سفهاء العصر
"الرغاليون الجدد"

أسامة عكنان
السفيه هو من يبدد ثروته وماله في غير محلهما، وسفهاء العصر تجاوزوا ذلك فبددوا ثروات الأمة وثقافتها وحقوقها وكرامتها وكل مكونات هويتها.. وأبو رغال لمن لا يعلم هو عميد الخونة والخيانة في التاريخ العربي، والرغاليون الجدد هم ورثته وخلفاؤه على طريق الخيانة من سفهاء العصر هؤلاء
الفهرس
مقدمة تأسيسية.
أولا.. منطقة الفراغ السياسي والثقافي والاجتماعي في واقع الوطن العربي.
ثانيا.. سقوط ثقافة الهزيمة، وبدء تكون منظومة متكاملة لثقافة المقاومة.
ثالثا.. تأكُّد الشكل الحقيقي للإمبريالية بذراعيها "إسرائيل" و"أنظمة التجزئة".
رابعا.. البعد الهجومي المُقاَوِم في كافة قضايا التحرر العربي.
خامسا.. واقع التنمية في الوطن العربي كجزءٍ من العالم الثالث بعد الحرب العالمية.
سادسا.. الإستراتيجية الإمبريالية في التعامل مع الوطن العربي.


مقدمة تأسيسية
إن مظاهرَ الفساد الإداري والمالي والسياسي في النظام العربي – ونحن نستخدم عبارة النظام العربي تجاوزا لتسهيل لغة الخطاب في الدلالة على المنظومات العربية الحاكمة، رغم عدم إيماننا بوجود نظام عربي من حيث المبدأ – متغلغلة إلى أعمق أعماق مؤسساته، وقائمةٌ منذ نشأة الدول العربية في أدق مُكَوِّنات البُنى الرسمية لهذه الدول، ومرافقةٌ مرافقةً تاريخية لمسلكيات وممارسات ومواقف معظم شخوصها ورجالاتها النافذين، ماضيا وحاضراً. ومع أن مظاهر هذا الفساد ليست حُكرا على رجال السلطة وحدهم، باعتبارهم يمثلون نخب أصحاب المصالح الاقتصادية والتكثيف السياسي للمثقفين المروجين لمشروعية هذا النظام، إلاَّ أن السلطات السياسية في البلدان العربية على عمومها وفي مُجملها تحظى بلا منازع بشرف وصفها بـ "سفهاء العصر" أو "الرغاليون الجدد".
وإذا كانت لِلُعْبَةِ الفساد أشكالٌ متنوعة تُجَلِّي نفسها من خلالها، وطرقٌ متعددة تُمارس بها رموز السلطة السياسية في هذا البلد أو في ذاك دورَها المشبوه في تمرير ما يُراُد تمريره، فإن الطبيعة المركبة للمشروع الذي أنيطت مهمة تنفيذه بدول النخبة المركزية في هذا النظام، اقتضت أن تكون لسيناريوهات الفساد فيها، مذاقاتٌ مختلفة عن كل أشكال الفساد في دول التخوم العربية الأخرى. إن العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي، تتجلَّى بأشكالٍ مختلفة. وإنَّ للقائمين على إدارة وحماية كلِّ شبكةٍ من هذه العلاقات دورَهم الخاص في إنجاح مفاعيل استمرار وديمومة وتَطَوُّر الشبكة التي يقومون على إدارتها ويتولون أمرَ حمايتها. إن المحصِّلة من الإدارة "الكانتونية" لمختلف شبكات الإمبريالية في المنطقة العربية، يجب أن تكون تقدُّما ونمُواًّ لمصالح الإمبريالية الأميركية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وبين هذين العنصرين الأساسيين المُكَوِّنين لمعادلة الصراع العربي الإمبريالي في الإقليم، عنصر تقاسم إدارة وحماية شبكات العلاقات الإمبريالية بين أحفاد "أبي رغال"، كلٌّ بحسب ما تتيحه له الظروف التاريخية والجيوسياسية من حقوق وما تفرضه عليه من واجبات، وعنصر التفاعل بين إدارات الكانتونات العربية لتحقيق المُحَصِّلَة المُفْتَرَضَة. نقول.. بين هذا وذاك، تدور رحى المعركة، وتتوالد أنماط الفساد وأشكال الهوان والإرتهان، وتنمو وتتفاقم معوِّقات النهضة، وتصدأ وتتلف كلُّ مفاتيح التنمية.
إن نظام الفساد الذي أُلْحِقَ بخرائط "سايكسبيكو" السِّرِّيَّة، كمُتَطََلَّبٍ لا تُسْتَكمَل تلك الخرائط بدونه، حَدَّدَ لكل نظام سياسي عربي مُرتقب تَمَّت "خَرْبَشَةُ" حدودِه فوق تلك الخريطة دورَه ومهامَّه، وبالتالي نَمطَ الفساد المطلوب منه لتحقيق إسهامٍ بناَّءٍ في دفع العلاقات الإمبريالية إلى الأمام. وكان على نظام الفساد هذا أن يقوم على ركيزتين، تحافظ الأولى على دوره الفعال إمبرياليا في سياق تفاعله كنظامٍ سياسي مع باقي الأنظمة السياسية العربية الرغالية كي تتكامل الأدوار ولا تتقاطع. فيما تحافظ الثانية على دوره الأكثر فعالية في إدارة "الكانتون" الذي يقوده بشكل يُحافظ على الحراك الداخلي لهذا الكانتون متجها على الدوام صوبَ تمرير مصالح المركز الإمبريالي، وإن يكن على حساب مصالح الوطن والمواطن والأمة وقضاياها.
كانت مؤسسة "جامعة الدول العربية" التي تُعَدُّ أقدم مؤسسة إقليمية عاملة ذات طابع وحدوي كونفدرالي على وجه الأرض في الوقت الراهن، ولازالت وستبقى، بمثابة الحاضنة التي أتاحت الفُرَصَ التاريخية المتعاقبة لإنجاح دور الأنظمة السياسية العربية في مسيرة حفاظها على العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي، وتطويرها وتفعيلها وفق المنظور الإمبريالي نفسه. فمؤسسةٌ كهذه ما كان لها وهي تُمثل الأنظمة الرُّغالية كمُكَوِّن أساسي لبنائها المؤسسي، إلاَّ أن تُحَقِّقَ ذلك النجاح الذي أشرنا إليه. لا بل هي ما تأسست ولا نشأت إلا لهذا الغرض أصلا. رغم اعترافنا بنجاحها النسبي في تفعيل بعض جوانب "العروبية" التي نشأت فيما نشأت كي تظهر بمظهر المدافع عنها والمطور لها والمفعل للعديد من حيثياتها، وعلى رأسها وربما فقط "اللغة العربية".
يكفينا أن نلقي نظرةً على ظروف نشأتها – أي جامعة الدول العربية – لنتأكد من صحة ما نقوله. فالدول السبعة الموقِّعَة على وثيقة تأسيسها بتوجيهٍ بريطاني صِرْف، هي "مملكة مصر والسودان"، و"إمارة شرق الأردن"، و"المملكة العربية السعودية"، و"مملكة العراق"، وهي الكانتونات العربية الواقعة تحت الهيمنة البريطانية بشكل أو بآخر، وكلٌّ من "سوريا" و"لبنان"، الواقعتين تحت الإنتداب الفرنسي، وأخيرا المملكة السنوسية في ليبيا، وهي الاستكمال الطبيعي لمنظومة الولاء العربي للعرش البريطاني آنذاك.
فقد كان أمام الإمبريالية البريطانية آنذاك – وذلك قبل توريث تركتها للدايناصور الأميركي – أن تُعِدَّ المنطقة العربية التي ستكون ساحة اللعب الأساسية في خرائط ما بعد الحرب الثانية، بشكلٍ يحقق المعادلات التالية..
1 – أن تكون مُشَكَّلَةً على هيئة دولٍ متنافرة ومتضارية المصالح، هي أقرب للكانتونات والمشيخات منها للدول، على أن تصبح دولا في سياقاتٍ تُحكِم سيطرة العلاقات الإمبريالية التي رُسِمَت فيما مضى عليها.
2 – أن تبقى السيطرة على أنظمتها السياسية بكل الأشكال الممكنة والمتاحة بعد تحررها الوطني الشكلي قائمة، لضمان عملها الدؤوب على توجيه ساحاتها الداخلية لخدمة العلاقات الإمبريالية التي سَتُوَرَّث للمنطقة بعد خروج الاحتلالين البريطاني والفرنسي من المشرق العربي.
3 – أن يتم إنشاء مؤسسة إقليمية جامعة تضم تلك الدول وما سيستقل منها سياسيا مع مرور الوقت. وقد كانت هذه المؤسسة هي "جامعة الدول العربية"، وذلك تحقيقا للأهداف الإستراتيجية التالية..
أ – عدم إتاحة الفرصة لأية دولة عربية ستستقل لاحقا بشكل قد لا يكون خادما لمحصلة العلاقات الإمبريالية في المنطقة، لأن تندفع إلى خارج العمل المؤسسي العربي المضمون والمكفول بريطانيا وفرنسيا، وبالتالي استعماريا وإمبرياليا.
ب – ضمان أن يكون العمل الرسمي العربي مُرَجِّحاً لكفة الأنظمة السياسية العربية الخادمة للمشروع الإمبريالي والمنضوية تحت عباءته، حتى لو انضمت دولٌ تقدمية أو مقاوِمة لهذا المشروع إلى تلك المؤسسة. وقد صيغ ميثاق الجامعة بشكل يضمن هذه النتيجة، حتى لو حصل وكان عدد الدول الوطنيةِ التَّوجهاتِ أكثر من نظيرتها المرتبطة التوجهات، وهو ما لم يحصل في تاريخ الجامعة على أية حال.
ج – ضمان – وهذا هو الأهم – أن تُمْتَصَّ كافة التوجُهات الجماهيرية العربية المرتقبة، في كواليس الجامعة، وأن يُفَرَّغَ أي زخم جماهيري عربي من قوة اندفاعه، بفكرةِ الجامعة، وبالدعوة إلى العمل العربي المشترك من خلالها. إفشالا للفلسفة التي تحاول الفصل بين فكرة العمل العربي المشترك وفكرة الأنظمة العربية، في تأكيدٍ على أن هذا العمل المشترك هو عمل تلك الأنظمة بعضها مع البعض الآخر، وليس أي عمل خارج المؤسسة التي تُمثل هذه الأنظمة.
أي أن الإمبريالية البريطانية آنذاك، كانت تُدْرِك جيدا، أن حركةَ الجماهير العربية وصيرورَتَها التاريخية، سوف تصطدم في لحظات معينة منها تكون شديدة السخونة، بواقعِ الأنظمة العربية المرتبطة والمتراجعة. لذلك فقد كان لزاماً أن يتم تَمهيد الساحة بشكل تكون فيه الجماهير في لحظات السخونة التاريخية تلك، قد ارتبطت بشكل عميق بفكرة الجامعة وبفكرة إمكانية تحقيق العرب لشيء ما من خلالها إذا توحدت مواقفهم فيها، وفي أسوأ الظروف بفكرة العمل ضمن هوامش التأثير المحتملة داخل أروقة الجامعة في ضوء الاستفادة من النوايا الطيبة والحسنة لبعضٍ من القادة والزعماء العرب.. إلخ.
وبما أن الجامعة العربية تمثل أنظمةً سياسية عربية، فإن هذا التَّوَجُّهَ من الجماهير وقواها السياسية، سوف يعني قطعا أن اعتبار الأنظمة عدواً حقيقيا يَجب أن يواجَهَ، مازال اعتبارا بعيداً، وإلاَّ لما تم بناءُ الأمل على مؤسسةٍ تضم أنظمة سياسية تُصَنَّف على أنها أنظمةٌ معاديةٌ للجماهير وخادمةٌ للعلاقات الإمبريالية في الوطن العربي. وهو الأمر الذي سيساعد كثيرا على تأجيلِ أيِّ عملٍ جماهيري جذري قد يعيد صياغة معادلات المعركة والصراع بشكلها الصحيح الذي يُصَنِّف الأنظمة السياسية العربية باعتبارها الوجه الآخرَ للعلاقات الإمبريالية بعد إسرائيل، إن لم يكن قبلها.
ولعل تاريخ الجامعة العربية من حيث أداؤُها القومي والوحدوي، ومن حيث تأثيرُها السلبي على الحركة الجماهيرية، يؤكد لنا صحة ما نقوله بخصوص الأهداف المشبوهة التي رافقت نشأتها وتأسيسها في عام 1945. فبعد مرور أكثر من ستين عاما على تأسيسها، فإن الجامعة العربية لم تحقق أياًّ من أهدافها وشعاراتها التي زينت بها ديباجتَها وفقراتِ موادِها وبنودِها، ولا هي حققت أيَّ إنجازٍ يُذْكر على صعيد أيِّ شكلٍ من أشكال التعاون العربي، في الوقت الذي نرى فيه أن كافة المنظمات الإقليمية الشبيهةِ والأقل طموحا منها على صعيد الأهداف المُعْلَنًَة، على مستوى العالم، والتي نشأت في أماكن أخرى منه، حققت معظم ما نشأت لأجله، مع أنها جميعها تأسست بعد نشأة الجامعة العربية بمُدًَدٍ زمنية طويلة. وليست تجربة السوق الأوربية المشتركة عنا ببعيد. فهي قد وَحَّدت قارةً تتكلم أكثر من (30) لغة، وتضم أكثر من (40) قومية، في أكثر من (30) دولة لم تجمعها إلاَّ الحروب. فيما لم تُجَمِّع الجامعة العربية على موقف سياسي أو اقتصادي واحد ذي صفة مصيرية، أمةً تُعَدٌُّ من أكثر الأمم امتلاكا لمقومات الوحدة القومية، بتحدُّثها لغة واحدة، وبانتسابها لدين واحد، وانتمائها إلى أمة ذات مواصفات عرقية تكاد تكاد بالفعل واحدة.
الأمر الذي يؤكد أن الجامعة العربية لم تتأسس بإرادةٍ تغييرية حقيقية، وأنها قد نَجحت في تأجيل سقوط الأنظمة التي تمثِّلُها، وفي تأجيل تفعيل ثورة الجماهير ضدها. أي أن نقطة البداية في حركة الجماهير المقبلة، هي أن تَكُفَّ هذه الجماهير وقواها الفاعلة عن افتراض أن الجامعة العربية مؤسسةٌ يُمكنها أن تُحَقِّقَ شيئا لتلك الجماهير، وعن وضعِ فكرةِ تفعيلِ الجامعة وتطويرها واختراقها، في مصاف المهمات الوطنية التي يَجب أن تندرج ضمن برامِجها. بل إن عليها أن تعي أن إحدى أهم خطواتِها التأسيسية لحركةٍ جماهيريةٍ ثوريةٍ فاعلة، تتمثل في الواقع، في إعلان الحرب على هذه الجامعة، وفي عمل كل ما في الوسع لإسقاطها، والتأكيد على عدم ثقة الجماهير فيها بقدر عدم ثقتها في أنظمتها السياسيية التي تُدَثِّرها عباءة هذه الجامعة المؤامرة.
فمادامت الجماهير العربية ستثور عندما تثور على الأنظمة الرُّغاَلِيَّة، وستعارض عندما تعارض سُلطاتٍ وزعاماتٍ تمارس الفكر "السايكسبيكوي" بكل فضاءاته المدمرة للأمة العربية، فما لا شك فيه أن ما يُسهِم في حماية تلك الأنظمة وفي تأجيل هزيمتها، يجب أن تُعْلَنَ الحربُ ضِدَّه والثورة عليه. والجامعة العربية هي أكبر المسهمين – مهما تم ادعاء غير ذلك من قبل ذوي النوايا الحسنة والطيبة – في ضياع أكثر من ستين عاما من تاريخ الأمة، ليس فقط بدون تقدمٍ يُذكر على أي صعيد غير صعيد تعميق التبعية والارتهان، بل في التراجع المستمر الذي فاقم الهوة الحضارية والنهضوية بين العرب وبين باقي دول العالم الذي تطورت فيه دول كان يُفترض أنها لا تملك عُشْرَ الإمكانات البشرية والمادية والثقافية والتاريخية والحضارية التي تملكها الأمة العربية.
فأي غباء وجهل بقواعد السياسة والتاريخ، ذلك الذي يُلْزِمُنا بأن نقبل بإعطاء هذه المؤسسة فرصةً لا تتوفر لها أيٌّ من مقومات التَّحَقُّق في المستقبل، رغم مرور أكثر من ستين عاما مارست فيها ضدنا كل أنواع التسويف والتدمير، حاميةً بحكم طبائع الأمور مجموعةً من الأنظمة "الرغالية السفيهة" التي تسببت تلك المؤسسة في أننا أعطيناها ثِقَتَنا بدل أن نثور عليها، بسبب المهمة بالغة الإضرار التي نفذتها وهي تُمعن فينا تغييبا وتضليلا. إن سفهاء العصر الذين يتولون إدارة حشد كبير من الدول العربية، يكشفون عند متابعة مفاعيل أدائهم وتداعيات سياساتهم، عن حالة من السفه والرغالية لم يشهد لها تاريخ الأمة نظيرا عبر أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان. هذا ما سوف يتضح لنا في ثنايا الفصول التي يتكون منها هذا الكتاب.



الفصل الأول
منطقة الفراغ السياسي والثقافي والاجتماعي في واقع الوطن العربي


عندما يفرز الواقع حشدا من مفاعيل الحراك المُجتمعي وأدواته، تبدو وكأنها إرهاصٌ بتحولات تاريخية جذرية، يصبح من غير الممكن نجاح أية معارضة للإرادة السياسية التي تعبر عن تلك التحولات، بسبب أن هذه التحولات تعتبر بمثابة نتائج مُحَتَّمة ترتبت على مقدمات أخذت مداها التاريخي الكامل في تخليقِ وتكوينِ لحظةِ التحول الراهنة. تلك التحولات تعني أن مرحلة حصاد ما تم زرعه قد حلَّت، وأنَّ أوانَها قد آن، وألاَّ مفر من التعرض لنتائج ما كان بمثابة خيارات تاريخية سابقة، أدَّت إلى ما غدا خيارات تاريخية حالية. وينتج عن ذلك أن أي تحول جديد بالمعنى التاريخي للتحول لن يحدث إلاَّ بعد أن تفعل الإرادة السياسية الناتجة عما سبق والمؤدية إلى ما سيأتي، فعلَها الحافرَ في الواقع، استجابةً لمسؤولية تاريخية غدت هي وحدها المُعَبِّرَة عنها والحاملة لعبء تحقيقها في هذا الواقع.
فمنذ أكثر من مائة عام، كانت الشيوعية كحراك مُجتمعي يعبر عن إرادة تاريخية في التخلُّص من البُنْيَة الطبقية الإقطاعية وشبه الرأسمالية لروسيا القيصرية، تقتصر على مجموعة من الأشخاص المثقفين الذين كانوا يتنقلون بين مكتبات سويسرا، ويجوبون أنحاء القارة العجوز، لترسيخ المفاهيم البروليتارية، ولاستقراء الدياليكتيك في الوجود الطبيعي والاجتماعي، من خلال الدراسات الاستشهادية. إضافة إلى بعض الخلايا التننظيمية الموزعة هنا وهناك في روسيا القيصرية. إن انتشار الشيوعية السريع بهذا الزَّخَم فيما بعد يشكل ظاهرة هامة ومدهشة، لكنها ليست ظاهرة فريدة في التاريخ، فهي تماثل انتشار حركات أخرى، كحركة الثورة الفرنسية قبلها، أو كحركة المد الديني البروتستانتي الإصلاحي الذي اجتاح أوربا عشية انقضاء القرون الوسطى. كما أنها تشبه من حيث سرعة الانتشار وأسبابه، المد الإسلامي قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا عبر ثلاث قارات في أقل من قرن من الزمان. إن تلك الحركات والثورات والدعوات والرسالات، استطاعت الانتشار بتلك السرعة وعلى ذلك النحو، لأن التاريخ كان قد دخل منعطفاتٍ جذريةً ناضجةً لها كل النضوج.
ولكن ما الذي يجعلنا نقول أن التحولات التاريخية الراهنة هي بمثابة منعطفات جذرية ناضجة لاحتضان حركةٍ عميقة وجذرية في مسيرة تجديد الفكر التحرري العربي؟!
إنَّ في ماضي وفي حاضر الأمة العربية من المؤشرات الموضوعية، ما يكفي لأن نؤكد جازمين على أن الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من آب عام "1990"، مَثَّلَ ويمثل، بعد نكبة العرب الأولى عام "1917"، ثم بعد نكبتهم الثانية عام "1948"، عقدة مفصلية حاسمة في تاريخها، كشفت عن الكثير من الأمور التي كانت تعتمل في الخفاء، وبلورت منها ما كان يبحث عن مبررات للتبلور، وأوضحت منها ما كان غامضا، وكَرَّسَت كل عناصر الفرز والاستقطاب بدون مجاملة أو نفاق. فالحدثُ كان زلزاليا إلى درجةٍ لم تعد تنفع معها أيٌّ من أشكال المراوغة للتغطية على حقيقة الفرز والاستقطاب الحاصلين.
بطبيعة الحال فإن تأكيدنا هذا، لا ينفي أن هذه العقدة المفصلية يستحيل فصلها عن قضايا الأمة بأكملها، وعلى رأسها قضية التخلف والتنمية وقضية فلسطين، وعلاقة الأنظمة العربية المتراجعة بالاستعمار بكل أشكاله التي ورثَ بعضُها تركةَ البعض الآخر، في عملية تبادلٍ تاريخي مُحْكَمٍ للمواقع ولمفاعيل السيطرة على الوطن العربي، ولا عن قضية الحريات وحقوق الانسان، وإعادة بناء المنظومات الثقافية والفكرية للأمة بما يتناسب مع تطلعات النهضة التي تتفاعل في شرايين الحراك المجتمعي لها. كما أن هذه العقدة المفصلية لا يمكن التغاضي عن اعتبارها وما آلت إليه من غزو أميركي أنجلوساكسوني للعراق انتهى باحتلاله وبكل التداعيات المهينة التي شاهدناها ونشاهدها جميعا، مُكَوِّناً أساسيا من مكونات معادلات الصراع النهضوي لهذه الأمة.
فنكبة عام "1917" التي دشِّنت تاريخ المنطقة الحديث باحتلال بلاد الشام، تمهيدا لتنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، كانت في واقع الأمر بداية التطبيق الفعلي للرؤية "السايكسبيكوية"، التي أسفرت في عام "1948" عن ولادة أول مولود للمشاريع الاستعمارية بعيدة المدى في الوطن العربي. ولأن زلزال الثاني من آب عام "1990" ظهر وكأنه يعمل على محاولة بناء الأمة في عكس الاتجاه الذي تم تكوينها في ضوء حيثياته منذ النكبة الأولى في مطلع القرن الماضي، مُدَشِّناً تلك المحاولة الجنينية – التي نقبل التأكيد على عدم نضج ظروفها الموضوعية – بغرس أول معولِ هَدْمٍ في قلب نظام "سايكس بيكو"، فقد مَثَّلَ عُقْدةً على ذلك القدر من الأهمية والزلزالية. إنه باختصار، زلزالٌ ضرب إنجازاتِ أكثر من سبعين عاما من تَلَوُّن الوطن العربي بألوان الاستعمار الغربي، في مقتل.
ولما كان التفاعل التبادلي متحققا وباستمرار على شكل تأثرٍ "بـ"، وتأثير "في"، بين عناصر الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية من جهة، وبين البُنَى الفكرية الحاضنة لهذا الحراك ولتلك الصيرورة من جهة أخرى، فَماَ لاشك فيه أن زلزال الثاني من آب كشكلٍ من أشكال الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية الأكثر تَأَجُّجاً، والأشد توترا وتوتيرا، كان له نصيبٌ وافر من عناصر التَّاَثُّر بما سبقه من بنىً فكرية، كما سيكون له ولزمن مديد أيضا تأثيره الفاعل بشكل صارخ في تلك البُنَى، دافعا بها نحو دوائر التفاعل والتجاوب الأكثر تراجيدية، على جميع الصُّعُد والمستويات، مع متطلبات ما آلت إليه المنطقة والعالم بعده. وما نراه يحدث في بلاد الرافدين وفي المنطقة المحيطة بها منذ الاحتلال الأنجلوساكسوني للعراق، ليس عنا ببعيد، وهو خير دليل على ما نقوله.
الزلزال كان في جانب مهم منه نتاجا لبُنَى فكرية دفعت باتجاهه، وهو عندما حدث وعبر كافة مضاعفاته وتداعياته التي نعايشها والتي سوف نعايشها لجيل قادم من الزمن أو أكثر، سيشكل جانبا مهما أيضا من منظومة الأسباب التي ستدفع بالبُنَى الفكرية للأمة نحو التغير والتطور والتجدد تجاوبا مع نتائجه الخطيرة جدا.
فمنذ الثاني من آب عام "1990"، وفرز المواقف العربية يتوالى تباعا على قدم وساق، من مواقع متعددة، وعلى خلفيات متنوعة، وحالة الاستقطاب الجوهرية لمختلف الخنادق العربية تتعمق تدريجيا، إلى أن جاء غزو العراق واحتلاله بدءا من الحادي والعشرين من آذار عام "2003"، ليَحْقِن حالة الاستقطاب والفرز المتأججة هذه، بجرعات زائدة، كان من شأنها أن عمَّقَت أكثر فأكثر حالة التَّخَنْدُق والمواجهة العربية العربية، مُخْتَزِنَةً في أحشاء هذه الأمة الباحثة عن صواعق نهضتها، إرهاصات بتغييرات جذرية مُرتقَبة. وراحت الفراغات المهولة التي خلَّفَتها توابع الزلزال على كل الصعد، وخاصة على الصعيد المعتقدي والأيديولوجي، تئن تحت وطأة البحث عمن يَملؤُها مُسْتَغلا اللحظة التاريخية التي أثبت معظم العرب رسميين وغير رسميين، أنهم ما زالوا عاجزين عن إدراك كُنْهِها وأهميتها، تاركين فرصة ملئها لغيرهم، رغم أن الفرصةَ قد تكون ما تزال مواتية لمن يريد أن يكون شريكا فعاَّلاً في معادلات ما بعد ملء الفراغ.
فالعمل السياسي هو فعلٌ مُجْتمعي. والمجتمع جزء من وجودٍ حَيٍّ تحكم حركتَه القوانين. فمن لم يعِ قوانين الحركة في أدائه السياسي، رَسَمَ لواقع مجتمعه لوحةً بلا معالم تشَوِّهها الاعتبارات غير الصائبة.. عَزْلُ الأحداث عن سياقها التاريخي يُفْقِدنا القدرة على فهمها، فذلك السياق هو الذي يجعل لتلك الأحداث معنىً، وهي بدونه وخارجَه طلاسم عصيَّة على التفسير، ككلمة مُفْرَدة انْتُزِعَت من بطن كتاب.. عندما نجهل قوانين التاريخ نتخبط، وعندما نتخبط نحتار، وإذا احترنا دَثَّر الغموض آفاق مستقبلِنا، لأن حاضرَنا الذي يُعَدُّ حبلا سُرِّياًّ يربطنا بذلك المستقبل، تَخنقه عندئذٍ الأباطيل ويقودُه الخوف ويُكَبّله التَّرَدد.
من حقائق التاريخ وقوانين الحراك الاجتماعي الأكثر أهمية وتجذُّرا في البُنْيَة المجتمعية للوجود، بعد قانون التطور الذي يُعَدُّ القانون الأكثر أهمية وتجَذُّراً في بُنْيَة الوجود كله بشتى البُنَى والأنساق المُكَوِّنة له، نجد قانونا نرى من المناسب أن نُطْلق عليه قانون "ملء الفراغ". فما هو هذا القانون؟! وكيف يؤدي وظيفته في الواقع المُجْتَمعي؟! وما هو موقعه في سُلَّم التفاعل مع القانون الأم، "التطور"؟!
إن الأفكار والمعتقدات التي تقوم عليها ثقافة أُمَّة من الأمم، إذا استمرت على نحوٍ مُضْطردٍ وموضوعي في التّكَيُّف والتجاوب مع متطلبات الحركة المُجْتمعية في سياق الصيرورة التاريخية لتلك الحركة، فإنها ستكون حتما الحصنَ الواقي الذي يحمي تلك الأمة من مخاطر حدوث الفراغات والفجوات التاريخية السوداء في حياتها. إن الفعلَ المجتمعي هو في واقع الأمر المُحَصِّلة التفاعلية في ساحة الصيرورة لحركتين، تعانق كل منهما الأخرى عناقَ مشتاقٍ إلى نقيضه، الفعل والانفعال، التأثير والتَّأَثُّر. وليس الفعل المجتمعي مجرد حاصل جمع رياضي لهاتين الحركتين.
بتحقق علاقة الشَّوْق المتبادلة هذه، تأثرا وتأثيرا، فعلا وانفعالا، تحدث الحركة المجتمعية ويتجسَّد الفعل المجتمعي. وكلما كان تحقق هذه العلاقة فعليا ومُنساباً عبر الزمن انسياب الماء في الأواني المُُسْتَطرقة، كلما كان المجتمع مُمتلكاً لكل عناصر القوة اللازمة لتوازنه واستقراره ولحصانتيه الداخلية والخارجية. أما إذا حصلت النَّشازِيَّة في هذه العلاقة، بظهور علامات انعدام الانسجام بين مَسارَيْ الحركتين، فإن ذلك يُعَدُّ مؤشرا على بدء الخلل في البُنْيَة المُجْتمعية، وإرهاصاً بقرب ظهور مناطق الفراغ التاريخي التي تمثل في واقع الأمر مَقْتَل المجتمعات، خاصة إذا كانت هذه المجتمعات في طور النهوض الذي تعرقله مصالح مُجتمعات أخرى خارجية، أو مصالح فئات داخلية، ترى في تلك النهضة بشكلها المُقَرَّر في الأنساق الفكرية الجديدة، عدوا تتربص به الدوائر.
الحركتان اللتان نعنيهما، هما حركة الفكر وحركة الواقع. والتأثير والتأثُّر اللذان أشرنا إليهما، هما تأثير الفكر في الواقع ليطور هذا الواقع، وتأثر الفكر بعد ذلك بهذا الواقع المتطور، ليتطور هو هذه المرة – أي الفكر – في ضوء قواعده الجديدة بعد التطور – أي قواعد الواقع – لتعود المعادلة وتتكرر من جديد في سمفونية تفاعلٍ أبدية لا تتوقف. فكرٌ يُطور واقعاً، وواقع متطور يطور فكرا. هذه هي حالة العناق الأبدية التي تربط أو التي يُفْتَرض أنها تربط حركة الفكر بحركة الواقع.
ولأن ساحة الصيرورة التاريخية للفعل المجتمعي تشهد على الدوام وبحكم طبائع الأمور بروز مجموعات بشرية ذات سطوة ونفوذ، تتعارض مصالحها في مراحل محددة من تلك الصيرورة التاريخية، مع الوُجْهَة الطبيعية لذلك الفعل، والناجمة عن منطق العناق الذي أشرنا إليه بين حركتي الفكر والواقع، فإنها – أي هذه المجموعات – تحاول بكل قواها وسطوتها ونفوذها حماية منظومة مصالحها التي قد يتطلب السياق التطوري للفعل المجتمعي تفكيكها أو تجاوزها، بل وتحطيمها أحيانا.
إن المحاولات التي تقوم بها هذه القوى النافذة لحَلِّ تعارض مصالحها الموروثة من بُنَى مجتمعية سابقة، مع متطلبات بُنَى مجتمعية توُلَدُ من رحم التطور التفاعلي الحاصل بين الفكر والواقع، هي في حقيقة الأمر شكلٌٌ صارخٌ من أشكال محاربة قانون التطور، ونموذج جَلِيٌّ من نماذج الوقوفِ الفَجِّ في وجه الطبيعة وهي تحقق ذاتها بقوة القانون الذي أودعه الله فيها لتتحرك بموجبه. إنها في المحصلة محاولاتٌ تدل إما على جهلِ وإما على غطرسةِ من يقفون وراءَها، لأن الوقوف في مواجهة القانون الطبيعي والحتمي، لمنعه من التَّحَقُّق موضوعيا، ليس أكثر من جهل أو غطرسة، وأكثر ما يمكن أن يحققه من يفعل ذلك أو يَطالُه، هو تأجيل تَحَقُّق الحتمية الطبيعية، وتغيير شكل تحققها من الشكل التلقائي السلمي الانسيابي، إلى الشكل الثوري الانفجاري.
عندما يُؤَثِّرُ الفكر في الواقع، سيدفعه إلى الأمام، بعد أن يكون قد حَقَنَه بِمُقَوِّمات الاندفاع، ليقوم الواقع بعد ذلك بالتأثير في الفكر، ليدفعه بدوره إلى الأمام. في هكذا حالة فإن الأمر طبيعي وتلقائي. إن هذه الطبيعية والتلقائية، تعني أن الواقع يستجيب لحقنات الفكر الدافعة له، عبر إعادة إنتاج مؤسساته وهياكله وظواهره ونظمه وعلاقاته وروابطه الداخلية والخارجية في المجالات كافة، بما يستقيم ويتجاوب مع وُجهة الفكر المُؤَثِّر هذا. وعندئذٍ فإن هذه الطبيعية والتلقائية ذاتها تعني أن الفكر سيستجيب بدوره للمُنْتَج المُجْتَمعي الجديد، بأن يتجاوب مع وجهته في النمو والتمدد والتحول بحسب ما راحت تفرضه طبيعته الجديدة، عبر بقاء الفكر مستعدا لإعادة إنتاج نفسه بالصورة والشكل اللذين يمثلان تجاوبا سَلِساً مع متطلبات هذا المُنْتَج المجتمعي الجديد في صيرورته التطورية.
عندما يصل الواقع إلى مستوىً يتطلب إعادة إنتاجه عبر إعادة إنتاج الفكر اللازم لإعادة إنتاجه، فإن على الفكر أن يتحرك ويطرح رؤاه الخاصة بهذا الغرض. وعندما يطرح الفكر رؤاه القاضية بأنَّ الواقع في حاجة إلى إعادة إنتاج، فإن على القائمين على الواقع أن يعملوا على إعادة إنتاجه في ضوء الرؤى الفكرية الجديدة لإعادة الإنتاج.
تبدأ منطقة الفراغ التاريخي بالتَّشَكُّل، ثم بالتفاقم، مع كل محاولة يقوم بها أصحاب المصالح النافذة في المجتمع لمنع تأثير أيٍّ من الحركتين في الأخرى. ولأنهم بحكم مواقعهم وبحكم طبائع الأمور، أقدر على التَّحَكُّم في الواقع وفي بُناه، منهم على التحكم في الفكر وفي حركته، وفي الثقافة وفي إشعاعاتها، فإنهم ينحازون فورا إلى الواقع بشكله المحافظ على مصالحهم، فتظهر إرادة التغيير وكأنها حركة فكرية وثقافية، ما تلبث بعد ذلك أن تبدأ تنتقل عدواها بالتدريج إلى بُنَى الواقع ومؤسساته، عندما تبدأ المؤسسات بتبني مسار الحركة الفكرية والثقافية المُعَبِّرة عن إرادة التغيير.
عندما يبدأ الواقع يئن تحت وطأة الحاجة إلى إعادة إنتاجه بعد أن اهترأ وأصبح ثوبا أضيق من أن يحتوي جسدا تضخم حتى كاد يمزقه ويخرج منه، تبدأ المشكلة بالتَّكَوُّن والظهور إلى حيِّز الوجود، عبر تعبيرها عن نفسها ابتداءً في مُكَوِّن ثقافي وفكري، يرى ضرورةً وحاجةً مُلِحَّتين في إعادة إنتاج المجتمع لتعديل مسار الفعل المجتمعي فيه. ثم تبدأ المشكلة بالتمدد، وتأخذ أشكالا وأبعادا جديدة، مع كل معاندة تمارسها الفئات النافذة صاحبة المصالح، لمنع الفكر المُتَجاوب مع هذا الأنين من التعبير عن نفسه، أو للحيلولة دون تحويل فكرٍ أُتيحت له فرصة التعبير عن نفسه، إلى واقع ملموس متمثل في مُنْتَجٍ مجتمعي جديد.
منذ هذه اللحظة التاريخية في صيرورة المجتمع، تبدأ المشكلة بالتفاقم، وتبدأ ظاهرة الشد المتوتر التي تكون قد تَجَلَّت بالكاد على شكل نقطة، بالتحول مع مرور الوقت إلى منطقة فراغ اجتماعي هائلة، سياسيا وثقافيا وأخلاقيا.. إلخ، تَنْتُج عن ذلك البَوْن الشاسع الذي غدا يفصل الواقع في شكله المُهْتَرئ عن الواقع في شكله المطلوب والمُسْتَهدف والمُعَبًّر عنه فكريا، في ظاهرة حركية مجتمعية، تُسَمى ظاهرة "انشقاق المثقفين"، عن بُنْية النظام المجتمعي السائد الذي يُعبِّر بمعاندته لمتطلبات التطور، عن أقصى درجات الغباء التاريخي، والجهل الاجتماعي، بمعنى المصلحة حتى في سياقاتها البراجماتية.
إن ظاهرة منطقة الفراغ التاريخي في الواقع المجتمعي، وهي بطبيعتها ظاهرة مُرْبِكة للفعل المجتمعي، لأنها تترك الواقع نهبا لكل الذئاب المفترسة، رافقت ظهور الإنسان منذ أقدم العصور. بل يمكن استقراؤها حتى في حياة الأفراد والتجمعات الإنسانية المختلفة. إن أية علاقة مجتمعية يَحكُم مسار صيرورتها هذا العناق القائم على مبدأ التأثير والتأثر، الفعل والانفعال، هي بطبيعتها علاقة يُحكُمها قانون "ملء الفراغ"، في حال اختلال علاقة العناق القائمة هذه، عبر اختلال سمفونية التأثير والتأثر في سياق الحركة والصيرورة.
منطقة الفراغ قد تحدث في العلاقة بين الولد وأبيه، بين الطالب وأستاذه، بين الصديق وصديقه، بين أسرة وأخرى، بين موظف وآخر داخل المؤسسة الواحدة نفسها، بين مؤسسة وأخرى داخل المجتمع الواحد نفسه، بين شعب وشعب، وبين أمة وأمة. لا بل إن منطقة الفراغ قد تحدث في ذات شخص واحد تنهدم في أعماقه الجسور التي تربط بين حركة وعيه وحركة مشاعره من جهة، أو بين حركة ذلك الوعي وحركة السلوك الذي يُفترَض أن يكون ناتجا عنه، فتُخْلَقُ فيه هُوَّةً واسعة تُكَبِّلُه بالتناقضات والشروخ والمخاوف، وتحاصره بالهواجس التي تجعل منطقة الفراغ في داخله قابلةً لأن تُمْلأَ حتى بالسحرة والمشعوذين والدجالين، أو بالأوهام والخرافات والأباطيل.
إن قانون "منطقة الفراغ"، يَعُمُّ الوجود ويهيمن عليه، بعد قانون التطور. إن كل البُنَى المجتمعية القائمة في صيرورتها على تأثير وتأثر متبادلين بين أطرافها، هي في الواقع بُنىً قابلة لأن تعاني من منطقة فراغ بكل ما ينبثق عن وجود مثل هذه المنطقة من تداعيات ومضاعفات خطيرة. إن منطقة الفراغ عندما تتشكل في الواقع بسبب هذا الفصام النَّكِدِ بين حركة الواقع وحركة الفكر، تجعل المجتمع مُهَيَّأً لكل الأمراض المجتمعية، وتُضْعِفه إلى حدٍّ يحطم حصونه الداخلية والخارجية، ويهدر طاقات أبنائه، ويقضي على نظام المناعة النفسية والقيمية والثقافية لديه.
إننا كي نتصور على وجه الدقة ما الذي يحدث في مجتمع يُصَمِّم قادته وأصحاب السلطة والنفوذ والمصالح فيه على جعل حركة واقعه منفصلة عن حركة فكره، سواء بمنع الفعل المجتمعي من التجاوب مع حركة الفكر فيه، أو بمحاربة الفكر المتولد فيه تجاوبا مع متطلبات الحراك المجتمعي.. نقول: إننا كي نتصور ما الذي يحدث في مجتمع من هذا النوع، يكفينا أن نتخيل شخصا يريد الانتقال من مكان إلى آخر، تاركا جلده في نقطة المنطلق بسَلْخِه عن باقي جسده!! إن تَصَوُّرَنا لجلد ذلك الشخص مربوطا في نقطة الانطلاق بما يُمَكِّنُه من أن يبقى ثابتا، لينسلخ وهو في مكانه عن جسد الشخص وهو يتحرك، يعني أننا نتحدث عن ألم فاجع منذ لحظة الحركة الأولى وفق هذه المعادلة النشاز التي ستؤدي في النهاية إلى انتقال الجسد العاري من جلده ومن عباءته الحامية له والمُحَصِّنَة لمقاومته، إلى مكان لا يستطيع مواجهة ما فيه من علاقات وظواهر جديدة، بل ومن أعداء ومهاجمين لهم مصلحة في اختراق هذا الجسد وافتراسه، ليعجز حتما عن ممارسة نشاطاته الطبيعية، إلى أن يموت ويفنى، بعد أن يكون قد أصبح موطئا سهلا لكل أنواع الجراثيم والبكتيريا والفيروسات القاتلة.
إن الوقوف في وجه قانون التطور القاضي بضرورة تجاوب كلٍّ من البناءين الفوقي والتحتي للحركة المجتمعية مع شريكه الآخر في صناعة تلك الحركة، عندما يتطلب الوضع التاريخي لذلك الشريك تجاوبا من نوع ماَّ، إنما يعني تجميد أحد البناءين عن الحركة في الوقت الذي يندفع فيه البناء الآخر مواصلا حركته التي لا يمكن إيقافها. إن الفكر هو البناء المجتمعي الذي يصعب إِنْ لم يستحل إيقاف حركته، لأنها في العادة حركة تقع وتحدث خارج نطاق سيطرة ذوي المصلحة في معاندة تيار الحركة التطورية للمجتمع. فلا وصاية على الفكر من حيث هو فكر، يقرأ الواقع ويبشر بالمستقبل ويحدد معالم المشكلات ويُشَخِّص طرائق الخلاص. ولأن الواقع هو البناء المجتمعي الذي يُمكن تلجيم حركته في العادة – وإن يكن ذلك مؤقتا في الغالب – بسبب كونها حركة تحدث عبر أدواتٍ يمكن التحكم فيها وتُمْكِن السيطرة عليها، ولأنه – أي الواقع – هو في حقيقة الأمر موطن المصالح والامتيازات التي تتشبث بها الفئات النافذة في المجتمع، فإن فعل تلك الفئات المقاوم لحركة التاريخ الطبيعية، إنما ينصب باتجاه هذه الحركة – أي حركة الواقع – مُلَجِّماً قدر ما يستطيع، الفعل المجتمعي الذي تقوده هذه الحركة وتعبر عنه.
في مجتمع تقوده وتتحكم فيه فئات شديدة التراجع، أي شديدة العداء لقانون التطور بالشكل الذي شرحناه سابقا، كما هو حال منظومة "الرُّغاليين الجدد" في الوطن العربي، والذين يمثلون امتدادا لمنظومة "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة وفي أوربا الغربية، نستطيع أن نلمس ضغطا هائلا على النشاط الفكري بغرض تبطيء حركته التي يستحيل إيقافُها بالكامل. وتلك الفئات إنما تفعل ذلك كي تُخفي قدر ما تستطيع معالم البَوْن الشاسع بين حالة الفكر وحالة الواقع، مُشَوِّهَةً بالتالي المظهر العام المقيت والقميء لمنطقة الفراغ الحاصلة بسبب معاندتها للتاريخ ولقانون التطور، مُماَرِسَةًً بهذا السلوك من ثم، أشد أنواع التضليل والخداع في حق الجماهير والشعوب، الأمر الذي يطيل في عمر هيمنتها على مقدرات تلك الشعوب، وفي ارتهانها لمستقبلها، وفي تأخير نهضتها الحقيقية.
في المقابل، نرى على صعيد حركة الواقع، ليس ضغطا عليها بما يُبَطِّئها أو يوقفها عند مستوىً معين فقط، بل دفعا بها إلى الوراء إذا تطلب ذلك أمر الحفاظ على معادلات الهيمنة والمصالح السائدة، ليُصاَر إلى إعادة إنتاج الواقع الذي تقوده تلك الحركة، ولكن بأثر رجعي. أي أن تلك الفئات المتَنَفِّذَة صاحبة المصالح، لا تقف عند حدِّ جعلِ إحداثيات حركة الواقع بطيئة على المحور الموجب، مُكتفية بهذا الشكل من أشكال معاندة قانون التطور، بل هي تستكثر عليها – أي على الحركة – حتى الموجبات الهزيلة والضئيلة على هذا المحور، وتصِرًّ على جعلها تندفع نكوصيا وانتكاسيا بتغيير اتجاهها إلى السالب عند اللزوم، غير مبالية بما يعنيه ذلك من شكلٍ من أشكال التخلف لا يُضاهىَ.
إن هذا النمط من الفعل المُمْعِن في عدائيته لمنطق التاريخ، يجعل المجتمعات التي تعاني من وطأته، تظهر لا كمجتمعات تعاني من اتساع رقعة منطقة الفراغ الداخلية فقط، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة لا يستهان بها، بل هي تظهر كمجتمعات متراجعة جدا حتى في داخل منظومة المجتمعات المتراجعة أساسا، مادامت تتعامل مع قانون التطور بعدائية مُغْرِضة تتفوق على كل مستويات العداء التي تعرفها وتعهدها المجتمعات المتراجعة ابتداءً، لهذا القانون. وفي مثل هذه الوضعية الصعبة يغدو على الفكر أن يتصدى لمعالجة حالةٍ مُرْبِكةٍ وشديدة التعقيد من الشد الرجعي، تنطوي على ثلاثة مستويات من التراجع المنشِئِ لمناطق الفراغ التاريخي.
المستوى الأول، هو ذلك التراجع العائد إلى الهُوَّة القائمة أساسا بين المجتمعات المتقدمة وبين المجتمعات المتراجعة عموما.. أما المستوى الثاني، فهو ذلك التراجع العائد إلى الهُوَّة القائمة بين معظم المجتمعات المتراجعة، وهذا المجتمع الأشد تراجعا بالذات، بسبب مبالغة الفئات المتنفذة فيه في معاداة المنطق والتطور، وهو حال معظم أنظمة "الرُّغاليين الجدد" في الوطن العربي.. أما في المستوى الثالث، فإننا نتحدث عن تراجعٍ عائدٍ إلى الهُوَّة الداخلية القائمة بين حركة الفكر وحركة الواقع كما مر معنا، وهو حال كل الأنظمة العربية بلا استثناء، وهي تَحوُلُ دون إعطاء الشعوب العربية حق التعبير والمشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات على كل الصعد والمستويات. مُعَبِّرَة بهذه الحيلولة ليس عن أبشع انواع الظلم الاجتماعي فحسب، بل عن أشد أنواع الغباء والجهل بحقائق التاريخ، لأن الغباء والظلم في واقع الأمر صنوان لا ينفصلان. وهما عندما يجتمعان، يكَوِّنان ظاهرة أطلق عليها القرآن الكريم اسم "السَّفَه"، ووصف من ينطبقان عليهم اسم "السفهاء".
خلاصة القول، أن معاداة قانون التطور في الجانب المتعلق منه بظاهرة العناق التبادلية القائمة بين حركة الفكر وحركة الواقع، تعني خلق منطقة فراغ كبيرة تفصل حالة الواقع القائمة التي تجاوزها الفكر عن حالة الواقع المأمولة والمفترضة التي راح يتحدث عنها ويبشر بها هذا الفكر. ولأن المسافة الفاصلة بين هاتين الحالتين في الوطن العربي غدت أكبر مما يُتَصَوَّر، بسبب أن معاداة قانون التطور التي تُمارسها الأنظمة السياسية العربية، وصلت حدودا لا تَخطر على بال عاقل على وجه الأرض، عبر كمٍّ هائل من المعرقلات لمتطلباته في كل مرافق الحياة، فإن منطقة الفراغ السياسية والثقافية والمجتمعية في هذا الوطن تُعَدُّ من النوع المرعب في آفاقه المَرَضِيَّة المرتقبة. إن منطقة الفراغ هذه تُمثِّل حالة مَرَضِيَّة مستشرية تستدعي علاجَها بملءِ الفراغ. وإن ملء هذا الفراغ لا يكون إلا بتغيير الواقع في الاتجاه المساند للفكر ولرؤاه، إنْ في القليل أو في الكثير. وهو ما يعني إعادة قراءة الإسلام الذي يعد بمثابة الوعاء الأيديولوجي لحركة الثورة والتغيير العربيين، وإعادة ترسيم وتحديد إحداثيات موقعه البناء في الوجود، بحثا في ثناياه التي يحاول سفهاءُ العصر إخفاءَها، عن صواعق الثورة العالمية.
ونحن إذ نقول.. "إن في القليل أو في الكثير"، فإننا إنما نعترف بطبيعة التاريخ كدائنٍ مهادنٍ يَتَّسِم بالحِلْم، إذا وجد أن المدين يلتزم بالسداد ويدفع ما عليه، وإن يكن جزئيا وبالتقسيط. ولعل هذه الطبيعة المهادنة للتاريخ، هي التي تجعل أصحاب المبادرة والمبادأة من ذوي الطموح والجرأة ووضوح الرؤية، مِمَّن لهم أجنداتهم الخاصة في مجتمع معين أو في إقليمٍ معين يدخلون على خط منطقة الفراغ في الوقت المناسب لملئها، عبر حقن الواقع المُهْتَرئ الذي تسبب في خلق تلك المنطقة، بحقنتين مختلفتين في الوقت ذاته.
الحقنة الأولى، تنطوي على جزءٍ يسير ومعتدل ومقبول لدى التاريخ وقوانينه، من الدَّين المستحق له ولمنطقه ولقانون التطور العميق فيه، كي يضمنوا بهذه الحقنة إبقاءَه مدةً كافية في حالةِ مهادنة. أما الحقنة الأخرى، فهي الحقنة التي تَخلُقُها المصالح والمطالب المُبَرْمَجة في أجندةٍ خاصة تتعارض في المحصلة التاريخية مع مصالح ومطالب وأجندة المجتمع نفسه. ولكن في ظل غياب أصحاب المبادرة المحليين الذين بوسعهم أن يضمنوا أكثر من غيرهم حَقْنَ واقع مجتمعهم بحقنة كاملة من الدَّيْن المستحق في ذمتهم للتاريخ ولقوانينه، فإن من الطبيعي أن ينجح هؤلاء المالكون لأجنداتهم الخاصة، والغريبة عن المجتمع، والمتناقضة مع مصالحه الحقيقية، في مهادنة التاريخ بعد أن أدركوا طبيعته، وفهموه ولعبوا جيدا وبكفاءة على كافة محاوره، متصفين بقدر عالٍ من وضوح الرؤية، ومالكين لقدر أعلى من المبادرة والمبادأة والإقدام وسرعة اتخاذ القرارات الفعالة والتقدمية.
ولعل إيران، بأجندتها القومية، ليس دائما، بل عندما تقودها الرؤية السياسية فارسية الجذور، وتهيمن عليها وعلى رسم سياساتها وتوجهاتها الداخلية والإقليمية، وهي الرؤية الموغلة قدما في طموحاتها المتدثرة منذ الفتح الإسلامي بالأيديولوجية الإسلامية المرتكزة إلى المذهبية الشيعية، ليس اعتناقا بل مداراة ونفاقا.. نقول.. لعل إيران هذه، تمثل نموذجا للذكاء الخارق في العمل الحثيث للانقضاض على مناطق الفراغ الإقليمية لملئها. حتى وهي تعلم أن عباءتها الإسلامية المستخدمة في هذا الانقضاض، عباءة تنز منها أنواع واضحة وجلية من مظاهر المذهبية الضيقة، الأكثر نكوصا بالحضارة الإسلامية إلى أسوأ ما في تاريخها، سواء على الصعيد البنيوي الداخلي للمجتمعات الإسلامية، أو على صعيد التلاقح والاحتكاك بين الكتل القومية الكبرى المكونة للأمة الإسلامية.
الفراغ التاريخي في المجتمع يُمثل حالةَ عُرْيٍ تثير الشبق لدى الراغبين في الاستمتاع. المجتمع الواقع تحت وطأة الفراغ، هو امرأةُ حسناء عارية ضعيفة المقاومة أمام كل طالبي المتعة الحرام. إن لم يقم بتغطية هذه الحسناء العارية شقيقُها أو حبيبُها أو من تُمثِّل بالنسبة له حرمة يَجب أن تُصان، انتهكها غيره على الفور، مُغطيا جزءا من جسدها لدفع الحد الأدنى من استحقاق ملء الفراغ للتاريخ، كي يضمن مهادنتَه، غارقا بعد هذا الفُتات المدفوع، في لذة العبث بمعظم جسدها الباقي، إلى أن ينتفض التاريخ من جديد، بعد أن تفقد المهادنة مقومات استمرارها.
إن من قوانين الوجود وسنن التاريخ، أن من يعاند قانون التطور، يُصَنَّف على الفور، إماَّ جاهلا غبيا، وإماَّ متغطرسا وقحا. ومصير الإثنين واحد في مُحَصِّلَة صراع الإرادات الناشئ بين إرادةٍ تتجاوب مع المنطق وأخرى تعانده. الولايات المتحدة الأميركية وأمامها في الصفوف الأولى إسرائيل، اللتان تعاندان على الصعيد المجتمعي الدولي كل منطق، ليس من السهل اعتبارهما جاهلتين أو غبيتين، فهما إذن متغطرستان وقحتان.
أما المجموعات والنُّخب صاحبة المصالح والامتيازات والسلطة والنفوذ في المجتمعات العربية، وعلى رأسها رموز الحكم المباشرين، ومن يُشرعن سياساتهم ومناهج إدارتهم لمشيخاتهم من مثقفي الهزيمة والهوان، ومن دار في فلكهم من فئات الانتهازيين والمزورين للحقائق، فهي في عنادها لمنطق التطور، وفي معاداتها التي لا تفتر لأية بادرةِ تجاوبٍ مع الفكر وهو ينمو مطالبا بالتغيير، أقلَّ شأنا من أن تمتلك مقومات الغطرسة، فهي إذن تقع في الخندق المقابل، ألا وهو خندق الجهل والغباء. لكنَّ النكهةَ المميزةَ لهذه الفئة المعاندة للتاريخ، عن كل الفئات الشبيهة بها في أي مكان في هذا العالم، هي أنها لا تقف عند حد الجهل والغباء، بل تُتَوِّجُ كل ذلك بشكل من الوقاحة منقطعة النظير، إنها وقاحة الغبي.
وبين غطرسة واشنطن التي تظلل العالم بجبروتها، مُهيمنة على حراكه بالشكل الذي ترتضيه عبر خَوْزَقَةِ الوطن العربي بإسرائيل، والجهل والوقاحة الغبية للأنظمة السياسية العربية وحواشيها وبطائنها من مثقفي الهزيمة، تَمتد المساحة التي على أصحاب المبادرة في هذا الوطن أن يتحركوا في إطار حَيِّزها، كي يتمكنوا من ملء أبشع منطقة فراغ مُجتمعي تشهدها المنطقة، بل ربما العالم بأسره، قبل أن ينجح في ملئها المتكالبون على المتعة الحرام ممن ارتبطت أجنداتهم الخاصة بأجندة القوة المتغطرسة في كُلٍّ من واشنطون وتل أبيب، أو بأجندة قوة إقليمية صاعدة طموحة هنا أو هناك مثل إيران، أو بأجندة عائلة حاكمة في هذا البلد أو في ذاك، مرة باسم التبعية لدينٍ بريء منها ومن أفعالها ومن كل سياساتها، وأخرى باسم الانتساب لنبوةٍ زَكَمَت روائح الحقوق المفترضة لادعاء الانتساب إليها أنوف العالم، ومرة ثالثة باسم شعبٍ مغلوب على أمره، أو حرية مزعومة لا أساس لها في الواقع، أو ثورة أُزهِقت روحُها منذ أن امتطى جسدها العاري من يهتم بإرواء شبق أعضائه الجنسية، أكثر مما يهتم بحقوق شعبٍ ونهضة أمة، أو بعراقة حضارة وتاريخ.
في واقع الأمر، إن مجموعة التحولات الكبرى التي شهدها الوطن العربي، وبالأخص المنطقة المشرقية منه، منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، بدءاً بزلزال اجتياح الكويت عام 1990، وانتهاءً بالحرب العربية الإسرائيلية السادسة في لبنان، مرورا قبل ذلك بالاحتلال الأميركي للعراق، وبزوغ فجر المقاومة المسلحة فيه على النطاق الواسع الذي نشاهده، وبدء تبلور شكل حقيقي من أشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، أسهمت كلها وبشكل كبير في بلورة مجموعة من المبادئ، يمكن اعتبارها قواعدَ لعبةِ الصراع الحالية والمستقبلية في المنطقة العربية.

