الإبداع وسياسة الرقمنة.. د. أحمد أبوزيد


تعتبر المعرفة الرقمية الآن واحدة من أبرز خصائص المجتمع المعاصر ووسيلة فعالة في تحقيق تطلعاته إلى المستقبل عن طريق استخدام التكنولوجيات الإلكترونية المتقدمة، وبوجه أخص الكمبيوتر والإنترنت, مما يؤدى إلى حدوث تغيرات واضحة ليس فقط في إمكانات التواصل وتداول المعلومات, ولكن أيضا في منظومة القيم المتوارثة والعلاقات بين الناس. ومع تعقد الحياة وتشعب متطلباتها تزداد الحاجة إلى الاستفادة من قوى الإنسان الإبداعية وتنميتها للتغلب على الصعوبات الناجمة عن هذه الأوضاع المعقدة التي لم يكن له يدٌ في حدوثها، مما يعني ضمنا اتساع مفهوم الإبداع, بحيث لم يعد مقصوراً على مجالات النشاط الفكري والثقافي, وإنما يمتد إلى كثير من جوانب الحياة اليومية ومواجهة الاحتياجات المادية.
تتيح تكنولوجيا الشبكات الرقمية الفرصة لارتياد مجالات علمية وثقافية كثيرة وشديدة التنوع، وكثيرا ماتكون متضاربة بل ومتناقضة فيما بينها، ولكن هناك أجيالا جديدة تعرف كيف تتعامل بتلقائية شديدة مع هذه الثقافة الرقمية التي تؤلف جزءا من تكوينهم الذهني وسلوكهم الطبيعي، بحيث يطلق عليهم في بعض الكتابات اسم «الناس الرقميين» أو Digital Natives الذين ولدوا وترعرعوا وشبّوا في هذا العالم الرقمي واندمجوا فيه بكل كيانهم، وإن كانت هناك اتجاهات مضادة لاتنظر بعين الارتياح إلى ذلك الاندماج الذي يكاد يصل إلى حد التوحد الذي يسلب الفرد شخصيته وكيانه المتميز.
ففى كتابه الشهير The Act of Creation الذي صدر بالإنجليزية عام 1964 يقول آرتور كويستلرArtur Koestler إن «الإنسان خلاّق ومبدع بطبعه ولكن قواعد السلوك ومبادئ التفكير السائدة في المجتمع كثيرا ماتفرض قيودا تحد من انطلاق تلك الملكات والقدرات». فالإبداع عملية ذهنية واجتماعية في وقت واحد ولكنها تتضمن تصورات وأفكارا تعبر عن رؤية ثورية غير مسبوقة، وتعتمد على صياغات جديدة تماما للأشياء. وقد تكون هناك جوانب غريزية أو فطرية أصيلة في التكوين الذهني للإنسان المبدع.. ولكن لابد من وجود عناصر خارجية في العالم المحيط به تؤلف مادة هذا الإبداع.
