التي قد تبرر ظروف الاعتقال الاستثنائية التي تعرض لها المواطن المتضرر.
فقد تعتبر الاجهزة الامنية نفسها كنائب للحاكم العرفي بموجب قانون حالة الطوارئ الرقم 51 بتاريخ 22/12/.1962 وأمر اعلان حالة الطوارئ بتاريخ 8/3/.1963 وعليه فقد تعتبر الاجهزة الامنية أن اعلان حالة الطوارئ يجيز للحاكم العرفي او من ينوب عنه اصولاً لا "توقيف المشتبه فيهم او الخطرين على الامن والنظام العام توقيفاً احتياطياً". وقد تذكر الاجهزة الامنية بأن حالة الطوارئ قد تم اعلانها بسبب حالة الحرب مع اسرائيل، وهي تسمح للحاكم العرفي ايقاف العمل ببعض القواعد القانونية التي تضمن الحقوق الاساسية للافراد من اجل مواجهة اخطار جسام على أمن الدولة وكيانها في كل وقت طالما بقي التهديد الاسرائيلي قائماً (17). كما يمكن التذكير بنص الدستور، حيث اجازت المادة 101 لرئيس السلطة التنفيذية اعلان حالة الطوارئ والغاءها على الوجه المبين في القانون. كما اجازت المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأن تمارس الدول حق عدم التقيد بالالتزامات المترتبة عليها بموجب العهد في حالات الطوارئ المعلنة رسمياً.
كما قد يقود ذلك الاجهزة الامنية الى رفض مقولة ان حقوق الانسان التي عددها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تشكل مبادئ عامة في القانون وهي مطابقة لقيم تشكل مصدراً اخلاقياً لهذه القواعد وتالياً فانها تبقى واجبة التطبيق تحت اي ظرف.
ان الاساس الفكري الذي يمكن ان تبني عليه الاجهزة الامنية حجتها يمكن اجماله في مسألتين. اما المسألة الاولى فهي تتعلق بتحديد ما اذا كانت القاعدة القانونية تستمد قوتها الملزمة، من حيث المبدأ، من تطابقها مع قيم اخلاقية ما. فقد تعتبر الاجهزة الامنية بأنه لا اثر لبعد اي قاعدة قانونية او قربها من قيمة اخلاقية في صحتها كقاعدة ملزمة: إن القيم الاخلاقية تتعدد بتعدد المجتمعات ونظراتها المختلفة والتي يمكن ان تضمها اي دولة. فاذا كانت القيم الاخلاقية هي المعيار لتحديد قانونية القواعد فان القانون سيسمح بتفضيل قيمة اخلاقية على اخرى وسيكون تالياً اداة استبداد لحاملي راية هذه القيمة الاخلاقية. ان القانون الوضعي موجود ليحكم علاقات الناس كافة ضمن ما ترتضيه اي امة، بالنظر الى خصوصيتها التاريخية، في الدستور الذي يحكمها. ولا مبرر لقانونية اية قاعدة الا وجود قاعدة مفترضة في قمة النظام القانوني تجبر اتباع الدستور وكل القواعد الناشئة بالاستناد اليه(18).
اما المسألة الثانية فهي تتعلق بالقول بان التطابق مع قيم اخلاقية سامية يجعل هذه القواعد آمرة لا تجوز مخالفتها تحت اي ظرف، يمكن للاجهزة الامنية ان تؤكد في هذا الصدد على ان عالمية القيم المرتبطة بحقوق الانسان لا تعني ابداً اغلاق الباب امام وجهات النظر المحلية في فهم هذه الحقوق التي تبقى متأثرة بخصوصيات تاريخية وثقافية مختلفة. ان هذه التعددية في فهم هذه الحقوق هي عامل غناء لهذه الحقوق. كما يمكن الاجهزة الامنية ان تقول ان سماح العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بعدم التقييد بالعهد في حالات الطوارئ الاستثنائية يدحض في شكل صارخ الادعاء بأن القيم التي يرددها هذا العهد هي قيم آمرة تحت اي ظرف.