الفصل الثاني
سقوط ثقافة الهزيمة، وبدء تَكَوُّن منظومة متكاملة لثقافة المقاومة
اعتبر مثقفو الهزيمة الذين انْحازوا إلى المشروع القطري العربي المتراجع في تحالفاته المشبوهة مع الإمبريالية، في مواجهة المشروع القومي الوحدوي المتعانق حتما مع حركة الجماهير، في صيرورة بُنْيَتِها النهضوية، منذ زلزال الثاني من آب عام 1990، اعتبروا أنه كان لدى الولايات المتحدة سببٌ واحد لتأتي بجيوشها إلى العالم العربي، فوفر لها الغزو العراقي – للكويت طبعا – عشرة أسباب.. وأن السياسة العراقية – الرَّعْناء طبعا – مضت في طريقها متصرفة بما يَخدم عمليا كل المناورات الأميركية في كواليس مجلس الأمن.. وأن الغزو العراقي للكويت نَجَح في أقل من شهر واحد في فتح أبواب العالم العربي كله أمام الوحوش الكاسرة المتربصة بنا منذ نصف قرن على الأقل.
وفي عُرْفِ هذه الطائفة من مثقفي الهزيمة، فقد ضُرِبَ مفهوم الأخوة العربية والوحدة والدفاع المشترك والتضامن، ودُفِنَت مجالس التعاون العربي، وتَحَوَّلَت الجامعة إلى قاعٍ صفصف لا حول لها ولا قوة، وعمت الأضرار كل قطاع من القطاعات العربية، وتضرر الاقتصاد العربي، ما ترك بصماتِه سوءاً وتأثيراتٍ ضارة على مستوى معيشة أي عربي من المحيط إلى الخليج.. كل ذلك بطبيعة الحال بسبب اجتياح العراق للكويت. إلاَّ أنَّ كل الأضرار التي تعرض لها الكويت والعرب والعراق كانت في نظر هؤلاء في كفة، والأضرار التي لحقت بالقضية الفلسطينية وحدها، تَعْدِلُها في الكفة الأخرى. لأن فلسطين هي كما يزعمون في ضمير وقلب كل إنسان عربي، وهي الأمل والمرتَجَى والمحور الذي يلتقي من حوله جميع العرب الأحرار.
فقد تسبب الغزو العراقي للكويت وما نجم عنه من آثار ومفاعيل وانعكاسات، في الإِضرار بالقضية المركزية من مختلف جوانبها، فقد سبب حرجا كبيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية ووضعها في بوز مدفع الخلافات والمحاور، وعَرَّضَها للمساءلة والانتقاد، كما أوقع بين الشعوب العربية والشعب الفلسطيني لأسبابٍ كُتِبَ عنها الكثير، وفي الوقت نفسه دخلت الانتفاضة – الأولى – إلى عالم النسيان، وتعرض الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى خيبة أمل جديدة وانتكاسة معنوية، وضاع عليهم موسم جنيِ حصادِ (؟!) أعمالٍ بطولية وتضحيات كبرى قدموها خلال السنوات التي سبقت حماقة القيادة العراقية. هذا إضافة إلى الأضرار المالية التي تعرض لها حوالي (400) ألف فلسطيني كانوا يعيشون في الكويت، وعشرات الألوف الذين يعملون في دول الخليج، وكانوا يرسلون جزءا كبيرا من مداخيلهم إلى ذويهم في الضفة والقطاع وفي الأردن وفي التجمعات الفلسطينية في لبنان وسورية والشتات. ونسي العالم قضية فلسطين وطُوِيَت صفحة المبادرات السلمية، بينما أُطْلِقَت يد إسرائيل لتعبث بالحقوق والأراضي وتضطهد العرب وتخطط لطردهم من ديارهم لإسكان المهاجرين اليهود السوفييت وغير السوفييت مكانهم.
لا بل إن أهم ما بدا لمثقفي الهزيمة أن اجتياح العراق للكويت قد كشف عنه، هو ما تم الاصطلاح عليه في أدبيات ثقافة الهزيمة بـ "الجهل بحقائق العصر"، وإن أول مظهر لهذا الجهل بحقائق العصر، هو عدم تقدير النظام العراقي لمغزى ودلالة الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج. فدول العالم المتقدم المعتمدة على نفط الخليج، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، لا يمكنها أن تسمح باللعب في هذه المنطقة الحساسة. واللعب هنا معناه الإخلال بالوضع القائم الذي يسمح بالتدفق اليسير للنفط بكميات كافية وبأسعار معقولة. ومعناه أيضا عدم السماح لقوةٍ إقليمية أو لدولة ماَّ منفردة وطموحة بأن تسيطر وحدها على الأراضي التي تضم هذه الاحتياطات الهائلة من النفط. مع أن الأسعار الحالية للنفط، والتي وصل سعر برميل النفط فيها إلى أكثر من (140) دولارا، متجاوزة كل معقول ومتصور لدى هؤلاء، هي من صنع القوى العظمي التي يخشون من اللعب بأسعار النفط لأجلها وحفاظا على واقع عدم استفزازها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي سيتبين لنا في فصل لاحق أنها الأكثر انتفاعا بهذه السياسة النفطية التي يصعب على مثقفي الهزيمة أن يفهموها في ظل الطبيعة التبريرية لمكونات التحليل في خطابهم السياسي.
وجاءت الطامة الكبرى بعد مرور ستة عشر عاما على الاجتياح العراقي للكويت، عندما اتهمت نخبةٌ من الدول العربية ذات التأثير في مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، ومن دار في فلكها من مثقفي الهزيمة، حركةَ حماس في فلسطين، والمقاومة الإسلامية في لبنان، بالمغامرة غير المحسوبة، وبالإِضْراَر بالمصالح العربية، عندما حملَتهما المسؤولية الكاملة عما يتعرض له الشعبان اللبناني والفلسطيني من مجازر، وعما تتعرض له بنيتهما التحتية من دمار، إثر أَسْرِ الحركة لجندي إسرائيلي، والمقاومة لجنديين آخرين، في سياقِ معارك مع الجيش الإسرائيلي، أبعد ما تكون عن الاتِّصاف بأنها أعمال إرهابية، أو بأنها أعمالٌ غير مُبَرَّرة، بكل المقاييس البشرية والأخلاقية والقانونية والوطنية.
وكأنه كان على هذه الرموز المُقاوِمَة للاحتلال أن لا تقاوم، وأن تقبل بالمعادلات التي تسعى إسرائيل إلى فرضها في المنطقة، وأن تقبل أيضا، ورغما عنها، بمعادلة المصالح العربية كما تقررها تلك الفئات السلطوية المأزومة، التي تمثل في واقع الأمر الوجه الآخر لنكبة الأمة، والتي تُعَدُّ مواجهتها، ويُعْتَبر تحطيم المعادلات التي تُعَبِّر عنها بالتالي، مطلبا لا فكاك عنه للدفع بالمصالح العربية كي تتحرك في مسار صيرورتها الصحيحة، بالنظر إلى تلك المصالح من منظور انعكاساتها على الجماهير في البعد الإستراتيجي، لا من منظور انعكاساتها على أنظمة الهزيمة، في البعدين التكتيكي والإستراتيجي.
تذكرنا الفضاءات الرَّخوة لثقافة الهزيمة، بقصةٍ مثيرة يروي تفاصيلها مؤرخو بواكير تَكَوُّن الأمة الإسلامية في جزيرة العرب والهلال الخصيب، نتشبث بدلالاتها العميقة التي تُصَوِّر جانبا من حالتنا الراهنة تصويرا صارخا في دقته، دون أن يعني ذلك أننا نتبنى صحتها من الوجهة التاريخية، وكأنها قصةٌ تَحكي حياتنا المعاصرة بحكمة بالغة، يُغْني مضمونُ مَتنِها معها، إغناءً كاملا عن صحتها السندية إن لم تصح، وهو ما نرجحه، ونرجح معه حكمة من اختلقوها للتعبير عن حالة الفصام السياسي الخطيرة التي عانت منها الأمة في تلك المرحلة الجنينية من تاريخها.
يُرْوَى أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، قال ذاكرا لعمار بن ياسر فضلا ماَّ: "ويحَ ابنَ سمية، تقتله الفئة الباغية". واستمر هذا القول من الرسول مكتوماً في صدور الحُفَّاظ من الصحابة الكرام، إلى أن جاءت ذروة سنام المواجهة في معركة "صِفِّين"، بين علي كرمَ الله وجهه وأتباعه من جهة، وهم من يمثلون من وجهة نظرنا الإسلام العروبي المتحرر من النزعات التوسعية، التي هي خصلة العرب التي استحقوا بموجبها كواحدة من خصالهم المهمة، شرف حمل أمانة نقل الرسالة الإسلامية إلى كل البشر، وبين معاوية بن أبي سفيان وأتباعه من جهة أخرى، وهم من يمثلون – من وجهة نظرنا أيضا – الفئة التي أَبَقَت عن عروبتها وانشقت عن خصال العرب الأصيلة جوهريا، وإن تشدقت بها ظاهريا، منذ اللحظة التي حكمت صيرورة أدائها الإسلامي في العالم، النزعة التوسعة الإمبراطورية البغيضة بكل مساوئها ومخازيها، محيلةً الفتح الإسلامي ونشر الإسلام إلى شكل من أشكال الاحتلال والاعتداء على الآخر والهيمنة عليه، لم يخفف من وطأتها الظالمة إلا طبيعة الإسلام السمحة الرحيمة المعترفة بالآخر وحقوقه نفسها. وقد شارك "عمار بن ياسر" في القتال إلى جانب علي بن أبي طالب.
ونظرا لأن الكثيرين من الصحابة كانوا في حيرة من أمرهم نتيجة هذه المواجهة التي عصفت بالأمة في بواكير عهدها بالتَّشَكُّلِ والتَّكَوُّنِ، ولم يكونوا يدرون على أي مرسىً يرسون، ولا إلى أي فريق ينضمون، وهم يرون دماء المسلمين تُراقُ بأسيافهم ورماحهم هم أنفسهم، ولكن تَحْتَ رايتين متنافرتين، يقود كل واحدة منهما، كاتبا عريقا من كتاب الوحي الكريم.. نظرا لذلك، فقد كان حديث الرسول المتعلق بعمار بن ياسر، ملاذَهم الأخير، بل ربما الوحيد. فراحوا يتربصون ويترقبون، حتى يعرفوا من هو الذي سيقتل عمارا، ليتحققوا من أنه الباغي وفقا لقول الرسول الكريم آنف الذكر.
واضع الرواية كان خبيرا وذكيا وحكيما عندما رسم سيناريواً محبوكاً لمجريات الأحداث في وَاقِعَةِ صِفِّين. فقد جاء الحدث الكبير، واستشهد عمار بن ياسر بسهام صحبِ معاوية، الأمر الذي تيقن معه الجميع من أن الفئة التي يقودها هذا الأخير هي الفئة الباغية. فحسم المترددون أمرهم وانضموا إلى صف علي كرَّم الله وجهه. لكن دهاءَ معاوية كان حاضرا، وقُدْرَته على التلاعب بالألفاظ والعزف على وتر العواطف بالغموض والغرائبية، كانت الفيصل في الموضوع الخطير الذي رآه يفرض نفسه ليعصف بمعسكره التوسعي الإمبراطوري الناشئ. فأخرج من ينادي في الناس قائلا: "قَتَلَتْ عماراً الفئةُ التي أخرجته". ولما كانت الفئة التي أخرجته هي فئة علي، فكأن فحوى ما تردد، هو أن فئة علي إذن هي التي قتلته، وبالتالي فهي الفئة الباغية التي عناها الرسول الكريم في حديثه.
ومعنى هذا، أنه كان على عمار بن ياسر وفق منطق معاوية ألا يخرج مع علي لمقاتلة من يراه باغيا فيتسبب في أن يُقْتل. وعَلِيٌّ من ثم هو الباغي لأنه لو لم يقاتل ما اعتقد أنه بَغْيٌ لما مات مسلمون كثيرون، سواء من هذا الفريق أو من ذاك. أي لو أن عَلِيًّا ترك البغي يستفحل حماية للمسلمين وحقنا لدمائهم، لكان مُحِقاًّ ولاسترضى عليةَ القوم ممن سار في فلك معاوية، الذي كان عَلِيٌّ يَعُدُّه خارجا على الشرعية الحقيقية، وشاقا لعصا الطاعة بدعوىً باطلة.
إلا أن الله سبحانه وتعالى أنطق علياًّ بالحق بعد أن سمع المنادي ينادي بِخِدْعَةِ معاوية الماكرة، ليكون ردُّه على هذه الخدعة على مر الأزمان والعصور، بمثابة الصرخة المدوية والرد القاطع على كل متخاذل يحاول تزوير الحقائق وبث روح الاستكانة ونشر ثقافة الانهزام في صفوف الأمة. فقال علي كرَّم الله وجهه: "إذن رسول الله هو الذي قتل حمزة". وهذا صحيح وفق منطق معاوية الذي هو إسقاط أمين لموقف ومنطق رُواد ثقافة الهزيمة ودعاتها في هذه السنين العجاف من زمن أُمَّةِ يقودها "الرُّغَاليُّون الجدد". إن منطق معاوية يعني أن الرسول هو قاتل حمزة، لأنه هو الذي أخرجه معه في أُحُد للجهاد ومقاتلة طغاة وعتاة المشركين من قريش. كما أن الرسول الكريم بهذا المعنى هو قاتل كل من دفعهم إلى مناجزة التخلف والظلم والاستبداد والقمع في كل زمان ومكان، لأنهم إنما يفعلون ذلك امتثالا لأمره عليه الصلاة والسلام.
وهذا يعني قطعا أن الشهيد عبد القادر الحسيني هو الذي تسبب في استشهاد من كانوا معه من المقاومين الفلسطينيين، وهو الذي يُعَدُّ قاتِلَهم بغير وجه حق، لأنه لو لم يقاتل اليهودَ في "القسطل"، ولو لم يُقْدِم على عمل استشهادي عظيم كالذي أقدم عليه هو ورفاقه، في تلك المدينة الباسلة، مُخالفا قرار الدول العربية التي قطعت عنه المال والسلاح ونصحته بالانسحاب والتسليم وعدم المقاومة، ربما كان الوضع قد تغير، بالحفاظ على حياة تلك الثلة من الأبطال، الذين غدا استشهادهم على هذا النحو، نقطة مضيئة في تاريخ هذه الأمة، كان "الرُّغاَلِيُّون الجدد" حريصين على ألا تُضاء، فتكشف مع كل إشراقة شمس، عن خيانةٍ من النوع الثقيل جدا، لم تعهدها البشرية من قبل في سياق قضايا التحرر الوطني.
كما أن هذا المنطق يقطع بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي قتلت من الشعب الفلسطيني ما يربو على النصف مليون شهيد منذ انطلاقتها، في مجزرة متواصلة استمرت لأربعين عاما وما تزال. كما أن الفصائل الفلسطينية المقاوِمَة للاحتلال تغدو وفق هذا المنطق هي المتحمل الوحيد لوزر كل الدماء الفلسطينية التي سالت خلال كل فعاليات مواجهة الاحتلال في انتفاضتي الأقصى وتلك التي قبلها، بل وفي كل فعالية نضالية في أي وقت وفي أي مكان، وهي بالتالي من زجت إلى السجون بأكثر من عشرة آلاف معتقلٍ يذوقون العذاب والهوان ليل نهار، لأنها لو لم تقاوم ولم تُفَعِّل الانتفاضة لمناجزة المحتل لما قُتِلَ كل هؤلاء أو أصيبوا أو اعتقلوا.
وفي تاريخنا الوطني غير البعيد، تُذَكِرُنا هذه الثقافة، بما عانته حركة فتح عند ظهورها في خمسينيات القرن الماضي. حيث استمرت من عام 1956 ولغاية عام 1966 تعمل في ظل ظروفٍ صعبة جدا، هي ظروف الشك الجماهيري واللامبالاة الإنهزامية التي خَلَّفَتْها في الفلسطينيين سنوات طويلة من التشرد وخيبة الأمل في كل شيء حولهم. كما تعرضت فتح لحملةٍ مسعورة شنتها عليها الدول العربية وصحفها مُتَّهِمَةً إياها بأنها تعمل لصالح الحلف المركزي والعدو الإسرائيلي، وأنها إنما تريد توريط الدول العربية في حرب مبكرة مع إسرائيل، قبل أن تستكمل هذه الدول استعداداتها لخوض المعركة الفاصلة. وكأنها كانت تستعد حقا لمثل هذه المعركة، مع أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر نفسه، وهو رمز الوطنية آنذاك، اعترف للفلسطينيين صراحة وعلانية، بأنه لا يملك أية خطة أو رؤية لتحرير فلسطين. وقد تطور مصطلح "التوريط"، إلى مفهوم "المغامرة غير المحسوبة"، في زمن الرغاليين الجدد، لأن ادعاء الاستعداد للحرب لم يعد يقدر على إقناع أحد، بعد نصف قرن من الخيانة والكذب.
إنه منطق مقلوب يستهوي النفوس المريضة المحبة للجدل والعاشقة للمراء الفارغ والداعية إلى الكذب والتضليل والتهويل، وإلى الاستكانة والتقوقع داخل قمقم الإحساس الدائم بالهزيمة والعجز، وإلى تكريس مبدأ التعامل بخنوعٍ مع ما تسميه حقائق عصرٍ، لا يعترف بأنه عصرُ "البرابرة الجدد" إلا تلك الفئة من "الرُّغاليين الجدد". فما هكذا تورد الإبل يا سعد! إذ لو كنتُ مُلْزَما بأن لا يترتب على تصرفي الصحيح والوطني بالمنظور القومي بل والقطري أحيانا، أي رد فعل من قبل الأعداء قد يكلفني غاليا، فهذا يعني قطعا حرماني من حق الفعل القومي والوطني والمقاوِم عموما، لأن العدو أيا كان لن يعيد إليَّ حقوقي دون خوضِه لحربٍ ضروسٍ شرسة ضد كل محاولاتي لاستعادة تلك الحقوق، سأدفع ثمنها من أغلى ما أملك.
فلكي لا تُهاجم إسرائيل دمشق، يترتب على سوريا ألا تطالب بالجولان، أو على الأقل، ألا تستخدمَها نقطةً ساخنةً في مواجهة المحتل. ولكي لا تحتل إسرائيل الأردن أو تقصف مدنه وقراه ومخيماته ومضارب البدو فيه، علينا ألا ننطلق من أراضيه لمقاومة العدو ومقارعته وإقلاق راحته، حتى لو كان انطلاقنا منه واستخدامنا لأراضيه هو الحل الأمثل والأنسب لمواجهته مواجهةً تصيبه في مَقتل. ولكي لا تأتي أميركا إلى الخليج، علينا ألا نتحرك في اتجاه حماية ثرواتنا النفطية وغير النفطية التي أهدرها رعاة السلطة الخليجيون، سادة "سفهاء العصر"، وأساءوا استخدامها. وعلينا من ثم ولكي نتجنب وحشية القوى الرجعية الداخلية بكل فصائلها الثقافية والسياسية والاجتماعية، أن نحرص على عدم استفزازها بالتفكير البناء والمُجَدِّدِ لكل ما يلزمنا تجديده في حياتنا. أي أن سيف "ديموقريطس"، الأسطوري يغدو في عرف هكذا منطقٍ، مقياسَ محاكمة الأشياء كُلِّها، بما في ذلك الأفعال والتحركات السياسية والفكرية والثقافية أياًّ كانت.
وإذن، فالفعل الوطني في بلادنا، لا يغدو هو ذلك الفعل الذي نُمارسه في اتجاه العمل على تكسير معادلات الهيمنة والتجزئة والتخلف والاضطهاد والفقر والاستغلال وهدر الحقوق وإعادة بناء منظومات القيم والفكر الفعَّالة. بل يغدو هو القيام بكل ما يحول دون دفع مُسَبِّبي تلك المعادلات والمُمَرِّرِين لها، إلى التكشير عن أنيابهم، حتى لو كان ثمن ذلك مزيدا من الهيمنة، ومزيدا من التجزئة والتخلف، ومزيدا من القمع والاضطهاد والفقر والاستغلال، ومزيدا من تراجع الحياة الثقافية والاجتماعية، ومزيدا من البدائية في التفكير، ومزيدا من محاربة العقل والتَّعَقُّل.
إن المنطق المقلوب الذي تؤدي إليه هذه المقولات الانهزامية، يحتم علينا التأكيد على أن النضال من أجل المطالبة بالحقوق ليس رهنا بتَحَقُّقِ توازنٍ للقوى بين المناضلين المطالبين بحقوقهم وحقوق من يمثلونهم، وبين الأعداء المغتصِبين لتلك الحقوق، أيا كان نوع الحقوق التي يُخاض النضال لأجلها. لأن هذا الميزان لن يتحقق إلا في ساحة المواجهة، وفي خضم صيرورة الحراك التاريخي الدافع إلى إعادة إنتاج علاقات الواقع بشكلها الجديد المُسْتَهدف.
فلو كان على صاحب كل حق مُغْتَصَبٍ أن ينتظر حتى يُحققَ ميزانَ قوىً مكافئاً لعدوه كي يبدأ نضالَه، لأجل استعادة حقوقه، أو لأجل تَمرير إرادته في سياق الصراع التاريخي، لما ناضل صاحب حق، ولما بادر وأقدم صاحب إرادة، لأن التاريخ ينبئنا عن حقيقة تكاد تكون ناموسا راسخا في هذا الكون شأن رسوخها شأن رسوخ قانون الجاذبية، وقانون الطفو وغيرها من القوانين المادية، ألا وهي أن بدء الحركة باتجاه التغيير والتجديد والتحرر من معادلات الهيمنة والظلم، غير مرهون بمثل هذا الميزان، الذي لن يتحقق إلا في خضم المعركة. بل هو مرهون بمجرد وجود العدو ووجود حالةٍ تمثل حقاً مغتصباً، ووجود طليعة راغبة في أن تقود حركة التغيير والتثوير باتجاه استرداد الحق، مُعَبِّرَة بذلك عن قوة كامنة في قلب المجتمع المُغْتَصَب، بدأت تتحرك لإيصال ذلك المجتمع إلى مراحل الذروة في المواجهة النضالية.
من الضروري التأكيد في هذا السياق، على أن وجود حقٍّ مُغْتَصَب، ومُغْتَصِبٍ اغتصبه، هو تعبير من حيث المبدأ عن حالة مُجتمعية راكدة غافلة، تلامس ظروف الموات التاريخي والحضاري، أتاحت حدوث هذا الاغتصاب. وإن أية مطالبة بذلك الحق إذا اقتصرت على وسائل لا تستفز العدو، أو ليس من شأنها التلويح بشكلٍ من أشكال التهديد أياًّ كان مستواه، لمعادلات الهيمنة الحاكمة للواقع والسائدة فيه، ستتيح الفرصة للمُغْتََصِِب كي يتعامل معها بنجاح دون مساسٍ بقدراته وإمكاناته، ودون مساسٍ – بالتالي – بمعادلات الهيمنة التي يسيطر من خلالها على الواقع، مُجَيِّراً حالة الموات المجتمعي التي تسوده لتحقيق بنودِ أجندته الخاصة.
إن أية مطالبة بالحقوق المغتصَبَة يجب أن تنطوي في شكلها وفي مضمونها، على ما يضع المُغْتَصِبَ داخل دائرة الاقتناع بأن معادلات هيمنته في خطر، أو أنها – على أقل تقدير – ستصبح في خطر، إذا ما استمر التنامي في أداء الفئات الطليعية الساعية إلى قلب تلك المعادلات. إن هذا الاقتناع قد يدفعه – وهو ما يحدث غالبا – إلى ممارسة سياسات دفاعية رعناء، عن الصيغة المجتمعية التي تكفل استمرار تلك المعادلات، تكشِفُ في بُنْيَة المجتمع المرهون إلى الهيمنة أو إلى التخلف أو إلى الظلم والاضطهاد أو إلى غير ذلك من مظاهر اختلال ميزان العدالة والحرية والتقدمية، عن جنينٍ مقاومٍ يَتَكَوَّن ويَتَخَلَّق على أنقاض حَمْلٍ ميْتٍ أَتْخَمَت حامِلَه سموم السُّبات الطويل.
إن هذه السياسة وهي تتفاقم مُتَلَوِّنَةً بمختلف ألوان مقاومة التطور والنماء، وهذا الجنين وهو ينمو ويتكامل، هما في حقيقة الأمر، الحبل السري الذي يُغَذِّي المجتمع الناهض أو الذي هو قيدَ النهوض بمفاعيل النهضة. وهو الذي يهز النائمين كي يلملموا أشلاء أرواحهم وعقولهم، ويدفعوا بها إلى ساحة المعركة حتى النهاية. وفي ظل غياب الفعل المُخَلِّقِ لذلك الجنين والمُسْتَفِز لذلك العدو، دفعا به إلى الرعونة والحماقة بالمنظور التاريخي لهما، أياًّ كان مستوى ذلك الفعل وأيا كانت قوته، فإن الحال يبقى على ما هو عليه، إن لم تُرَشِّحْه الظروف المحيطة بالمجتمع وبصيرورته المتخاذلة إلى التراجع، مانحةً العدو بالتالي فرصة للتجذُّرِ أكثر، ومُفْقِدَةً حركة التاريخ من ثَمَّ فرصة الانتفاع حتى من زخمها الطبيعي.
تقرر مبادئ وقواعد علم النفس الجمعي، وسيكولوجيا الحراك المُجتَمعي، أن فئة السلطة والنخبة في مجتمع ماَّ لا يعتمد المشاركة الشعبية الحقيقية في اتخاذ القرارات، تُنْتِجُ توصيفاتها الخاصة التي تُطْلِقها على مظاهر الفعل السياسي المعارض لها، من خامات الترهيب والترغيب، العازفة دوما على أوتار الخوف على الحياة وعلى المُنجزات التي تحققت وعلى المصالح المُفْتَرَضة، في عزلٍ كامل لكل ذلك عن سياق صيرورته التاريخية الداخلية والخارجية.
فالأنظمة العربية التي تحاول إخافة المواطن العربي دوما من أية مواجهة جادة مع الاحتلال، خارج إطار قواعد لعبة إبقائها هي سيدة هذه المواجهة بشكلها التخاذلي الموسوم كذبا وزورا بالتَّعَقُّل، إنما هي تحاول في الواقع إخافته من مواجهتها والثورة عليها هي بالتحديد. إذ عندما تترسخ مفاهيم التَّعَقُّل السياسي التي تروِّج لها تلك الأنظمة، وتنجح من ثم في تحديد شكل المواجهة مع الاحتلال ومع الاعتداء الخارجي، في البُنْيَة الذهنية للإنسان العربي، فإن هذا الانسان يتحول إلى كتلة متحركة من الهزيمة النفسية والثقافية، لا في مواجهة ذلك المحتل فقط، بل وفي مواجهة تلك الأنظمة بالدرجة الأولى.
وكأن تلك الأنظمة تُرْعِب المواطن العربي من مجرد التفكير في الثورة عليها أو في معارضتها، من خلال إرعابه ابتداءً من مواجهة المحتل. لأن الإنسان بطبيعته يشعر بالخوف تجاه من يؤمن بعقلانيته في التعامل مع قضاياه المصيرية والخطيرة، أكثر من خوفه مِمَّنْ حَمَتْهُ تلك العقلانية من مخاطر مواجهته المباشرة. فمن يحمينا من وحش مفترس أرهبتنا مواجهته، هو بكل تأكيد أقوى في لاوعينا من ذلك الوحش نفسه. وبالتالي إذا كان ذلك الوحش يخيفنا بجرعة مقدارها في سُلَّمِ الرعب (س)، فإن من حَماَناَ منه بعقلانيته التي تَشَرَّبْناها وترسَّخَت في أذهاننا كشكلٍ أمثلَ للمواجهة، سيخيفنا قطعا بجرعة مقدارها في سُلَّمِ الرعب أضعاف (س). لنكون من ثم بإزاء بُنْيَة مُجْتَمَعِيَّة هزيلة تخاف من كل شيء، حتى من التفكيبر في محاسبة الظالم على ظلمه لها وانتهاكه لحقوقها، في الداخل قبل الخارج.
أليست أكثر الفئات والشرائح العربية – حتى على الصعيد الشعبي والثقافي والمؤسسي غير الرسمي – تخاذلا وتسويفا وتخويفا وتأجيلا للمواجهة الحقيقية مع المحتل ودعوة إلى فلسفة التَّعَقُّل "الرُّغالي"، هي ذاتها الفئات والشرائح التي تُبْدي أكثر أشكال الموالاة للأنظمة، قماءةً ومدعاةً للإشمئزار، رغم يقينها بأنها أنظمة لا تحظى في عالمنا المعاصر بأي قدر من الاحترام، عندما يكون هذا الاحترام منظورا إليه، من زاوية مدى قرب تلك الأنظمة أو بعدها عن حقوق الانسان، وعن حماية الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية والفكرية والمعتقدية لمواطنيها، وعن العدالة الاجتماعية وتحقيق مستويات رفاهية عالية للشعوب وحماية ثرواتها من السلب والنهب تحت كل عناوين الفساد؟!
وإذن، أليس من الواضح أن نقطة البدء في إعادة بناء ثقة الإنسان العربي بنفسه، تتمثل في تكسير كل تلك البُنَى المعرفية التي جعلت تصَوُّره عن منظومة حقوقه ومصالحه، يدور حول ما كَرَّسَتْه ثقافة التخاذل والانهزام من رؤىً ومفاهيم؟! أو لا يعني ذلك بوضوحٍٍ أكثر، أن على الإنسان العربي أن يعي ويفهم أن قضاياه كلها تمثل حُزْمَةً واحدة لا تتجزأ، وأن عليه أن يُدْرِك من ثم، أن معركته هي ضد المحتل، بقدر ما هي ضد أنظمته السياسية المتخاذلة على كل الصعد، وأنها ضد صانعي فقره وعبوديته، بقدر ما هي ضد ماسخي ثقافته ومزوري دينه وتاريخه، وأن خوضه للمعركة على جبهةٍ دون أخرى من جبهات المواجهة المُفْتَرَضة سوف يَحرمه من فُرَصِ التقدم في صيرورة التحرر والنهضة عموما؟!
في ضوء ما سبق، يغدو من الطبيعي أن نلجأ إلى محاكمة الأفعال والخطوات الحاصلة أو التي ستحصل في ساحة الصيرورة السياسية والحركية وحتى الثقافية، عبر الكشف عن مقدار الجرعة الوطنية والقومية أو النهضوية الكامنة فيها أو اللازم كمونُها فيها، لتفعيل التناقض بين الجماهير وبين أعدائها أياًّ كانوا، وذلك بصرف النظر عن ردات أفعال أولئك الأعداء. بل لعله من الطبيعي أن تكون ردات الأفعال تلك عنيفة وشرسة، خاصة في المعارك المصيرية، كتلك التي تَخوضها شعوب الأمة العربية ضد قوى الاستعمار العَوْلَمِي وأذرعه المتنفذة في المنطقة، والتي هي تحديدا، تلك الفئة "الرُّغالية الجديدة" من النُّخب السياسية الحاكمة والمتسلطة على رقاب الشعوب العربية ومن دار في فلكها وشَرْعَنَ وجودها من مثقفي الهزيمة، سواء كان ذلك باسم الدين أو باسم المصالح القطرية المزعومة.
فإذا كان العنف، وإذا كانت الشراسة اللذين سيمارسهما ضِدّنا العدو عندما نواجهه في سياق سعينا لتحصيل حقوقنا المسلوبة، أياًّ كان هذا العدو، رادِعَيْن لنا عن المبادرة بخطواتنا القومية والنهضوية بصورة مطلقة، فلن نبادر بها أبدا في الظروف المحيطة بواقعنا المتراجع، وهو الواقع الذي لن يدفعه إلى التقدم الناهض، حسبما يفرضه ناموس الوجود المستقر منذ الأزل في صميم بُنْيَة الكون، سوى المبادرة والمبادءة والمواجهة.
من المستحيل اعتبار أن "جوزيف ستالين"، مثلا هو الذي قتل من الشعوب السوفييتية ما يربو على العشرين مليون نسمة، في سياق حرب الأنصار التحريرية من الاحتلال النازي. بل إنَّ الرغبةَ في التحرر هي التي جعلت موتهم ضروريا لتحقيق الهدف، رغم أنه كان يبدو في بداية الحرب هدفا خرافيا، في ظل القوة الألمانية المتدفقة كالطوفان. ومع ذلك فقد كان مبدأ الاستعداد للتضحية والرغبة العارمة في النهوض من ركام الدمار الذي خَلَّفَه الاجتياح الألماني النازي، وعدم المبالاة بكَمِّ الخسائر التي سَتُقَدَّم على مذبح التحرر، هي مُجْتَمِعَة مفتاح النصر الذي حققه الاتحاد السوفياتي في تلك الحرب.
لا أحد حَمَّلَ قادة موسكو مسؤولية الخسائر التي قدَّمتها الأمم السوفيتية، لأن تقديمها كان مطلبا وطنيا. وحتى لو هُزِمَ السوفييت في الحرب ما كان أحد سينظر إلى قادتهم المهزومين خارج نطاق البطولة الأسطورية، لسبب بسيط هو انعدام فئة مثقفي الهزيمة الذين يملكون قدرةً فائقة على مضع الماء، والذين كان يمكن لوجودهم أن يروِّجَ لضرورة التعاطي بواقعية مع حقائق العصر الجديدة التي فرضتها النازية، تجنبا لكل هذه الخسائر التي قدَّمها الاتحاد السوفياتي، تماما كما يفعل مثقفو الهزيمة العرب في زماننا الرُّغَالِيِّ المقيت هذا.

