الكتابة وامتهان اللغة تحت غطاء النص الشعري

١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨بقلم ورود الموسوي


منذ أن عرف الإنسان الأول رسم بعض الخطوط تدليلاً وتعبيراً عما يود قوله أصبحت الكتابة الفعل الأصدق على التعبير والادراك.. وراح علماء اللغة في كل مكان يتدارسون فك رموز الكتابة.. وتوصلوا لنتائج كثيرة.. ترابطت أغلبها باللغة حتى أصبحا جزء لا يتجزء.. بل راح الفلاسفة إلى أبعد من ذلك بتعمقهم المثير باللغة منذ سارتر وحتى هايدغر الذي أخذ أهم مكانة فلسفية في القرن العشرين.. ومن هؤلاء الفلاسفة هانس جورج غادامير حيث اعتبر أن الوجود الجدير بالفهم هو اللغة بمعنى أن اللغة هي الكائن الحي والمفتاح الواضح لفهم الكون… وحسب تعبير هايدغر – اللغة مسكن الإنسان- أو أنها الكائن الوحيد الذي يستطيع الإنسان الافصاح به عن نفسه.. هذه اللغة التي منها تتفرع العلوم والادبيات..هي جديرة بالفهم وفك لغزها وشفرتها كي يفهموا منها اللغة الأدبية التي تعد أعلى وأرقى مستويات القول والكلام في أي لغة…!
من هنا اهتم الفلاسفة باختبار وتحليل النصوص الأدبية لمعرفة المستوى الحقيقي الذي تجيء وتولد منه اللغة الأدبية… ولأن الشعر هو الأب لكل الأجناس الأدبية الآخرى فمن الشعر ولد النثر ومن النثر ولد السرد.. وبهذا راحوا يفكون لغز اللغة كي يعرفوا أيضاً من أين تجيء اللغة الشعرية.. وكيف يستطيع الشاعر استخدام نفس اللغة لكن بتعابير أبلغ مما يستخدمه العامة.. بل كيف يفهم الإنسان الشعر وهو – الشعر- ابن هذه اللغة المحكية..!
فاعتبر هايدغر اللغة بأنها مسكن الكينونة المتمثّلة في الشعر الذي يسكنها ويسكن إليها، فالشاعر يكون بمثابة – الساكن - الذي يحتاج في استضافته للآخر –السكينة- التي لن يجدها إلا في شعره… واستطيع القول أن هايدغر جُنّ بالشعر حتى قال - جوهر الفن : الشعر.. وجوهر الشعر: اقامة الحقيقة -.
ولأن الشعر لا يُحد بمكان أو زمان أو لغة بل أن ما ذكرته أعلاه هو ليس استعراضاً للفلسفة الغربية بقدر ماهو استدلال على أن الشعر هو كائن حي يخترق اللغات باحساسه كي تتأثر به ومنها ليصبح مسكن الإنسان الشعر ويولد منه الشاعر..!
ولأن اللغة العربية من اللغات الثرية بما تملك من غزارة معانٍ ومفردات وهي لغة التكثيف والاسهاب بل العربية تمنحك مساحة كبيرة باللعب في فضاء مليء بمفردات تساعدك على قول ما تريد بطرق مختلفة وباستخدامات عدة عكس اللغة الانكليزية من هنا نشأت مشكلة التعامل مع اللغة فبدأت تظهر نصوص بها من الاسهاب والحشو الشيء الكثير…العربية لغة الثراء ولغة الشعر.. ولغة الذوق.. لكن – من المؤسف- ما أراه اليوم من ظهور اسماء لا تُعد ولا تحصى مذيّلة نصوصها التي لا ترقى لأن تكون نثراً أو شعراً ولا تتعدى كونها انشاء أو جمل لا تمت بصلة لبعضها.. باسم شاعر أو شاعرة… هذه النصوص لخير دليل على تدني مفهوم اللغة.. ولهو خير دليل على تدني الذوق العام بتقبّل هذه النصوص على أنها نثر أو شعر..!
ولو اردتُ الخوض في مفهومية الشعر وتأويله سأحتاج إلى دراسة خاصة وشاملة وهي ليست محل بحثي هنا ولمن اراد أن يقرأ عن ماهية الشعر وكينونته ففضلا عن الكتب هناك –كَوكَل- ليجد كل ما يسأل عنه… وكي لا اعود لكلام النقاد ولكلام الفلاسفة حول ماهية الشعر –الذي ما زلنا نجهلها- سأختصر على مسألة الذوق ومسألة الدهشة..!