ان معالجة الحجج التي يمكن ان تتقدم بها الاجهزة الامنية والمستندة الى حالة الطوارئ تتطلب التفريق بين القانون الناظم لكيفية اعلان حالة الطوارئ وانهائها والاعلان الفعلي عن حالة الطوارئ. لقد صدر قانون الطوارئ بالمرسوم التشريعي الرقم 51 بتاريخ 22/12/.1962 وقد الغى هذا القانون قانوناً سابقاً الرقم 162 الصادر في 27/9/.1958 وقد نظم هذا القانون كيفية اعلان حالة الطوارئ وانهائها وكذلك حدد الصلاحيات التي يمكن ان يتمتع بها الحاكم العرفي اثناء حالة الطوارئ ليبين حدود السلطات التي يمكن ان تمارسها السلطة التنفيذية اثناء حالة الطوارئ وهو بذلك موجود لغاية مشروعة وان كان يمكن تفصيله في شكل افضل. لقد تم بعد ذلك اعلان حالة الطوارئ بالامر العسكري الرقم 2 لمجلس قيادة الثورة بتاريخ 8/3/1963 حيث كان نصه: "تعلن حالة الطوارئ في جميع انحاء الجمهورية العربية السورية ابتداء من تاريخ 8/3/1963 وحتى اشعار آخر" (19). وقد بقيت حالة الطوارئ معلنة الى يومنا هذا.
لا يفوت القارئ مجموعة التساؤلات المحيطة باعلان حالة الطوارئ ان لجهة تبريره التاريخي او لجهة توافقه مع قانون كيفية اعلان حالة الطوارئ. اما من حيث التبرير التاريخي فانه لا يوجد في نص اعلان حالة الطوارئ ما يشير الى ان هذا الاعلان تبرره حالة الحرب مع اسرائيل. لم يكن في تلك الفترة حالة تأهب عامة تنذر بنشوب معارك مع اسرائيل. لقد كانت سوريا مشغولة باضطرابات داخلية. وقد جاء إعلان حالة الطوارئ كإجراء بدا وقتيا اتخذته ثورة الثامن من آذار للامساك بزمام الامور في البلاد. من الواضح ان القول بان حالة الطوارئ المعلنة بتاريخ 8/3/1963 بررتها حالة الحرب مع اسرائيل هو ادعاء غير صحيح تاريخيا. اما من حيث مطابقة هذا الامر لنص القانون الناظم لكيفية اعلان حالة الطوارئ فمن الواضح ان اعلان حالة الطوارئ جاء في كثير من الجوانب مخالفا لهذا القانون. لم يبين هذا الاعلان السبب المبرر الذي اوجبه كما تقتضي به المادة 1 من قانون حالة الطوارئ. لم يتم عرض هذا الاعلان على مجلس النواب في اول جلسة له كما توجبه المادة 2 الفقرة 1 من قانون حالة الطوارئ. لم يتضمن هذا الاعلان تحديدا للقيود والتدابير التي يجوز للحاكم العرفي اتخاذها كما تقضي به المادة 2 (ب) من قانون حالة الطوارئ. كما لم يتم التقيد بالشروط التي توجبها المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لجهة وقتية هذه الحالة واستثنائيتها(20). ومع ذلك فقد مورست فعليا سلطات قسرية واسعة بالاستناد الى هذا الاعلان. غير ان مجلس الدولة في سوريا لم يتوان طوال السنين الماضية عن وضع الاوامر العرفية التي يصدرها الحاكم العربي تحت الرقابة القضائية من اجل درء التعسف في استعمالها. فقد اعتبرت هذه الاوامر بمثابة قرارات ادارية قابلة للالغاء في حال سوء استعمال السلطة كما ترخصه المادة 8 من قانون مجلس الدولة. لقد جاء مثلا في قرار دائرة فحص الطعون لدى مجلس الدولة الرقم 334 بتاريخ 4/12/1978 ما نصه "ان السلطات الاستثنائية الواسعة التي تتمتع بها الادارة العرفية عندما تهدد الحرب سلامة البلاد وامنها، او عند وقوع كوارث عامة الخ... وتؤدي بالتالي الى تضييق الحريات الفردية، والاستيلاء على الاموال والاشخاص، انما تبررها نظرية الضرورة ابتغاء الحفاظ على سلامة الدولة وكيانها، فهي (اي السلطات الاستثنائية) قد شرعت لسد حاجة ملحة تقتضيها الظروف الطارئة التي تعرضت لها البلاد، وعلى اعتبار ان استعمال هذه السلطات هي الوسيلة الوحيدة للوقوف بوجه تلك الظروف ومنع الضرر، وان للقضاء الاداري حق الرقابة على قيام مسوغات تدخل الادارة العرفية في شأن من الشؤون او عدم قيامها، فإذا كشفت الاوراق ان التدخل لم يكن له ما يسوغه وليس لازما لمواجهة حالات معينة من دفع خطر جسيم يهدد الأمن والنظام كان القرار باطلا(21). وعليه فإذا اعتبرت المحكمة ان موضوع الدعوى يتعلق بأمر عرفي بالتوقيف والاعتقال، فإنه من الممكن المطالبة بالتعويض عن الاضرار الناجمة من امر عرفي هو بمثابة قرار اداري معيب ومتعين الإلغاء(22).