الفصل الثالث
تأكُّد الشكل الحقيقي للإمبريالية بذراعيها "إسرائيل" و"أنظمة التجزئة"
يتأكد "الذراع المزدوج" للإمبريالية، من خلال صيرورة الأحداث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فهو يتأكد من خلال الأدوار والمهام التي قامت وتقوم بها أنظمة "الرغاليون الجدد" سفهاء العصر على الصعيدين القطري والقومي، لتمرير السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، مادام ذلك التمرير يصب في خدمة معادلات التجزئة والهيمنة، التي تحافظ على مصالح الإمبريالية، بمحافظتها على مصالح تلك الأنظمة كجزءٍ لا يتجزأ من منظومة العلاقات الإمبريالية.
إن تلك الأنظمة ما فتئت تُمعن في قمع شعوبها وفي حرمانها من أدنى حقوقها الإنسانية، بكل ما أوتيت من قوة، وذلك باستخدام المناسب والمتاح من الوسائل، حسب ما تقتضيه متطلبات كل مرحلةٍ من مراحل الهجمة الإمبريالية ضد الشعوب العربية. فعندما كانت القضية الفلسطينية ما تزال طازجة في النفوس والعقول، وليس بإمكان أي نظام عربي من "الرغاليين الجدد"، التبجح بقبول الحلول التسووية بشكلها الراهن. كانت هذه القضية تُستخدم لإخضاع الجماهير، مرة بترحيل تناقضها مع "النظام الرغالي"، الذي يمثل العدو الداخلي لها، عبر توجيه السخط الشعبي إلى العدو الخارجي الرابض على الحدود. ومرة باستناد بعض الأنظمة إلى قاعدة عسكرية تَستخدم القضيةَ "قميصَ عثمانٍ معاصراً"، لتعزيز موقع الجيش ونُخَبِه المميزة، عبر ادعاء إعداده للمعركة الفاصلة، بينما هي تعده في الواقع لتنفيذ أجندات داخلية وإقليمية مرتقبة ضمن المخطط الإمبريالي للمنطقة. ومرة بتعطيل مشاريع التنمية وهدر ثروات الشعوب بحجة اقتطاع حصصٍ كبيرة من الدخل القومي للقضية وللاستعدادات من أجل تلك المعركة. فضلا عن استخدام "الرغاليين الجدد" للقضية في التشهير بالقوى الثورية المقاومة للاحتلال، تحت لافتة ادعاء أن هذه القوى تُفَتِّت الصَّفَ العربي، وهي بالتالي تخدم إسرائيل؟!
وعندما أصبحت القضية الفلسطينية بحكم ما آل إليه الصراع، هي قضية الفلسطينيين وحدهم، فإن الأنظمة العربية مارست ومازالت تمارس كل أنواع البغي، لتعمق الانفصال والقطيعة بين الشعوب العربية وبين فلسطين، ولتُنْهي كل أشكال التناقض ولتَفْرِض كل أنواع التطبيع بين تلك الشعوب وبين إسرائيل، التي ما تزال تحتل الأرض وتقتل الإنسان وتمارس كل أنواع العدوان. وهي لأجل تحقيق ذلك اضطلعت بمهمة نشر وتكريس فلسفة تخاذلٍ وانهزامٍ، تقوم على مبادئَ تُقَدِّم الأمنَ ورغيفَ الخبزِ على الحرية والكرامة، علما بأن من يقدم الأول والثاني، على الثالثة والرابعة، لا يستحق الأربعة جميعا. ناهيك عن تكريس ذلك النوع السائل والمائع من الفكر السياسي الذي حاولت تلك الأنظمة بموجبه وتحاول، الفصلَ بين قضايا المواطن العربي القطرية وقضيته القومية، متمثلة في وجود هذا الكيان الاستيطاني في قلب أرضه، عبر نجاح سلسلة المؤامرات المتتابعة في تفريغها – أي القضية القومية – من مضامينها تلك، وتحويلها إلى نزاعات حدودية بين إسرائيل وأقطارٍ عربية، بعد أن كانت – كما هي حقيقتها دائما – صراعَ وجودٍ بين أُمَّةٍ عربيةٍ متخلِّفةٍ تنهَض من براثن التخَلُّف وتتحرر من مكوناته ومسبباته، وبين مشروعٍ إمبريالي عالمي شرس يغزو العالم عبر المشرق العربي، من خلال حالةِ التخلف التي تشهدها الأمة وتعاني منها.
ولكن كيف يمكننا التأكُّد من أن أنظمة "الرغاليون الجدد"، مارست هذا النوع من الولاء والانتماء للإمبريالية، بوفاء وإخلاص منقطعي النظير؟! دعونا نستنتج ذلك من واقعة محيرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تتطلب قدرا من التحليل.
دافع المفكرون من أمثال "ميكافيللي" و"مونتيسكيو" – وهما من صُناَّع المجتمعات الأوربية الحديثة عشية انتهاء القرون الوسطى – عن الحرب الوقائية وصوابيتها. فهي أحد مظاهر الخوف الذي إذا أُحْسِن استغلاله من قِبَلِ السلطات الحاكمة، فإنه يحقق نتائج مبهرةً على صعيد توحيد المحكومين وتوجيههم لهدف محدد، قد تتناقض مواقفهم تجاهه وتتباين في حالات التحرر من عنصر الخوف الجمعي. قال المفكر السياسي "بول فاليري": "إن إثارة سخط البعض ضد البعض الآخر، هو الخطوة الرئيسية للسياسيين، وإن أفضل حل لإيصال هذا السخط إلى ذروته، هو اتهام الخصم بأنه يضمر نوايا سيئة".. وهذه حقيقة. فمثل هذا الحل يستقطب خوفَ كل المجموعة مجتمعة حول عرضٍ مُوَحَّد، فيتزايد الحقد، وتصبح الأرض جاهزة، ويتأثر السلم، وتتفاقم المشاعر العدوانية، وتختفي التناقضات من العلاقات بين الأفراد، حتى لو كانت مُدَمِّرَةً، وإن يكن إلى حين.
ماذا عن إسقاط هذه المفاهيم على التجمع الصهيوني الإسرائيلي؟!
إن الفكر الصهيوني حرص على الاحتفاظ بعنصرٍ رئيسي من عناصر التكوين السيكولوجي الإسرائيلي موجودا وحياًّ على الدوام، وهو ألاَّ مكان في ذلك التكوين ليهودي منتصر بالمعنى الحقيقي والواسع والحاسم لكلمة منتصر، بل هناك فقط مكان ليهودي يَرُّد اعتداءً، أو يستعد لحماية نفسه من اعتداء، ليغدو الانتصار في القاموس الصهيوني، هو مجرد التمكن من تحقيق ذلك، أما تحقيقه بالفعل بإنهاء الخصم إنهاءً ينعدم معه وجود العدو الذي هو "مصدر التهديد"، فهو كارثة حقيقية بالنسبة له. وإذا لم يكن هناك ثمة في الواقع اعتداء أو تهديد باعتداء، عندئذ يكون من المحتم الإيهام بكل ذلك، كي تذوي سريعاً صورة "الانتصار" وتحل محلها من جديد صورة "مخافة الاعتداء". وإذا شئنا التبسيط، فإن فكرة "اليهودي المنتصر"، إنما تعني في إطار الفكر الصهيوني أن اليهودي لم يعد صهيونياً وإنما هو عاد ليصبح يهوديا فقط، فيفقد طاقته التدميرية التي حقنته بها الصهيونية. قال "فرويد": "من السهل ربط الناس بصلات محبة حتى لو كانوا أعداء، طالما أن هناك أشخاصاً آخرين نستطيع أن نصب عليهم مشاعرنا العدوانية".
لقد أظهر تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أن العرب الرسميين قد بلعوا الطعم على ما يبدو، هذا إذا لم نفترض مشاركتَهم في رسم سيناريو بَلْعِهِ لأسباب تضليلية اعتقدوا أنها قد تُخَفِّف عنهم عبء المسؤولية التاريخية في نظر من يضلِّلونهم – أي الجماهير العربية – مع اعتقادنا بترجيح عنصر التواطؤ هذا لأسبابٍ ستظهر لوحدها وبدون تكلُّفٍ أو تَصَنُّعٍ في هذا التحليل. فلا العرب الرسميون خاضوا حرباً حقيقية فوق قدرة هذا الكيان على الاحتمال والاستمرار، ولا هم خاضوا تسويةً قادرة على تفجير كل تناقضاته القاتلة التي من شأنها أن تُحَوِّلَه إلى ركام. ونجحوا فقط في أن يُمَرِّروا هدف المشروع الصهيوني المتمثل إسرائيليا في الإبقاء على معادلة التهديد والتوازن قائمة، للحفاظ على الوحدة السيكولوجية للإنسان الإسرائيلي، وهي المعادلة التي طالما تم التعبير عنها في أدبيات الصراع بحالة "اللاحرب واللاسلم".
وإذا كانت الأنظمة العربية لم تمتلك منذ النكبة، مشروعها الخاص للقضاء على المشروع الصهيوني الاستعماري "إسرائيل"، لأنها لم تكن معنية بذلك، باعتباره مشروع وجودها الرديف ومبرر استمرارها أساسا، مادام هو السور الواقي لها من تفعيل التناقضات الحادة بينها وبين شعوبها. فإنها بعد حرب عام (1973) وضعت نفسها في دائرة خيار اعتبرته مشروعها دون أن تضع له البدائل في حالةِ فشله، الأمر الذي جعلها تقضي حتى الآن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً وهي تراوح مكانها في ظاهرةٍ غير مفهومة على الإطلاق في عالم البشر، وفي معتركات الصراعات.
إن الحرب تعمل دائماً على تجميع كلمة الأمة، وليست هناك قوة أكبر من الحرب تعمل على الوحدة وتؤجل الخلافات وتُرَحِّلها إلى المستقبل. هكذا يفعل على الدوام من لا يملكون حلولاً حقيقية لتناقضاتهم المصيرية، الترحيل ثم الترحيل، ولا شيء غير الترحيل، عبر تسخين الأوضاع، إلى أن يأتي اليوم الذي لا يستطيعون معه الترحيل، فتسود عندئذ معادلات صراعٍ جديدة. وهذا ما فعلته وتفعله الصهيونية في إسرائيل ذات التركيب الفسيفسائي العصي على الانسجام الطبيعي.
لقد أتقنت الصهيونية بوجه عام فن استثمار عنصر العداء والكُره اللذين تُكِنُّهما الشعوب لليهود، كي تُنْجِح مشروعها. واعترف أساطين الحركة الصهيونية بأن المُعاَدين للسامية مثلوا لها قوة إيجابية خدمت نضالها من أجل تحرير يهود الشتات من عبوديتهم في الجيتو. لقد كانت وجهة نظر الكثير من الصهاينة ومازالت تؤكد على أن فكرة "معاداة السامية" كانت قوة دافعة، إلى درجة أن بعضهم سيطر عليه الاعتقاد بأنها مُسْتوحاةٌ من عقيدة إلهية، وربما أنها كانت تحتوي على إرادة الرب لأنها أجبرت اليهود على توحيد صفوفهم كما أعلن "تيودور هرتزل".
إن من يتتبع المفاصل الأساسية في الأيديولوجية الصهيونية، وتاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن، بإمكانه أن يدرك أن الحروب التي خاضتها إسرائيل هي بمثابة أسطورة ضرورية تدخل في إطار البُنْيَة العامة للعقيدة الصهيونية، شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير التي يتعامل معها الفكر الصهيوني ويُرَوِّج لها، مثل أسطورة أرض الميعاد، وأسطورة الحق التاريخي في فلسطين، وأسطورة الشعب المختار، وأسطورة شعب بلا أرضٍ لأرضٍ بلا شعب.. إلخ. أسطورة يجب أن تتعايش معها إسرائيل كي تتمكن من الاستمرار، ومثلما أنها تفقد مشروعيتها وإمكان استمرارها بسقوط أيٍّ من أساطيرها السابقة، فإنها بدون أسطورة الحرب التي لا تنتهي هذه، تفقد هوية البقاء المتناسبة مع طبيعتها والمتناغمة مع أهداف وجودها.
ولكن ما هي آفاق فكرة الحرب في التجمع الإسرائيلي؟!
إن ثمة وجهة نظر إسرائيلية –وهي وجهة النظر المهيمنة ذات شرائح الأَتْباَع الأوسع في هذا التجمع – ترى أن الحرب تمثل في هذا التجمع المناخ الأمثلَ لوجوده وازدهاره، وهي تستند إلى العديد من المؤشرات الدالة على ذلك، والمُسْتَمَدَّة من واقع التجمع الإسرائيلي خلال فترات القتال وخلال فترات الهدوء. فهي وجهة نظر تقوم على فكرة أن انغماسَ التجمع في الحرب يجذب إليه المزيد من المهاجرين الجدد وخاصة الشباب القادرين على القتال. كما أن مناخ الحرب يُكْسِب هذا التجمع مزيداً من التعاطف اليهودي وتدفق المعونات والهبات اليهودية من شتى أنحاء العالم. ويتيح هذا المناخ للقوى العالمية المساندة للتجمع الإسرائيلي أفضل الظروف لضرب القوى الوطنية العربية من خلال العسكرية الإسرائيلية، لاستنزاف إمكانية التنمية العربية عبر مفاقمة أعباء النفقات العسكرية. ولعل أهم ما يحققه مناخ الحرب من وجهة نظر هذا التيار، أنه يجعل المستوطنين الإسرائيليين على اختلاف أصولهم وتباينها، أكثر اتحاداً وتماسكاً وأشد عدوانية وعداءً للعرب.
وكمحصلة لذلك، ترى وجهة النظر هذه، أن السلام مع العرب إنما يعني دفع التناقضات الداخلية للتجمع الإسرائيلي إلى التفاقم، ويُعتبر بمثابة المناخ الأنسب لازدهار القوى الوطنية العربية وتوجيه جهودها إلى نشاطات التنمية الحقيقية. لذلك فإن مشروع السلام العربي الإسرائيلي هو مشروع مرفوض صهيونيا، ويجب أن تبقى المنطقة خاضعة لمعادلة اللاحرب واللاسلم. فإذا ما أجبرت إسرائيل لسبب أو لآخر على توقيع اتفاقات سلام مع العرب، فيجب أن تكون هذه الاتفاقات منفردة أولا، ومتبوعة بانفجارات وحروب وصدامات في مكان آخر ثانيا، كي يساعد ذلك على إبقاء معادلة توازن التهديد والقوة قائمة.
ومع ذلك فإن هناك وجهة نظر أخرى في التجمع الإسرائيلي، ترى عكس ما تراه وجهة النظر العسكرية سالفة الذكر، وهي تقيم فكرتها على المعاني المقابلة تَماماً لتلك التي قامت عليها فكرة حتمية الحرب لبقاء واستمرار التجمع الإسرائيلي، وإن كان أنصارها قلة قليلة بالقياس لأنصار الفكرة السابقة، مع أنهم يتزايدون يوماً بعد يوم. والملفت في الموضوع، أن هذه الفئة من الإسرائيليين تُعْتَبر الأقل حماسا للمشروع الصهيوني في فلسطين، ويَعْتَبر أفرادُها أنفسَهم يهودا أكثر من كونهم صهاينة.
إلا أن حسم الخلاف بين هاتين المدرستين الإسرائيليتين ليس بالأمر الميسور، لأن كلاً منهما ترتبط بموقف معين من طبيعة ومستقبل التجمع الإسرائيلي. كما أن هذا الموقف ذاته إنما هو نتاج لشبكة معقدة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي تضرب بجذورها بعيداً في أعماق إسرائيل والمنطقة والعالم. إن كلاً من وجهتي النظر السابقتين، يستند في الحقيقة إلى مشاهدات صحيحة في جزئياتها لواقع التجمع الإسرائيلي، رغم تناقض تلك المشاهدات منطقاً ونتيجة.
ولكن أي حرب تعنيها وجهات النظر تلك؟! وأي سلام هو الذي تستهدفه وتتحدث عنه؟!
ليست ثمة حرب مطلقة، ومن ثَم فإن تأثيرات الحرب إنما تتوقف في المقام الأول على نهايتها. بعبارة أخرى، فإن تلك التأثيرات تختلف لدى الطرف المنتصر عنها لدى الطرف المهزوم، وإن هذا الاختلاف نوعي وأساسي. وكذلك الحال بالنسبة للسلام، فقد يبدو للوهلة الأولى أن السلام إنما يعني بالتحديد انتهاء أو إنهاء حالة الحرب، وهذا صحيح، ولكنه ليس كل شيء، أو على الأقل ليس هو ما نعنيه بتساؤلنا عن السلام المستهدف.
استمرت حالة الحرب العربية الإسرائيلية ومازالت، إلى ما يزيد عن ستين عاما، تشتعل جذوتها أحياناً وتخفت أحياناً أخرى. وتراوحت أشكال الاشتعال بين العمل الفدائي والتظاهرات والغارات العسكرية والحروب النظامية. كما تراوحت أشكال الخفوت بين الهدنة الضمنية والهدنة الفعلية والتفاوض، بل وتوقيع الاتفاقات الثنائية أحياناً.. إن السبيل الموضوعي لتمحيص وجهتي النظر المشار إليهما سابقاً حول الحرب والسلام في التجمع الإسرائيلي، إنما يكمن في تقصَّي مدى تأثر الكيان الإسرائيلي بكل شكل من هذه الأشكال المذكورة لحالتي الاشتعال والخفوت.
تُرى، ما هو المناخ الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي السائد والمستهدف في التجمع الإسرائيلي؟! ثم ما هي الظروف التي يسعى إلى توفيرها قادة التجمع الإسرائيلي، بحيث تدفع بأصحاب هذا التكوين السيكولوجي إلى استثمار خصائص تكوينهم على الوجه الأفضل خدمةً للمشروع الصهيوني الاستعماري "إسرائيل"؟!
إن الموقف الأمثل لازدهار التكوين السيكولوجي الإسرائيلي المهمين والهادف والدافع إلى الاستقرار المجتمعي وإلى ترحيل التناقضات القاتلة والمدرة إلى أجل غير مسمى، هو موقفٌ يكفل توفر الأمن المهزوز، ويتضمن في الوقت نفسه ظهور التهديد المحدود. وبعبارة أخرى، هو ذلك الموقف الذي يحمل قدراً محدوداً من التهديد العربي يسمح بتفجير أقصى طاقات العدوان لدى اليهود الإسرائيليين وتوحُّدها، ويحمل في الوقت نفسه ضماناً كافياً للقدرة على إلزام هذا التهديد حداً لا يتجاوزه، بحيث لا يؤدي إلى زوال هذا المشروع من جذوره.
إن هذه الثنائية السائلة القوام، هي المعادلة الدقيقة التي تُجَسِّد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي، الاستراتيجية التي تكفل بقاء ذلك التجمع صهيونياً استعمارياً جوهراً، ويهودياً إسرائيلياً مظهراً، والتي تكفل أيضاً ترحيل كافة التناقضات التي عجزت مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة عن حلها في الإطار السلمي، إلى المستقبل، مع ضمان استمرار البعد الصهيوني الاستعماري في التجمع الإسرائيلي. ولأن كل مستقبل سيتحول إلى حاضر، وكل حاضر إسرائيلي يعاني من التناقضات نفسها العصية على الحل الآمن والضامن لاستمرارية الهوية المستهدفة (الصهيونية الاستعمارية)، فلابد لكل حاضر إسرائيلي من أن تسوده معادلة الحرب السابقة، والتي قلنا أنها تُجَسِّد الاستراتيجية السيكولوجية للتجمع الإسرائيلي.

ولكي تتمكن القيادة الإسرائيلية من المحافظة على التوازن الدقيق بين طرفي المعادلة، فقد عَمَدَت إلى تأكيد أمرين أساسيين يخدمان هذا التوازن، منذ نشأتها وحتى الآن، وستعمد إلى الأمر نفسه ما بقيت بصفتها الاستعمارية. فهي قد أكدت على الدوام وجود تهديد عربي حقيقي للتجمع الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه بكافة الوسائل، وعلى رأسها الوسائل الإعلامية التي نجحت في ابتداع مصطلح "الإرهاب" الذي غدا مصطلحاً عالمياً دخل كل الثقافات الإنسانية بمفهومة الصهيوني الاستعماري. ثم هي أكدت في الوقت ذاته على التفوق العسكري الإسرائيلي، وسعت إلى إبرازه وتحقيقه بكافة الوسائل أيضاً، ولم تقف في ذلك عند حد الإعلام، بل وصلت إلى حد العدوان المتكرر والاستفزاز المستمر لتأكيده.
ولعله لا يبدو لنا غريباً في ضوء فهمنا لجوهرية طرفي المعادلة المذكورة بالنسبة للمحافظة على التكوين السيكولوجي لليهودي الإسرائيلي، أن يحرص الماسكون بزمام السلطة في التجمع الإسرائيلي وبشكل دائم على إبراز صورتين تبدوان على طرفي نقيض للوهلة الأولى. صورة هذا التجمع بوصفه جزيرة صغيرة يحيط بها طوفان من الكراهية والتربص العربيين، وصورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والذي يستطيع دق عظام العرب في أي وقت يشاء.
وإذا كان النظام العربي قد أثبت عجزاً ملفتاً حتى عن مجرد زعزعة ثقة الإسرائيليين في صحة الصورة الأخيرة، لخلخلة التكوين السيكولوجي المهم لديهم، فإن عجزه عن خلخلة العامل الأخر من عوامل هذا التكوين السيكولوجي، ألا وهو عامل تصوير التجمع الإسرائيلي بأنه ضحية غارقة في محيط الكراهية العربي، كان أنكى وأخطر. فدول الجوار العربي التي تحد إسرائيل، من كل الجهات لم يعجبها أن تطلق على نفسها اسم "دول الجوار" بكل الدفء الذي تشحن به كلمة جوار قلوب ونفوس السامعين، بوصف ذلك الدفء جزءاً مفترضا من الحرب النفسية المضادة، التي تأخذ في الاعتبار طبيعة البناء السيكولوجي للإنسان الإسرائيلي، ما قد يسهم في شرخ الصورة الصهيونية لهذا الجوار، وبالتالي في خلخلة عنصر التكوين السيكولوجي القائم على وصفه بمحيط الكراهية.