ولقد كانت الثقافة والإبداع مرتبطين منذ أقدم العصور بالتطورات التكنولوجية التي حققها المجتمع في كل عصر من تلك العصور. فالرسوم والتصاوير الجدارية في كهوف العصر الحجري مثلا لم تكن لتتم لولا توافر العناصر والمكونات المادية والأدوات والآلات التي استخدمها الإنسان المبكر في إنجاز عمله، وذلك إلى جانب امتلاكه هو نفسه للقدرة الإبداعية الفنية من ناحية، ووجود الإنسان المتلقى الذي يدرك معنى تلك الرسوم ويستمتع جماليا بها من ناحية أخرى. وقد أدت الثورة التكنولوجية الرقمية في أواخر القرن العشرين إلى قيام نماذج جديدة ومعقدة من الإبداع الذي بلغ ذروته في العقود الثلاثة الأخيرة. وقد أتاحت هذه الثورة مجالات واسعة جدا للتجديد والابتكار والاستفادة من العناصر المادية والفكرية المتاحة في الإنتاج المبتكر وتداوله ونشره والدعوة إلى المشاركة فيه عن طريق التذوق والتقييم والتعديل أوالإضافة إليه. وساعد ذلك على الكشف عن المواهب الدفينة لدى أشخاص لم تكن لديهم في الأغلب مثل هذه الفرص أو الإمكانات من قبل، فالتكنولوجيا الرقمية تتيح كل الإمكانات أمام الفرد للاتصال بالعالم الواسع الفسيح والتعرّف على مايدور فيه من أحداث وأفكار وإنجازات علمية وأدبية وفنية, وتترك له المجال واسعاً للاستفادة منها وحرية التعامل معها سواء بالاستعارة الصريحة، أو بالمزج بين أشكالها المختلفة، أو إعادة ترتيب عناصرها وتشكيلها وصياغتها في نماذج جديدة. ولذا فقد يكون من الصعب التنبؤ بما سيكون عليه الوضع بالنسبة للإبداع في المستقبل. وعلى أية حال فإن استخدام هذه التكنولوجيات الرقمية الحديثة يؤدى إلى اتساع نطاق مصادر المعرفة وتبادل المعلومات والتأثر والتأثير المتبادل بين الثقافات وإلى تذليل الصعوبات، وإتاحة الفرصة للكثيرين في إنتاج أشكال جديدة وأعمال مبتكرة من الأدب والفن وبخاصة في مجال التصوير والموسيقى بطريقة تلقائية بعيداً عن القيود والقواعد والإرشادات المتزمتة, كما يعمل على توسيع الخيال وفتح مجالات عدة ومتنوعة للابتكار عن طريق التفاعل بين الإنسان والأجهزة وتسخيرها في تحقيق هذه الإبداعات، مع إمكان الاحتفاظ بنسخ منها ونشرها وتبادلها على أوسع نطاق. ومن شأن ذلك توسيع دائرة المهتمين بالإبداع في مختلف صوره وأشكاله ومجالاته مع تنمية ملكة التذوق والتقدير والنقد وتشجيع العديدين على ارتياد مجال الإبداع الشخصي في الفن والكتابة.
مبالغة وإدمان ضد الإبداع
وإذا كان هناك مَن يشكو من الآثار السلبية المترتبة على المبالغة في الارتباط بالكمبيوتر إلى حد الإدمان واعتبار ذلك مسئولاً عن تدهور القدرات الذهنية والفكرالمستقل والانقياد وراء الآخرين ومحاكاة إنجازهم وبالتالي تراجع الشخصية الإبداعية لدى الفرد، فإن هناك على الجانب الآخر من يرى أن ذلك الارتباط يساعد على تنشيط التفكير والخيال والإبداع والتوصل إلى اكتشافات وارتيادات مثيرة، كثيراً ماتتحقق عن طريق إعادة تنظيم وترتيب العلاقة بين الأشياء والأفكار والكلمات والألوان والأصوات وما إليها من عناصر الإبدع المتوافرة بالفعل والتي يسهل الحصول عليها من خلال تلك الوسائل الرقمية التي أسهمت في إزالة الفوارق بين ماهو افتراضي أو غير حقيقي وما هو معروف ومألوف ووسّعت المجال أمام التفكير المتسامي عن الواقع المحسوس والمحدود كما أنها تعمل على توسيع نطاق الابتكار وظهورمبتكرين ومبدعين جدد لهم القدرة على مزج أساليب ووسائل التعبير المختلفة في وحدة معقدة ولكن تتكامل فيها عناصر اللغة والرسم والعمارة والموسيقى والنحت وغيرها بشكل تعجز عنه وسائل الإبداع القديمة. ومن الصعب فرض قيود على قوة انتشار الرقمنة و تحديد تأثيراتها أو حصر ذلك التأثير في نطاق محدد يمنع من انتشارها على مستوى العالم. وثمة عبارة طريفة تقول إن محاولة جعل الملفات الرقمية غير قابلة للانتشار بالنقل والنسخ تشبه محاولة جعل الماء خاليا من البلل not wet.