لا أحد ينكر أن بدخول الشعر العربي الحديث مرحلة النثر وخلافاً لما كان يتوقعه السياب بنقلته الشعرية من القصيدة الكلاسيكية إلى القصيدة الحرة..خلافاً لما كان يصبو إليه من الارتقاء بالشعر إلى مستوى أعلى مما كان عليه… دخلت موجة استسهال لهذا النوع من الكتابة… وبدأت تطالعنا نصوص تخدش الأذن والذوق والشعر والنثر الحقيقي بانتماءها إليه.. نصوص لا تتعدى كونها مجموعة احاسيس مرتبة بطريقة لا تملك من الدهشة ولا البلاغة ولا حتى المباغتة للقارئ ليذيّل صاحبها أو صاحبتها تحت اسمه - ودون خجل- كلمة شاعر أو شاعرة…!
والأدهى من ذلك كله حين تطالعك الردود على ما كُتب.. والصفات التي تهل على الشاعرة أو الشاعر بأنه عبقري زمانه ولم يلد الزمان أفصح ولا أبلغ منه..! وهذا دليل آخر على تدني الذوق الشعري عند القارئ بل المصيبة تتعاظم حين تقرأ اسماً لشاعر أو لناقد من ضمن المعجبين بهذا النص..! وهنا يقفز لذهني السؤال.. كيف يمكن لنا أن نجد نصاَ حقيقياً وسط هذا الكم من الغث…؟ بل كيف نقرأ هذا الغث..؟ كيف لنا أن نحمي ذائقتنا مما يُكتب…؟
لماذا النقد الجاد اصبح معدوماً ومقتصراً على القراءات السريعة المصاحبة للاخوانيات والمليئة بالمجاملات والتلميع…. كيف لك أن تكتب وسط هذه الغابة المليئة بالضباب..! بل كيف تكون صادقاً في نقدك وتحليلك للنص وبيان أن قصيدة النثر هي الامتحان الأصعب للشاعر وليس الأسهل وأنت تعرف أن لا حياة لمن تنادي بل قد تواجه اتهامات عدّة…!!
قصيدة النثر هي القصيدة الأصعب في الكتابة.. لأنها قصيدة تعتمد البناء الداخلي والايقاع الداخلي هي ليست تراكم صور أو تجميع كلمات ومفردات.. النثر لا يعني أن تكتب كل ما تحسه بل يعني كيف تقولب ما تحسه في بناء شعري جاد.. كيف لك أن تمسك المفتتح ولا تضيع في الوسط وكيف تفتح فم القارئ بالدهشة في المختتم…!
النثر ليس استسهالاً للغة بل هو أصعب ما في اللغة لأنه قمة التكثيف والايضاح.. حين نقرأ ما كتب النفّري في المواقف والمخاطبات نرى النثر بأعلى مستوياته اللغوية.. هذا الكتاب الذي يُعَدّ الكتاب الأول في التكثيف اللغوي – أدبياً- تعرف أنك أمام عبقرية عُنيت باللغة حتى راحت تدعكها جيداً وتقدم منها ارغفة سهلة الهضم ودسمة المعنى..
قصيدة النثر لا تعني ابداً ادخال اليومي بشكل تافه وغير مفيد بل كتابة اليومي في الشعر كان موجوداً منذ عهد الصعاليك.. عروة ابن الورد كتب حتى خلافاته مع زوجته.. بل كان يذكر حالاتها في الزعل أو الرضا.. لكنه استخدم اللغة ولم يخدش الذوق ورغم ذلك لم يكن الشعراء في الجاهلية يعترفوا بشعر الصعاليك كونه تمرداً على اصول الشعر التي وضعوها..!
إذن الحداثة الشعرية لا تعني ابداً التصفيق لاسماء لا أساس لها من العلم الأدبي والذوق الأدبي.. بل ما يُنشر اليوم يخدش الأذن والذوق والأدب..هي ليست دعوة لشيء لكن على الشاعر أن يكون مثقفاً حقاً مطّلعاً على أقل تقدير على الشعر العربي قديمه وحديثه.. أن يكون الشاعر متمكناً من القديم كي يبدع بالحديث وأن يكون متمكناً من الحديث كي يسبقه لما بعده بقدم واثقة… ليس الشعر صنعةَ كي يصبح كما اليوم صنعة من لا صنعة له..!
للمزيد
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article15553