بل هي قد بلعت الطعم وقبلت بأن تُطْلِقَ على نفسها اسم "دول الطوق"، بكل معاني الحصار والضغط والاعتصار والإذلال التي تشحن بها هذه الكلمة قلوب ونفوس السامعين، بحيث تكون الصورة الصهيونية المُسْتَهْدَفة لهذا المحيط العربي قد كسبت نصيراً هاماً ساعدها على تحقيق هدفها المتمثل في حفظ التوازن في مكونات السيكولوجيا الإسرائيلية. وهذا النصير هو الغباء العربي بلا منازع، هذا إذا افترضنا حسن النية في الأنظمة العربية، وهو الأمر الذي نستبعده. ومن شاء أن يتأكد مما نقوله، فليرجع إلى الخطاب السياسي العربي، سواء كان خطاباً معادياً لإسرائيل أو مهادنا لها، ليعرف أن مصطلح دول الطوق هو المصطلح الرائج في هذا الخطاب عندما يتم الحديث عن كل من لبنان وسوريا والأردن ومصر، علماً بأن الشحنة النفسية التي يتضمنها هذا المصطلح هو قذيفة موجهة إلى خطة المواجهة العربية إن وُجِدَت، في حين كان يمكن لمصطلح "دول الجوار" اللطيف الدافئ أن يتضمن شحنة نفسية أكثر تأثيراً من الأسلحة التي لم يمتلكها العرب، وأن امتلكوها فلم يستخدموها، وأن استخدموها فلم يحسنوا استخدامها.
ولأن الأنظمة العربية –مع شديد الأسف – لا تحارب إذا حاربت، ولا تسالم إذا سالمت، في إطار خطةٍ تأخذ في الاعتبار حقيقة عدوها وطبيعته على كافة الصُعد، فإنها سرعان ما فشلت في جعل الشرخ النفسي الحاصل عشية حرب أكتوبر يُؤْتي أُكُلَه باعتباره أمضى سلاحٍ إذا تم استخدامُه الاستخدامَ الصحيح. وانخرطت في عمليةٍ سياسيةٍ مضنية بدأت منذ خمسة وثلاثين عاماً، كان أبرز ما حققته هو إسهامها الفعال في إعادة التوازن إلى النفس الإسرائيلية المشروخة بفعل نتائج الحرب.
فإذا كانت حرب أكتوبر قد أخلت بطرفي معادلة التوازن النفسي الإسرائيلي عبر إسقاطها مقولة التفوق بوصفها أحد هذين الطرفين. فإن الجندي الإسرائيلي، بل وحتى المواطن الإسرائيلي، لم يكن يتوقع من العرب المنتصرين والزاحفين في صحراء سيناء وفي مرتفعات الجولان نحو إسرائيل، أقل من فرض الشروط والوصول إلى الحدود الإقليمية السياسية الإسرائيلية مع كل من سوريا ومصر، ورفض التسوية السلمية إلاَّ وفق معادلات جديدة غير تلك التي كان يُرَوِّج لها قادة إسرائيل قبل الحرب. أما أن تنجح القيادة الإسرائيلية في جَعل هذه الحرب التي حطمت كبرياء وعنجهية هذه الدولة، فرصةً لإعادة التوازن إلى النفسية الإسرائيلية، فهو ما لم يتعود الحكام العرب على الانتباه إليه وأخذه في الاعتبار، وكأن الشعوب ليست هي المستهدفة بالحرب بشكل أو بآخر في نهاية المطاف!!
نعم، لقد عرف قادة التجمع الإسرائيلي في الفترة التي أعقبت الحرب كيف يجعلون اليهودي الإسرائيلي يلاحظ بأم عينه أن هؤلاء "الغوغاء"(!!!) الذين ظهروا وقد كسروا تفوق دولته، يتكالبون ويتهافتون على تسويةٍ ضئيلةٍ، تفرض فيها إسرائيل معظم الشروط التي تَمَسُّ بعض جوانب السيادة الوطنية لبعض الدول العربية. وجعلته تلك القيادة يرى بأم عينه كيف أن هذه الوحدة المخيفة والمفاجئة التي لمسها بين سوريا ومصر، قد آلت إلى زوال. وكيف أن العرب الذين هَزُّوه من الأعماق، عادوا كما كانوا قبائل متناحرة لا يخيفون بعوضة، وتَخَلَّوا عن بعضهم البعض لتنفرد إسرائيل بهم واحداً واحداً.
أي أن الرسالة التي تم إيصالها لتلك النفسية المشروخة، "أَنْ توازني من جديد"، فما رأيتِه ليس نصراً، إنها غفلة مقاتلٍ فارسٍ عن خُلِقٍ خسيس من غادرٍ عاد ليركع أمام "السوبرمان النيتشوي" الذي صنعته "كيبوتزات" أرض الميعاد، التي تخرج المقاتلين الأشاوس للجيش الإسرائيلي، الذي هزمته وأبكت أفراده كالأطفال المرعوبين، قذائف المقاومة في الجنوب اللبناني، ورصاصات العُزَّل في زقاق مخيم جنين حتى وهو ينهدم على رؤوس ساكنيه بقصف الطائرات الأميركية قبل ذلك بأعوام. وأصر المخطِّطُ الصهيوني على تأكيد أن المسألة في أكتوبر كانت برمتها أبعد من أن تمثل انتصاراً، مشيرا إلى أن من ظهروا منتصرين، هم الذين يستجدون ويطلبون ويتنازلون.. فهل هذه شِيَمٌ سياسيةٌ لمنتصر؟!
إن أي موقف سياسي عربي هو في الواقع ابنٌ شرعي لصيرورة الواقع العربي، عندما يكون هذا الموقف نابعاً من قوى الشعوب والجماهير، وليس من رموز السلطة والحكم التي نفهم جيداً أنها منفصلة عن تلك الشعوب بِهُوَّةٍ كبيرة من التناقضات وتباين المصالح. هذا يعني أن أي موقف سياسي عربي من النوع الذي نتحدث عنه، نابع حتماً من مُحصلةِ تفاعلِ بُنىً اجتماعية وفكرية ونفسية وسياسية وعسكرية سائدة. ولا يمكن لهذا الموقف أن يتغير إلا بتغير تلك البُنَى بشكل ينسجم مع طرحٍ جديد ومع موقف جديد، ويتطلبه. إن المراقب المهتم يستطيع أن يتلمس الاتجاهات العامة التي تصب في خندقها المواقفُ العربية وهي تتغير وتتبدل وتتطور.
إن العرب – ونعني هنا الجماهير وليس النُّخَب الحاكمة – ما كانوا في عام (1947) ليقبلوا بقرار التقسيم، وما كانوا في عام (1967) ليقبلوا بالحقائق الجديدة التي فرضتها الحرب، رغم بدء ظهور تيارٍ تراجع عن رفض قرار التقسيم ليقبلَ به. ثم مع مرور الوقت، وخاصة بعد مرور وقتٍ كافٍ على النكسة المخزية عام(1967)، أصبحت الهوة بين الرأس والقاعدة تتسع، وغدت الجماهير منكمشةً على نفسها، إلى أن غدا الموقف السياسي هو موقف سلطة ولا علاقة للجماهير بصياغته.
وبعد مرور أكثر من جيل على حرب (1967)، ما كانوا –الحكام العرب هذه المرة – ليقبلوا الطرح الإسرائيلي الجديد، وإن كان سقف مطالبهم قد انحصر في معادلة (1967) التي سبق وأن كانت مرفوضة من القيادة تجاوباً اضطرارياً مع رفض القاعدة لها. ونخالهم لن يقبلوا الآن بحقائق الجدار العنصري العازل، ولا برفض عودة اللاجئين على إطلاقها، ولا بالتعامل مع قضية القدس بالشكل المطروح إسرائيلياً، وإن كانوا يراوحون خجلاً حول استعدادهم لقبول ما هو أعلى من سقف الطروحات الإسرائيلية الحالية، وأقل من سقف المطالب العربية التي أعقبت نكسة (1967). لتستمر هذه السيمفونية النشاز وفق معادلة إسرائيلية أخرى تُمكن تسميتُها معادلةَ "التلاعب بسقوف المطالب والعروض"، لضمان الاستمرار في تحقيق معادلة التوازن بين عنصر التهديد العربي وعنصر التفوق الإسرائيلي، كآلية فاعلة في الإبقاء أطول مدة ممكنة على حالة اللاحرب واللاسلم، وهي الحالة التي يجب أن نوضح أنها الحالة التي حكمت الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته عام (1947) تاريخ صدور قرار التقسيم، ما يعني أن الحروب التي شهدها هذا الصراع لم تكن في واقع الحال إلا مناوشاتٍ (طُوَش)، لم تخرج عن حدود إبقائها على المعادلة المذكورة في حالة حركة ليس إلاَّ، وليست حروباً بالمعنى الحقيقي لكلمة حرب، عندما تفهم الحرب على أنها الوسيلة التي تسعى إلى خلق حقائق جديدة على الأرض، تختلف عن تلك التي كانت سائدةً قبل تلك الحرب.
قادة التجمع الإسرائيلي اهتموا كثيراً بهذا الأمر، أي بطبيعة تَكَوُّن الموقف السياسي العربي في مختلف مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ليوظفوه ما استطاعوا في خدمة المعادلة الأساسية التي تحكم التكوين السيكولوجي اليهودي الإسرائيلي، وكي لا يقعوا في مطب التخوف الذي أشار إليه "بن غوريون" بسخريته اللاذعة ذات الدلالة، عندما أبدى خشيته ذات مرة في نكتة معبرة، من أن يفاجئه العرب بالموافقة على عقد صُلح معه ومع التجمع الإسرائيلي، معتبرا ذلك أكبر مقلب يمكن لإسرائيل أن تواجهه في حياتها.
إن الموقف العربي إزاء إسرائيل ووجودها في المنطقة، سيتم التعبير عنه عربياً – إن شعبياً أو سلطوياً – عبر طرحٍ سيأخذ عند طرحه طابع الصفة الاستراتيجية المتَضَمِّنَة لمعنى الديمومة والتواصل التاريخيين، وذلك إلى أن تتغير في الواقع العربي البُنى الثقافية والمجتمعية والسياسية والنفسية التي أفرزته، مؤدية إلى ظهور بُنى جديدة يتم التعبير عنها بموقف جديد. إن إدراك صانع القرار الصهيوني لهذه الحقيقة التي هي حقيقة إنسانية عامة، تخضع لها كل مجتمعات وشعوب الأرض، جعله يستثمرها أكفأ استثمار، وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود، وضَمِنَ بنجاحه هذا الإبقاءَ على معادلة التوازن السيكولوجي الإسرائيلي تحت السيطرة التامة عبر أكثر من خمسين عاماً من الصراع، ولكن كيف ذلك؟!
إن الطرح العربي الذي تفرزه المرحلة بمكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية، سيُعْتَبر سقفاً أعلى مرفوضاً إسرائيلياً وبالتالي أميركياً، بحيث تطرح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية سقفاً أقل يجب أن تشير الدلائل العربية المقروءة إسرائيلياً وأميركياً، إلى حاجته لقرابة الجيل الكامل كي يتغير واقع البُنى الثقافية والمجتمعية العربية باتجاه قبوله أو التعامل معه. وبالتالي، فبين سقف عربي مطروح مرفوض إسرائيلياً، وسقف إسرائيلي معروض مرفوض عربياً، تُقَاد دفة سفينة الصراع من قِبل الطرفين العربي والإسرائيلي لتحقيق هدف واحد، يعمل الإسرائيليون على تحقيقه بوعي تام، فيما يعمل الحكام العرب على الإسهام في تحقيقه بغير وعي وبجهل منقطع النظير، هذا إذا افترضنا مجددا حسن النية لدى الأنظمة الرسمية العربية، ألا وهو الإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم لحفظ التوازن النفسي لليهودي الإسرائيلي القادر على رفد المشروع الصهيوني الاستعماري "إسرائيل" بكل طاقاته.
وعندما تلاحظ مراكز ودوائر الفكر والبحث واتخاذ القرار في كل من واشنطن وتل أبيب، اقتراب العرب بحكم التطورات والضغوطات الحادثة في الواقع العربي، من إمكانية القبول بالطرح الإسرائيلي، عبر بدء دورانهم حول سقوفه، فإن القائمين على تلك المراكز والدوائر إذ يلاحظون ذلك، يبدأون بالدفع باتجاه إعداد الساحة لتَحَمُّل طرحٍ إسرائيلي أميركي جديد ضمن حلقة حقائق جديدة تختلف في الكثير أو في الكثير عن الحقائق التي تضمنها سقف الطروحات السابق.
عندئذ تعود المعادلة السابقة في مستواها السياسي الصدامي لتظهر إلى حيز الوجود، قبول عربي بالطرح الإسرائيلي السابق، ورفض إسرائيلي له عبر طرح جديد لا بديل عنه، باعتباره الطرح المفروض من قِبل الحقائق الجديدة التي سيشاع بطبيعة الحال أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المرحلة. والعرب من جهتهم سوف يجدون أنفسهم مضطرين قطعاً إلى رفض هذا العرض الإسرائيلي لأسباب عديدة تختلف من طرف عربي لأخر ومن وقت لآخر، وتسود مرحلة جديدة من التوتر التي تكفل عبر حنكة الإدارة الصهيونية لها، بقاء السيكولوجية الإسرائيلية ضمن دائرة التهديد والتفوق المطلوبة لاستمرار هذا الكيان.
ولا يخفى على عاقل كيف تفعل هذه التوترات المدروسة الشكل والمضمون والتوقيت فعلها في تحقيق ذلك الهدف. فقبول العرب بعرضٍ إسرائيلي سابقٍ بعد جيل من الرفض، يعني تجسيداًللتفوق الإسرائيلي الذي صمد إلى أن أرضَخَ العربَ لإرادته. وطرح إسرائيل لعرض جديد مرفوض عربياً جملة وتفصيلاً، هو تجسيد للتهديد العربي الخطير، الذي يبدأ بالتعبير عن نفسه في عملية رفض متعددة الأوجه والوسائل، فتتوازن الأمور ويستقر الوضع السيكولوجي بين طرفي المعادلة التي تكونه وتحكمه. إن استقراء تاريخ الصراع بين العرب والتجمع الإسرائيلي خلال الستين سنة الماضية يثبت لنا هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.
لكن السؤال الملح الذي يفرض نفسه علينا في هذا السياق هو.. مادامت هذه اللعبة واضحة ومكشوفة لمن يُفْتَرض أنهم قادة فكرٍ وصُنَّاعُ مجتمعٍ وساسةُ دولٍ في الوطن العربي. ومادامت هزيمة إسرائيل أمرا ممكنا كما كشفت عن ذلك على الدوام أشكال المقاومة المختلفة ضدها. ومادام الكيان الإسرائيلي على هذا القدر من الهشاشة، بحيث يُهَدَد وجودَه ومصيرَه على الحقيقة لا على المجاز والافتراض والأمل الطوباوي، كل من الحرب أو السلام إذا وقفت وراء أيٍّ منهما إرادة سياسية صلبة ومصممة. فلماذا يبلع الحكام العرب الطعم ويقعون في الفخ دائماً!! ولماذا مازلنا نرى قادتهم كالكرة التي تتقاذفها الأقدام في الملعب، ينتقلون من خندق إلى خندق في التوقيت المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ليحققوا للصهيونية المعادلة التي تعمل على تحقيقها على الدوام؟!
يكفينا أن نبدي دهشتنا البالغة في هذا الشأن عبر توضيح أن كافة الزعماء والخبراء وصناع السياسة العربية، عندما ينتقدون سياسة إسرائيل في فلسطين، أو سياسة الولايات المتحدة في المنطقة –وأن يكن بخجل مدروس تقتضيه الحدود الدنيا لتَصَنُّع العروبة ولادعاءات الانتماء إلى الإسلام – إنما يحاولون تأسيس انتقادهم لهما على قاعدة أن سياستهما لا تخدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي فهي سياسات تصب ضد إسرائيل والولايات المتحدة وضد مصالحهما الإستراتيجية، وأن على هاتين الدولتين أن تَعِياَ هذه الحقيقة قبل أن يفوت الأوان. ومع أن تل أبيب وواشنطن لم تعياها أبداً على ما بدا ويبدو من وجهة الصراع، فإن الأوان الأمريكي والإسرائيلي لم يفت حتى الآن.
إن هؤلاء جميعاً –مع شديد الأسف – يعتقدون أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تريدان أن يسود الاستقرار في المنطقة، ولكنهما لا تعرفان كيف يمكن أن يتحقق ذلك(!!!). وكأن ستين عاماً من الصراعات والدماء والحروب والهدر في الثروة والتراجع في التنمية والحريات العامة وحقوق الإنسان والانحدار في الثقافة، لم تكن كافية كي نعرف جميعاً أن اللاإستقرار الذي هو نتاج حالة اللاحرب واللاسلم هو المطلوب إسرائيلياً وأميركياً!! هذا مع الافتراض المجدد لحسن النية لدى الحكام العرب، وهو ما سنكشف بعد قليل عن أنه وهم، لأنهم شركاء فعليون في المؤامرة وفي اللعبة، من منطلق كونها لعبة تخصهم بوصفهم جزءا لا يتجزأ من منظومة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي إلى جانب إسرائيل التي تمثل الجزء الآخر منها.
في ضوء ما تقدم نستطيع أن نؤكد على حقيقة غاية في الأهمية مفادُها أن حسم الصراع مع إسرائيل وتحقيق السلام الحقيقي العادل والشامل الذي يطمح إليه حتى أولئك الذين يودون الاعتراف بإسرائيل كجزء لا يتجزأ من هذه المنطقة، ليس مرهوناً ولن يتحقق بما يسمى بضرورة تنازل العرب والتعامل مع حقائق المرحلة لإرضاء إسرائيل والولايات المتحدة، كي تقبلا بتحقيق هذا النوع من السلام. فمهما كان حجم التنازل، فإن سقفه سيكون حتماً أعلى من سقف العروض الإسرائيلية، لتستمر المعادلة المسخ المذكورة. ولكن إذا لم يكن التنازل هو الفيصل في حَسم الصراع كما يتم الترويج له، فأين يكمن الحل؟!
إنه في القدرة على فرض سقف المطالب مهما كان متدنياً. وهذه القدرة تتحقق بالرغبة في فرض ذلك السقف. الرغبة فقط. أي في توفر الإرادة السياسية لذلك، وفي التصميم عليها. وأما ما بعد ذلك من متطلبات وإجراءات وأفعال لتحقيق هذا السقف، فإنه يأتي لاحقا. إن من قرر تحقيق إرادته السياسية فإنه لن يعدم الوسيلة، خصوصا أنه صاحب حق. لكن من لا يمتلك تلك الرغبة، ولا اتخذ ذلك القرار، أيا كان سبب عدم الاتخاذ، فإنه سيخلق كل الأعذار والمبررات لتبرير تقاعسه وعجزه وتسويفه، إلى أن يربكه الحرج مع شعبه ويمزقه الخوف من حراكه المرتقب، فتساعده الإمبريالية بخلق حقائق جديدة في المنطقة يتلهى بها هو وشعبه وجيرانه جيلا قادما من الزمن.
لا قيمة موضوعية لمطالب ذات سقف عالٍ، نفتقر إلى القدرة على تحقيقها، أو إلى الرغبة في خوض معركة تحقيقها إلى النهاية. ولا خوف من سقف مطالب متدنية، إذا تم امتلاك القدرة على تحقيقها، أو الرغبة في خوض معركة تحقيقها إلى النهاية. بل لعل من يفهم اللعبة في المنطقة جيدا، ويمتلك القدرة على تحقيق مطالبه فيها، فإنه يَرْفِدُ قوته العسكرية القادرة هذه، بقوةٍ إعلامية وقانونية ودبلوماسية قائمةٍ على تخفيف حدة مطالبه، كي يحقق كل شيء في النهاية. ولعل هذا ما كانت تفعله إسرائيل دائما في معاركها مع العرب، فهي دائما، الضعيفة والمعتدى عليها وصاحبة المطالب الدنيا أمام العالم، رغم أنها قادرة على أن تفعل ما تريده.
ليس البطل العظيم فينا من يرفض التنازل عن شبر من فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وهو عاجز عن مواجة جندي إسرائيلي. وليس الخائن المتخاذل هو ذلك الذي يتنازل عن الجزء المحتل من فلسطين عام 1948 رغم أنه يقاتل حتى النهاية وبقوة خارقة كي يسترد ما احتل منها عام 1967. فقد فعل شيئا شبيها بذلك قبل ألف عام، البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي الذي نتغنى به ليل نهار مترقبين عودته في زمان الأقزام هذا. لأن القدرة اللازمة لاستعادة شبر واحد من الأرض العربية من إسرائيل بشكل حقيقي، وفي سياقٍ موضوعي لتفريغ المشروع الصهيوني "إسرائيل" من مقومات صهيونيته واستعماريته، هي ذاتها القدرة اللازمة لاستعادة كامل الأراضي العربية المحتلة بالشكل نفسه. لا بل إن حجم الإرادة المطلوبة في الحالتين واحدة. إن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي هي التي تفرض هذه القاعدة القانون الذي بدون خوض الصراع على أساسها، فإن الصراع يكون مُخاضاً بالطريقة الخاطئة، ولا قيمة بالتالي لأية نتيجة من نتائجه. ولا معنى من ثم لحجم المطالب، فسواءٌ هي، صغيرة كانت أم كبيرة، أي سواءٌ أن نطالب بكل فلسكين أو بأقل من ضفتها الغربية.
خلاصة القول، إن استمرار إسرائيل كدولة صهيونية تمثل مشروعا استعماريا يعتمد على توازنٍ مهزوز، يستند إلى شروط ثلاثة..
الشرط الأول.. الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية في المجتمع الإسرائيلي عبر تحقيق عدة أمور أبرزها المناداة الدائمة بوجود تهديد خارجي من الدول العربية المتاخمة، وبشن الحروب الإجهاضية والاستباقية والتصفوية لإثبات قدرة الجيش الإسرائيلي على سحق عظام العرب.
الشرط الثاني.. الحفاظ على رغبة يهود العالم في العودة إلى فلسطين أو على الأقل على رغبتهم في استمرار وجود دولة يهودية تكون عند الضرورة ملجأً لهم، يهربون إليه من اللاسامية التي يُرَوج لها في أماكن إقامتهم لتحفيز هذا الإحساس بالخطر الدائم لديهم.
الشرط الثالث.. المساندة غير المشروطة التي تقدمها الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية لإسرائيل.
فإذا فقدت إسرائيل أياً من هذه الشروط فمن المحتمل أن تعجز عن الاستمرار في البقاء كدولة على النحو الذي رُسم لها بموجب المخطط الصهيوني. لذلك فإن المخاطر الرئيسية الحقيقية التي تتهدد استمرار التجمع الإسرائيلي الصهيوني، تتمثل في اندماج اليهود التام بشعوب الأقطار التي يعيشون فيها خارج إسرائيل، وفي توفر الظروف الإقليمية والداخلية التي تؤجج التناقضات الداخلية في التجمع الإسرائيلي الصهيوني، لجعله يبدأ بالتحول إلى مجرد تجمع يهودي، تمهيداً لتحويله إلى مجرد عدد من اليهود المقيمين على أرض فلسطين.
ولا يمكن لهذين الأمرين أن يحدثا إلا بقيام سلام حقيقي في الشرق الأوسط، أياً كان سببه والدافع إليه والقوة المؤدية نحوه والإزاحات المرافقة له في تشكيلة الخرائط الجيوسياسية والجيوصراعية في المنطقة، سواء كانت حرباً مدمرة تهزم إسرائيل ومن يقف وراءها، أو ضغطاً على حلفائها بشكل يدفعهم إلى إجبارها على قبول السلام العادل والشامل، أو تطورات وتغيرات في داخل التجمع الإسرائيلي وفي تكوينه السيكولوجي سالف الذكر، بحيث يُصبح هذا التكوين منسجماً مع منطق السلام العادل، ومُهَيئاً لقبول فكرة تَحَوُّل الإسرائيليين الصهاينة إلى يهود عاديين يعيشون في المنطقة مع جيرانهم العرب. أو – وهذا ما نظن أن المنطقة تُعد وتُجهز له – خلق الظروف الإقليمية المواتية لإجراء عملية ترحيل إستراتيجية عميقة في مبررات الصراع الدافع إلى حالة اللاحرب واللاسلم الأبدية في المنطقة، والذي من شأنه الإبقاء على التشرذم والتخلف العربيين قائمين ومستمرين بما يساعد على استمرار الحالة العربية على ما هي عليه، ولكن من خلال انبثاق ساحة صراع جديدة بديلة وإن يكن جزئيا لساحة الصراع العربي الإسرائيلي، هي – على ما يُتوقع – ساحة الصراع العربي الإيراني، التي نرى الولايات المتحدة والحركة الصهيونية وأنظمة التجزئة الرغالية تعد لها العدة اللازمة لتسود المنطقة جيلا قادما من الزمن.
إن ما جرى في العراق منذ عام 1990، وما يُعد لاحتواء مستقبله في ظل تنامي الدور الإيراني المرتكز إلى طموحات بعضها مشروع وبعضها قد لا يكون مشروعا، ربما يصلح خلال عقد من الزمان أو أقل، أن يكون بديلا تُرحل باتجاهه كل مبررات وأسباب الصراع التي كانت إسرائيل – كمشروع استعماري – تقوم بها، وهو ما يمكن أن يدفع بالقائمين على رسم خرائط المنطقة إلى تخفيف العبء عن الساحة التي كانت ولازالت مسرحا للصراع العربي الإسرائيلي. ولا يخفى على نبيه حجم التغاضي والتنازل اللذين سوف يحدثان على جانب الخليج العربي – الفارسي – من المستقبل المرتقب للصراع، بشكل يساعد على رفد مشروع المرحلة المقبلة بكل عناصر التَّولد والتَّخلق والنماء، إذا ما شهدت المنطقة انفراجا حقيقيا في ساحة الصراع العربي الإسرائيلي!!!
في المدى المنظور لا يبدو أن أياً من الأسباب المذكورة سابقا قد يتحقق، إلا السبب الأخير المشار إليه باعتباره يمثل عملية إزاحة في الصراع الإستراتيجي في المنطقة، ليغدو الصراع الأساس هو الصراع العربي الإيراني، بدل أن يكون هو الصراع العربي الإسرائيلي..
فلا هناك إرهاصات بحربٍ قريبة قادمة تهزم إسرائيل ومَنْ وراءَها، ولا يظهر النظام العربي مستعدا لبذل الجهد اللازم، وإن يكن على صعيد الإعلام على الأقل، لإحداث التغيير المطلوب في التكوين السيكولوجي للتجمع الإسرائيلي. هذا إذا سلمنا بأنه يأخذه مأخذ الجد أساسا، كعنصر من عناصر فهم العدو، أو كمُقَوِّمٍ من مقومات رسم الخطط لمواجهته في هذا الصراع الأزلي، فيما تبدو إرهاصات عملية الإزاحة واضحة للعيان من خلال ما تشهده الملفات العراقية والإيرانية من عمليات تسخين وتوجيه مدروستين من قبل كل من الولايات المتحدة وإيران على حد سواء.
ولذلك فإن حالة اللاحرب واللاسلم على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي ستستمر، والسيكولوجية العسكرية القائمة على محورية عنصر الحرب من أجل المحافظة على معادلة التوازن بين التهديد والتفوق وفق الرؤية الصهيونية، ستستمر في تحقيق غاياتها وأهدافها، إلى أن تكتمل عناصر التوجيه المحكمة لملف ساحة الصراع العربي الإيراني الذي سيبلع العرب فيه الطعم مجددا، بعد أن يقبلوا بأن يكون العراق هو فلسطين الجديدة، وبأن تكون إيران هي إسرائيل الجديدة.
وكل ذلك اللعب بهذا الوطن المثخن بالجراح سيستمر إلى أن تظهر الطائفة أو الفئة أو الحركة التي تؤمن بهذه المعادلة وبهذه الأبعاد للصراعات المستفحلة في المنطقة في إطارها الكلي، وتعمل على حل التناقضات الحقيقية بالشكل الصحيح، رغم أنف الأنظمة العربية ورغم أنف العلاقات الإمبريالية في المنطقة، أيا كانت، عربية أو إسرائيلية أو إيرانية.
إن المنطقة المشرقية من الوطن العربي مقبلة على مرحلة من تاريخها شبيهة تماما بتلك التي كانت تمر بها عشية ظهور الإسلام في غرب جزيرة العرب. أمة مقسمة ومجزأة ومتناحرة. هلال خصيب من أراضيها يرزح تحت نير الاحتلالين الفارسي شرقا والأوربي الرومي البيزنطي غربا. ثقافة وثنية متخلفة يبحث رافضوها والثائرون عليها عن بصيص نور ينقذهم وينقذ أرضهم وينقذ العالم بهم، ما لبث أن جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، لا ليحرر العرب فقط، بل ليغير وجه الحضارة الإنسانية بأكملها.
وإذا كانت العروبة التائهة والضائعة بين ثلاث أعداء كانوا ينخرون فيها عشية ظهور الإسلام، هم الفرس والروم والتيه الثقافي، قد مثلت عند ظهور إرهاصات هذه الثقافة الجديدة قَدَر العالم ومُحَرِّرَه الأعظم، رغم كل الهنات والزلات والعثرات التي شهدتها مسيرة التحرير التاريخية، فليس أحوج من العالم اليوم إلى هذه العروبة الثائرة النازعة إلى التحرر وتحرير الآخر، لتكون قَدَره الجديد، إذا تمكنت بطبيعة الحال من أن تنير طريق الثورة العالمية بإعادة بناء الإسلام المفترى عليه والمستخدم من قبل كل الأقزام وشذاد رعاة الإبل من وثنيي هذا العصر وسفهائه ورغالييه أداة للتخلف والانحدار بدل أن يكون أداة للثورة والتحرر والانطلاق، ليثور عليهم قبل أن يثور على غيرهم.
نستطيع القول في هذا السياق، أن مشكلة "مقاومة العرب لإسرائيل" أو لغير إسرائيل إذا اقتضى الأمر، تكمن لا في أن بدايتها سوف تخلق لدى الإسرائيليين حالة من التوحد والاصطفاف التي يكون واقع التجمع الإسرائيلي قد بدأ يبحث عنها بسبب تناقضاته ومشكلاته الداخلية التي لا تنتهي، ليجدها في مواجهةٍ محدودة مع العرب هنا أو هناك، في هذا الإقليم أو في ذاك – فهذا أمر طبيعي تتيحه لإسرائيل هذه الأنواع من المواجهات على الدوام – بل هي تكمن في عدم تواصل هذه المقاومة بالشكل الذي يُخرجها من عنق الزجاجة، إخراجاً يُمَكِّنُها من إفقادِ معادلة التوازن السيكولوجي المُعْتَمَدة صهيونيا للحفاظ على هذا الكيان، لدورها في حمايته والحفاظ عليه.
فما من انطلاقة مثيرة للمقاومة أو للمواجهة مع إسرائيل إلاَّ وتنتهي – حسب ما تُعَلِّمُنا إياه الخبرة – إلى تسويةٍ من النوع الذي يُحقق للكيان الصهيوني هدفه من رفع وتيرة التهديد، إلى الحدٍّ الذي يوحد الإسرائيليين الذين كانوا قبل حدث المواجهة قد بدأوا يعانون من اختلالٍ في المعادلة السيكولوجية التي تمثل صمام أمان وجودهم، دون أن تشكل خطرا حقيقيا عليهم.
فالخبرة قد علمتنا أن المواجهة التي يخوضها أي طرف عربي ضد إسرائيل، في لحظات بحث الصهيونية عن مخارج لترحيل مآزقها وأزماتها الداخلية إلى المستقبل، إما أنها تحدث من خارج حدود وعي ذلك الطرف بالطبيعة السيكولوجية لهذا الكيان، ومن خارج حدود المعرفة الدقيقة بما تتطلبه هذه الطبيعة من أشكال محددة ومدروسة من المواجهات زمانا ومكانا، وإما أنها تحدث من منطلقات، يدخل معظمها ضمن دوائر ردات الفعل، وإما أنها تحدث خدمةً لأجنداتِ دولٍ أو تجمعاتٍ أو برامج سياسية معينة، خارج إطار خوض الصراع في أبعاده الإستراتيجية القائمة على مبدأ الاستمرار في المواجهة الطويلة التي من شأنها وحدها أن تعيد بناء المنطقة بالشكل القادر على تحقيق الهدف المتمثل في القضاء على المشروع الاستعماري "إسرائيل". وأنها إذا حدثت في سياق الصيرورة الطبيعية التي تُعبر عن متطلبات المنعطفات التاريخية الكبرى التي تمر بها الأمة، فإن مؤامرات "الرغاليين الجدد" عليها لتفريغها من مضمونها التاريخي والجماهيري، ومن قوتها الدافعة المهددة للمشروع الإمبريالي "إسرائيل"، تتكالب عليها بكل ما أوتي الرغاليون من قوة. لتكون النتيجة من العمل المقاوم أو من حالة المواجهة تلك، أن الطرف المُقَاوِم لم يحقق هدفه، ولم يترك إسرائيل غارقة في مأزقها الناجم عن اختلال المعادلة السيكولوجية. أو أنه عجز عن الخروج من عنق زجاجة المؤامرات الداخلية عليه. على أية حال، فهذا هو واقعنا حتى الآن على الأقل.
لكننا لا نستطيع بعد هذا التحليل المطول المرور على ما يبدو لنا وكأنه ظاهرة غباءٍ مستحكمٍ في النُّخَب العربية الحاكمة، مرورا عابرا نغمض خلاله أعيننا عن حقيقة هامة، لا يمكننا أن نقرأ غيرها في السلوك السياسي العربي الرسمي. فالساسة الإسرائيليون والصهاينة، ومن وراء الجميع، الساسة والخبراء الأميركيون، ليسوا أكثر ذكاءً وحنكة من نظرائهم العرب، خصوصا بعد أن تعلم هؤلاء ومستشاروهم وخبراؤهم في الجامعات الغربية التي خَرَّجَت خبراءَ وساسةَ الغرب أنفسِهم.
أي أن ما نوهنا إليه هنا بخصوص لعبة اللاحرب واللاسلم، وعدم الحرص الأميركي الصهيوني على الاستقرار أو التسوية الحقيقية في المنطقة، والعمل على تصميم سيناريوهات المواجهة فيها في ضوء الحفاظ على البناء السيكولوجي الإسرائيلي مُوَحَّدا، وفي ضوء الإبقاء على الساحة في حالة اشتعال مستمر، إن لم يكن عبر فلسطين فعبر العراق، وإن لم يكن من خلال الأداة "إسرائيل"، فمن خلال أداة أخرى قد تكون هي "إيران"، أو من خلال الأداتين معا كما هو متوقع في المرحلة المقبلة، هذا إذا لم تقرر إيران أن تتخندق وبلا مساومة في خندق الجماهير العربية ضد الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية بدءا من الساحة العراقية، وليس استثناء لها كما هو ظاهر من سياقات الصراع القائمة في المنطقة في الظروف الراهنة..
نقول.. أن ما نوهنا إليه بخصوص ذلك، ليس اكتشافا خطيرا توصلنا إليه دون غيرنا من باقي البشر. فقراءتنا هذه من المؤكد أنها أبسط وأوضح من أن تكون غائبة عن عقول صناع السياسة ومستشاريهم وخبرائهم في العواصم العربية ذات العلاقة. فلماذا إذن نرى على الدوام اتجاها سياسيا عربيا رسميا معاندا لهذه الحقيقة الدامغة، ومعاكسا لكل دلالاتها، وكأنه اتجاه غائب عن الواقع ومُحَلِّقٌ في عوالم أخرى غير عوالمنا الني نعايشها صباح مساء؟!
لا نملك إلاَّ إجابة واحدة لا يستقيم أمر المسألة ولا أمر احترامنا لعقولنا بدونها. إن الصراع في الوطن العربي، وبالأخص في المنطقة المشرقية منه قائم بين خندقين هما، خندق الجماهير العربية من جهة، وخندق الإمبريالية العالمية من جهة أخرى. ومع افتراض أن الإمبريالية إنما هي عدوة مباشرة لكل شعوب الأرض بمستويات عداء مختلفة ومتبانية، تقتضيها اعتبارات متنوعة ليس هنا مجال ذكرها وتفصيلها، فإن العرب يمثلون رأس الحربة والقاعدة المتقدمة والطليعية لشعوب العالم في هذا الصراع. لكن الإمبريالية تخوض حربها ضد الشعوب العربية حاليا بذراعين أساسيين، ينوبان عنها في أداء المهمة، إلاَّ إذا تطلب الأمرُ حضورَها شخصيا للقيام بها، كما حدث في احتلال العراق، أو إلا إذا تطلب الأمر استبدال ذراع مكان آخر أو استخدامه لرفد الذراع الآخر به، كما يتم التجهيز له الآن، كي تدخل إيران في معادلات الصراع ذراعا جديدا – وإن يكن غير مباشر وبلا تحالفات واضحة ومعلنة – من أذرع الإمبريالية في ظروف يتم التمهيد لها كما هو واضح، إلا إذا غلَّبت إيران، عقيدتها وأيديولوجيتها على مصلحتها القومية ونظرتها البراجماتية الضيقة التي يشهد الجميع لإيران ببراعتها في التصرف وفقها.

