عبد الرحمن إبراهيم... الكتابة بدمع البحر:هاني الصلوي*

هاني الصلوي*





"أحب البلاد التي صادرتني،
أموت على نكهة البرقِ
والرعدِ فيها.." (تنويعات مدارية في ذاكرة جبيني)
اختطف منا القدر في مثل يونيو الماضي الشاعر اليمني السبعيني عبد الرحمن إبراهيم غير أن رحيله لم يكن مفاجئا على الأقل بالنسبة له ذاته، الذي احتفل بالموت كثيرا في تجريباته؛ حيث أصغى باكرا لذاته الافتراضية مقابل الآخر الأنكى فـ:
"الموت أشهى من عجائبهم،
وأبهى من خرائبها الوصايا،
لكَ وردة ليست لهم،
لكَ ابتهاجات العشيقة"
أيقن إبراهيم أنّ التشبث بالظاهر والمحسوس والمادي، إنما يأتي على حساب القادم والإشراقي والشعري، ناهيك عن سرابية المحاولة التي تفضي ماديتها إلى تبخرالهدف دون حاجة منه إلى أي تفسيرات أو تسليمات لرؤى وعقائد معينة، فقد انحاز منذ بدايته للبسطاء مغني لهم، وظل وفيا للحنه ذاكـ حتى بعد خفوت أصداء الإعلام المنحاز للبسطاء نتيجة تغيرات دولية وتقلبات إقليمة لأنه كان مع الفكرة في جوهرها، لا في شطحها السياسي وتراتباتها المصالحية –بالنسبة للعرب أو الكثير ممن اعتنقوا الاشتراكية طمعا- وكما ابتعد عن التكسب به أيام رواجها، أصرّ عليها يوم صار الإيماء إليها تهمة، وربما أمام من صنعوا منصاتها السابقة قبالة الجماهير. أتعبه الانتماء قبل أن يدرك حاجته للموت كمنقذ وحياة هو الناص:
"تعبت بحار.. والبحار حمام
وحبيبتي تعبتْ،
وقصيدتي تعبتْ
وسجائري تعبتْ" ومن هنا كان لابد له من المغامرة/ البقاء.
ولد عبد الرحمن إبراهيم في عدن 1954، ووعى على المد اليساري؛ بل صار في فترة وجيزة من رموزه أدبيا، في وقت كان فيه رئيس الدولة شاعرا "عبد الفتاح إسماعيل" وقت ملأت إصدارات دار الهمداني الدنيا، وغدت عدن قبلة المثقفين العرب.
لا أتذكر، تماما، متى بدأت قراءتي لعبد الرحمن إبراهيم، أذكر أنّي اشتريت كتاب "البدايات الجنوبية" لـــ د.عبد العزيز المقالح من أحد أرصفة تعز المدينة، ولفت نظري أن المقالح في القسم الخاص الذي كتبه عن عبد الرحمن إبراهيم قد افتتحه بـ:
"من أين لي قمرٌ سوى إلزا،
وإلزا وحدها القمر!
من أين لي قدر سوى إلزا،
وإلزا وحدها القدر!"
علمت بعدها أنها من ديوان "إلزا وحدها قدري" للشاعر، مما حفزني للبحث عن بقية كتبه.
احتل عبد الرحمن إبراهيم مكانا متميزا في الحركة الشعرية العربية من خلال احتلاله المكانة نفسها في الشعرية اليمنية، باعتبارها جزءا من الشعرية العربية ومكونا أصيلا من مكوناتها؛ فإبداعاته وإبداعات زملائه السبعينيين اليمنيين: "عبد الودود سيف، عبد الله القاضي، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق، عبد الرحمن فخري، زكي بركات، وحسن اللوزي.. الخ" تواكب إبداعات السبعينيين على امتداد الوطن العربي مع بعض الميل إلى خصوصية فرضتها طبيعة الجغرافيا.