وداعاً للملكات الاستثنائية
وهذا يغير إلى حد كبير الفكرة التقليدية عن الإبداع والأصالة وارتباطهما بقوى وملكات استثنائية لاتتوافر إلا للقلائل، كما يغير النظرة إلى الكمبيوتر والإنترنت واعتبارهما شريكين كاملين في عملية الإبداع وليس مجرد وسيلتين لإنجاز الإبداع. فالتكنولوجيا الرقمية تؤدى إلى تغييرالعلاقة بين الإنسان ومفهوم الإبداع والإنتاج والتوزيع والانتشار وإن كانت تؤدي في الوقت ذاته إلى تراجع معنى الأصالة الفردية وازدياد درجات التشابه بين إنتاج الكثيرين من المبدعين، كما هو واضح الآن في الإنتاج الموسيقي في كثير من دول العالم بما في ذلك عالمنا العربي نتيجة التأثر بإبداعات الآخرين في الثقافات المختلفة التي تنقلها التكنولوجيا الرقمية.
وإذا كان التصور القديم أو السائد لدى الكثيرين أن الإبداع يتطلب حياة العزلة والتباعد والتسامي عن المؤثرات الاجتماعية والترفع عن الانشغال بالمشكلات الحياتية العادية وبالتالي عدم الالتزام بالقيم والمعايير الاجتماعية بل والتحرر منها كليّة فإن هذا التصور بدأ يتراجع وتظهرالدعاوى بضرورة الالتزام بمقومات المجتمع ومبادئه وقيمه، نتيجة لاتساع المفهوم وعدم اقتصاره على الإنجاز والتجديد في مجالات محددة بالذات، فمواقف الحياة اليومية مصدر للإبداع الذي هو, على أية حال, قوة كامنة تحتاج إلى مثير فكري داخلي أو مادي خارجي يدعو إلى التأمل والإحساس به والتجاوب معه والتعبير عنه بالكلام أو الحركة أو الصوت أو اللون أو غير ذلك من الوسائل.
توافر العنصر أو العامل المثير الداخلي أو الخارجي أمر مهم إذن في الإبداع الذي لا ينتج من لاشيء.. ولا يوجد في فضاء لأنه في آخر الأمر نظرة جديدة إلى أمور أو أشياء موجودة فعلا. وتعتمد هذه النظرة الجديدة أو تستوجب إعادة تنظيم العناصر والوحدات المكونة لتلك الأمور أو الأشياء المتاحة، بحيث ينجم عن إعادة التنظيم والتشكيل إنتاج جديد أو إبداع قد يثير الدهشة والإعجاب، نظرا لابتعاده وتميزه عن القديم ومخالفته للمألوف. أي أنه مهما تكن من غرابة الإبداع الجديد أو تفرّده فإنه يستمد عناصره مما هو موجود بالفعل، بل وقد يعتمد في ذلك على إبداع قديم يستمد منه عناصره. والتكنولوجيات الرقمية تتيح ذلك على أوسع نطاق وبغير حدود مما يجعل البعض يقول إن الإبداع الآن يقوم على «القرصنة» - دون أن يكون لهذه الكلمة أية أبعاد تقويمية أو أخلاقية سلبية. وانتشارالتكنولوجيا الرقمية يساعد على انتشار هذه القرصنة. فالمجالات واسعة ومتعددة والثروات الفنية والأدبية وفيرة ومتنوعة والمجال مفتوح ومباح للقراصنة للإغارة والاغتراف بغير حساب.
الإبداع للجميع عبر الرقمنة
ولكن هذا يثير التساؤل عما إذا كانت الوسائل الرقمية توفر العناصر التي تستخدم في الإبداع عن طريق إتاحة الحصول عليها من شبكات الإنترنت الميسورة للجميع بغير قيود أو حدود في أغلب الأحيان, كما تتولى عملية مزج تلك العناصر وإعادة ترتيبها حسب تصورات ذاتية خاصة وصياغتها وتشكيلها في قوالب جديدة يعتبر إبداعا بالمعنى التقليدي الدقيق للكلمة, وذلك بصرف النظر عما يقال عن التغيرات التي طرأت على أبعاد ذلك المفهوم والتوسع في استعمال الكلمة في الحياة اليومية. فهى عن طريق تيسير التعرف والاتصال بإبداعات الآخرين وتسهيل إعادة ترتيب العناصر الفكرية والمادية بغير حدود تساعد على ظهور إبداعات جديدة وإضفاء ملامح وعناصر وسمات شخصية متميزة على الإبداع الجديد. وجزء كبير من الإبداع الفني بالذات يعتمد الآن على الاختيار والانتقاء من أعمال مبدعين آخرين من مختلف أنحاء العالم ومصادر لم يكن الاتصال بها أو حتى مجرد المعرفة بوجودها أمرا ميسورا قبل الثورة الإلكترونية والاتجاه نحو رقمنة المنتجات الثقافية والعمل على تداولها ونشرها على أوسع نطاق.