أما هذان الذراعان – الحاليان – فهما إسرائيل الاستيطانية من جهة أولى، والأنظمة السياسية العربية من جهة أخرى، كلٌّ بما يتمكن من أدائه، وبما يتناسب مع طبيعته التكوينية في سياق متطلبات المعركة. وهذا هو الأمر الذي يفسر لنا المواقف المتكررة لتلك الأنظمة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي دون كلل أو ملل أو شعور بالخجل. إنها تمارس دورا منوطا بها في الإطار العام لهذا الصراع، ولا تخرج عنه إلا فيما لا يؤثر على مساره الكلي، من تفاصيل تفرضها الصيرورة الطبيعية للأحداث، ومتطلبات الأجندات الهزيلة الخاصة لنظام هنا أو لنظام هناك، بحسب التناقضات التي تفرضها التناحرات العشائرية والطبقية داخليا، أو المشيخية والحدودية الزائفة خارجيا.
أي وبكلمة أخرى فإنها – أي الأنظمة السياسية العربية – وباعتبارها تمثل البرجوازية الرأسمالية العربية في أكثر صورها عفونة وقماءة، تقوم بالدور الإمبريالي نيابة عن المركز ضمن الدوائر التي تستطيع أن تمارس فيها هذا الدور، وهو المتعلق عادة بالشعوب وبضرورة إحكام السيطرة عليها، ولجم اندفاعتها قدر ما تستطيعه. إن هذه الأنظمة ليست من أنظمة الأطراف كما راج في أدبيات الفكر الثوري الذي ساد معظم فترة الحرب الباردة، والذي كان يَعتبر دول العالم الثالث أطرافا، ودول أوربا الغربية والولايات المتحدة مركزا، بل هي مندوبة عن المركز في الأطراف. وبالتالي فإن المعركة التي تخوضها الجماهير العربية هي ضدها بقدر ما هي ضد كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، وإن يكن لأسباب ووفق أجندات وبرامج ذات طبيعة تناسب كونها أنظمةَ حكمٍ تُمارس دورا يختلف في شكله وليس في جوهره عما تمارسه كل من إسرائيل ودول المركز. لا بل إن البرجوازية والرأسمالية الوطنية التي تتخندق في خندق حركات التحرر الوطني، والتي تفرزها فترات الاحتلال عادة، لا تنطبق مواصفاتها على هذه الأنظمة لا من قريب ولا من بعيد.
وفي تبسيط شديد وموضوعي للمسألة نتساءل.. كيف لا يكون إمبرياليا، قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا، نظامٌ عربي يدرك جيدا أن ما يمارسه من سياسات في تعامله مع الصراع العربي الإسرائيلي، هو كذب وتدليس وتزوير، وإضاعة للوقت، وخدمة للمشروع الإمبريالي في المنطقة، وإطالة في عمر إسرائيل، وترحيل لكل المشكلات العربية إلى أجل غير معلوم؟! وكيف لا يُعتبر نظامٌ عربيٌ ماَّ أداةً حقيقية من أدوات الإمبريالية، إذا كان يخلق كل مبررات وظروف عدم المواجهة مع إسرائيل، ويعمل على حراستها وحمايتها بكل السبل، وعلى رأسها برمجةُ الدولة التي يقودها في كل مرافق الحياة لتخدم هذا الهدف، علما بأنه يدرك أن هزيمة هذا المشروع ممكنة، وأن إتاحة الفرصة لخلق هذه الظروف عبر عدم انتهاج تلك السياسات الضارة بدولته وبرعاياها، هو الطريق إلى تلك الهزيمة؟!
ليس من الممكن افتراض أن نظاما سياسيا عربيا ما، هو في وضع تناقض حقيقي مع وجود الظاهرة الإستعمارية "إسرائيل"، دون أن تتولد بينه وبينها حالة من الصراع بمستويات تشير إلى هذا الوضع، ودون أن يبحث هذا النظام عن كل العناصر التي من شأنها مساعدته على تفعيل تناقضه ذاك، وإن يكن بذكاء وحكمة، وبتوفيق بين الإستراتيجيا والتكتيك من جهة أولى، وبين القطري والقومي من جهة ثانية، ودون أن تشير كل سياساته الداخلية والخارجية إلى أنه يعي هذه المسألة ويستعد لها ويتصرف على أساس عمقها ورسوخها في الواقع، حتى لو ظهر حريصا على مزايا ومصالح النخبة التي يمثلها أحيانا، عبر الضغط على الشعب الذي يحكمه من أجل ترحيل كل أو معظم أو بعض حقوقه المدنية والاجتماعية إلى ما بعد حسم النناقض الرئيسي والحقيقي هذا، ودون – وهذا هو الأهم – أن تكون له أجندته الخاصة والواضحة التي تحدد لكل مرحلة من مراحل الصراع إستراتيجياتها وتكتيكاتها، في ضوء معادلات صراع زمانية ومكانية صارمة. ولعل النظام السياسي العراقي السابق بقيادة حزب البعث ورئاسة الرئيس الراحل صدام حسين، كان إلى حد بعيد نظاما من هذا النوع، أو لعله كان النظام العربي الوحيد الذي خاض معركة بناء نفسه وصيرورته الوطنية والقومية في ضوء هذا النوع الواضح وغير الملتبس من الأجندات.
أما أن يدعي نظام عربي ما أن القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية، وأنه يسعى إلى تحقيق ما يدعوه "السلام العادل والشامل" في المنطقة، وإن يكن باعترافه بهذه الدولة التي قامت على الاغتصاب والعدوان، إن هي قبلت بمعادلات هذا النوع من السلام، ويبقى مع ذلك أبعد ما يكون عن وضعِ أجندةٍ واضحة ومحددة المعالم، تتعامل مع البدائل الممكنة، والخيارات المحتملة في كل وجهة من وجهات الصراع المفترضة. ويحاول الترويج لفكرة أن الحل القائم على حسم التناقض مع هذه الدولة بدون حرب أو قتال هو أمر ممكن، وأن مجرد العمل السياسي والمناورات الدبلوماسية المستمرة والمتواصلة إلى الأبد، وعبر استجداء الحلفاء والأصدقاء، ستمارس ضغطا على إسرائيل يدفعها إلى قبول الحل والرضوخ إليه، ويبقى مصرا على ذلك، وقامعا قمعا لا رحمة فيه كل مواطن يفكر بغير هذه الطريقة رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمان، أوضحت فيه إسرائيل أنها لا تريد سلاما لا عادلا ولا ظالما، ولا هي على استعداد للتورط في حل يعيد ولو جزءا يسيرا من الحقوق لأصحابها، بينما هو – أي النظام العربي محل التساؤل، وكل الأنظمة العربية هي في هذا السياق محل تساؤل - يعلن الحرب الإعلامية والفكرية والأيديولوجية على إيران، بصفتها عدوا محتملا في المستقبل، ويشن هجوما على برنامجها النووي السلمي، لم يشن مثيلا له على السلاح النووي الإسرائيلي، وذلك باعتباره برنامجا يشكل خطرا على الأمة العربية تحديدا، لمجرد أن الولايات المتحدة وإسرائيل تريان فيه ذلك، وتريدان من حلفائهما أن يمارسوا سياسات تخدم رؤيتهما..
نقول.. أن نرى نظاما سياسيا عربيا يدعي ذلك، محاولا إقناعنا بأن الأمة العربية ضعيفة وعاجزة وغير قادرة على مواجهة إسرائيل وحلفائها المواجهة العسكرية الحاسمة التي من شأنها أن تعيد الحقوق، في حين أنه يعبئ الأمة لتخوض كل أنواع الصراع مع إيران تحت لافتات وعناوين أكل الدهر عليها وشرب، مؤكدا أن تاريخ إيران أثبت أنها لا تتراجع عن أجنداتها وطموحاتها المذهبية والقومية المتناقضة مع حقوق العرب، ويبشرنا مع ذلك بأن هذه حقوقنا التي تغتصبها إسرائيل ستعود بالحنكة السياسية وبالدبلوماسية، في قفزٍ صارخ على كل حيثيات الصراع التي أثبتت وما تزال تثبت أن الضعيف الذي لا يستطيع أن يفرض الحقائق على الأرض بالقوة، هو كاذب في ادعائه أن بالإمكان تغيير الحقائق بالاستجداء.. إن نظاما كهذا، من غير المسموح به وطنيا التعامل معه باعتباره متخندقاً في الخندق المعادي لإسرائيل وللعلاقات الإمبريالية في الوطن العربي. بل باعتباره جزءا من تلك العلاقات، ومتخندقا في الخندق الإمبريالي الإسرائيلي ذاته.
ولكن كيف يمكننا تشخيص وتحليل التناقض بين الجماهير العربية والإمبريالية العالمية بشكل يكشف لنا عن الجوهر الإمبريالي للأنظمة السياسية العربية الرئيسية والفاعلة؟!
يقوم التناقض الأساسي في الوطن العربي بوجه عام، بين الجماهير العربية التي تسعى إلى تحرير أراضيها، وإلى تحقيق وحدتها، وإلى بناء مجتمعها التقدمي والمتطور والحر، وبين القوى الإمبريالية التي تحتل أراضيها وتنهب خيراتها، وتُعَمِّقُ سياسات التجزئة فيها، بالوكالة حينا وبالأصالة حينا آخر، مُمارسةً عليها بذلك هجمة شرسة متعددة الأطراف والجوانب لتحقيق تلك الغايات والأهداف. الأمر الذي يجعل هذا التناقض، تناقضا ذا طبيعة عدائية عميقة المعاني والدلالات، وذلك بصرف النظر عن مستوى العداء الكامن في أنماط الفعل المُتَّجِه نحو تعميق هذا التناقض في كل مرحلة من مراحل صيرورته، وبصرف النظر عن شكل الفعل المضاد المُتَّجِه نحو حل هذا التناقض.
إن تحديد ما الذي تريده الإمبريالية من بلادنا، أي تحديد جوهر التناقض، هو الذي سيساعدنا على تحديد كيف تتواجد هذه الإمبريالية في بلادنا، أي على تحديد مظاهر هذا التناقض. إن طبيعة الإمبريالية بوصفها مرحلة متقدمة من مراحل سيطرة رأس المال الاحتكاري، انتقلت به من محدودية السوق القطري والإقليمي، إلى لانهائية السوق العالمي والكوني، هي التي ستحدد على وجه الدقة ما الذي تريده من بلادنا العربية. إن جوهر التناقض بين الإمبريالية العالمية وبين الشعوب العربية، هو ذاته جوهر التناقض بينها وبين كل شعوب الأرض الأخرى، والاختلاف لا يكمن في الجوهر بل في المظاهر، أي في تجليات الجوهر وفي طريقة طَفْوِ مكوناته على السطح.
إن رؤيتنا لاختلاف مظاهر التناقض التي تثيرها الإمبريالية بوجودها من منطقة لأخرى ومن شعب لآخر، لا يجوز أن تعمينا عن حقيقة وحدانية الجوهر، الراجع أساسا إلى وحدانية الإمبريالية وأهدافها وغاياتها على الصعيد العالمي. إن قوما خلطوا بين الجوهر والمظهر، فاعتبروا أن الاختلاف إنما هو بين طبيعة التناقض الإمبريالي – العربي، وطبيعة التناقض الإمبريالي – غير العربي، من حيث المبدأ، ليستنتجوا عدم صحة محاولات التشبيه واستنباط العلاقات والقوانين العامة. وهذا غير صحيح لأن فيه خلطا بَيِّنا بين الجوهر والمظهر.
إن جوهر التناقض بين الشعوب العربية وبين الإمبريالية، هو تناقض بين مستغِلين ومستغَلين. فهذا هو جوهر الصراع في العالم، كل العالم. أي أن التناقضات، كل التناقضات القائمة في العالم بين الشعوب الضعيفة (النامية) وبين الإمبريالية، وحتى على صعيد التنافس الحاد بين فصائل الإمبريالية ذاتها، محكومة بقانون الصراع حول المصالح الاقتصادية التي تعكس معنى الاستغلال والظلم الاجتماعيين. وإن كل ما نراه من اختلافٍ شكلي في التناقضات، ومن تنوعٍ في صورِ تَجَلِّيها على سطح التفاعلات السياسية، إنما هو اختلاف في المظاهر التي يفرضها التناقض الأساسي، نتيجة للاختلاف البيئي والإستراتيجي والتاريخي والثقافي، الآجل والعاجل، بين مختلف المناطق التي يدور فيها الصراع لحل هذا التناقض.
إن مظهر التناقض يعني كيفية تَجَلِّي الجوهر. وبكلمة أخرى هو الصورة أو الشكل أو الهيئة التي يتم التعبير عن الجوهر بواسطتها. فالجوهر قد لا يكون ظاهرا. بل إن من متطلبات المواجهة التي يثيرها التناقض القائم بين الإمبريالية وبين الشعوب، أن تحرص الأولى على إخفاء الجوهر الحقيقي لها، وأن تحرص الثانية على إظهار هذا الجوهر وتجليته لأسباب نضالية. ففي الكثير من بؤر التناقض في العالم، نلمس حرص الإمبريالية على تغطية الجوهر ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، مُدَّعِيَةً جواهر أخرى للتناقض إسهاما منها في تأجيل تأجيج الصراع ضدها، أو حرصا منها على حُسْن التعبئة المطلوبة لتفعيل خندقها في مواجهة الخندق المعادي. لذلك لم يكن غريبا في ضوء هذه الحقيقة، أن تدعي الولايات المتحدة على الدوام، خاصة أمام الشعب الأميركي والشعوب المتحضرة الأخرى، أنها تحتل وتقوم بالأعمال الحربية الاستباقية، دفاعا عن حقوق الإنسان هنا، ومحاربة للإرهاب الذي يهدد العالم الحر هناك، وبحثا عن أسلحة خطيرة يمتلكها حاكم أرعن في مكان ثالث.. إلخ.
إن جوهر التناقض في الوطن العربي يفرض طرفين جوهريين، هما الإمبريالية والشعوب العربية. وإن مظاهر التناقض تفرض أطرافا مظهريين، هم في ساحة الصراع الراهنة، كل من إسرائيل والأنظمة السياسية العربية، "الرغاليون الجدد" من جهة، وقوى الشعوب الطليعية الفاعلة من جهة أخرى. وقد تنضم إيران إلى قائمة أعداء الأمة من مكوني الخندق الجوهريين والمظهريين في آن معا، فيما ترهص به الأحداث التي بدأت ترسم المعالم الأولى لخرائط مستقبل ساحات الصراع في المنطقة كما بينا فيما مضى، إذا لم تختر إيران خندق الشعوب العربية بوضوح لا جلاء فيه ولا غموض.
وإيران إذ تمثل من جهة أولى – هذا أذا افترضنا أنها مثلت – عدوا مظهريا في الصراع، فلأنها ترفد العدو الجوهري الأساس (الولايات المتحدة) وتنفذ خططه، بسبب تقاطع الأجندات وليس بالضرورة بسبب التحالفات والشراكة المباشرة في الخنادق، فهذا ما لا يقول به عاقل في ضوء حقيقة التناقض بين الأجندة الإيرانية والأجندة الأميركية في المنطقة العربية والإسلامية عموما. وهي إذ تمثل من جهة ثانية عدوا جوهريا فلأنها في حد ذاتها قوة إقليمية صاعدة مستقلة وطموحة، لها بعض مكونات الأجندة الخاصة المستقلة استقلالا تاما عن فكرة ارتباطها بالإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة، خلافا لإسرائيل التي لا تستطيع أن تمارس أي سلوك سياسي أو عسكري يتعلق بأجندتها الخاصة، وعلى نطاق واسع، خارج حدود كونها مشروعا إمبرياليا استعماريا، يعمل بالتحالف والتنسيق والتخندق الكامل لتنفيذ الأجندة الإمبريالية، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
إن وجودَ أطرافٍ جوهريين وأطرافٍ مظهريين للتناقض القائم بين الشعوب العربية والإمبريالية يفرض نفسه على تصورنا لمنطق الصراع الذي سيُخاضُ لحل هذا التناقض. فمعاداة الأطراف الجوهرية بعضها للبعض الآخر، هي البعد العميق للصراع وللمعركة. والمعاداة بين الأطراف المظهريين، هي إسقاطات لذلك البعد على الواقع. وبالتالي فالصراع بين الأطراف الجوهرية للتناقض يندمج اندماجا كليا في حيثيات الإستراتيجيا التي يجب أن تخدمها وتُوَظَّف لها كل الإمكانات. وهي من هنا غير قابلة للتعديل في هدفيتها وفي طبيعتها الإستراتيجية، إلا إذا قبلنا بفكرة أن أحد الطرفين الجوهريين سيقبل بالانتهاء والذوبان. أما الصراع بين الأطراف المظهرية، فيعتبر بالنسبة للصراع بين الأطراف الجوهرية بمثابة التكتيك بالنسبة للإستراتيجيا.
إن هذا التصوير الموضوعي لطبيعة العلاقة الميدانية بين صراع الأطراف الجوهرية وصراع الأطراف المظهرية، يجد حلوله في أرض الواقع على شكل ممارسات تنطبق عليها بدون تحفظات مفاهيم الإستراتيجيا والتكتيك. وإن كون الصراع المظهري تكتيكا بالنسبة للصراع الجوهري، فإن هذا يعني ما يلي..
- لا توجد صورة جامدة واحدة متزمتة لخوض الصراع بين الأطراف المظهرية. بل إن هذا الصراع يتخذ أشكالا مفتوحة على كمٍّ من التنوع، قد يُظهِر الأفعالَ متعارضة أحيانا. كل ذلك استجابة للواقع ولمتطلباته. فليس بالضرورة أن يُخاضَ الصراع المظهري بالعنف دائما، أو بالممارسات السلمية دائما. فقد تستلزم مرحلة من مراحل صيرورة الصراع، خوضَه بالعنف. وقد يتخذ العنف أشكالا مختلفة. وقد تستلزم مرحلة أخرى خوضَه بالأساليب السلمية التي لها مستويات متباينة ومختلفة أيضا. وقد تستلزم مرحلة ثالثة خوضَه على جبهتي السلم والعنف معا.. إلخ.
- إن كل طرف جوهري من أطراف الصراع يُفْرِز طرفا مظهريا أو أطرافا مظهريين، يخوض من خلاله أو من خلالها هذا الصراع. فإذا كانت الإمبريالية قد أفرزت "النظام الرُّغالي العربي" من جهة، و"إسرائيل" من جهة أخرى في المرحلة الراهنة التي نشأت منذ أكثر من ستين عاما، فإن الجماهير العربية لابد أن تُفْرِز القيادة الثورية أو التنظيم الثوري الطليعي الذي تخوض به ومن خلاله صراعها لحل تناقضها مع الإمبريالية.
- إن التناقض الجوهري قد يُحْسَم بصورة تلقائية نتيجة حسم مظاهره ومُجَلِّياتِه، وقد لا يُحْسَم إلا بخوض الصراع مباشرة مع الجوهر المضاد، الذي هو الإمبريالية نفسها ممثلة في رأس حربتها الولايات المتحدة. ولقد أثبتت مهام إسرائيل والأنظمة الرغالية في المنطقة، أن الوكلاء ماداموا يقومون بالمهام المنوطة بهم على أكمل وجه، فإن الأمر لا يستدعي حضور المركز ليتولى المهمة الشاقة بنفسه، كما اضطر أن يفعل عندما جاء إلى العراق بعد أن لم يعد يطمئن إلى إمكان تحقيق نتائج فعالة وحاسمة إذا أوكل مهمة إسقاط النظام العراقي إلى وكلائه الإقليميين، بمن فيهم إسرائبل نفسها. إن هذا يعني أن الخُطَّة توضَعُ مُصَوِّبَةً الهجوم نحو الجوهر عبر المظهر، مع الاستعداد الكامل عندما ينهار المظهر، لمواجة الجوهر نفسه، إذا قرر – وهو غالبا ما يقرر – أن يحضر بنفسه لتولي المهمة الصِّدامية، عندما تحول الظروف السياسية والتكوينية لوكلاء الرأس الإمبريالي بحكم طبائع الأمور بينهم وبين أن ينفذوا المهام الإمبريالية نيابة عنه. وعلى العموم فإن تضافر النتائج الإيجابية على صعيد البعد التكتيكي للصراع هو الذي سيصوغ البعد الإستراتيجي له. أي أن التناقض الجوهري سينتهي أو أنه على الأقل سيخفت ويصبح سهل الحسم، بانتهاء مظاهره وليس العكس. وهو الأمر الذي ليست له إلا دلالة موضوعية واحدة، هي أن المعركة يجب أن تُوَجَّهَ ضد الولايات المتحدة، عبر تَوَجُّهِها ابتداءً ضد "إسرائيل" وضد "النظام الرغالي العربي". أما أشكال الصراع التفصيلية عندما تدخل إيران على ساحة اللعب عنصرا مظهريا وجوهريا في آن معا، هذا إن دخلت، فلا نستطيع التنبؤ بها الآن، لأن لها ظروفها التي ستحكمها والتي ستفرضها تداعيات وتطورات الصراع آنذاك.
- إذا كانت الإمبريالية كطرف جوهري في الصراع، تُعَدِّلُ خطَّتَها باستمرار في معركتها ضد الشعوب العربية، من الدعوة إلى مجتمعات ديموقراطية على الطريقة الأميركية، إلى الدعوة إلى شرق أوسط جديد، مرورا بالدعوة إلى شرق أوسط كبير. ومن الهجوم العسكري الواسع النطاق حينا، إلى دفع الوكلاء إلى قصقصة أجنحة المتمردين حينا آخر.. إلخ.. نقول.. إذا كان الطرف الجوهري يفعل ذلك، فمن الطبيعي أن تُعَدِّلَ الشعوب العربية خطتها وفق ما يمليه عليها الواقع المتغير باستمرار. إن الصراع في حد ذاته عمل سياسي، والعمل السياسي لا يعرف الثبات. إنه تصرُّفٌ بحسب ما يمليه ما استجد في الواقع.

الفصل الرابع
البعد الهجومي المُقاَوِم في كافة قضايا التَّحَرُّر العربي

عندما نبادر إلى معالجة الواقع العربي المريض، فإن احتمالين اثنين ينبثقان عن هكذا مبادرة لهما طابع العمومية. فالأمراض التي تصيب الجسد في الوقت نفسه – كما هو واقع الجسد العربي الكبير المثخن بدمامل القيح هنا وهناك – إما أن تكون أمراضا متكاملة، وإما أن تكون أمراضا منفصلة. أي إما أن تكون أمراضا يكرِّسُ بعضها البعضَ الآخر، تأثُّراً وتأثيرا، وإما ألاَّ تكون كذلك.
إن العلاج الذي سنعطيه للجسد الاجتماعي المريض إذا لم يأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة في طبيعة الأمراض، لن يكون هو العلاج الناجع، بل سيكون علاجا متخبطا لا أساسَ سليما له في سُلَّمِ المرجعية المتعاملة مع الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية. فعندما تكون الأمراض أمراضا متكاملة، أي عندما لا يمكن الشفاء من أحدها بانعزال عن الشفاء من الأمراض الأخرى، فإن محاولة تخليص الجسد من أحدها بالتركيز عليه وإهمال ما سواه، هي محاولة قاصرة، لأن المرض الذي تم التركيز عليه مرتبط في وجوده واستمراره بالأمراض التي قمنا بإهمالها أو بتأجيلها إلى حين على الأقل. وفي مثل هذه الحالة، فإن الحالة المرضية ستزداد تفاقما، لأننا في واقع الأمر نهدم من جانب ما بنيناه في الجانب الآخر. ناهيك عما يعنيه تجاوز وإهمال وتأجيل المرض المؤثر والمساعد، من دفعه إلى أن يشمل كامل الجسد، وإلى أن تتفاقم فاعليته في رفد المرض الذي انكببنا على علاجه، بعوامل وأسباب ومقومات الديمومة والبقاء.
أما إذا كانت الأمراض أمراضا منفصلة – أي أن لكل مرضٍ واقعه المستقل تأثُّراً وتأثيرا عن الأمراض الأخرى التي يعاني منها الجسد – فإن الحديث عن العلاج التدريجي لكل مرضٍ على حده، قد يجد له مكانا معقولا في خطة العلاج، نظرا لأن التركيز على مرض من تلك الأمراض، قد يؤدي إلى إنهائه حتى لو لم نُعِر إلتفاتاً للأمراض الأخرى، لأننا نقول أنها ليست ذات تأثير وجودي أو ديمومي عليه. وحتى في مثل هذه الحالة فليس بالضرورة أن لا يتم اللجوء إلى العلاج المتكامل، إذا تمكنا من ممارسته، إلاَّ إذا كان علاج مرضين منفصلين في الوقت ذاته من شأنه أن يخلق مضاعفات جانبية لها تأثير مرضي يُعتبر تَجَنُّبُه أكثر فعالية في الخطة العلاجية من علاج هذين المرضين معا وفي الوقت ذاته.
وعلى صعيد الوطن العربي فإن تشكيلة كبيرة من الأمراض يمكن استقراء نَخْرِها في جسد الأمة. فإذا كان الاحتلال الصهيوني يُفرز في واقعنا العربي ظاهرة مرضية فريدة من نوعها، فإن الإفرازاتِ الميدانية للنظام "الرُّغالي" العربي متجذرةٌ في هذا الوطن، مربكةً توازنه بعدد كبير من الأمراض التي تعمل فيه تمزيقا واستنزافا، كإهدار ثروات الأمة فيما لا يخدم نموَّها ومصالحَها الحيوية وتقدمَها ورفعتَها ونهضتَها عموما، وكتفشي الثقافة الاستهلاكية الوضيعة التي خلفتها لنا الرأسمالية الاستعمارية عبر تصديرها لنا من خلال مختلف أذرعها في المنطقة، خاصة منذ مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكالإسهام في التَّشَتُّت الأيديولوجي المُفْعَم بالضبابية واللاوضوح لدى كل فصائل الحركة الوطنية العربية، وكالدفاع المستميت عن الفهم السلفي التقليدي الجامد للإسلام وعدم إتاحة الفرصة لإدراك جوهر فعاليته وقدرته على حل مشاكل البشرية وتحرير الشعوب الرازحة تحت نير الظلم والعبودية، ناهيك عن مشاكل العرب والمسلمين، وكالانفلات الفكري الغالب على العديد من القوى المثقفة العربية لهاثا وراء كل ما هو شرقي أو غربي على عِلاَّته، وكاختلاق التعارض التاريخي المفتعل بين عالمية الإسلام وبين خصوصية القومية العربية، أو بين عدالته وعدالة غيره من النظم التي ابتدعها البشر في تاريخ النضال الإنساني الطويل من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وكحدوث الثغرة الكبيرة والمستمرة بين النظرية والتطبيق في واقع التجربة الحياتية للمسلين، أفرادا وجماعات وشعوبا ودولاً، وكالافتقار إلى منظومات معرفية فلسفية واجتماعية قادرة على تَفَهُّم الواقع العربي وعلاقته بالواقع الدولي كما يفرض هذا الواقع نفسه، لا كما تُعَشِّش صورته الوهم في عقول من نَصَّبوا أنفسهم أوصياءَ ثقافيين أو سياسيين أو دينيين على هذه الأمة.
إن وطناً هذا واقعه المرضي إن لم يكن هذا مجرد جزء يسير من واقعه، يكون من السَّخَف الحديث عن أمراضه دون أخذ مبدأ التكامل والانفصال بين الأمراض الاجتماعية بعين الاعتبار. فهل أن أمراض الوطن العربي هذه هي من النوع المتكامل أم من النوع المنفصل؟!
إن دراستنا المعمقة لجوهر ومظاهر التناقض في الوطن العربي، تؤدي بنا حتما إلى التأكيد على أن معظم الأمراض التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي إفرازات طبيعية ومفهومة لمظاهر التناقض الرئيسي فيه. إن جوهر التناقض اقتصادي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، منذ الحروب الصليبية وفشلها المعروف في تحقيق أغراضها. وهذا الجوهر يتجلي حاليا من خلال مظهرين هما "إسرائيل الصهيونية الاستيطانية" التي أُريدَ لها أن تقوم مقام احتلالٍ استعماريٍّ تقليديٍّ لم يكن ليقدر لو انْتُهِجَ نهجا استراتيجيا للهجمة الجديدة على الوطن العربي، على تحقيق الغرض منه على المدى الطويل. إضافة إلى "الاحتلال الاقتصادي غير المباشر" الذي تتزعمه أنظمة التجزئة السايكسبيكوية التي يحكمها "الرغاليون الجدد"، بارتباطاتها الرأسمالية المختلفة داخليا وخارجيا. إن هذه المظاهر تنعكس على الصعيد التفصيلي في شكل أمراض عديدة ومتنوعة، تصور لنا مختلف المشاكل الجزئية المُفْرَزَة من المظاهر المُجَلِّيَة للجوهر، كتلك التي ذكرنا طائفة منها قبل قليل.
للوهلة الأولى نستطيع أن ندرك أن مظهري التناقض الرئيسي "إسرائيل"، و"أنظمة التجزئة"، ينطبق عليهما ما ينطبق على الأمراض المتكاملة وليس على الأمراض المنفصلة. وبمعنىً آخر فإن كل مظهر منهما يتأثر ويؤثر وجودا وعدما وديمومة واستمرارا في المظهر الآخر. فأنظمة التجزئة بكل دلالاتها التي أتينا والتي لمن نأتِ على ذكرها، هي بشكل أو بآخر الحصنُ الواقي لإسرائيل الاستيطانية، بحكم ما تحققه هذه الأنظمة في هذا الوطن من مختلف معاني التشرذم والتبعية والتخلف والقهر والحرمان والهدر، التي تسهم في إطالة عمر إسرائيل. وإسرائيل الاستيطانية بكل دلالاتها الاستعمارية التي أتينا والتي لم نأتِ على ذكرها، هي أيضا الحصنُ المنيع الذي يُسْهِم بقاؤه في استمرار تلك الأنظمة بشكل من الأشكال. وبالتالي فإن هذين المظهرين هما صورتان مختلفتان شكلا ومتطابقتان مضمونا للتواجد الإمبريالي العالمي في الوطن العربي. بمعنىً آخر فإن الإمبريالية العالمية ممثَّلَةً في وريثتها الحالية "الولايات المتحدة" متواجدة في هذا الوطن ومحتلة لجزءٍ كبير منه بطريقتين أو بوسيلتين، هما إسرائيل الإستيطانية بكل دلالاتها، وأنظمة التجزئة العربية بكل دلالاتها أيضا.
وعلى هذا الأساس فإن جماهير الأمة العربية عندما تسعى إلى التَّحرُّر، فإنها ستسعى إلى التحرر من تلك الإمبريالية ممثَّلَةً في صورتي تواجدها المذكورتين. وبالتالي فإن هذه الجماهير معنية بالضرورة، وذلك عبر طليعتها "التنظيم الثوري"، بممارسة وسلوك مسلك المواجهة ضد كلٍّ من إسرائيل وأنظمة التجزئة، وضد كل ذراعٍ آخر للإمبريالية تَرى من الضروري مواجهته، لرفد المواجهة المُصَوَّبَة إلى الذراعين السابقين بكل عناصر ومقومات النصر والتحدي. إن تأكيدنا السابق على الدور الذي يقوم به كل واحد من مظاهر التناقض المنبثقة عن جوهر التناقض الرئيسي في المنطقة، ليس مجرد رغبة عابرة أو أمنية، بل هو واقع وحقيقة، الأمر الذي يَفْتَرِض فينا التصدي لإثبات هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
إن تحديد التناقض واعتبار حلِّه مطلبا إستراتيجيا، خلق من الناحية التاريخية مُعضلة إستراتيجية المضمون للثورة الجماهيرية العربية الكبرى التي مثلتها فيما مضى أم الثورات العالمية كلها، "الثورة الفلسطينية"، أو ما غدا يعرف في الأدبيات التاريخية لهذه الثورة بـ "المقاومة الفلسطينية". ظهرت هذه المعضلة عندما تصدت المقاومة لحل التناقض بانتهاجها نهج الانفراد بإسرائيل دون التعرض لأنظمة التجزئة ومناجزتها بوصفها النقيض الآخر في معادلةِ معاداةِ العلاقات الإمبريالية في المنطقة، وهي العلاقات التي يُفْتَرض أن المقاومة الفلسطينية انطلقت عندما انطلقت لإسقاطها مُجتمعةً من حيث المبدأ، بالنظر لاستحالة إسقاط جزء منها ثم الالتفات بعد ذلك إلى مهمة إسقاط الجزء الآخر بالتناوب، كما تقضي بذلك طبيعة الهجمة الإمبريالية المعاصرة على وطننا العربي.
ولقد تجَلَّت هذه المعضلة في عدم إمكان إحراز المقاومة لنتائج حاسمة في مواجهة إسرائيل، بسبب عدم استكمال شروط نجاح الحرب الشعبية التي أرادت التوصل إلى انتهاجها أسلوبا للتحرير، جراء عدم توفر الشروط التي تسمح لها بحرية الحركة في الأراضي العربية المجاورة لفلسطين، كنقطة انطلاق أساسية لتحقيق هذا الهدف ابتداءً. لقد فشلت المقاومة الفلسطينية في تحقيق هذا الهدف بسبب أن تحقيقه مرهون بتغيير جذري في الأوضاع العربية، باتجاه إقامة أنظمةٍ ثورية قادرةٍ ومتحررةٍ من التبعية والخوف والخيانة، ونَفَحاتِ المصالح القطرية التي فرضتها معادلات سايكس بيكو، التي غدت مقدسة عند هكذا أنظمة أكثر من المقدسات الدينية ذاتها.
هربت المقاومة الفلسطينية من هذه المعضلة، بالتخلي عن دورها الطليعي القومي والإسلامي بل والأممي، في مناجزة الإمبريالية، عبر الدخول في نفق اختزال الصراع مع الذراع الإمبريالي الذي هو "اسرائيل"، شكلا ومضمونا، ليتحول من صراع عربي إسرائيلي، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي على الجبهة الفلسطينية، وإلى صراع مصري إسرائيلي على الجبهة المصرية، وإلى صراع أردني إسرائيلي على الجبهة الشرقية، وإلى صراع لبناني أو سوري إسرائيلي على الجبهة الشمالية، بحيث تختص كل دولة بحسم الصراع وبمتابعة ذيوله على جبهتها التي غدا ماساًّ بأمنها القومي كل من يدعو إلى تفعيلها لمقارعة العدو الصهيوني.
فشلت المقاومة الفلسطينية إذن في أن تحقق إنجازا يُذْكر على صعيد البعد الذي اختزلته للقضية، بتحويلها إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي، بعد أن خَلق هذا الاختزال فلسفةً جديدة غذَّت بشكل ملفت عناصر الفكر "السايكسبيكوي" الذي وجد في انتصاره على قومية الثورة، وتحويلها إلى مشروع قُطْري، فرصةً مناسبة لتثبيت أركانه وأركان أنظمة التجزئة، التي تحولت من حالةٍ جغرافية سياسية من السهل مناجزتها، إلى حالة ثقافية صعبة المناجزة، بعد أن تغلغلت في بنية ذهن المواطن، بل والمثقف العربي في تلك الجزر الجغرافية، التي غدت لكل منها هويتها الوطنية التي راحت تبحث لنفسها عن جذور ومبررات ومشروعيات خارج نطاق بنائها القومي أو الإسلامي. فظهرت مرحلةٌ ساد فيها الفكر القُطري في أضيق صوره، بعد أن نضجت ظروف الترويج له من قبل حشدٍ من المثقفين المشبوهين، كانوا جميعا نتاجا خالصا، وماركة مسجلة لمرحلة الاندلاق الساداتي على الغرب. وغدا كل مواطن يتحدث عن مصلحة قُطْرِه في ضوء قراءةٍ قومية عروبية لهذه المصلحة، حتى لو كان ذلك في أضيق الحدود، خائنا للهوية الوطنية، ومرتبطا بأجهزة مخابرات خارجية، إلى آخر هذه المعزوفة الممجوجة من الأكاذيب والأباطيل، التي تجعل الرغاليين يرون في التخابر مع عربي أمرا أخطر على أمنهم من فتح قواعد عسكرية ومرافق سياحية وتجارية للأمريكيين وللإسرائيليين على أراضي شعوبهم.
وعاد السؤال المهم التالي ليطرح نفسه بعد ذلك الفشل التاريخي الذي مُنِيَ به المشروع الثوري الفلسطيني مُخَيِّبا آمال كل البشر، وليس آمال العرب والمسلمين وحدهم، متحولاً إلى نظام عربي وليس إلى مشروع ثورة عالمية ضد الإمبريالية.. هل يجب أن تُوَجَّه الجهود أولا لتغيير الأوضاع العربية ومناجزة أنظمة التجزئة التي يقودها "الرغاليون الجدد"، أم لشن النضال ضد إسرائيل وفق سياسة الأولويات؟!
إن المعضلة التي يثيرها السؤال السابق عميقة ومتجذرة في تاريخنا العربي منذ أن انبثقت القضية الفلسطينية إلى حيز الوجود. إنها ليست جديدة ولم تظهر مع ظهور آخر الثورات الفلسطينية كما يحلو للبعض أن يتصور، وإن كانت أوضح ما تكون ظهورا وجلاءً رفقة المرحلة الثورية الفلسطينية التي عبرت عنها المقاومة منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي. فالمعضلة موجودة منذ البداية وإن لم تبرز على صعيد الوعي. وهي قد طرحت نفسها بأشكال مختلفة على النضالين الفلسطيني والعربي في مراحل مختلفة. فما أن وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة عدوين مترابطين ومتحالفين، هما الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاستعمار البريطاني، قبل قيام إسرائيل، حتى طرحت المعضلة نفسها على شكل سؤال: أي العدوين نواجه أولا، الاحتلال البريطاني أم المستوطنين اليهود؟ وبعد قيام إسرائيل عادت المعضلة لتطرح نفسها في شكل سؤال آخر: من أولا الوحدة أم التحرير؟ واليوم تعود المعضلة ذاتها لتطرح نفسها، وهي حقا معضلة.
تتبدى معالم المعضلة في أننا إذا أجبنا على التساؤل السابق بالقول بضرورة صب الجهود نحو تغيير الأوضاع العربية، مؤجلين بذلك النضالَ ضد الصهيونية، فإن هذا التوجهَ منا قد يعني ترك الخطر الصهيوني دون مقاومةٍ ليستفحل أمرُه، وليغدوَ مُهَدِّدا بالتالي لنفس قوى التغيير التي تخوض المواجهة ضد أنظمة التجزئة. كما أن هذا التأجيل سوف يحرم النضال المُوَجَّه ضد الإمبريالية في صورة ومظهر تواجدها المتمثل في "أنظمة التجزئة العربية"، من عوامل التحفيز والتفجير التي تولدها مواجهة الصهيونية في العادة، والتي تساعد على إبراز التناقضات بين الجماهير العربية وحكامها الرغاليين على السطح بصورة أكثر وضوحا.
وفي المقابل، فإن إجابتنا إذا كانت بالدعوة إلى صب الجهود على العمل النضالي المُوَجَّه ضد العدو الصهيوني، فمن الواضح أن ذلك يعني – في ظل حقيقة وجوهر أنظمة التجزئة – مواجهة إسرائيل ضمن شروط غير مواتية، تحافظ لها على منبع قوتها وحمايتها آمناً ومعافىً وقادرا على تقديم كل أنواع الدعم المتصورة. أي أن هذا يعني ترك الأنظمة العربية حرة طليقة الأيدي في التآمر على الحركة الجماهيرية المتجهة نحو النضال ضد العدو الصهيوني وضربها من الخلف وطعنها في الظهر سياسيا وأمنيا وإعلاميا بل وعسكريا إن أمكن ولزم الأمر. كما أن هذا التوجه يعني إبقاء المنطقة خاضعة لشبكة العلاقات الاستعمارية، وإفساح المجال لتحقيق مزيدٍ من القوة لإسرائيل بعدم تحقيق النصر عليها، وبالتالي بتمكينها من المحافظة على التوازن السيكولوجي للإسرائيليين، كي يتمكنوا من مواصلة الدور المنوط بهذا الكيان استعماريا.
إن الموقف الأول أو الثاني أو غيرهما من المواقف، سيرتكز بادئ ذي بدء إلى الاتفاق على تصورٍ مبدئي للصراع ولطبيعته، وللهدف منه ولطبيعة تناقضاته، وهو الأمر الذي يمكننا معه ملاحظة أننا أمام أربعة احتمالات نظرية لنمط خوض الصراع وحلِّ التناقض في المنطقة. فإماَّ أن نخوض الصراع ضد المظهر الرُّغالي للتناقض مؤجلين الصراع ضد المظهر الثاني وهو الصهيونية، وإما أن نخوضه ضد هذا الأخير مؤجلين إياه ضد الأول، وإما أن نمتنعَ عن خوض الصراع ضد الاثنين معا، وإما أن نخوضه ضدهما معا وفي الوقت نفسه.
الاحتمالان الأول والثاني قاصران للأسباب التي وضحناها سابقا، والاحتمال الثالث ليس احتمالا، فهو يصور حالةً من الاستسلام المطلق، ويكرس الاحتلالين الاستيطاني والرغالي معا، بلا منازعة أو اعتراض. فلم يبقَ إذن سوى الاحتمال الرابع، وهو مواجهة النقيضين سويا. ولعل هذه الحقيقية قد بدت واضحة منذ وقت طويل لذوي الرؤية الثاقبة، والقراءة الدقيقة للواقع العربي. لكن استقراءنا لتاريخ القوى الوطنية العربية في المنطقة المشرقية، سيكشف لنا أنها جميعها من الناحية العملية، قد جنحت لحل التناقض القائم في المنطقة من خلال التصدي لمظهر واحدٍ من مظهريه فقط.
فبعضٌ منها خاض الصراع باتجاه تغيير الأوضاع في الدول العربية، وبعضها الآخر خاضه باتجاه تحرير الأرض من العدو الصهيوني. الاتجاه الأول مَثَّلَتْه كافة التشكيلات الحزبية القومية والماركسية والإسلامية التقليدية، كلٌّ وفق طريقتها وفي ضوء أيديولوجيتها. والاتجاه الثاني مَثَّلَتْه المقاومة الفلسطينية ومن دار في فلكها من القوى الوطنية العربية الأخرى، وعلى رأسها القوى اللبنانية في حقبة التحالف الذي كان قائما بين الطرفين قبل عام 1982، بحكم اصطلائها المباشر بتداعيات الحالة الصهيونية، على شكل احتلال للأرض. ومن الواضح أنها جميعها قد فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تصل إلى مستوى طروحاتها بعد عدة عقودٍ من النضال. فلا المقاومة الفلسطينية حررت الأرض، ولا القوى الوطنية العربية التي حاولت تغيير الأنظمة الرُّغالية الجديدة حققت أي إنجاز على هذا الصعيد. بل ربما أنَّ الأمر قد ازداد سوءا خاصة على صعيد حالة التجزئة والثقافة القطرية المرتبطة بها.
يمكننا التأكيد استنادا إلى مجمل الحقائق التي توصلنا إليها حتى الآن، على أن الأساس الذي يجب أن تنبني عليه إستراتيجية التغيير العربي المقبل، هو الانطلاق من قاعدة التصدي للعلاقات الإمبريالية في المنطقة ومواجهتها في ذات الوقت دون تجزئةٍ أو تأجيل، على ضوء تصورٍ موضوعي ذكرناه مراراً وتكراراً، مفاده أن الاحتلال الصهيوني الناتج عن وجود إسرائيل الاستيطانية، والتخلف والتجزئة الناتجين عن وجود "البُنْيَة الرُّغاَلِيَّة" في قمة الهرم السياسي العربي، لا يعكسان سوى الشكل المكثًَّف لهذه العلاقات الإمبريالية.
نستطيع تبسيط المسألة بتصورنا لشخص يقف في مواجهة شخصين آخرين، أحدهما أمامه والآخر خلفه، وكلٌّ منهما يحمل عصاً ليضربه بها، وهو أيضا يحمل عصاه للدفاع عن نفسه. فإذا واجه المُهاَجِمَ الأولَ ليتلقى ضرباته بعصاه، فإنه لن يسلمَ من ضربات عصا الشخص الآخر الرابض وراءه. وإن هو التفت إلى هذا القابع في الخلف واهتم به مؤجِّلاً الأول، فلن ينجوَ من وقع المعضلة نفسِها. إنه أمام هذا المأزق معنيٌّ بخلق إستراتيجيةِ مواجهةٍ تمكنه من أن يكون في وضعٍ يسمح له بمتابعة هجومات الشخصين المهاجمين معا، ليعرف كيف يضع خُطَّةَ الرد على هجماتهما المتواكبة تلك.
إننا إذا قدرنا على تصور المعضلة التي يعاني منها الشخص المذكور، واقتنعنا بأن حلَّه لها لا يتأتى عبر مواجهته لعدوٍّ وتأجيله للآخرَ، مادام كلٌّ منهما يرتبط وجوديا بهذا الآخر، فإننا نكون قد وضعنا أيدينا بصورة من الصور على مكمن التناقض الحاد في المنطقة العربية. فالحركة الجماهيرية الساعية للتغيير، ستواجه المعضلة نفسها التي يواجهها الشخص الذي ضربناه مثلا. فهي ستواجه إسرائبل وأنظمة التجزئة بوصفهما عدوا واحدا في مُحصِّلَة الأهداف الإستراتيجية، عندما تُقاس الأهداف بمدى اقترابها أو بعدها عن العلاقات الإمبريالية في المنطقة. وإن كانت العلاقة بينهما لا تخلو من التناقضات الجزئية القائمة على عدم تطابق الأجندات الخاصة بكل طرف تطابقا تاما مع أجندات باقي الأطراف. فرغم كل ما ذُكِر من دور الدركي الذي تلعبه إسرائيل في حماية الأنظمة الرُّغالية، ورغم حرص تلك الأنظمة ومحاولاتها المحمومة لتَمُدَّ في حياة إسرائيل بكل السبل الممكنة والمتاحة مادام هذا المَدُّ هو مَدٌّ في عمرها هي أساسا. فإن هذا لا يعني عدم وجود تناقضات ماًَّ بين تلك الأنظمة وبين إسرائيل. لا بل إن مثل هذا التناقض موجود، وقد عُبِّرَ عنه كثيرا بصدامات ومقاطعات وحروب واحتكاكات متنوعة الأشكال والأوجه. لكنه تناقض يشبه كل الشبه، ذلك الذي يحدث بين الأشقاء لأب واحد، تسود بينهم نزعة الحرص على المصالح الذاتية أكثر مما تسود بينهم نزعة الولاء والانتماء الحقيقيين بعضهم للبعض الآخر.
فرغم أن كل الأشقاء يعملون ضمن الخطة الأبوية وخضوعا لقواعد اللعبة التي تعكس الرؤية السيادية والمصلحية للأب، إلا أن ذلك لا يعني أن ليست لكل واحد منهم شخصيته ومصالحُه المستقلة التي يحرص على حمايتها من الآخرين، وعلى عدم السماح لأيٍّ منهم بالاعتداء عليها أو بتهديدها، وعلى محاولة الحصول على المواقع الحَظِيَّة والمتقدمة لدى الأب. ومع ذلك فإن الإمبريالية حرصت باستمرار على المسارعة إلى حل التناقض بين إسرائيبل ومنظومة التجزئة العربية، وتطويقه كي لا يستفحل، وذلك وفق ما يقتضيه الإبقاء على المنطقة باستمرار تحت هيمنة العلاقات التي تضمن انسياب مصالحها بيُسْرٍ وسهولة.
وأخيرا، فمع أن التحليل الذي قدمناه حتى الآن يكشف لنا عن مجموعة حقائق هامة على صعيد التناقض ومُكَوِّناتِه والصراع وأطرافه وكيفية خوضه بصورة عامة ومبدئية، ورغم تأكيدنا على العلاقة العضوية والوجودية بين النضال ضد أنظمة التجزئة والنضال ضد إسرائيل، فإن السؤال الإستراتيجي يبقى قائما وملحا.. إذ ما هي طبيعة العلاقة المحددة بين النضال المعادي للتجزئة وتداعياتها الداخلية والخارجية، والنضال المعادي لإسرائيل؟ وهل يمكن للنضالين أن يتكاملا على الأرض؟ وكيف يمكنهما أن يحققا ذلك وضمن أية ظروف؟!
إن أية خطة للتغيير الاجتماعي مهما كانت مُحكمة ودقيقة، فإنها لن تستطيع استيعاب كل تفاصيل الواقع الاجتماعي، كما أنه لا يمكنها – مهما كانت وسائلها بالغة الحساسية في رصد الحركة التاريخية – أن تتنبأ بكل الأحداث، خاصة إذا كنا نتحدث على الصعيد التفصيلي. إن هناك أمورا ضرورية تحدث دائما خارج نطاق الخطة، يمكن اعتبارها بمثابة المضاعفات الجانبية التي لا تلبث أن تنقلب على نفس الخطة، ما يدفع بالمُخَطِّطِ إلى إعادة النظر في المواقف السابقة، لإلغائها أو لتعديلها، أو للاستسلام أمام عنفوان هذا الجديد الطارئ. فإذا كان هذا الذي نقوله يشبه قاعدةً عامة في ظل الوسائل الإنسانية المعاصرة – القاصرة جدا – لضبط الحركة الاجتماعية والسيطرة عليها، فإن الخطة عندما تكون متناقضة مع مصالح الشعوب ومع معايير الحق والعدالة – التي هي أمور تتجه البشرية نحوها باستمرار – فإنه في قلب السلبيات العاجلة التي تفرضها هذه الخطة على الشعوب، تختمر أجنة إيجابيات المستقبل المُنْبِئَة منذ البدء بالتحول المرتقب.
إن أية خطة تتعارض وتتناقض مع جوهر العدل، تجد بذور فنائها في صميم ذاتها. فالتاريخ الصاعد أبدا، يشد المجتمعات الإنسانية على الدوام نحو العدل المذهبي في أرقى صورِه، وإن كان يحتاج إلى جهودهم كي يُسَرّع في ذلك. والخطة إما أن تكون منسجمة مع منطق المرحلة في المسير نحو تلك الصيغة العدلية، وإما ألاَّ تكون – أي أن تكون متعارضة معها، مُمارسةً الشد في الاتجاه المضاد لحركة التاريخ الطبيعية – فإذا كانت منسجمة مع حركة التاريخ الضرورية التي تفرض خطوطَها الأساسية المتغيراتُ الواقعة خارج سيطرة الإنسان، وخارج حدود قدرته على التخطيط والرسم والضبط، فإن الحركة ستبقى عادية حتى يحصل التناقض والتعارض. وإذا لم تكن منسجمة، فستتحطم في مرحلة معينة تصل فيها حالة الشد مستوىً منذرا بالانكسار والانقطاع والانفجار، فارضةً على المُخَطِّطِ إما الإلغاء وإما التعديل وإما التراجع التام.