إن ذلك يقود الى مسألة التشكيك في الزامية قيم سامية كحق الإنسان في الحياة والحرية تحت اي ظرف بما في ذلك حالة الطوارئ. ومن المعروف بأن قيم الحرية والكرامة لم تفرض نفسها يوما في شكل قسري، رغم انف الثقافات الانسانية المتعددة، كما يمكن ان تصوره الاجهزة الامنية. إنها قيم تأصلت مع تطور الفكر الإنساني عبر التاريخ والتجربة. وهي قيم تؤكد نفسها باستمرار بشتى الصور. فهي حاضرة في كل دستور وكذلك في الدستور السوري. كما فرضت هذه القيم نفسها على الغاية من قانون حالة الطوارئ. فرغم ان السلطة التنفيذية تعلن بموجب هذا القانون إمكان تحللها من مراعاة الحقوق المرتبطة بقيم حرية الانسان وكرامته اثناء حالة الطوارئ، فإن هذه القيم تبقى فاعلة لتجعل من هذا التحلل طبيعة استثنائية. وهي كذلك تفرض نفسها على منطوق قانون حالة الطوارئ حينما تنصب الحاجز تلو الحاجز على سلطات الحاكم العرفي المطلقة. فالحاكم العرفي ممنوع من توقيف المشتبه فيهم في صورة دائمة. لقد اشترطت المادة 4 (أ) أن يكون التوقيف "احتياطيا". والحاكم العرفي مجبر على إحالة المشتبه فيهم الى المحاكمة بموجب المادة 6 من قانون حالة الطوارئ. لقد كانت رغبة السلطة التنفيذية طاغية في الاستئثار بكافة السلطات عند اصدار هذا القانون. لذلك فإن الحواجز المنصوبة ضد احتمال التعسف بقيت شحيحة. لكن القيم الضامنة لحرية الإنسان وكرامته نجحت في فرض بعض من الحواجز التي نراها في القانون اليوم. إن هذه القيم هي ايضا المحرك الرئيس لانتاج الاجتهادات التي حفل بها قضاء مجلس الدولة والتي أخضعت الاوامر العرفية لسلطان الرقابة القضائية لدرء سوء استعمال السلطة. أليس في كل هذا دليل على وجود هذه القيم وفاعليتها تحت اي ظرف.

الخلاصة
لقد حاولنا في هذه المقالة تلمس السبل القضائية والقانونية الموجودة في النظام القانوني في سوريا والتي تسمح بدرء التعسف في استعمال السلطات الاستثنائية التي تتمتع بها الاجهزة الامنية العاملة في البلاد. لقد تطرقنا بشكل خاص الى موضوع الاعتقال التعسفي بدون محاكمة. لقد بدت لنا هذه الممارسة معبرة عن احدى اقصى درجات التعسف في استعمال سلطات استثنائية مشكوك في مشروعيتها. لقد استندنا الى الواقع القانوني الحالي من اجل اكتشاف الحدود القانونية للمطالبة بالتعويض. وقد تبين لنا بأن النظام القانوني في سوريا قادر نظريا على اعمال آليات قضائية تسمح بجبر الضرر ولكنه بقي عاجزا فعليا عن استخدام هذه الآليات في شكل منظم.