الواقع أن الكثيرين يرفضون اعتبار هذه الأعمال إبداعاً لافتقارها إلى الأصالة نظرا لأن العناصر المستخدمة في تكوينها وتشكيلها هي من (صنع) وجهد الآخرين. وينطبق هذا الرفض بوجه خاص على مايعرف باسم الموسيقى الرقمية التي يعتمد أصحابها في تأليفها على نغمات (مقتبسة) من أعمال الآخرين والتلاعب في ترتيبها وإعادة توزيعها ومزجها عن طريق الكمبيوتر الذي ينفذ ما يصدر إليه من أوامر بكل دقة وكفاءة يعجز عنها البشر، بل إن هذا يصدق على جانب كبير جدا من الإنتاج العلمي والأدبي والثقافي. فالتكنولوجيا الرقمية تساعد دون قصد على اللجوء إلى (القرصنة) وتتستر عليها - إن صحّ القول - وتخفي معالمها تماما بقدرتها الفائقة على المزج وإعادة الترتيب والتشكيل بحيث يبدو العمل في آخر الأمر كما لو كان إبداعا أصيلا. (وقد سبق لنا أن تعرضنا لهذه المسألة في مقالنا عن «التكنولوجيا والثقافة الرقمية» - مجلة العربي نوفمبر 2008).
والسؤال الثاني الذي تثيره معظم الكتابات التي تتناول دور الرقمنة في الإبداع هو إلى أي حد وكيف يمكن استخدام التكنولوجيا الرقمية في تنمية القدرات الإبداعية، بالرغم مماقد يبدو من تناقض بين هذا التساؤل وما قيل عن رفض الكثيرين اعتبار هذا النوع من الإنتاج إبداعاً؟
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الاحتكام إلى أساليب التربية والتعليم والتنشئة المتبعة في المجتمع. ولكن الملاحظ بوجه عام أنه في المراحل الأولى من نظم التعليم في الخارج يميل الاتجاه نحو ترك الحرية مطلقة أمام الأطفال الصغار في المدارس لاستخدام الكمبيوتر دون قيود على اعتبار أن ذلك يساعد على انطلاق أخيلتهم بغير قيود، والكشف عن إمكاناتهم وقدراتهم على الارتياد وبالتالي تنمية مواهبهم الإبداعية ليس فقط في الفنون، ولكن أيضا في مجال التعبير عن الذات بالكلمات والكتابة. وقد أجريت بعض التجارب حول استخدام التلاميذ الصغار لقوى وإمكانات الإبداع عندهم في الكتابة والموسيقى والرسم، وعلى الرغم من أن هذه البحوث لم تتوصل إلى نتائج قاطعة تماما فإنه يتم الاسترشاد بها في تطوير الاستخدام التربوي والتعليمي للتكنولوجيا الرقمية في وضع المناهج والمقررات الدراسية، حتى في الموضوعات غير الإبداعية أو غير الكمبيوترية. وبالمثل يرى الكثيرون أن ممارسة الألعاب على الكمبيوتر تثري الخيال والقدرة على الإبداع. وكثير من المبدعين في مجال الفنون بالذات يقبلون على تعلم الإلكترونيات والاستعانة بها في إنتاجهم، كما هي الحال بالنسبة للتأليف الموسيقي أو الحيل السينمائية.
ماذا يهدد قوى الإبداع؟
لذلك تعتبرالقيود المفروضة الآن، والتي تتزايد بشكل غير مسبوق على حرية تداول الأفكار باسم الملكية الفكرية تهديدا لقوى الإبداع في المستقبل. ومهما تكن المبررات الأخلاقية والقانونية والاقتصادية وراء ممارسسة حق الملكية الفكرية على الإنتاج والإبداع الرقمي فالواضح أن القيود المفروضة الآن على تداول الفكر تتعارض مع المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الحديثة التي تنادي بحرية التفكير والتعبير ونشر الثقافة وإزالة العقبات التي تعترض الكشف عن المواهب وتنمية القدرات على الإبداع.