إن العدو يخطط لتأجيل حركة الانبعاث الجماهيري ولتعطيل أية مبادرة تعمل في هذا الاتجاه، ويُنَسِّقُ أمورَه ويُحْكِمُ العلاقات، ويحاول ضبط التحركات التي يتصور أنه يقدر على ضبطها والسيطرة عليها، كل ذلك كي يكتم أنفاس المبادرات، وكي يؤخر الحتمية ما استطاع. ولكن مهما استطاع هذا العدو أن يُشْرِف على الحركة الجماهيرية وعلى الفعل المجتمعي، ومهما حاول أن يضبط مسار التاريخ حفاظا على منظومة العلاقات التي تحقق له مصالحه، ومهما كانت وسائله دقيقة ومتقدمة وشديدة الحساسية في التَّحَكُّم، ومهما كان الفعل المضاد المُنَظَّم بطيئا في إحداث البعث المُعَجِّل باستحضار الحتميات التاريخية، فإن أمورا تحدث في الخفاء نتيجة المتغيرات الضرورية، تضطر العدو في كل مرحلة إلى تعديل مسار خطته وفق مقتضيات المنطق الجديد. هذا إذا لم يضطر إلى الانحناء التام أمام أي منعطف حادٍّ لم يعد يحتمل لا الخطة ولا أي تعديل لها، بل أصبح يتجه نحو فرض منطق جديد لسيادة الواقع.
إن هناك دائما عنصرا يؤثر في الحركة الاجتماعية، وفي حركة التاريخ لا يمكن التنبؤ به بسهولة، ليس لأنه يشكل أسطورة تستعصي على الفهم، بل لأنه يشكل أثرا مستقبليا تبدو ملامحه ضبابية باهتة، لمجموعة علاقات ضرورية تتحكم في مسيرة التاريخ، لا يتسنى للمُخَطِّطِ حين وضع خطته أن يضعها على أساس آثارها تلك. والعدو عندما يضع خطةً لابتزاز شعبٍ ماَّ فهو معني بوضع خطة الابتزاز هذه بناءً على الواقع الذي يلمسه ويراه. وستتضمن الخطة علاوة على مجموعة العلاقات الابتزازية، علاقاتٍ أخرى ضرورية لتنفيذ الخطة، لكنها ذات أثر جانبي يجد حلوله في المستقبل، في تنمية الأجواء المتناقضة مع طبيعة الابتزاز المُتَضَمَّن فيها، فتنقلب الخطة على صاحبها.
الولايات المتحدة الأميركية أحكمت سيطرتها على أميركا اللاتينية في عقدي الستينيات والسبعينيات بسلسلة انقلابات عسكرية، عندما كانت تلاحظ أية بادرةِ تَحَوُّلٍ ديمقراطي يمكنها أن تُقْحِمَ أنصار المعسكر المعادي بشكلٍ أو بآخر إلى حلبة القارة الأميركية اللاتينية، لاعبين جدداً مقتدرين. كانت تلك هي الخطة الأميركية لضرب حركة الشعوب في تلك القارة في تلك الفترة. ومع أنها خطة حققت لمرحلة معينة نتيجة كبيرة على صعيد الحفاظ على المصالح والعلاقات الإمبريالية الأميركية في تلك القارة. إلا أن طبيعة التطور ونتائج وآثار المضاعفات الجانبية للخطة الأميركية نفسها، جعلتها تقف منذ مطلع عقد الثمانينيات عاجزة عن الاستمرار في خنق الانبعاث الجماهيري، وغدا الاستمرار في الخطة يهدد التواجد الأميركي في القارة اللاتينية برمته، نتيجة الحركة الجماهيرية المتفاقمة. فماذا حصل؟!
تعديل للخطة بما يتناسب مع المرحلة الجديدة المفروضة، رغم انطواء هذا التعديل على شيء نسبي من التنازل الأميركي، مادام التنازل خير من الزوال كُلِّيَّةً. فالولايات المتحدة الأميركية ذاتها هي التي حرصت في هذه الظروف الجديدة، على التخلص من الأنظمة العسكرية ومن الديكتاتوريات، حتى لو كان ذلك بالاغتيالات. خاصة بعد أن وصلت بعض الفئات المناهضة للسياسة الأميركية إلى سدة الحكم في بعض دول أميركا اللاتينية، كما هو الحال بالنسبة لحركة الساندينيست في نيكاراغوا. ولقد كان هذا التوجه الجديد من الإمبريالية الأميركية، شكلا من أشكال الحرص على الذات، وضمانا لاستمرار تواجدها بشرعية ديمقراطية. فبعد أن حاربت واشنطن الديمقراطية في العقدين السابقين خشية أن تكون الجسرَ الذي تعبر من خلاله الفئات المناهضة لمصالحها إلى السيطرة على كراسي الحكم في القارة التي طالما اعتبرتها ساحةَ بيتِها الخلفي، جاءت الديمقراطيات في العقد التالي تحت المظلة الأميركية، ضمانا لإشراك وكلاء العلاقات الإمبريالية في إدارة شؤون دول تلك القارة هائلة الثروات والإمكانات الاقتصادية!!
هكذا إذن خطط الأميركيون. فبعد أن حاربوا الديمقراطية لأنها كانت تُشْرِك معهم غيرهم في وقت يمكنهم الحيلولة فيه دون مشاركة أحدٍ لهم في نَهْبِ الشعوب والسيطرة على مُقَدَّراَتِها، نراهم يحاربون من أجل الديمقراطية لأنها سوف تكفل لهم أن يشاركوا غيرَهم في واقعٍ بدا أنه سيسحب البُسُطَ من تحت أرجلهم. وليس معنى ذلك أن التحول العالمي الحالي نحو الديمقراطية – رغم نسبية وقصور هذه الديمقراطية – هو مِنَّةٌ من أحد، بل هو تنازل اضطر العدو الكبير للشعوب إلى تقديمه نتيجة الضغط الجماهيري وعمق المشاكل المنذرة بالانفجار. في ظل هذه الحقائق كلِّها، أين هو موقع الوطن العربي؟ وكيف يمكننا أن نُسْقِطَ عليه بأمانة ما ذكرناه؟!
إن هناك هجمة شرسة تعاني منها الشعوب العربية، إسرائيل المطرقة وأنظمة التجزئة سندانها. وهذه الشعوب تئن تحت وطأة هذه المطرقة وذلك السندان. الخطة أُحْكِمَت والهجمة كانت عنيفة استغلت ظروفا مواتيةً في غفلةٍ من الوعي ومن القدرة ومن التنظيم، وفي غيابِ المؤسسات والقوى الفاعلة، فهجمت مسلحةً بالوعي وبالقدرة وبالتنظيم، وبالمؤسسات الفاعلة. فحققت هذه الهجمة المرادَ منها، ولكن إلى حين. وما كان يختمر بعيدا عن السيطرة شَبَّ عن الطَّوْق، فانطلقت الثورة الفلسطينية في منتصف عقد الستينيات رغم كل الحصار المفروض على الفعل الجماهيري الحي، في مبادرة قاعدية جماهيرية متميزة، كان من الممكن أن تقودَ الفعلَ الثوري العربي بل والعالمي كله، لولا المؤامرات "الرغالية" والأخطاء الأيديولوجية والمنهجية التي واكبت مسيرة هذه الثورة على مر تاريخها الطويل.
حوصٍِرَت الهوية الفلسطينية المُعَبَّرِ عنها بالمقاومة الناشئة حصارا خانقا بحجة قومية المعركة، في استهدافٍ للفعل الفلسطيني المقاوِم، خشية أن يتحول إلى فعلٍ قومي مقاوم، فيسحب البساط الشعبي من تحت أقدام أنظمة التجزئة التي كانت تتعامل مع القضية بوصفها قميصَ عثمانٍ تعلق عليه كافة مساوئها وتناقضاتها مع الجماهير. فحققت خطة الحصار نجاحا ولكن إلى حين. فقد كان المطلوب في سياق محاولات ضرب المقاومة، أن تعلن الأنظمة العربية تحملها لعبء المعركة كي تُفْقِدَ الفعلَ المقاومَ مشروعيته الشعبية، ولما كان من المفروض على تلك الأنظمة أن تبقى عاجزةً لأهدافٍ إستراتيجية عبرت عنها الهزيمة النكراء في حزيران من العام 1967، فقد انقلبت الخطة عليها، مُكَرِّسةً الالتحام الكبير بالمبادرة الفلسطينية الصاعدة التي غدت تعكس التعبير الموضوعي عن متطلبات المرحلة.
وتنامت هذه المبادرة، فحوربَت بأشرس ما تكون الحرب، لأنها مبادرة خطيرة وضعت الخطة الإمبريالية في المنطقة على محكِّ الوجود التاريخي. وأُبْعِدَت الثورة عن قواعدها ومعاقلها بمجازر رهيبة صبت في اتجاه الجماهير التي كان من المُفْتَرَض أن تشكل القاعدة الارتكازية لها، وحُشِرَت في صراعات هامشية لتخفيف الضغط عن إسرائيل. ونجحت الخطة إلى حين. اِسْتُغِلَّت هذه الفترة للاستمرار في ابتزاز الثورة وفي عزلها عن جماهيرها الفلسطينية قبل العربية، فعملت أنظمة التجزئة على إقناع الشعوب بأن هذه الثورة التي طُرِدَت من قاعدتها الآمنة الأولى والأساسية (الأردن)، هي سبب البلاء وسبب كل المشكلات والمصاعب الاقتصادية التي تعاني منها. ولكي تؤكد القوى الرغالية ذلك لشعوبها، فقد انتهجت سياسةً مشبوهة عمِلَت على إرفاق خروج المقاومة من معاقلها وقواعدها بعملية بناءٍ مزيفٍ للاقتصاد في ظل تكريسِ ثقافة الحفاظ على الذات والحرص على حماية الممتلكات من خطر أي حرب محتملة، وضرورة تأمين المستقبل المعيشي للأسرة وللعائلة، والوقوف في وجه كل ما من شأنه أن يشكل نوعا من التهديد لهذا النهج الجديد في التفكير. كل ذلك من أجل أن ينسى الجميع ذلك العدو الرابض غرب النهر. وقد نَجحت هذه الخطة ولكن إلى حين. فما كان يَحدث بعيدا عن السيطرة اختمر وفرض تخفيف حِدَّة القمع والدكتاتورية والاستلاب، فتحقق هامشٌ وإن يكن ضئيلاً من الديمقراطية، غذت التطلعات الشعبية الجادة إليه حالة عالمية من التوجه إلى إشراك الشعوب في إدارة شؤونها وشؤون مقدراتها وثرواتها.
إن كل تَحَوُّلٍ يحدث على مستوى قمة الهرم السياسي (السلطة) سيكون استجابةً لتحولٍ أسبق حدث على مستوى قاعدة هذا الهرم (الشعوب). وعندما يحدث هذا التحوُّل على مستوى القمة، يحدث المُتَنَفَّس الاجتماعي ناقلا الشعوب خطوة إلى الأمام، فتتقدم خطوة ويتأخر أعداؤها خطوة. هذا الوضع الجديد سيساعد أكثر على خلق تَحَوُّلٍ نوعي جديدٍ متقدم على مستوى القاعدة، إلى أن يصل تراكم التَّحوُّلات النوعية إلى مرحلة تُجْبَر فيها قمة الهرم السياسي على إحداثِ التعديل من جديد، ليتجلى هذا التعديل في تَغَيُّرات تعتري القاعدة مُجَدَّداً، مُبَدِّلاً المواقع على صعيد السيادة، مُقَدِّما الشعوب خطوة ومُؤَخِّراً القوى العاملة ضد إرادتها وضد مصالحها وحقوقها خطوة أخرى، لتعود معادلة الحراك التاريخي هذه وتسود الواقع المجتمعي من جديد.
في ظل الدكتاتورية نطالب بالحرية ونناضل من أجل ذلك ونضحي، فنحصل على قدرٍ من الحرية النسبية. وفي ظل هذه الحرية النسبية وما تسمح بخلقه من وعي سياسي ومن حرية تعبير ومن حراك مجتمعي ديناميكي، نتمسك بالمكتسبات التي حققتها النضالات السابقة، ونناضل من أجل تحقيقِ خطوةٍ إلى الأمام حتى تتحقق هذه الخطوة، وهكذا دواليك. في ظل الفُرْقَة وتفشي ثقافة القطرية وذهنية التجزئة، نناضل من أجل الوحدة بأي شكل من أشكالها وبأي مستوى مُمْكِن من مستوياتها الدافعة باتجاه مستواها الطُّموح المُسْتَهدَف، ونطالب بذلك بحسب ما تقتضيه المرحلة من وسائل وأساليب، وبحسب ما تتيحه من إمكانات. وفي ظل تَحقُّقِ شكلٍ أوَّليٍّ ونسبي من الوحدة، نطالب بشكل متقدم منها، ونناضل من أجله على قاعدة تمسُّكِنا بالمستوى الذي حققه نضالنا السابق، مستغلين في نضالنا الجديد هوامش الحركة والفعل التي أتاحتها مستويات الحرية التي انتزعناها من أعدائنا.
في ظل الإحتلال نقاتل عندما يكون القتال مُجديا لانتزاع التحرر والاستقلال والدفع بقضية التحرر الوطني إلى الأمام. وفي ظل فقدان البندقية أو عدم جدواها بموجب الظروف السائدة، نبحث عن وسيلة أخرى للهجوم والقتال، مستغلين في ذلك هوامش الحرية النسبية التي تم الحصول عليها وانتزاعها كحقوقٍ مشروعة للجماهير. إن حركة الجماهير يجب أن تبقى في حالة نبضٍ لا يتوقف، وهجوم متلاحق لا يعطي للعدو فرصةً لالتقاط الأنفاس. ويجب أن نكون مدركين لحقيقة هامة في هذا السياق، ألا وهي أن العدو أقل قدرة من الشعوب على تَحَمُّل التضحيات والخسائر، بل هو أقل منها استعدادا لتقديمها من حيث المبدأ، لأنه ليس صاحب قضية عادلة.
إن الطبيعة المركبة للتناقض في المنطقة العربية، وهو التناقض القائم بين الجماهير وبين الإمبريالية بمظهريها "الرُّغالي"، و"الإسرائيلي"، وما ينجم عنهما من شتى أنواع العِلَلِ الاجتماعية، تجعل الحركة الجماهيرية الساعية إلى حَلِّه – أي التناقض – ذات فعل هجومي دوما. فلا حقَّ حصلنا أو سنحصل عليه، يمكنه أن يتجسَّدَ في الواقع بدون أداءٍ هو بطبيعته هجومي. وفي كل مرحلة من مراحل النضال والحركة الجماهيرية يتَّخذ الهجوم شكلا مغايراً ومختلفاً عن ذلك الذي اتَّخذه في ظل مرحلة سابقة، كما قد يختلف عن ذلك الذي سيَتخذه في ظل مرحلة لاحقة.
وإذا كانت القوى الوطنية العربية قد توزعت خلال العقود الماضية بين فئتين، فئة تنادي بحل التناقض بمجابهة واحد من مظهريه، وفئة تنادي بحل التناقض بمجابهة المظهر الآخر له. فقد آن الأوان لرفض هذا الاتجاه، وبناء التنظيم الذي سينادي بحل التناقضين المظهريين معا وسيعمل على ذلك، مستغلا سلاح المرحلة الذي فرضته نتائج التفاعل والتناحر التاريخيين بين الجماهير وبين مظهري الإمبريالية. هذا التنظيم الذي سيكون قادراً (على) ومستعدا (لـ) استيعاب واستخدام السلاح الذي قد تفرضه المراحل المقبلة من الصراع.