تبوأ عبد الرحمن إبراهيم عددا من المناصب منها مديرا عاما للمكتبة الوطنية والتاليف والترجمة والنشر، في وزارة الثقافة، ورئيسا فخريا لمنتدى الباهيصمي. وقد نشر شعريا الدواوين: "تنويعات مدارية في ذاكرة جبيبتي، إلزا وحدها القدر، مزاج الهدهد، أنثى لهذا البحر". أعادت صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004 نشرها في مجلد واحد، كما طبع دراسته "الشعر المعاصر في اليمن 1970" ـــ 1990، وهي رسالة حصل بها على الماجستير من جامعة عدن، وكان قبل فترة قد أعد للنشرــ لا أدري هل طبعت أم لا ــ دراسة نقدية بعنوان "في اتجاه الصحو" و"تعبنا من جبايبنا" مجموعة قصائد غنائية، ومما طبع له كتاب عن الفنان "محمد مرشد ناجي".
واتسعت تجربته لتشمل الشعر باتجاهاته الفصيح "بأنواعه أيضا" والعامي الغنائي، والنقد والمقالة، وغنّى مبدعون كبار مثل: محمد عبده زيدي، فيصل علوي، إيمان، بن غودل، محمد محسن عطروش، وجمال داود، وقد غنى له الأخير قصيدته الوحدوية الشهيرة"الحب في صنعاء، والعشق في عدن"، وإن كنت لا أزعم تميزه في كل الأنواع شأن الحقيقة.
ظل عبد الرحمن إبراهيم في عدن دون أن يغريه بريق العاصمة؛ حيث الأضواء والشهرة. أما أهم ما يميز نصوصه فهو انحيازها الكامل للبساطة الشعرية، واشتغاله على خصائصه كشاعردون تكلف أو تقليد مصرّ لاتجاه ما. يكتب في كل الأنماط مع احتفاظه بتنويعاته، حتى حين يبدو إطرابيا –أقصد في نصوصه الفصحى غير المغناه - فإنه يفعلها عامدا، وربما تسلل كثير من الوضوح إلى نثرياته.
عاش عبد الرحمن رافضا لكل أشكال التطبيع السياسي و الثقافي مع الواقع وإفرازاته، شاخصا ببصره باتجاه واقع يراه مرسوما أمامه مهما تأخر وصوله، واعيا حقيقة الفن باعتباره احتجاجا ورفضا متواترا، إذ "الفن الرافض الأكبر، الاحتجاج على ما هو كائن والأساليب التي يجعل بها الإنسان يظهر ويغني ويتكلم" حسب هربرت ماركيوز، ومن هنا جاء احتفاله الدائم بالحرية والإنسانية في المطلق، الفرح والحزن متوالياتهما، فعاش مرحا، مبتسما أحيانا، وحزينا منكفئا في أحايين أكثر.. يفكر في خلاص أدركه أخيرا، وهو وتره الذي نشر عليه أناته منذ قصيدته "الحزن رقم واحد" المكتوبة في منتصف السبعينيات، عارفا أن قائمة من الأحزان ستجثم على صدره الشاعر الشفاف، لذا يهدي تلك القصيدة إليها وهي تذبح الحزن قرابين فوق تخوم قلبي" /قلبه الضعيف الذي هاجمته الموت مؤخرا، ونالمنه حتى لكأنه لم يركب جوادا لأية لذة حسب بيت امرئ القيس المعروفة، كأنّه /كأننا ــ حسبه أيضاً ــ
"كأني ما اشتهيت ازرقاق البحر
في عينيك، ما قلت له مرحى،
ولا نامت مواعيد لنا في جوف ساعاتٍ،
بخمر العشق قد غرقتْ"
كأنه ما تنفس ازرقاق الماء في عيني عدن الحلم، تلك السماء التي "تدثرها وشوشات الروح، عدن: أنا (هو)المجنون باشتمال الكبير، عدن طهارتي" . ثم سلام عليك أيها النبيل، لقد رحلت في ريعان الشعر.. كم يتمنى الواحد منا أن تنال أعمالك حقها..!


عن
http://www.jedaria.com/index.php?action=showDetails&id=2720