1- انظر مجلة المحامون (مجلة نقابة المحامين في سوريا) العدد 7 و،8 ،1998 ص.785
2- كما إن المادة 4 من القانون المدني تترك الباب مفتوحاً امام عدم نشر القوانين رغم نفاذها.
3- المنشور في عدد الجريدة الرسمية السورية الرقم 8 بتاريخ 19 آذار 1936 ص.73
4- حول مفهوم العرف الدستوري وقيمته القانونية من حيث هو مكمل للدستور المكتوب انظر كمال غالي: مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية، (دمشق، منشورات جامعة دمشق، طبعة 1996)، ص 116 فقرة .113
5- حول عدم نفاذ القوانين لعدم نشرها انظر هشام القاسم، المدخل الى علم القانون، (دمشق: مطبعة الانشاء، 1981)، ص ،127 محمد محمود عبد الله، المدخل الى علم القانون او النظرية العامة للقانون، (دمشق: مطبوعات جامعة دمشق، 1996)، ص .103
6- حول تنازع الاختصاص الجزائي بين القضائين العسكري والجزائي انظر على سبيل المثال عبد الوهاب حومد، اصول المحاكمات الجزائية، (دمشق: الطبعة الجديدة، 1987). الطبعة الرابعة، ص. 425 وما بعدها.
7- من المعروف بأن مجلس الدولة هو الجهة القضائية التي تنظر في النزاعات التي تكون فيها احدى ادارات الدولة طرفاً (قانون مجلس الدولة الرقم 55 بتاريخ 21/2/1959). وهو يتألف من درجتين: محكمة القضاء الاداري والمحكمة الادارية العليا التي تصدر احكاماً مبرمة.
8- حول دور القضاء الاداري في تأكيد حقوق الانسان انظر عبد الإله الخاني، "القانون الاداري وحقوق الانسان"، المحامون، عدد ،12 ،1978 ص. 313-.317 حول جواز اقامة الدعوى المدنية بدون الدعوى الجزائية انظر حسن جوخدار، أصول المحاكمات الجزائية، (دمشق: جامعة دمشق، 1993)، الجزء الاول، ص. 194 وما بعدها.
9- حول طبيعة الاجراءات المتبعة أمام مجلس الدولة السوري انظر عبد الله طلبة، القانون الاداري - الرقابة القضائية على أعمال الادارة - القضاء الاداري، (دمشق: جامعة دمشق، 1995)، ص .423
10- لن نعالج موضوع الضرر والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر لأن ذلك يتعلق بكل حالة على حدة، وفي كل حال فإن الضرر يتمثل في الاضطراب العظيم الذي يلحق حياة المواطن المتضرر وعائلته والذي يكون له ابعاد مادية ومعنوية كبيرة.
11- عن تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في سوريا انظر على سبيل المثال: شهير ارسلان، "في ذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان"، المحامون العدد ،12 ،1978 326 - ،334 نزار عرابي، "مسؤولية المحامين العرب عن حقوق الانسان العربي"، المحامون، العدد ،12 ،1978 ص. 343 - .352 حول جوال الاحتجاج بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية مباشرة امام المحاكم الوطنية انظر تأكيدات الحكومة السورية أمام لجنة حقوق الانسان في الامم المتحدة كما ورد في ملاحظاتها الختامية حول التقرير الدوري المقدم من جانب سوريا: وثيقة الامم المتحدة الرقم CCPR/CO/71/SYR تاريخ 24/4/،2001 الفقرة .5
12- انظر في شكل عام ياسين الدركزللي، "الجرائم الواقعة على الحرية"، المحامون، العدد 2 و3 و،4 ،1978 ص. 88-.94
13- كما يمكن الاستشهاد بالمادة 391 من قانون العقوبات العام التي تجرم انتزاع الاقرار والمعلومات باستعمال الشدة.
14- انظر في شكل عام محمود محمود مصطفى، "حماية حقوق الانسان في الاجراءات الجنائية"، المحامون، العدد ،12 ،1978 ص. 318-.324
15- كشهادة الاصل للفرع او العكس او الشهادة من جانب الزوج او الزوجة فكل ذلك غير مقبول امام المحكمة (المادة 60 من قانون البيانات الرقم 35 للعام 1947).