إن المتعمق في دراسته للحروب وللحملات الصليبية وأسبابها، وفي تطورات العالم التي جاءت بعدها، سيكتشف حقيقةً مذهلة تتمثل في كون هذه الحروب والحملات مثَّلت الحد الفاصل بين تاريخين، ليس على صعيد أوربا والعالم الإسلامي وحسب، بل على صعيد العالم كلِّه. إن القارة الأميركية والأوقيانوسية ومجاهل القارة الإفريقية في معظمها كانت خارج حدود التنافس الإسلامي الأوربي آنذاك، بسبب عدم اكتشافها، وعدم معرفة طرق من وإلى آسيا غيرَ اختراق العالم العربي، ثم السير شرقا إلى جنوب القارة الآسيوية عبر شعوبٍ مسلمة كثيرة أخرى غير العرب.
إن العالم محور الصراع العالمي آنذاك كان هو أوربا والعالم الإسلامي فقط. لقد كانت موجات الفتح الإسلامي نحو الغرب والشمال تراجعا لأوربا، وكانت الحروب الصليبية محاولةَ عودةٍ أوربية إلى أمجاد الإمبراطوريتين الرومانيتين البائدتين، سعيا نحو الاستمرار في الحصول على الامتيازات والمصالح المادية التي حرموا منها بسبب المسلمين. وباءت الحروب الصليبية بكامل حملاتها بالفشل في نهاية المطاف، مُكَرِّسَةً حقيقة تاريخية جديدة صقلت العقل الأوربي بعد ذلك، ألا وهي أن الاحتلال العسكري المباشر (والصليبيون بكل ألوانهم وأشكالهم وخلافاتهم وطرائق تعاملهم مع حالة تواجدهم في إماراتهم الصليبية، كانوا يمثلون شكلا من أشكال الاحتلال العسكري المباشر المرفود بحالة استيطانية)، ليس من شأنه أن يُكْسِبَ أوربا موقعا ثابتا ودائما في المنطقة يكفل لها الإطلال المستمر على آسيا والسيطرة على شعوب المنطقة اقتصاديا.
ولقد تجلى أثر الاقتناع بهذه الحقيقة على صعيد العقل الأوربي في التوجُّه نحو البحث عن طرقٍ أخرى للوصول إلى آسيا غير الاضطرار إلى اختراق العالم العربي، فكانت الكشوفات الجغرافية الكبرى التي غيرت وجه العالم مُمَهِّدَةً لعصر الرأسمالية والاستعمار الأوربي. وجاءت الإصلاحات الدينية التي كانت بمثابة المُزاَرِع الذي بذر البذور الأولى للصهيونية، في جانبها العَقَدي وليس السياسي، في العقل المسيحي قبل العقل اليهودي، إلى أن تُوِّجَت هذه الأفكار الجديدة بتعبئة اليهود ليتصهينوا. وكانت النهضة الأوربية التي بُذِرَت بذورها الأولى في كل نقاط الاحتكاك بين المسلمين والأوربيين، في الأندلس والشام، وفي المغرب العربي عبر إيطاليا وصقلية.
وهكذا بدأت المعالم الأولى لمرحلةٍ جديدة من تاريخ العالم، سادت أوربا فيها ذهنية النزوع إلى الاستعمار، لتقود بهذه النزعة حضارة لا نجد لها تسمية أنسب من "حضارة الغرائز"، نظرا لغياب الفعل الإسلامي القادر على قيادة الأمة الإسلامية نحو أخذ دورها الفعال في صناعة التاريخ العالمي في تلك المرحلة الطويلة التي دامت قرونا، بحضارةٍ هي "حضارة القيمة". ولقد زاد الطين بِلَّةً أن تحولت السيادة على الأمة الإسلامية إلى فئةٍ مسلمة من أقل فئاتها اهتماما بالازدهار العلمي (العثمانيون) ونزوعا إلى اعتبار التفوق مرهونا فقط بالقدرة العسكرية، فحصل التراجع على مستوى القمة، وأسهم ذلك في توجيه التاريخ الوُجْهَةَ التي توجَّهها، فبدأت حضارة الغرائز بالظهور والنمو فيما راحت حضارة القيمة تعاني من الانحدار والتراجع، إلى أن انتهى الأمر بوقوع الوطن العربي تحت نير الاستعمار كآخر منطقة من العالم يتم إخضاعها للاستعمار الأوربي.
خلاصة القول إذن، أن أوربا وهي تفكر بالعودة إلى الوطن العربي عبر المنطقة نفسها التي طُرِدَت منها قبل قرون (الهلال الخصيب وبلاد الشام وخاصة فلسطين)، وجدت أن العودة يجب أن تكون بصورة جديدة ذات طابع استيطاني يُحَوِّل المسألة من مجرد احتلال عسكري إلى وجود شعبٍ بكامله يعيش على أرضٍ تُعتبر دولتَه بصورة واقعية، كشكلٍ راسخٍ ومتجذرٍ من أشكال الاستعمار. وهكذا فقد كان دور إسرائيل هو دور الصليبيين في الماضي نفسه. وكان نجاح إسرائيل هو بسبب الأمور نفسها التي أدت إلى نجاح الصليبيين في الماضي، وإن كانت الهجمة قد اتخذت شكلا آخر جديدا.
وما يؤكد لنا أهمية إسرائيل في دفع عجلة التجزئة العربية حسب المنظور الإمبريالي، والخطر الذي يتهددها ويتهدد بالتالي المشروع الإمبريالي الذي تنوب عنه في الدور الاستعماري، عندما تبدأ معالم التجزئة بالزوال، تماما كما هو حال الإمارات الصليبية الأولى، ما قاله ويقوله مؤرخو الحروب الصليبية مِمَّن نحسبهم كتبوا وأرَّخَوا لتلك الفترة وهم يتحسَّرون على ما فقده الصليبيون بفشل حملاتهم، مُبينين أسباب ذلك، وكأنهم يضعون مؤشِّرات النجاح للصليبية الجديدة. فهم جميعهم يرون أن جرأة المحاولة لتأسيس دولةٍ صليبية، على نمطٍ أوربي تحت سماءٍ شرقية لافحة، لم تلقَ ما لقيت من التوفيق، إلاَّ بسبب ما تردَّت فيه القوى الإسلامية وقتذاك من شقاق. كما أنه لم يكن باستطاعة تلك الدول الصليبية أن تُعَمِّرَ طويلا لولا شيء واحد، وهو أن الجمهوريات الإيطالية اهتمت كل الاهتمام بنشر تجارتها في الشرق. فاشتركت أساطيلٌ من البندقية وجَنوا وبيزاَّ في حصار الموانئ السورية والاستيلاء عليها. ومع هذا فقد ظلت الدول الصليبية في حالةٍ غير آمنة، لأن اهتمام الجمهوريات الإيطالية لم يتعد بلاد السواحل. ويبدو أن زعماء الصليبيين أنفسهم لم يدركوا أهمية الاستيلاء على الشام كلها حتى أطرافها الطبيعية من المسلمين. وما كان باستطاعةٍ لديهم أن تنهض بذلك العمل الكبير دون إمدادات متواصلةٍ من أوربا.
إذن فمن الواضح أن التجزئة ساعدت دولة الصليبيين على الاستمرار مدةً أطول. كما أن دولتهم ما كان لها أن تقوم وتستمر بدون الإمدادات الأوربية المستمرة. ناهيك عن أن التوسع نحو الشرق لو حصل لكان عمقا إستراتيجيا لهذه الدولة، أو لهذه الدول المتعاقبة. وإسرائيل قد انتهجت منذ البداية أسلوب تحقيق العمق الإستراتيجي لضمان سلامتها مدةً أطول. كما أن إسرائيل لا تقوم أو تستمر بدون دعم التحالف الإمبريالي لها. وهي والوحدة العربية بأي شكل من أشكالها نقيضان، فنراها تخلق دائما مبررات التجزئة وتخاف من الوحدة. ولعل حرصها على انتهاج نهج المفاوضات المنفردة بكل دولة عربية، يدل على عمق الرعب من الوحدة حتى لو تمثلت في موقف سياسي تفاوضي.
إلا أن الأمر الذي اختلف في إسرائيل عن الإمارات الصليبية الأولى، هو البعد الاستيطاني الواسع الذي يرفد البعد العسكري بالقوة، ووجود العنصر العربي الممعن في "رُغاليته" بالقياس لما كان عليه الحال في الهجمة الصليبية السابقة. مع أن هذه الاختلافات لا تغير من الجوهر شيئا، وإن كانت تؤثر على طبيعة المعركة، وعلى كيفية خوض الصراع، وعلى كيفية تحديد مساره وأولوياته. إن الدُّوَل الصليبية الأربع استطاعت برغم قلة مواردها من الرجال والمال أن تبقى على حالها بالشام، مادام الأمراء المسلمون المحيطون بها في استقلال بعضهم عن بعض. أي ماداموا بعيدين عن الوحدة، محققين للتجزئة الخادمة للمشروع الصليبي سابقا. غير أنه لم يكن لتلك الحال أن تدوم والشرق الأدنى يتمخض عن ثلاثةٍ من أقدر الرجال الذين غيروا موازينه وأوضاعه في مدة لا تتجاوز نصف قرن من الزمان. إذ استولى زنكي أمير الموصل على حلب سنة 1128م، وامتدت مملكة ابنه نور الدين إلى دمشق سنة 1154م، والقاهرة سنة 1168م، حتى إذا توفي نور الدين سنة 1173م، حلَّ محله صلاح الدين الأيوبي الذي جعل الشرق الأدنى كله من دجلة إلى النيل، مملكة واحدة بفضل ما اجتمع فيه من خصائص الزعامة المطبوعة لتبدأ مسيرة التحرير بقيادته.
ونحن لا نريد أن نطيل في سرد أوجه الشَّبَه أو الاختلاف الكامنة بين الهجمة الصليبية الأولى والهجمة الصليبية المعاصرة، وحسبنا أن أكدنا بالدليل القاطع ومن خلال التحليل والمعلومة، أن إسرائيل هي أحد أوجه الهجمة الجديدة التي تهددها الأمور نفسها التي كانت تهدد مظاهر الهجمة الأولى. الأمر الذي يجعل من غير المعقول أن تقبل إسرائيل دون ضغط أو إكراه سلاما من النوع الذي يفتح المجال واسعا أمام ظهور زنكي ونور الدين وصلاح الدين، وأمام دولة الشرق الأدنى الواحدة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الأمر مستحيل، بل هو يعني أن إسرائيل ومعها معاقل الرغاليين الجدد من زعماء أنظمة التجزئة في المنطقة وبالدعم الكامل من الإمبريالية الأُم في واشنطن تسعيان إلى تأجيله ما استطاعا إلى ذلك سبيلا.
إن بروز الهوية الفلسطينية يخلق معضلات لكل من إسرائيل وأنظمة التجزئة. وكلما كان مستوى بروز هذه الهوية متقدما، كلما كانت المعضلة التي سيعانيان منها أكثر تأثيرا على أدائهما المعادي لقضايا الجماهير، وكلما كان رد الفعل المعادي لحركة الجماهير بالتالي متجها إلى انتهاج السبل التي من شأنها تخفيف حدة التناقض لكيلا يصل إلى مراحله المتقدمة والأكثر حسما. تفعيل المقاومة بكل أشكالها داخل الأرض المحتلة يسهم أكثر في تجسيد ملامح الهوية الوطنية الفلسطينية داخليا وخارجيا، واقعيا وقانونيا. ومقارعة أنظمة التجزئة الرغالية بما يناسبها من وسائل وآليات سيدفع إلى تخفيف وطأتها على الجناح المقاوم للاحتلال داخل فلسطين، فيُحْقَن أداؤُه نتيجة لذلك بجرعاتٍ دافعة ومُفَعِّلةٍ. وبالمقابل، عندما تقوى المقاومة ويشتد عودها وتتطور وسائلها وتنتشر ثقافتها في الداخل وفي الخارج، تزداد حدة التناقضات بين الجماهير العربية وإسرائيل على ساحة المقاومة المباشرة، فيسهم ذلك في تصعيد سقوف المطالب الجماهيرية العربية المقاوِمة لأنظمة التجزئة والمتعلقة بالحرية وبالوحدة لدعم المشروع المقاوم للاحتلال، فنقفز خطوات متقدمة في ساحة صيرورة الصراع، ليس بأقلها أهمية إبراز تخاذل النظام الرغالي، ودفع تناقضاته مع الجماهير العربية للاستفحال. وتبدأ الدورة من جديد وتستمر إلى نهايتها المحتومة.
إن كل هذه التفاعلات تقَُوِّي من جبهة الجماهير المواجِهَة للإمبريالية عبر كلٍّ من إسرائيل والنظام الرُّغالي العربي، فتتقدم هذه المواجهة خطوة إلى الأمام، سواء من خلال توتير الوضع في المنطقة بدفعه باتجاه تعميق وتجذير مآزق كلٍّ من إسرائيل وأنظمة التجزئة، حيث ستحصل الجماهير العربية في ظل هذه المسيرة المتصاعدة على حقوقها التدريجية بتنازلاتٍ اضطرارية من الطرف المعادي إنقاذا لما يمكن إنقاذه، أو من خلال المواجهة التي قد تتخذ أي شكل ممكن ومتصور.
لسنا هنا بصدد التنبؤ بشكل المواجهات المتوقعة خلال صيرورة الحركة الجماهيرية، بل بصدد تصوير ميكانيزمات الدَّفع الجماهيري في المنطقة، من خلال استغلال معطيات كل مرحلة، زحفا بالتناقض القائم إلى مراحل حَسْمِه النهائية التي قد يتم الوصول إليها إما بالتنازلات الاضطرارية المتدرجة التي تفرضها على المعسكر المعادي المعضلاتُ والمآزقُ التي تولِّدُها الحركة الجماهيرية المتنامية، وإما بمواجهات محدودة في كل مرحلة، حسب مستوى وحجم الاستعداد الجماهيري والنضج في مُكَوِّنات ساحة الحركة لاحتضانِ قدرٍ من هذه المواجهات، وإما بمواجهات حاسمة ونهائية، إذا كانت الظروف العامة مواتية من جميع جوانبها لمثل هذه المواجهات. ولا يمكن أن يتم كل ذلك، أو أن تنموَ حركة الجماهير وتتصعَّد لتحقيق أهدافها في الحرية والعدالة والوحدة والاستقلال عن كل العلاقات الإمبريالية، إلاَّ عبر التفاعل التام لهذه الجماهير مع الطليعة الفاعلة المُمَثِّلَة لها أثناء حركتها وصيرورتها.
إن العلاقة الجدلية بين مختلف أطراف التناقض من جهة، وبين مختلف مستويات الصراع المتولد عن هذا التناقض من جهة أخرى، تفرض أن يتولى قيادة الجماهير خلالها تنظيم قادر وحاسم وواعٍ يملك نظرية عمل متكاملة. إلى أن تتمكن الجماهير بقيادة ذلك التنظيم من تحقيق أهدافها البعيدة، قاضية على أنظمة التجزئة ومُحَقِّقَةً القدرَ المطلوب والمناسب من الوحدة، ومُفَرِّغَةً إسرائيل من محتواها الصهيوني الإمبريالي، وفاتحة أبواب الاستعداد لمقارعة القوة الإيرانية المرتقبة على مصاريعها، عندما تتمكن هذه القوة الناشئة في ظروف التخاذل العربي الرسمي والضعف العربي الجماهيري من الإسهام في إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية والجيوصراعية للمنطقة بما يحقق طموحاتها وأجنداتها على حساب الحقوق القومية العربية، إلى جانب أم الإمبرياليات كلها، الولايات المتحدة. هذا بطبيعة الحال إن لم تهيمن على إيران قبل فوات الأوان مراكز قوى تخفف من اندفاع الطموح القومي الإيراني في الإقليم على حساب الجغرافيا والتاريخ العربيين، وتدرك حتمية وضرورة التحالف مع قوى التحرر العربي لا مناجزتها العداء ومقارعتها والتناقض معها.
ومع ذلك فإن الحركة الجماهيرية قد تعاني من انتكاسات، وقد تُفاجأ بممارسات مغامرة من هذا النظام أو من ذاك، وقد تضطر إلى مواجهة موقف إسرائيلي أو أميركي أو إيراني غير متوقع على المستوى التفصيلي للأحداث. إلاَّ أن هذا كله لن يغير سوى من الصورة التكتيكية لحركة الجماهير وليس من حقيقة التَّوَجُّهات الإستراتيجية لتلك الحركة، هذه التوجهات التي تبقى محكومة في كل جوانبها بحيثيات ومعطيات التحليل الذي قدَّمناه حتى الآن والقائم على فكرة المقاومة، والمقاومة الدائمة.

الفصل الخامس
واقع التنمية في الوطن العربي كجزءٍ من العالم الثالث بعد الحرب العالمية

ليست التنمية أمرا مفصولا عن الواقع ولا هي فعل مُعَلَّقٌ في فراغ، بل هي فعل موضوعي يمثل جزءا من الواقع. جزءٌ يتفاعل مع باقي أجزائه بصورة يُسهِم الإنسان – بطرائق تمريره للعلاقات الاجتماعية عادلةً كانت أم جائرة – في جعلها تقدمية أو متراجعة بالقياس بمصلحة المجتمع. وعندما نأتي على سبر أغوار مسألة التنمية في الوطن العربي لاستشراف آفاقها المستقبلية، فإننا لا نستطيع نسيان أن هذا الوطن هو جزء من العالم الثالث، تربطه بمعظم دوله وشعوبه قواسمُ مشتركة من التخلف، ومن الفساد المالي والإداري الداخليين، ومن السيطرة الاحتكارية الدولية التي تمعن في تنميته إلى جانب ذلك الفساد تشويها وتدميرا. هذا الأمر يتطلب منا ونحن نضع أسس فلسفة تنموية شاملة وبديلة في الوطن العربي، أن نتعرف على الخطوط العريضة لواقع التنمية في العالم الثالث، هذه الخطوط التي تمتد بالضرورة وواقع الحال لتطال هذا الوطن في مختلف جوانبه الحياتية.
إن التحرر الوطني السياسي الذي شهدته شعوب العالم الثالث، مُحَصِّلَة من خلاله على سيادتها وعلى استقلالها القانونيين، كان فاتحةً لمشكلات من نوع جديد وخطير يتمحور حول موضوع النهضة والتطور والتنمية بكل أشكالها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة وأن معظم هذه المشكلات لم يطفُ على السطح بصورة بارزة في أوقات سابقة، تركزت فيها الجهود حول الحصول على الاستقلال السياسي الوطني. فعندما تحقق هذا الأخير الذي كان الهدف الجوهري منه هو الحصول على الحرية بكل أشكالها، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والانضمام إلى ركب الأمم المتطورة والناهضة، فقد كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار في هذا الاتجاه، لتبدأ المشكلات الكبرى في قضية التنمية بالبروز والتَّبَلْوُر والتفاعل مع مختلف عناصر الحراك التاريخي الأخرى، خالقة عناصر الاحتكاك الداخلي، بظهور الدعوة إلى الديمقراطيات المحلية كمخرجٍ من براثن الفساد والانفلات بكل أبعادهما وتداعياتهما، وعناصر الاحتكاك الخارجي، بظهور الصراعات الإقليمية كتنفيس عن حالة الاحتقان التي أفرزتها موروثات الاستعمار، وهي تتفاعل مع منطق الحرب الباردة في صياغة خرائط العالم.
فإذا كانت التنمية نقيضا للتخلف ولا يمكنها أن تعني سوى الخروج من دائرته. فليس التخلف في جوهره وبصورةٍ دائمة هو انخفاض في مستويات المعيشة عن تلك المستويات التي توصف بالمعايير العلمية والاقتصادية الرأسمالية بأنها مرتفعة. أي أنه ليس كل ارتفاع في مستويات المعيشة بالمعيار الرأسمالي خروجا من دائرة التخلف وتحقيقا للتنمية المطلوبة. بل قد يكون هذا الارتفاع مؤشرا فعليا على مستوى تخلفٍ خطير مُغَلَّف ببريقٍ زائف من الرفاهية الزائفة. فالتنمية التي لا تقوم على مقومات ذاتية، والتي تتجاهل حقائق التاريخ، محاولةً تكرار نتائج لا يمكنها أن تتكرر لأنها صُنِعَت في ظروفٍ لن تعود مرة أخرى، هي تنمية من ورق سرعان ما تتكشف عن إضاعة الجهد في غير موضعه. فالتخلُّف في حقيقته تنمية مشوَّهة مرتبطة بالخارج، مورِّثَة للتبعية، صنعها التطور التاريخي للرأسمالية العالمية من خلال السيطرة على الاقتصاد العالمي.
إن مستويات التطور المعاصرة للدول الرأسمالية وللمنظومة الإمبريالية العالمية، تحققت بفعل خلل تاريخي في ميزان العدالة كان عاليا وشاملا، خلافا لكل الاختلالات في هذا الميزان في الفترات التاريخية التي سبقت نشأة الرأسمالية وموجات الاستعمار، بحيث يمكننا التأكيد على أن هذا الميزان لو لم يختل تاريخيا، أو لو أن اختلاله كان أقل من مستويات الاختلال التي رافقت الرأسمالية والاستعمار، لكانت نتائج التطور الحالية أقل مما هي عليه الآن في المنظومة الرأسمالية، ولكن مقابل توزيع عادل لمنجزات الحضارة الإنسانية، ومقابل حفاظٍ على اتزان الطبيعة والبيئة والإنسان، وهو الإتزان الذي نفتقده في ظل الحضارة التي وَرَّثها لنا الاستعمار والتي آثرنا أن نطلق عليها اسم "حضارة الغرائز". الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة التأكيد على أن السعي إلى تحقيق تنميةٍ من النوع الذي حققه الغرب الرأسمالي، هو سعي يرمي إلى تكريس الخلل في ميزان العدالة، لا بل إلى الاعتراف بمشروعيته. هذا اذا قفزنا عن حقيقة أن العوامل المادية التي أتاحت الفرصة التاريخية لتحقق النمو الرأسمالي العالمي، مفقودة اليوم، كما ستبقى مفقودة إلى الأبد، بحيث يغدو العمل على تنميةٍ شبيهةٍ هو عملٌ يفتقر إلى المقومات المادية القادرة على تحقيقه.
إن العالم الثالث الذي خرج من براثن التخلف الذي فرضه عليه الاستعمار المباشر بحصوله على التحرر الوطني وعلى السيادة الوطنية، عاد ليواقع تخلفا من نوع آخر هو التخلف المرتكز إلى التنمية المشوهة، فقد سادت العالم الثالث بعد الحرب الثانية نظريات التنمية التي صاغها الفكر الغربي. وكان جوهر تلك النظريات هو التأكيد على أن السبيل لنمو الأمم المتخلفة ليس إلاَّ اتباع الطريق نفسه الذي اتبعته الأمم الرأسمالية المتقدمة في مراحل سابقة. وكان التحليل الذي تقدمه مبنيا على أن ضعف مستوى الدخول في البلدان النامية يجعل حجم الادخار المحلي صغيرا. وبالتالي يكون الاستثمار الجديد محدودا لا تحقق معدلاته معدلات النمو المطلوبة. ولا يمكن في نظر أصحاب تلك النظريات كسر هذه الحلقة المفرغة للتخلف إلا بأمرين. الأول.. تشجيع تزايد الدخول الكبيرة على حساب العدالة الاجتماعية، لأن أصحابها وحدهم بوسعهم أن يدخروا. والثاني.. الاستعانة برأس المال الأجنبي في زيادة حجم الاستثمار على حساب الاستقلال الاقتصادي.
لقد أدى انتهاج دول العالم الثالث لهذا النهج وتبنيها لتلك الفلسفة التنموية إلى نتائج وخيمة وضارة أثبتت جميعها فشل أية محاولة لإسقاط قواعد التنمية بمفاهيمها الرأسمالية التاريخية على واقع بلدان العالم الجنوبي. فعلاوة على مستويات الفقر والتفاوت الطبقي ونزيف الثروات الوطنية التي خَلَّفها الاستعمار، فإن تشجيع تزايد الدخول الكبيرة على حساب العدالة الاجتماعية زاد من حدة الفوارق الطبقية. كما أن الاستعانة برأس المال الأجنبي خلق لدول العالم الثالث أزمة المديونية التي أصبحت من أكثر المشكلات الاقتصادية إمعانا في تشويه أية تنمية حقيقية فيها.
وكان من نتيجة ذلك أن ظهر في العالم الثالث اتجاه يؤكد خطأ مقولة النقل الحرفي في مجال التنمية. فقد أبرز اقتصاديو هذا الاتجاه استحالة تكرار الظروف التاريخية التي نمت وتطورت في إطارها الرأسمالية في غرب أوربا وأميركا واليابان. وأوضحوا أن النظم الرأسمالية السائدة في التخوم تختلف من عدة زوايا عن النظم السائدة أو التي سادت سابقاً في بلاد المركز، وأن رأسمالية التخوم تلك أعجز من أن تقود تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية تؤدي إلى التحرر الاقتصادي من السيطرة الاستعمارية، وإشباع حاجات الغالبية العظمى من السكان. وأنه على الرغم من أن ظروفا معينة قد تهيئ لبعض البلدان في التخوم نُموا اقتصاديا سريعا، إلا أن هذا يظل مُشَوَّها وتابعا. وقد أثبتت دراسات جادة، استمرار الفاقة بل وأحيانا تزايدَها، وتضخم مشكلة البطالة، بين كثير من الدول النامية حتى بين تلك التي حققت معدلا مرتفعا نسبيا في النمو الاقتصادي.
ومع ذلك فقد راحت دول العالم الثالث تعمق من تبعيتها للمعسكر الإمبريالي بإغراق نفسها في ديون خارجية مرهقة، كانت تُفْرَض عليها طرائق إنفاقها واستثمارها وتوزيعها على مرافق التنمية المختلفة، ليس فقط لتأكيد مقولة ضرورة انتهاج النهج الغربي الرأسمالي في إحداث التنمية، بل لفرض الحيثيات التفصيلية لهذه التنمية بصورة توصل تلك البلدان المدينة إلى درجة الإفلاس وفقدان الاستقلالية الحقيقية التي تحققت على الصعيد الوطني السياسي بملايين الضحايا. ولقد وصل الحال ببعض اقتصاديي العالم الثالث من تيار التبعية والتقليد إلى مستوى الإيمان بأن المصاعب التي تواجهها الدول النامية لا تنتج من عدم قدرةِ أو رغبةِ تلك الدول في الادخار، وإنما من عدم مقدرتها على الحصول على العملات الأجنبية المتأتية من الصادرات.
وهنا بَيَّن هؤلاء الاقتصاديون أهمية الحصول على المساعدات الخارجية ليس فقط من أجل تعزيز المدخرات المحلية، بل أيضا من أجل تعزيز رصيد العملات الأجنبية لتلك الدول. فإذا حصل أن زاد الطلب على العملات الأجنبية اللازمة لتمويل المستوردات عن عرض العملات الأجنبية المتأتي من الصادرات، يكون قد تَكَوَّن ما يُعرف بفجوة العملات الأجنبية التي تعمل على تخفيض معدلات النمو، إلا إذا تم ملء تلك الفجوة عن طريق الديون الخارجية من جديد، أو عن طريق الصناعة التصديرية التي راحت تحل محل الصناعة الإشباعية للشعوب وتدمرها تدميرا ممنهجا عمق من تبعية تلك الشعوب لمراكز الاحتكارات العالمية.
إن عديد الدول من العالم الثالث وقعت في فخ الديون الخارجية وقوعا من الصعب الخروج منه. فمهما صَدَّرَت تلك الدول من سلعٍ وخدماتٍ وموارد إلى الدول المتقدمة من خلال صناعتها التصديرية الإحلالية، فإن قسما كبيرا من إيرادات تلك الصادرات سيتجه نحو خدمة الديون التي ساهمت في انتاج هذه السلع والخدمات والموارد. وبالتالي فإنه سيعود إلى سلَّة الدول الرأسمالية المُقْرِضَة نفسِها. والمعنى العملي لهذه الظاهرة هو أن الدول الدائنة تكون انطلاقا من مقتضيات منطق الإقراض قد حصلت على سلعِ وخدماتِ ومواردِ الدول الجنوبية بأثمانٍ زهيدة للغاية لا تعكس حجم ما أُنْفِقَ من جهود ورؤوس أموال لإنتاجها، مادام جزء من أثمانها المدفوعة سيعود على شكل خدمة ديون ثابتة الأصول. وبمعنىً آخر فإن الدول الرأسمالية تلك استغلت الديون التي قدمتها لدول العالم الثالث، والتي هي جزء لا يتجزأ من فائض القيمة التاريخي، لاستنزاف الجنوب من جديد. وهذه العملية أشبه يمن يسرق شخصا ثم يقرضه ماله المسروق بفائدةٍ مرهقة تدفعه إلى أن يعود للأخذ من جديد بالصورة نفسها وعلى الأساس نفسه كي يسدد تلك الفائدة.
لكن الحقيقة التي غفل عنها أصحاب القرار التنموي في العالم الثالث هي أن التنمية تُعْتَبَر جزءا لا يتجزأ من ثقافة كل أمة وكل شعب. وإنه على الرغم من وجود عوامل مشتركة بين كل نماذج التنمية في العالم، تتمثل في العمل على تأمين المستقبل وضمان وعاءِ حياةٍ أفضل للأجيال المقبلة باستمرار، فإن العناصر المختلفة بين تلك النماذج هي الأمر الأساسي الذي يجعلنا نؤكد وبدون تحفظات على أنه لا توجد أمة من الأمم يمكنها أن تنمو بنفس طريقة نمو أمة أخرى في كل شيء. ومادام المستقبل ليس قدرا محتوما، فإنه لا يمكن أن يكون في صورةٍ وحيدة، بل إن أمام كل مجتمع في لحظة معينة من تاريخه احتمالات متعددة للمستقبل يتعين الكشف عنها ومحاولة رسم المعالم الأساسية لكل منها.
وإذا كانت عهود الاستقلال السياسي الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية قد شهدت مسارا تنمويا أغرق دول الجنوب في تبعيةٍ مرهقةٍ للمنظومة الإمبريالية على مختلف الصُّعد، فإن هذه الأخيرة عندما بدأت تدرك الأبعاد المُحْتَمَلَة للتكتلات الإقليمية لتلك الدول، والتي راجت وانتشرت في تلك الحقبة التي بدأ فيها الجنوب يستشعر خطر العمل المنفرد اقتصاديا وسياسيا، ما دفعه إلى العمل على توحيد صفوفه وتجميع نفسه في كتلٍ اقتصادية وسياسية كبيرة لمواجهة حجم الهجمة والاختراق الإمبرياليين.
نقول.. ما إن أدركت دول المركز الرأسمالي ذلك وانتبهت إليه، وبدأت تفكر في كيفية مواجهته، حتى ظهرت إلى حيز الوجود معالم اللعب على حبل جديد يتَّسِم بالنزعة الاحتوائية نفسها، ولكن على قاعدةٍ من إعادة ربط دول الجنوب هذه المرة، بدواليب التبعية المُغْرِقة، وفقَ برمجةٍ قائمةٍ على منطقٍ علمي استشرافي يطرح نفسه قارئاً للمستقبل وواضعاً لقوانينه وقواعده التي يجب أن تحكمه إذا أريِدَ له ألاَّ يخرج عن المسارات التي تم الترويج إلى كونها تُمَثِّل أسس التنمية الاستشرافية الصحيحة. فوُلِدَت الظاهرة التي عُرِفَت في أدبيات الفكر التنموي بـ "الدراسات المستقبلية".
ومع أن الدراسات المستقبلية في حد ذاتها كوسيلة علمية لاستشراف المستقبل على ضوء الحاضر والممكن، تُعَدُّ مطلباً موضوعياً، إلاَّ أنها تغدو ضارة ضررا حقيقيا عندما نحاول إسقاط أنماطٍ منها لا تناسِبُ سوى واقعِ معين، على واقعٍ آخر مغايرٍ له في كل شيء. وليس من الصعب تَتَبُعُ الأهداف البعيدة من وراء ظهور الدراسات المستقبلية مع مطلع عقد السبعينيات واستفحالها واتساعها فيما بعد. ومع أن هذه الدراسات قد تكون أقدم بعض الشيء من هذا التاريخ من حيث ظهورها، إلاَّ أنها منذ عام 1970 اتخذت منحى آخر واضحاً في هدفيته المتمثلة في إعادة برمجة العقل المُخَطِّط للتنمية في العالم الثالث بصورة تضمن استمرار تبعيته عقودا جديدة من الزمن للمنظومة الرأسمالية العالمية، وهو الأمر الذي تشير جميع الوقائع وخاصة في الوطن العربي إلى أنه قد حصل وفق الرؤية الإمبريالية العالمية بنسبةٍ عاليةٍ من التَّحَقُّق.
فقد راحت الدراسات المستقبلية منذ ذلك التاريخ تُكثر من الحديث عن خطر الانفجار السكاني، وعن تلوُّث البيئة، وعن ضرورة الاعتماد على الديون والاستثمارات الخارجية، وعن اتباع قواعد اقتصاد السوق داخليا لإحداث التنمية المطلوبة، وعن ضرورة اللجوء إلى الإكثار من الصناعات التصديرية لضمان جلب القدر اللازم والكافي من العملات الأجنبية التي تضمن وحدها القدرة على الاستمرار في تدفق السلع والخدمات اللازمة للاستهلاك المحلي، والضامنة لسداد فوائد وأصول الديون التي تكفل الاستمرار بالتالي في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار التنموي في الداخل.
إن الحديث المكثَّف في الدراسات المستقبلية عن استنزاف وقرب اضمحلال البيئة بدأ عام 1970 تقريبا، وليس قبل ذلك. أي عندما بدأ الغرب يئن تحت وطأة نقص الموارد وتلوُّث البيئة. ولم يكن هذا التوقيت – بأي حال – إعادة نظر في نظامه السياسي الاجتماعي أو في كفاية إنجازاته التكنولوجية، ولكنه كان التلاقي الزمني لمجموعة من التطورات، منها حركات التحرر الوطني والتعاون التجاري بين البلدان النامية المُنْتِجَة للموارد الأولية.
ولقد تمثَّلت أكثر مخاطر هذه الدراسات، ليس في افتقار العالم الثالث إلى مثلها رغم ضرورتها من حيث المبدأ، بل في كونها ارتكزت في معظمها إلى وسائل تقنية متطورة أقنعت أصحاب القرار السياسي وواضعي الخطط الاقتصادية في دول العالم الثالث، ونظرا لافتقار هذه الدول إلى المنظومات المعلوماتية التي اعتمدت عليها، بجدوى محتواها الفكري، بحيث راحت تعتمدها كدراسات تستشرف من خلالها مستقبلَها ذاتَه. وهكذا أُعيدَ إحكام السيطرة على مركز التخطيط ومركز اتخاذ القرار التنموي في دول الجنوب، بحيث غدت التَّكَتُّلات الاقتصادية الكبرى فيه تستشرف مستقبلَها في ضوء تلك الدراسات، باستثناء حالات نادرة حاولت فيها بعض الدول النامية نفسها صياغةَ نماذجٍ للدراساتِ خاصةٍ بها. إلا أنها مع ذلك لم تَنْجُ في محصلة توجهاتها من هيمنة الفكر الرأسمالي عليها، ومن تَحًَكُّم آليات وميكانيزمات النظام العالمي الخاضع للهيمنة الإمبريالية في حركتها وصيرورتها التنموية.
ولكننا نستطيع التأكيد مع ذلك على أنه مهما يكن من شأن هذه الآليات، فإنها ليست من القوة بحيث تُلْغي إرادة دول العالم الثالث. والمطلوب اليوم هو الوعي التام بأن التنمية الحقة هي في جوهرها تَحَرُّرٌ حقيقي من الاستعمار الاقتصادي والحضاري. وبالتالي فإن هذه التنمية لا يمكنها أن تبدأ إلا مما يساعد على تحقيق هذا التحرر، وليس مما يعمق التبعية ويزيد من مستوى الارتهان الاقتصادي والحضاري.
وفي عملية استقراء سريعة لأهم نماذج الدراسات المستقبلية، أو نماذج استشراف المستقبل التي ظهرت في الغرب مُحاولةً إعادة بلورة العقل التنموي في دول العالم الجنوبي، نجد نموذج "نادي روما"، الذي ركَّز على ضرورة ضبط نمو السكان في العالم الثالث. ونستطيع أن نلمحَ تشابها بين الدراسة الاستشرافية لهذا النموذج وبين الدراسة الاستشرافية القديمة التي أجراها "مالتوس"، عندما قارن بين نمو السكان ونمو الموارد. فالمطب الفكري الاستشرافي الذي وقع فيه مالتوس بعدم أخذه للدور الإيجابي للتطور التكنولوجي في حل المعضلة التي تَبَدَّت له، في ظل انطلاقه من قداسة وسرمدية البناء البرجوازي للمجتمع، وعدم إمكان التغيير أو التبديل في القواعد الاقتصادية التي تحكم صيرورة النمو البشري، وهي قواعد الاقتصاد الرأسمالي، بفلسفة "دَعْهُ يعمل دعه يمر" التي دعا إليها "آدم سميث"، وقع فيه نموذج "نادي روما"، عندما رأى أن الإنجازات التكنولوجية ستكون دون مستوى الحاجات المطلوبة، وعندما تجاهل إلى حد مريب حقيقة أن جزءا كبيرا من المعضلة إنما هو قائم في جوهر الحراك الاقتصادي الرأسمالي الذي يُقَسِّم العمل والملكية بطريقة مُجحِفة بين البشر، إن على الصعيد العالمي، وإن على الصعيد القطري الوطني لكل دولة. وهو الأمر الذي جعل خبراءَه ينادون بضرورة الحد من نمو السكان، وتحديدا في العالم الثالث، وكأن هذه هي المشكلة الحقيقية والوحيدة التي تُهدد مستقبل البشرية.
أما نموذج "ميزاروفتش"، فإنه لا يختلف كثيرا عن نموذج نادي روما، فهو يؤكد على أنه من الممكن تفادي الأزمات الاقتصادية العالمية، فقط عن طريق ضبط نمو السكان في العالم، والتعاون وليس المواجهة بين مناطق العالم. وبما أن نمو السكان في دول الشمال مضبوط إلى حدٍّ بعيد، فلا يمكن لمطلب ضبط نمو السكان في هذا النموذج أن يعني سوى ضبطه في دول الجنوب. وبما أن مطالبةَ الجنوب بنظام اقتصادي جديد فيه إنصاف وعدالة، ينطوي على نوعٍ من المواجهة الجنوبية للشمال الغني على قاعدة إعادة توزيع العمل وثروات الكوكب بشكل يلبي احتياجات الإنسانية بالدرجة الأولى، وليس احتياجات النظام الرأسمالي وركائزه المدمرة للإنسان وللطبيعة وللمجتمعات وللبناء الدولي أساسا، فلا شك في أن هذا النموذج يطالب بالحد من شِدَّة هذه المواجهة.
إنه باختصار نَموذجٌ يرفض أن يكون الحل بمنطق المطالبة بالحق، لأن لا حق للجنوبيين لدى سكان الشمال رغم كل فائض القيمة التاريخي الذي أحدثَته حِقَب الاستعمار الطويلة في الجنوب. ولعل من أغرب ما يثيره هذا النموذج من منطقٍ تنموي لدول النفط العربية والشرق أوسطية هو دعوته إلى تراكم ثروة المنطقة الشرق أوسطية والشمال إفريقية في الدول الصناعية، وليس إلى تنمية القدرات الذاتية للمنطقة والتراكم الرأسمالي المحقق للتنمية داخلها. ولعل السياسات الاقتصادية التنموية في معظم دول العالم الثالث، وعلى رأسها الدول العربية عموما والنفطية منها خصوصا، قد بلعت الطعم ومارست سياسات تنموية لا يمكن أن توصف سوى بأنها نتاج أمين وتطبيق دقيق لفلسفة كلٍّ من نموذجي "ميزاروفتش" و"نادي روما" للدراسات المستقبلية، مؤكدة استحقاقها بامتياز لقب "سفهاء العصر".
فبرامج وسياسات تنظيم النسل، بل والحد منه أحيانا باعتبار ذلك أُسَّ البلاء ومفتاحَ النجاة والنهضة، وفتح البلاد على مصاريعها للاستثمارات الأجنبية بلا ضابط يستشرف الفائدة الحقيقية المُتَوَخاة من وراء هذه الاستثمارات على صعيد التنمية الحقيقية للناتج المحلي، والإمعان في الارتباط بحلقة الديون الخارجية التي لا يظهر في آخر نفقها أي بصيص من نور، وتدمير كل مرافق الاقتصاد الوطني الإشباعي، لأجل تحقيق تنميةٍ تساعد على إنتاج السلع والخدمات التصديرية لجلب العملات الأجنبية الكفيلة بتغطة خدمة الديون، وأثمان الواردات الضرورية التي ساهمت في تدمير بنيتِها الإنتاجية المحلية سياسةُ الصناعة والزراعة التصديريتين، على حساب المتطلبات الطبيعية والضرورية لإنتاج احتياجات المواطن محليا، ومن ثم تكديس الثروات النفطية – عندما يكون الحديث عن بلد نفطي – في بنوك الغرب وبورصاته وفي بيوتاته المالية بكل ما ترتب ويترتب على ذلك من هدر مهولٍ للثروة عند الأزمات المفتعلة التي تمر بِها تلك البورصات والبيوتات. كل ذلك غدا يمثل جوهر السياسات التنموية في تلك الدول، رغم بَحِّ الحناجر وهي تنادي ليل نهار بأن هذا النهج سيقود الأمة وثرواتِها ومستقبلِها إلى الدمار والهاوية، إن لم يكن قد قادها إلى ذلك فعلا!!
لقد استطاعت هذه النماذج للدراسات الاستشرافية المستقبلية أن تحقق إنجازات كبيرة عندما نجحت في جعل العقول التنموية في بلدان العالم العربي – بوصف تلك البلدان نماذج صارخة من نماذج الارتهان لفلسفات وأفكار تلك المراكز والنوادي الاستشرافية على مستوى العالم الثالث – تتقمص فكر تلك النوادي والمراكز، مُرَوِّجة لما كانت هذه الأخيرة تخجل أو لا تجرؤ على ممارسة الترويج له هي بنفسها، بصفتها نماذج غربية قد لا تكتسب مصداقية كافية إن هي فعلت ذلك.
فقد راحت هذه العقول المهترئة والمهزومة والمرتَهَنَة، إن لم نقل بأنها مشبوهة في الأساس، تُحيِل المعضلة الاقتصادية والتنموية البنيوية، المتمثلة في أن الاستعمار وما فعله في مستعمراته سابقا، وفي أن النظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق وقواعده "السميثية" و"المالتوسية" دوليا ومحليا وإقليميا، وفي أن التقسيم الطبقي الاجتماعي الداخلي الذي تمثله أنظمة التجزئة الرغالية وتدافع عنه، والمرتكز إلى المصالح الاقتصادية لطبقات النخبة الثرية التي أفرزها انتهاج الفكر المالتوسي البشع أسلوبا للتنمية وللحراك الاقتصادي العربي، وفي أن الهجمة السايكسبيكوية الصهيونية الحديثة على المشرق العربي، هي الريشة الاستعمارية الرأسمالية التي أعدت المنطقة بالشكل المناسب لاحتضان المعادلة التنموية المستهدفة غربيا في هذا الإقليم العالمي الحساس..
نقول.. لقد راحت تلك العقول المشبوهة، تحيل المعضلة وتُكَيِّفُها من كونها إسهاما جوهريا وفعالاً من تلك العناصر المذكورة، بالقسط الأكبر في حالة الدمار والتردي والتشَوُّه التنموي والاقتصادي، وفي حالة الفقر والتخلُّف التي يعاني منها الوطن العربي، وهي العناصر التي لا يختلف عاقلان على أنها أساس الأزمة كلها ومن جميع جوانبها، إلى اعتبارها معضلةً يكاد تأثير تلك العناصر في خلقها وتكوينها يكون مُهْمَلا، أمام العناصر الأساس في ذلك التكوين والتَّخْليِق، متمثلة في الادِّعاءات التي روَّج لها الفكر الاستشرافي لنوادي ومراكز استشراف المستقبل الغربية، كضرورة ضبط النمو السكاني في الجنوب، وضرورة انتهاج قواعد اقتصاد السوق في العلاقات التنموية والاقتصادية الداخلية كمدخل فاعل لخلق آليات التنافس ولتكديس المدَّخرات، اللذين يُعدان وحدهما مفتاح التطور والنمو الاقتصاديين، وضرورة العمل على التصدير والاقتراض لجلب النقد الأجنبي بكل الأشكال الممكنة والمتاحة، واستثمار الفوائض النفطية الهائلة في مراكز المال والبورصات الغربية، وليس إعادة ضخها كرؤوس أموال وطنية وقومية تعيد إنتاج المدنية والحضارة على أسس مختلفة في الجغرافيا العربية.. إلخ.
وفي مواجهة النماذج الاستشرافية الغربية المتعصِّبَة للفكر الرأسمالي العالمي والتي أوردنا أمثلة عليها، نجد نموذج "مارليوش" لأميركا اللاتينية في الأرجنتين يقف موقفا عقائديا غيرَ محايدٍ من قضية التنمية، ليكشف عن زيف التوجهات العالمية الحالية لضبط العلاقة بين الشمال والجنوب، أي بين العالم المتقدم والعالم المتخلف. ويُعتبر هذا النموذجُ النموذجَ الوحيدَ من بين العديد من النماذج العالمية لاستشراف المستقبل، الذي حاول وضعَ يده على بعض المواطن الحقيقية للداء العضال الذي صنعَ مأساةَ الجنوب عقب انحسار الاستعمار السياسي التقليدي، وابتلاء شعوبه بأنظمة سياسية ينخر فيها الفساد الناجم عن الارتباط غير المدروس بعجلة اقتصاد السوق وبقواعد لعبة رأس المال العالمي في امتداداته المحلية. إنه نموذج ينتقد الأحوال المتردية في العالم في الوقت الراهن ويُرْجِعُها إلى أنماطٍ جائرة واستغلالية للتنظيم السياسي والاجتماعي على مستوى العالم وداخل الكثير من بلدانه، ويلاحظُ أن حالة البؤس المرتبطة بفكرة الانهيار التي تنبأت بها النماذج الأخرى للعالم أو لمناطقَ معينةٍ فيه، لا تختلف كثيرا عن ظروف الحياة الراهنة لغالبية البشر.
وبالتالي فإن تلك النماذج التي حَذَّرَت من مستقبلٍ مظلم للبشرية إذا لم يتم ضبط نمو السكان في الجنوب، هي في واقع الحال نماذجٌ تغض الطرف عن واقع العالم الجنوبي المؤلم، ولا تظهر وكأنها معنية بحل مشكلاته المدمرة. وهي تخطط فقط لكي لا ينتقل هذا الجنوب المربَك بمشاكله إلى الشمال المتمدن، ولكي لا يندفع إلى البحث عن حلول لقضاياه الاقتصادية المستعصية في المطالبة الجادة بتعديل البناء الاقتصادي للعالم المتقدم والقائم على تقسيم العمل وفق المنظور الرأسمالي الاحتكاري الإمبريالي.
ويذهب هذا النموذج إلى أبعد من ذلك عندما يقيم لنفسه ركائز علمية موضوعية تُوَضِّح إمكانية إقامة المجتمع العالمي الجديد المقْتَرَح، وإظهار أنه يمكن إشباع الحاجات الأساسية للبشر، أي تفادي انهيار النَّسَق العالمي، بدءا من الظروف العالمية الحالية، إذا ما انبثقت سياسات مُعَيَّنة لبناء هذا المجتمع الجديد. ويكشف دعاة هذا النموذج وخبراؤه بلغة الأرقام، عن أن مشكلة البشر ليست تقنية ولا ديموغرافية في الجوهر، ولكنها سياسية أولا وأخيرا. فقد بَيَّنَت نتائج البحث الدقيق الذي انتهجه نموذج مارليوتش أنه يمكن إشباع الحاجات الأساسية لسكان العالم مع انقضاء العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين إذا خصص العالم المتقدم ما لا يزيد عن 2 في المائة من ناتجه الإجمالي للمساعدة غير المشروطة لإفريقيا وآسيا. وبهذا يظهر عدم الحاجة لضبط نمو السكان في العالم الثالث بالشكل التعسُّفي الذي تتطلبه نتائج النماذج السابقة كحل أساسي لمشكلات التنمية في الجنوب. وبهذا أيضا، لا يكون الانهيار المتوقع في أدبيات وسيناريوهات النماذج الأخرى، سوى نتيجة لاستمرار أشكال متخلِّفة من التنظيم الاجتماعي والسياسي للعالم، تقف خلفها حواجز سياسية غير سهلة التجاوز. وقد سار على خطى قريبة من نهج مركز "مارليوش"، "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي يُعَدُّ بحق واحدا من أكبر مراكز استشراف المستقبل على مستوى العالم الثالث.