ولكن يوجد الآن في كثير من الدول المتقدمة اتجاه متزايد نحو رقمنة الأعمال الثقافية والإبداعية المهمة، والتي تعتبر من المعالم الدّالة على التطور الفكري ورقي الملكات والقوى الإبداعية. وتخصص هذه الدول مبالغ طائلة لتحقيق ذلك الهدف الذي تشارك بعض الدول العربية في العمل على تحقيقه للحفاظ على ذاكرة مجتمعاتها الثقافية وإسهاما منها في نشر المعلومات عن مكانتها التاريخية والحضارية وتبادل المعلومات مع الآخرى. فالتكنولوجيا الرقمية تضفي على الإنتاج الثقافي والحضاري معنى جديدا، خصوصا إذا كان ذلك الإنتاج إنجازاً تراثياً تقليدياً معرّضاً للضياع تحت نظم التدوين والحفظ التقليدية.
كذلك تُعنى بعض الهيئات والمؤسسات الثقافية بنشرالأعمال الكبرى على الشبكات الدولية، وإتاحة الفرصة للنسخ المجاني. وعلى الرغم من الأهمية البالغة لمعظم هذه الأعمال فإنها تنتمي في الأغلب للفئة المعروفة باسم «الأعمال اليتيمة» Orphan Works التي لم تعد خاضعة لقوانين الملكية الفكرية. وتقدر المكتبة البريطانيةBritish Library هذه الأعمال اليتيمة بحوالي أربعين في المائة من كل الإنتاج الثقافي المتاح وهي نسبة غير قليلة وكفيلة بأن تلعب دورا مؤثرا للغاية في تكوين مفكرين ومبدعين جدد طوال الوقت. وعلى أية حال فإنه على الرغم من أن حق الملكية الفكرية أصبح مقبولا بشكل أو بآخر ومعترفا به، فإن هناك في الخارج من لايزال يرى ضرورة وضع حدود على ذلك الحق وقصر العمل به على فترة معينة تختلف الآراء حول تحديدها، ثم إطلاق الحرية بعد ذلك لتداول تلك الأعمال المحظورة وإتاحتها على الشبكة الدولية للتعرف عليها والاستفادة منها في إثراء الفكر والثقافة الإنسانية، وتكوين مفكرين ومبدعين يضيفون إلى التراث الإنساني. ولن يضار المبدعون الأصليون كثيرا من جراء ذلك، لأن معظم المكاسب المادية التي تدرها عليهم أعمالهم تتحقق في السنوات الأولى من ظهور ذلك الإنتاج. ويجب من أجل الازدهار الثقافي والإبداعي ألا ننظر إلى أي عمل على أنه دجاجة تبيض ذهبا إلى مالا نهاية. وقد تكون هذه نظرة مثالية ولكنها جديرة بالتأمل والتفكير.
والمهم على أية حال هو أن العصر الرقمي والاتجاه نحو رقمنة كثير من الإنتاج الفكري والثقافي وما تتيحه هذه الرقمنة من حرية التداول والاستعارة أو «القرصنة» - لو فضّلنا استخدام هذه الكلمة الدقيقة والكاشفة تلقي أضواء جديدة على مفهوم الإبداع القائم على الانتقاء والاختيار والمزج وإعادة الترتيب والخروج بتشكيلات جديدة لعناصر قديمة. ولذا يرى الكثيرون الآن أن مبدأ الملكية الفكرية ليس له معنى، ولم يعد مجدياً تماماً في هذا العصر الرقمي، وأن المبالغة في التمسك به سوف تكون لها نتائج عكسية على الإبداع والابتكار والتجديد، مما يعوق التقدم نحو مستقبل أكثر نجاحاً وازدهاراً.


أحمد أبوزيد
مجلة العربي
http://www.alarabimag.com/arabi/Data.../Art_93943.XML