16- انظر في هذا الصدد ما لاحظته لجنة الامم المتحدة في ملاحظاتها الختامية حول التقرير الدوري المقدم من جانب سوريا حول العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك في صدد المعلومات الراشحة عن حالات التوقيف التعسفي والاعتقال بدون محاكمة: وثيقة الامم المتحدة المذكورة في الحاشية رقم 11 عند فقرة .14
17- انظر في هذا الصدد تقرير سوريا المقدم الى لجنة حقوق الانسان حول تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك في صدد تبرير حالة الطوارئ: وثيقة الامم المتحدة الرقم CCPR/C/SYR/2000/2 بتاريخ 25/8/2000 الفقرة ،49 .50
18- من الممكن القول بأن التفكير القانوني الوضعي الخالص قد طبع في كثير من جوانبه نمط التفكير الرسمي القانوني في سوريا منذ الاستقلال. إن ذلك يحتاج الى دراسة تاريخية في الفكر القانوني السائد في سوريا الحديثة وهو بحث لا يتسع له هذا المقال. عن النظرية الوضعية الخالصة انظر في شكل عام: Hans Kelsen, Thہorie pure du droit, (Paris, Bruxelles: LGDJ, Bruylant, 1999 ed), p. 201.
19- نشر هذا الأمر العسكري في عدد الجريدة الرسمية الرقم 12 بتاريخ 21/3/،1963 ص. .2431
20- انظر التعليق العام الرقم 29 للجنة حقوق الانسان حول المادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وثيقة الامم المتحدة CCPR/C/21/Rev.1/Add.11 تاريخ 31/8/،2001 فقرة .2
21- منشور في مجلة المحامون العدد 6 و7 و8 للعام ،1979 انظر أيضاً في هذا الصدد تقرير سوريا المقدم للجنة حقوق الانسان حول تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (انظر الحاشية رقم 17)، فقرة ،51 .55 ان اجتهاد مجلس الدولة مستقر بالغاء اوامر عرفية لما وجد فيها من تهكم صارخ واعتباطية في الاعتداء على حرية الافراد من دون ان يكون امن البلاد وسلامتها معرض للخطر: انظر على سبيل المثال: قرار محكمة القضاء الاداري رقم 284-1 تاريخ 29/4/1997 المنشور في مجلة المحامون العددان 5 و6 لعام ،1999 الذي ابطل قرار توقيف عرفي لم يكن متعلقاً بخطر جسيم يهدد الامن والنظام، وكذلك القرار رقم 798 2 تاريخ 19/10/1997 المنشور في مجلة المحامون العددان 7 و8 لعام 1999 الذي ابطل قرار توقيف عرفي لنفس الاسباب.
22- ان الفقه في سوريا مجتمع على امكان الرقابة القضائية على الحاكم العرفي في حالة الطوارئ، انظر في هذا الصدد على سبيل المثال: عبد الاله الخاني، نظام الطوارئ والاحكام العرفية، (دمشق: نقابة المحامين، 1974)، جورج رضوان، "الاوامر العرفية التعسفية والالتزامات الدولية" المحامون العدد 2 و3 و،4 ،1978 ص. 111-،133 مروان صباغ "الرقابة القضائية علـى الاوامر العرفية"، المحامون العدد نفسه ص. 118 - ،124 نزار عرابي، "الاوامر العرفية... واثرها في حياة الوطن والمواطنين" المحامون العدد نفسه، ص 95-،101 محمود محمود مصطفى: "ضمانات الحرية الشخصية في ظل القوانين الاستثنائية"، العدد 5 و6 و7 و،8 ،1978 ص. 125-،136 نزار عرابي، "المحامون... والاوامر العرفية"، المحامون العدد نفسه، ص. 151-،161 نصرت منلا حيدر، "مدى قانونية قرار الحاكم العرفي او نائبه الذي يتجاوز فيه الصلاحيات المعطاة له في قانون الطوارئ" المحامون ،1971 ص. 319-.328

----------------------------
الدكتور عبد الحي السيد هو باحث سوري مقيم في جنيف -
دكتور في الحقوق من جامعة جنيف

http://wahajr.com/hajrvb/showthread....readid=1606953