عبد الكريم عبد الرحيم:
شاعر يجسد المكان على طريقته
لا يخرج الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم في مجموعته الأخيرة (وأدخل في مفردات المكان) عن عشقه للأرض وكل ما يمت إليها بصلة: المرأة، الأصدقاء، الذات، وتظهر الأخيرة بشكل لافت في المجموعة عبر وجوه عديدة، أهمها القصيدة وتداعياتها الضرورية كالقلق والظمأ إلى الكشف الذي يبتعد كلما اقترب(كم تعبنا من هوى الشعرِ/ شربنا غصص الدهرِ/ وظنَّ التيهُ أنّا نرتوي من نُعْمَيَاته...أهوَ الشعرُ ترابٌ أم ثريّا؟ أوقدتها مقلةُ الشاعرِ وهماً في حياته؟).
تتماهى ذات الشاعر مع الكتابة عبر نبرة تنم عن الضيق والقلق النابع من ذكريات الحياة ومن طبيعة الكتابة التي تقدم ثم تأخذ ما قدمته من الاطمئنان ليستمر الإبداع( يدانِ كقطعتيْ حجرٍ/ أصابعُ من سعالِ الوقتِ تكتبُ.....حاجزٌ..أسلاكُ سورٍ..طلقةٌ..أنا أستريحُ الآنَ من موتيْ)، كما تتماهى الذات مع الأمكنة عبر الكتابة، ويتضح هذا التماهي أكثر حين تصبح المعاناة والرؤيا منطلقاً للنظرة إلى الأمكنة، فرفحُ تتحدثُ بلسانها الفلسطيني، ولفلسطين (منمنمات تاريخية على جدران دمشق) ( لكَ ما تشاءُ فهزَّ نخلكَ في ولادتكَ الجديدةِ/ هذه الأرضُ سقتكَ دماءها لتكونَ وردةَ ميسلونَ فهلْ وُلدتَ كما تريدُ؟)، ويصبح للخرطوم كما لرفح كما لقرطاج كما لجنين مكان مؤنسنٌ في القصيدة، هي عروبة الشاعر التي ينتمي إليها كما تنتمي إليه، ويجسّدها عبر الأمكنة التي مرت في حياته على طريقته. ولا تخفى على أحد أهمية المكان في الإبداع وما يقوم به من وحدة موضوعية، والشاعر الذي نشأ في دمشق بعد هجرته من فلسطين المحتلة يقف مع الأمكنة التي مر بها كما مرت به وقفة كشف وتساؤل، لقد أصبح للأمكنة شخوص يحضن كل منها جانباً من الغربة، وهنا نلتقى بالإجابة عن عنوان المجموعة، المكان الذي أراده الشاعر هو كل ما عاصره أثناء عمره بعد أن نضجت التجربة ليحوِّل المكان إلى مفردات تُهصر في ذاته، فالمكان ليس المكان المحسوس بل ما يمثله في أعماق الشاعر.
يتشكل حب الأرض والبحث عن الذات والوجود في المجموعة بوجدانية لا تخرج من بين أصابع الشاعر إلا مختمرة ومستقلة بحيث لا تمثل غيره ولا تتقاطع إلا مع لغته( تباركَ دمعُكِ يحملُ وجهيْ إلى حزنهِ/ تباركَ صمتُكِ يهطِلُ فيهِ كلاميْ على وهنهِ) مع رؤيا شعرية يفتح من خلالها أبواب الكشف عن تفاصيل الكون، رؤيا ملموسة كالماء ومشرقة كالنور (ها أنا أعبرُ أبراجَ اليقينْ/ ضفتايَ الماءُ والنورُ وفيْ صدريْ السفينةْ/ عاشقاً مفردةَ الصبحِ قوامَ الأبجدياتِ انتحبنَ/ الرملُ أنثايَ ومرسايَ جنينْ).
تأتي المجموعة التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب حاملةً صوتها الخاص بعد خمس مجموعات للشاعر، لم تكن كل منها إلا بحثاً عن الأخرى، وصولاً إلى الأخيرة التي لم تنهِ الطريق، إنها رحلة إبداع لا اتجاه لها تتوحد في صوت الشاعر وفي نظرته الشمولية حين لا يتخلى عن جانب من عالمه دون آخر، عبد الكريم عبد الرحيم يحدثنا عن تجربته بكثير من التواضع المحبب، هو الذي لم يبتعد عن الأجيال التي أتت بعده فمازال يجالسهم ويسمعهم ويقرأ عليهم قصائده الجديدة فقط ليحس ببعض الاطمئنان وخمود بسيط فيما يعانيه من القلق-كما يقول-، إذاً هو شاعر متجدد دائماً، شاعر وحيدٌ وممتزج بالحياة بكل شؤونها الحميمة: المرأة والأصدقاء والوطن والطفولة ( أطلقتُ حسنَكِ/ في الشوارعِ عابرونَ إلى متاعِ الليلِ لا قمرٌ/ صديقيْ حينما شدَّتهُ رغبتُهَا وأومأتِ النساءُ إلى قميصِ الحسنِ كانَ بحيرةً لا تعرفُ اللذاتِ)، عبد الكريم عبد الرحيم: سنوات طويلة من الإبداع، وأمكنة تؤوِّلها الذاكرة، وقصيدة لم تحضر كما يريد بعد!.

عمر سليمان

عن جريدة البعث
http://www.albaath.news.sy/user/?id=846&a=76662