الفصل السادس
الإستراتيجية الإمبريالية في التعامل مع الوطن العربي

يعد الوطن العربي نموذجاً صارخا من النماذج المعبِّرة عن حالة الارتهان الكامل للفكر التنموي والاستشرافي الغربي، وحالةً غير مسبوقة ولا تشبهها حالة في العالم، من حيث تأكيد واقعها الاقتصادي عموما، على أن الحواجز والمعوِّقات السياسية وليس التقنية، هي ما يقف وراء تشوُّه التنمية وخروجها عن قضبان السكة السليمة، وانحرافها بالتالي عن مرتكزاتِها الثقافية وعن مبرراتِها الوطنية الذاتية في امتداداتِها القومية الطبيعية، وعن ارتباطها المفترض بالاحتياجات الحقيقية للمواطن. وهو فضلا عن ذلك معقلٌ من معاقل الجنوب الموبوءة بكل أنواع الفساد الإداري والمالي القائمة على أبشع أنواع السلب والنهب التي لم يشهد لها تاريخ البشر مثيلاً.
فكان من المُحَتَّم والحال كذلك أن تُمارِسَ الأنظمة السياسية الحاضنة لذلك النوع الوبائي من الفساد، أكثر ألوان القمع والاضطهاد والتغييب الثقافي والسياسي، قدرة على حقن "الفكر الرُّغالي"، و"ثقافة الهزيمة"، وما يُسَمَّى بـ"عقلانية التبعية الأبدية للمستعمر القديم"، التي تمثل مُجْتَمِعَةً الإطارَ الأيديولوجيَّ لتلك الأنظمة ولكل مظاهر فسادها وتبعيتها وارتباطها وارتهانِها، بِمقومات الديْمومة والبقاء.
تزيد من عمق وخطورة واستفحال حالة الارتهان الشامل التي وُضِعَ الوطن العربي في أتونها بقيادة أحفاد "أبي رُغال"، خصوصية الظروف التاريخية التي تكوَّنت فيها جزر "سايكس بيكو" العربية المتناثرة فوق خريطةٍ طُعِنَت بكل الخناجر المسمومة التي أُتيِحت لزعامات أنظمة التجزئة، وعلى رأسها تلك التي شرخت جزيرة العرب بأبشع أنواع العمالة للمستعمر وللارتباط به. فالوطن العربي عموما، والمنطقة المشرقية منه خصوصا، تُعَدُ أكثر مناطق العالم استهدافا من قِبَلِ الإمبريالية العالمية مُمَثَّلةً في رأس حربتها الولايات المتحدة الأميركية. وهو استهداف أزلي يضرب بجذوره إلى تاريخٍ بعيدٍ تحدثنا عنه كثيرا، ولا داعي لتكراره في هذا المقام، ويستند فضلا عن جذوره التاريخية تلك، إلى مجموعة عناصر جيوسياسية معاصرة ذات طبيعة حساسة للغاية، من بينها كون هذا الوطن مخزنا وحيدا للنفط العالمي على المدى البعيد بعد نضوب احتياطاته المتاحة في مختلف دول المركز على المدى القريب. لقد جعلت طبيعة هذا الاستهداف الشَّرِس قضايا الوطن العربي ومشكلاته تَتَّسِم بنوع عجيب من الترابط والتشابك، بحيث لا يمكن فصل قضية أو مشكلة منها عن باقي القضايا والمشكلات المكوِّنَةِ لحالته المُسْتَهْدَفَة بمحاولات الحل والمعالجة.
إن الإمبريالية العالمية نفسها وإدراكا منها للطبيعة المركبة لهذا الإقليم الأكثر حساسية في العالم، واقتناعا منها بفكرة أن التعامل معه خلال إدارة أزماته السياسية والاقتصادية، وخلال توجيه حَراَكِه المجتمعي والتاريخي، يجب كي يكون تعاملا ناجعا ومناسبا ومُحَقِّقاً للغرض المُتَوَخَّى منه، أن لا يَفْصِلَ التاريخ عن الجغرافيا، ولا السياسة عن الاقتصاد، ولا التنمية عن مقاومة المقاومة، ولا الدبلوماسية عن السلاح أو التفاوض عن التَّسْليح، ولا الثقافة الوطنية عن الانفتاح.. إلخ، فقد صاغت على الدوام إستراتيجياتٍ من النوع المركَّب أيضا، كي لا تُفْلِت من بين يدي سيطرتها أية عناصر من مُكَوِّنات حراكه المتشابكة.
إن الإستراتيجية الإمبريالية لِلَّعب السياسي والاقتصادي والعسكري في الساحة العربية الشرق أوسطية، تقوم في كل مرحلة من مراحل الصراع العربي الإمبريالي على تحديدِ هدفٍ مستقبليٍّ تدميريٍّ دمويٍّ كبيرٍ يرتكز في صيرورته ويرمي في مُحَصِّلَته إلى مجموعة العناصر نفسِها، والتي يُمكننا حصرها فيما يلي..
1 – إحكام السيطرة على العُقَد المفصلية في القرار النفطي العربي للإبقاء على سوق النفط سوقا للمستهلكين وليس للمنتجين، تحت وصاية الولايات المتحدة وإشرافها وحمايتها، مادامت السيطرة عليه تمثل مفتاح التَّحَكُّم في مفاصل الحراك السياسي الدولي والإقليمي.
2 – إعداد الساحة الدولية، والساحة العربية الخليجية باعتبارها المخزن الأساسي للنفط، فضلا عن الساحتين الشعبيتين الأميركية والأوربية، وبكل الوسائل المتاحة، إعلامية كانت أم قانونية أم دبلوماسية أم عسكرية إذا تطلب الأمر، لمرحلةٍ قادمةٍ تكون معالمها قد رُسِمَت في مراكز اتخاذ القرار الإمبريالي. وهي المعالم التي ستتمثل في إحداث تغييرات سياسية جذرية في الإقليم، تكون قد سببتها مفاعيل الحراك والصيرورة فيه، على خلفية التأثيرات والتداعيات المستمرة والمتواصلة والتي لا تنتهي، لكلٍّ من الحالة الاستعمارية "إسرائيل"، والحالة الإمبريالية "أنظمة التجزئة"، بشكلٍ يساعد على إبقاء السيطرة محكمةً على منابع النفط العربية في الخليج، ويحول دون التغيير في مفاتيح هذه المعادلة الإمبريالية، إذا بدا أن تلك التداعيات والتأثيرات تعمل في عكس الاتجاه المحافظ على معادلة رأس المال العالمي في المنطقة.
3 – إعداد الساحة العربية الخليجية اقتصادياً وجيوسياسياً لمرحلة ما بعد التغيير السياسي الإقليمي الجذري المرتقب، وذلك بشكل يجعل هذه الساحة مؤهلةً لدعم وتمويل حربٍ قادمة إذا تطلب الأمر، بصرف النظر عن شكلها ودوافعها المحتملة وتوقيتها ونتائجها المتوخاة شكلا ومضمونا.
إن هذه المنظومة من الأهداف الإستراتيجية كي تتحقق وفق الأجندة الأميركية المرحلية، يجب أن يكون الواقع العربي الخليجي وواقع الرأيين العامين الأوربي والأميركي، مُصاغَيْن على النحو التالي..
1- رأي عام أوروبي وأميركي معبأين تعبئةً شاملة ضد منتجي النفط العرب، وضد العرب بالتالي، عبر جعل الشعوب الأوربية والشعب الأميركي، يتَّخِذون منهم المواقف العدائية وهم يرونهم يستفيدون استفادة غير منطقية وغير مبررة من إيرادات نفطٍ خيالية تتيحها مستويات أسعاره المرتفعة جدا في السوق الفورية بالدرجة الأولى، متحكِّمين بذلك تحَكُّماً خطيراً – بحسب ما يرونه ظاهراً أمامهم – في أهم عناصر حياة ووجود الإنسان الأوربي والأميركي. وعبر جعلهم يحسون بأن هذه الدول التي لا تمت إلى حضارة الرجل الأبيض بأية صلة، والتي لا علاقة لها بالديمقراطية وبحقوق الإنسان لا من قريب ولا من بعيد، تحتكر من حيث لا تستحق موردا حيويا، يُعَدُّ ثروة تقوم عليها الحضارة البشرية التي يتزعمها العالم الحر بقيادة الرجل الأوربي والأميركي الأبيضين.
كُلُّ ذلك تمهيدا لتجذير وتكريسِ فكرةٍ إستراتيجيةٍ ما فَتِئَ العقل الإمبريالي يعمل على تثبيتها في العقل العام الأوربي والأميركي، وهي امتلاك الغرب بزعامة الولايات المتحدة حقَّ التدخل عسكريا في تلك المنطقة الحساسة من العالم عند اللزومِ. واللزوم هنا إنما يتمثل في حدوثِ تهديدٍ لمستقبل التَّدَفُّقات النفطية إلى الغرب، وفي ارتفاع أسعار النفط بشكلٍ يسيء إلى كل دول العالم وشعوبها ويرهق كاهلها. حتى وإن كان هذا التَّدَخُّل على شكلٍ شبيهٍ بالاحتلال التقليدي، مادام مصير الغرب وحياته وطاقته وصناعته ورفاهيته، هي كلُّها في أيدي هؤلاء الذين يجلسون على النفط في تلك الصحاري القاحلة ولا يملكونه كما وصفهم وزير الخزانة الأميركي عام 1974 "وليم سايمون". وبالتالي فيجب الا تُعارضَ لا أميركيا ولا أوربيا أية سياسة تحرص على عدم السماح لهؤلاء بالتحكم في هذا المصير وفي هذه الرفاهية.
إن جانبا هاما من جوانب السماح لنظام التسعير النفطي بالوصول بهذه السلعة إلى أسعارٍ مرتفعةٍ بشكل خيالي، هو إعداد الرأي العام الأوروبي والأميركي، وربما العالمي أحيانا، ليصبح مهيئا لتَقَبُّل فكرة أنْ تُداَفِعَ الإدارات الأميركية بالقوة عن منابع النفط لتتحكم في مصيره وفي أسعاره وفي تدفقه غير المكلف إلى بلدانهم، ضمانا للحياة وللمستقبل من أن يكونا عُرْضَةً لنزوات أولئك الذين دَبَّت كراهيتهم في العقل الأوربي والأميركي بل وحتى العالمي.
2 – إتاحة مخزون هائل من مداخيل الثروة النفطية للعرب الخليجيين مُدَّخرة في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة خصوصا، كي يكون هذا المخزون بمثابة الرافعة التي سيتم بواسطتها دعم الطرف المطلوب دعمه، وتمويل الطرف المطلوب تمويله في الحرب القادمة عندما تتقرر. ولن يتاح هذا المخزون من الثروة لتلك الدول إلا عبر مداخيل من أسعارٍ مرتفعة للنفط المُصَدَّرِ إلى الغرب. فمادامت هذه المداخيل التي سيدفع بعضَها الأوربيون والقليلَ منها الأميركيون، ستعود إلى أوطانهم في نهاية المطاف، وبالأخص إلى الوطن الأميركي، على شكل أثمان أسلحة ونفقات حروب تصب في الخندق الأميركي، وعلى شكل بخار مال تُسَبِّبُه حرائق البورصات المتعمَّدَة بين الحين والآخر. فليست هناك في الواقع أية أضرار حقيقية تُذْكَر لواقعةِ أنها مداخيل جاء جزءٌ ضئيل منها في المحصلة من ثروةٍ قومية أميركية وغربية رُحِّلَت مؤقتا من وطنها الأم، لتحل في خزائن دولٍ انساقت وراء كل السياسات الرَّعْناء لتحقق للأميركيين كلَّ أهدافهم!!
إن الإدارات الأميركية التي تعرف كيف تُوَجِّه السياسةَ بمفاتيح الاقتصاد، تعي جيدا أنها لا تستطيع الظهور أمام شعبها بوصفها مُمَوِّلا مباشرا من مال دافع الضرائب الأميركي لحربٍ قذرةٍ تطحن الأخضر واليابس، وتقتل الملايين من أجل حفنةِ تراب يقتتل عليها من هم في نظر الشعب الأميركي مجموعة من القتلة والإرهابيين والحكام الدكتاتوريين الذين ليس من هو أبعد منهم عن المحاربة من أجل الحضارة الإنسانية ومن أجل الإنسان وحقوقه في الشرق الأوسط، ناهيك عن حقوقه في العالم، حتى لو كانت سوف تسترد بشكلٍ أو بآخر ما سوف تدفعه في هذه الحرب، إلا إذا استطاعت أن تقنع الشعب الأميركي نفسه بأن مثل هذه الحرب تعتبر حربا تدافع عن أمنه القومي المباشر، كما حصل في احتلالها للعراق ولأفغانستان قبله. فكان لزاما والحال كذلك أن يُمَوِّل هذه الحرب الضرورية أميركيا، والتي لا مفر منها في أجندة السياسة الإمبريالية، آخرون. ولا آخرين في هذا السياق تنطبق عليهم المواصفات المطلوبة لحروب من هذا النوع القذر سوى الحكام العرب الخليجيون بالدرجة الأولى، بوصفهم آخر نوع من البشر يستشيرون شعوبهم في طريقة إنفاق المال العام والثروة القومية، لأنهم يعتبرونها ثروات تملكها ملكية خاصة العائلات والمشيخات الحاكمة!! لذلك فقد كان من الطبيعي أن يمتلكوا من المخزون النقدي ومن الثروات المتراكمة من البترودولار ما يستطيع القيام بالمهمة نيابة عن الولايات المتحدة، وعن الإمبريالية العالمية عموما.
وكأن المعادلة صيغت ببساطةِ العرضِ التالي..
الولايات المتحدة تريد إشعال حرب في الإقليم لأسبابٍ إستراتيجيةٍ تطلبتها المصالح الإمبريالية في سياقِ الصراع العربي الإمبريالي. وهي لا تستطيع الظهور بمظهر المُمَوِّل المباشر لها، في حين أنها ستكلف أموالا طائلة بناءً على شكلها المُتَصَوِّر والمفترض، لا يستطيع أحد غير أصحاب العمائم الخليجية دفعها نيابة عن واشنطون. فكان لزاما أن يتوفر لهم ضمن سياقٍ منطقي وطبيعي مخزونٌ من الثروة قادر على تلبية متطلبات المهمة، وإلاَّ فإن الحرب لن تنشب بالشكل وفي التوقيت وللأهداف المطلوبة. الدول الخليجية أيضا كان عليها ضمن الخطة الأميركية أن تتسلح بأسلحةٍ من النوع الثقيل جدا لاعتبارات أُقْنِعوا بها، لها علاقة بتهديداتٍ لأمنهم القومي من جانب الدول القوية الناشئة والطموحة في المنطقة الخليجية، والتي ليست من بينها "إسرائيل" بطبيعة الحال، مادامت قد انحصرت في العراق سابقا، وفي إيران حاليا ومستقبلا. فكان لابد أن يمتلكوا المال اللازم لشراء هذه الأسلحة. وإلا فإن تسويق السلاح الأميركي ونشره وفق خطط سياسة التسليح الأميركية للمنطقة لن يتحقق.
هذا المال وذاك، لن يتوفرا لدول الخليج إلاَّ عبر المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المعتادة والمتأتية من مبيعات نفطٍ بأسعارٍ تُصَنَّف على أنها عالية ومرتفعة بالمقاييس العالمية المتعارف عليها. وإذن فلترتفع أسعار النفط بالقدر الذي يحقق للسياسة الأميركية هذه الحزمة من الأهداف الإستراتيجية في المنطقة، مع إبقاء الباب مفتوحا على مصاريعه لامتصاص المنافع الخليجية المحتملة من هكذا مداخيل فائضة، إذا كانت تكلفة الحروب التي ستنشب، أو إذا كانت أثمان الأسلحة التي ستُسَوَّق، أقل من أن تَمتصَّ مُجمل الأموال التي دُفِعَت لهم ثمنا لنفطهم الذي رُفعت أسعاره بذكاءٍ مدروس. وهذا الباب المفتوح، هو البورصات الأميركية والغربية، التي ظهر في العقدين الأخيرين أن أزماتِها المدمِّرَة تُفْتَعَل فقط كي تمتص وتُبَخِّرَ الأموال العربية الخليجية الموجودة فيها على شكل أسهمٍ وسنداتٍ واستثمارات من النوع الخفيف القابل للتَّبَخُّر بسهولةٍ كتَبَخُّر البنزين.
وعندما نَفْهَم عناصر ومُكَوِّنات الإستراتيجية الأميركية في إدارة اقتصاديات النفط، نستطيع أن نكتشف مُكَوِّنا جوهريا في تلك الإستراتيجية يُرْهِصُ ظهوره بشكل الخريطة الإقليمية التي تُخَطِّط لرسمها الإدارات الأميركية التي ستتعاقب على البيت الأبيض خلال عقد أو عقدين من الزمن قادمين، خاصة إذا كانت إداراتٍ جمهوريةً. ولأننا لا نستطيع قبول فكرة أن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي هو أمر منفصلٌ عن السياسة، وخاضع لمعايير العرض والطلب فقط، نظرا لخروج النفط بالذات بوصفه أكثر السلع إستراتيجية في العالم، عن الخضوع لمثل هذه المعايير، فقد كان من المنطقي في عُرْفِنا ألاَّ يُفْهَمَ ارتفاع الأسعار بالشكل الذي من شأنه أن يُراكمَ ثرواتٍ مهولةً من مداخليه الفائضة في الجانب العربي الخليجي، وألاَّ تُفْهَمَ صفقات السلاح الضخمة التي راحت تتمحور في الآونة الأخيرة حول مبالغ تقارب الـ "70" مليار دولار لصفقة سعودية أميركية واحدة فقط، لحقتها صفقات أوربية أخرى من مستوى هذه الصفقة، إلاَّ باعتبارها كما حدث في مطلع عقد الثمانينيات، مقدماتٍ طبيعية تُمَهِّد الطريق الاقتصادي والعسكري الإقليمي، لاحتضان حربٍ أو صراع أو حروب أو صراعات مدمرة قادمة يتم التخطيط لها، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تكون هي الطرف المباشر الذي يخوضها، وإن استطاعت فإنها لا تريد منها أن تنعكس على رفاهية المواطن الأميركي ومستوى معيشته إلا إيجابيا، كي لا يتعود هذا المواطن على النظر إلى الحروب التي تخوضها إداراته بلا توقف باعتبارها عبئا عليه، فيستمر في تأييده لها ودفاعه عنها وتبنيه لها، إلا إذا حالت بينه وبين هذه المواقف، اعتبارات أخلاقية وأيديولوجية، وما أقلها في التأثير على المكونات الذهنية للشعب الأميركي في ظل هيمنة ثقافة "الكاوبوي" على كل مؤسسات تنشئته الاجتماعية. هذا الأمر هو ما جعل تلك الإدارات الأميركية تبدأ في إعداد العُدَّة لترتيب أوراقها بالشكل المناسب لتركيبة المنطقة ولبُنْيَة الرأيين العامين الأوربي والأميركي.
وربما يكون ما يتم التخطيط له بهذا القدر من مُراكمة الأسلحة، وبهذا القدر من مُراكمة الفوائض النفطية الخليجية في الغرب، وبهذا القدر من تأجيج المشاعر العدائية بين الفصائل المذهبية الإسلامية الكبرى عبر تداعيات الحالة العراقية الناجمة عن الغزو الأميركي، مقدمةً لاحتلالٍ من نوعٍ غير مُتَصَوَّرِ التفاصيل ولا واضح الأبعاد الآن، في ضوء معادلات يتم إعداد المنطقة لإدخالها في أتونها. فكما أن احتلال منابع النفط وزج العراق في حربين مدمرتين، هي مسائل لم تكن واضحة في رؤية معظم المراقبين السياسيين في منتصف عقد السبعينيات، بالقدر الكافي من التفاصيل لتشكيل تصور إستراتيجي حوله، عندما كان كل ذلك مجرد مشاريع وخطط في أدراج الساسة الأميركيين. وكما أن أحداً لم يكن ليفهم الأبعاد الحقيقية للعبة الارتفاع في أسعار النفط خلال عقد السبعينيات ومطلع عقد الثمانينيات بالشكل الذي يكشف له عن مؤامرة تُحاك لإدخال المنطقة فيما تُمثل حالتها الراهنة ثمرة حقيقية له. فإن أحدا أيضا قد لا يستطيع تصور تفاصيل المرحلة القادمة بالشكل الكامل.


إن جميع المراقبين الأذكياء يستطيعون فهم..
- أن الحالة الإيرانية مُتَمَثِّلَةً في الملف النووي، وفي تداعيات التداخل مع الحالة العراقية ومع الحالتين الفلسطينية واللبنانية، في ضوء القراءة التاريخية المتأنية والموضوعية والمعمقة لجذور الصراع الفارسي – العربي، عبر أكثر من ثلاثة عشر قرنا من عمر الحضارة الإسلامية.
- وأن الحالة العراقية متمثلة في تطور واستفحال وامتداد المقاومة، وفي تداعيات التداخل مع الحالة الإيرانية، وفي آفاقٍ مؤكدةٍ للتداخل مع الحالات الفلسطينية واللبنانية والسورية ضمن ظروف معينة.
- وأن الحالة السورية في ذاتها أولا، وفي بعدها التداخلي مع الحالتين اللبنانية والفلسطينية بمستويات التوتر الراهن فيهما ثانيا، وفي علاقاتها بالحالة الإيرانية ثالثا، وفي آفاق تداخلها المحتملة مع الحالة العراقية رابعا.
- وأن الحالة الباكستانية التي كشفت ظروفها الداخلية والخارجية عن دولة إسلامية نووية، أظهر شعبُها كاملا ومن غير استثناء فئةٍ منه، أنه أكثر الشعوب المسلمة تفاعلا مع قضايا أمته في أي مكانٍ كانت، وخاصة مع الحالة الأفغانية التي كانت مُدَشِّنَةً للهجمة الأميركية الراهنة ضد الأمتين العربية والإسلامية.
- وأن الحالة التركية التي يخوض من خلالها الشعب التركي المسلم حربا من نوعٍ خفي وشرسٍ بين الشد باتجاه "التَّأوْرُبِ" الكامل، والشد باتجاه نصف التَّأَوْرُب ونصف التَّأَسْلُم، من حيث الهوية، وبين الحفاظ على الوحدة الإقليمية والمعاناة من التقسيم والتجَزُّؤ بسبب تداعيات الحالة الكردية التي راحت تجد متنفساتٍ خطيرةً لها من خلال الحماية والدعم الأميركيين في الساحة العراقية.
- وأن بدءَ ظهورِ معالمِ فلسفةِ مقاومةٍ للإمبريالية من خارج نطاق المؤسسة العربية الرسمية، وبالاستناد إلى الجماهير العربية..
.. نقول.. إن الأذكياء من المراقبين يفهمون جيدا أن كل تلك الحالات هي بلا شك عناصر أساسية – بشكل أو بآخر – في خطة اللعب القادمة، التي تبدو السياسة الأميركية على مستوى الإقليم والعالم تقدمة لها، بعد أن تمحورت تلك السياسة حول العناصر التالية..
- السماح لأسعار النفط بتجاوز سقف المائة دولار للبرميل، واحتمال وصولها إلى سقف المائة والخمسين دولارا خلال وقت قصير.
- التسليح المرعب لدول الخليج، بدءا بالصفقة الأميركية - السعودية التي تعد الأضخم في التاريخ العسكري قاطبة، وما تبعها من صفقات أوربية – سعودية، مثل صفقة اليمامة، التي تخلى الإنجليز لأجلها عن تقاليدهم العريقة في عدم رعاية الفاسدين والمرتشين أو التستر عليهم، كي يحافظوا على ما أحاط بها من أسرار وملابسات فضائحية المضمون.
- تفعيل الملف الإيراني في المحافل الدولية، لإيصاله إلى نقطة التصادم التي يراد لها أن تكون مقدمة لصفقة تقاسم نفوذ إستراتيجي، يتنازل فيها كل طرف (الأميركي والإيراني) للآخر عن بعض امتيازاته لتحقيق الإستراتيجية الاختراقية الجديدة للمشرق العربي (وتحديدا الهلال الخصيب منه). مع التأكيد على أن هذا الجانب من ملف الخرائط المقبلة للصراع في الإقليم، هو الأكثر حساسية، نظرا لأنه غير مضمون بالشكل الذي يخطط له الأميركيون، إذا ما هيمنت على إيران قيادات سياسية من النوع القادر على تلجيم الطموح القومي التاريخي للدولة، والاندماج في مبدأ التفاعل مع قضايا الجماهير العربية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من قضايا الأمة الإيرانية من وجهة نظر معينة.
- التأسيس لثقافة طائفية غير معهودة ولا مسبوقة، بل ومرفوضة في الوطن العربي، على قواعد مذهبية سنية – شيعية، برعاية المدرسة الوهابية بشقيها المذهبي والسياسي، لأجل تأجيج صراع طائفي سني - شيعي في الساحة العراقية من جهة، واعتماده مرجعية سياسية لتبرير ما يحدث من مفاعيل وطنية في لبنان من جهة أخرى، كما أكدت على ذلك أحداث بيروت الغربية في مطلع شهر أيار / مايو 2008، وسيطرة حزب الله عليها في سياقاتٍ ليست لها أية دلالات مذهبية وطائفية، رغم حرص الموالين للسياسة الأميركية – السعودية - المصرية في لبنان على تصوير ما حدث بوصفه خطرا يهدد السنة من طموحات الشيعة المدعومة إيرانيا، لتحقيق أجندات مذهبية وطائفية.
كل ذلك كتقدمة لتوسيع دائرة الشرخ الطائفي والمذهبي ليطال الساحة العربية المشرقية، التي راحت تُعَد شعبيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا لتكون حاضنة لحرب عربية إيرانية مدمرة قادمة، تُغَيِّب مفاعيل الصراع العربي الإسرائيلي، وتُدخل القضية الفلسطينية في متاهاتٍ وأنفاقٍ لن تظهر لها نهايات في المدى المنظور، تحت عنوان حماية العرب من الفرس، والسنة من الشيعة. ما يسهم ليس فقط في تكريس ومفاقمة الشروخ المذهبية والطائفية في المنطقة لأجيال قادمة، ولا في تخفيف عبء الصدام والمواجهة عن إسرائيل والولايات المتحدة اللتين بدأتا تئنان تحت وقع تطور الفكر المقاوم وثقافة المواجهة في كل من العراق وفلسطين ولبنان، بل ما سيسهم في تدمير وإنهاك العرب والإيرانيين، وفي إضاعة عقود من عمرهم القادم في لملمة الجراح وإعادة البناء، وفي تلميع الأنظمة الرغالية التي ستظهر بمظهر الأنظمة الحامية للعرب السنة من الهجمة الفارسية الصفوية، التي ييدو أن الطموحات القومية الإيرانية، فضلا عن السياسة الإيرانية المشبوهة وغير البريئة في العراق، راحت تساعد بكل يسر وسهولة على تأكيدها لدى شرائح غير قليلة من العرب والسنة عموما، مقدمة لرغاليي الخليج وسفهائه، وعلى رأسهم حكام السعودية، كل الأوراق الرابحة لتأكيد ادعاءاتهم بخطرٍ إيراني قادم.
نستطيع في هذا المقام أن نضيف إلى ما ذكرناه من تفاصيل لشرح وتوضيح الإستراتيجية الأميركية النفطية في المنطقة المشرقية من الوطن العربي، ما مارسته الولايات المتحدة بعد حرب أكتوبر، وتحديدا بعد حسم وترتيب شؤون الصراع العربي الإسرائيلي على الجبهة المصرية، من تصفيةٍ للحسابات مع من أمكن تصفية الحسابات معهم من عناصر القوة المنتشرة في الساحة العربية المشرقية. أليس غريبا في ضوء ذلك أن نلاحظ أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أُتْبِعَت على الفور بالبدء بتنفيذ بنود المخطط الأميركي الذي فُرِضَت عليه بعض التعديلات بعد أن دخل العنصر الإيراني الجديد على خط المشاريع الطموحة في المنطقة إثر سقوط نظام الشاه، ما تطلب أن يُؤْخَذ في الاعتبار ضمن المخطط الأميركي للمنطقة؟!
فالمؤامرة النفطية الأولى بُدِئَ بتنفيذها بعد ظهور الإرهاصات الأولى لتوقيع إتفاقية سلام بين الإسرائيليين والمصريين. أي أن الأميركيين لم تتأكد لديهم ولا حُسِمَت في مخططاتهم فكرة إعداد دول الخليج ماليا وعسكريا وتنمويا بالشكل المناسب للتعامل مع حربٍ قادمةٍ في الإقليم، ومع تغيير إستراتيجي تُجَهَّز له المنطقة، إلا بعد أن تم تحييد مصر تحييدا تاما في أية حربٍ أو تغيير إستراتيجي قادمين. لأن مثل هذه الحرب ومثل هذا التغيير ما كان لهما أن ينتقلا من مجرد كونهما أملا يراود واشنطون، إلى كونهما ملفا قابلا للتنفيذ، إلاَّ بعد أن تم ضمان أن مصر بكل ثقلها العربي والإسلامي والعالم ثالثي، قد أصبحت خارج اللعبة بالكامل. لا بل، وبعد أن تم ضمان أنها قد أصبحت جزءا من مُكَوِّنات الخندق الإمبريالي في اللعبة، عبر سياسة الانفتاح، وعبر عملية التَّشْويه الاقتصادي والثقافي التي بدأ يمارسها النظام المصري الجديد بِحُزَمِهِ الثقافية الموبوءةِ بِأَمْرَكَةِ العصرِ في مصر، والتي بدأ يُصَدِّرُها إلى كامل الوطن العربي بعد ذلك. كما أن إسرائيل لم تبادر إلى العمل على تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان عام 1982، إلا بعد أن تم تحييد الجانب المصري من الصراع العربي الإسرائيلي تحييدا تاما وكاملا.
وحيث أننا قد وصلنا إلى الحديث عن تحييد مصر في الصراع العربي الإمبريالي، بوصفه مَثَّل حداًّ فاصلا بين مرحلتين متباينتين كلَّ التباين في تاريخ هذا الصراع وفي صيرورته، فقد أصبح لزاما علينا أن نوضحَ أبعاداً أخرى من تلك التي حكمت المسار التاريخي الذي اختطه هذا الصراع منذ ذلك التاريخ. وفي هذا السياق فإننا نودُّ الإشارة إلى نقطتين رئيسيتين وهامتين تَبَدَّتاَ عبر هذا التاريخ بوصفهما مُكَوِّنات ومداخل لا غنى عنها لفهم مفاعيل الحراك السياسي والمجتمعي في الإقليم العربي الشرق أوسطي.
الأولى.. ظهور كافة مفاعيل السياسة العربية الرسمية بعد زيارة السادات للقدس عام 1976 ولغاية احتلال العراق عام 2003 وكأنها تجلٍّ لصراعٍ حادٍّ بين معسكرين عربيين رسميين، هما..
1 - معسكر المهادنة الذي مثَّلَتْه مصر بقيادات ما بعد حرب أكتوبر. وهي القيادات التي أخذت على عاتقها في ضوء التماهي التام مع المخطط الإستراتيجي الأميركي المُعَد للمنطقة في تلك الحقبة من الزمن، إخراج مصر من دائرة كونِها قاعدةَ القومية العربية المقاوِمة. لتصبح مُجَسِّدَةً بدل ذلك لفكرةِ الهوية القطرية المهادنة، ولمفهوم البراجماتية الوطنية المُمْعِنَة في الذاتية القطرية التي سحبت الهوية "مصر"، إلى أبعد ماضٍ لها، وهو ماضي "الادعاءات الفرعونية"، التي لا قيمة لها إلاَّ في الوهم. ولتصبح أيضا مُرَوِّجَةً لـ "ثقافة الهزيمة والاستهلاك والارتهان"، ولعقيدة "الزمن الأميركي"، ولـ"حقائق العصر الصهيوني"، ولسياسة "قَتَلَتْه الفئة التي أخرجته"، و"أنا وبعدي الطوفان"، ولدبلوماسية "إنني لا أكذب ولكني أتجَمَّلُ أمام الجماهير"، كل ذلك بالتواطؤ والتنسيق التاَّمَّيْن مع منظومة "أبي رغال" الخليجية التي دعمت الثقافة المصرية المتهاوية في كل المجالات ببترودولار ما بعد الانفتاح، كي نرى أُمَّةً تنحدر إلى هاويةٍ بلا قرار على أجنحة ثقافةٍ ضحلةٍ، استبدلت عظماء الفن بأقزامهم، وعباقرة الرواية بتُفَّهِهِم، ومبدعي الشعر برواد مؤلفي أغاني الأعراس والموالد، والفلاسفة والمفكرين الكبار بأشباه الصحفيين من قصار القامات ومُعْدَمي الهامات.. إلخ.
2 - معسكر المقاومة والمواجهة الذي مثَّلَه العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي. إلى أن تم تدمير هذا الممثِّل تدميرا شاملا عبر سلسلةٍ متتابعةٍ من المصادمات والاعتداءات والمؤامرات والحروب والانشغالات الجانبية التي لم تترك له فرصةً لالتقاط الأنفاس. رغم أننا لا نستطيع أَلاَّ نُحَمِّل النظام السياسي العراقي قسطَا من مسؤولية العجز عن إدارة الصراع ضد العلاقات الإمبريالية في المنطقة، بوقوعه مرَّةً في المطبات والشِّراك التي كانت تُنْصَبُ له بسهولةٍ لا تُتَوَقَّع من نظام سياسي يُعِدُّ نفسَه ويُؤَهِّلُها ليقود قوى الثورة والتغيير العربية كلِّها. وبنزوعه مرة إلى الذاتية الممعِنة في "الأنا السياسية" الخالقة للفجوات والحافرة للمسافات البعيدة بينه وبين من يُفْتَرَض أنهم جماهيرُه. وبعدم قدرته أحيانا على اختراق المؤامرة الإمبريالية التي لم تكن على ذلك القدر من الجبروت، إذا هو تَمَكَّن فقط من الالتحام الكامل والموضوعي والصحيح، بقاعدته الجماهيرية المفترضة. وهو الأمر الذي لم يُقدم عليه على ما بدا من تاريخه المُقاوِم للعلاقات الإمبريالية، بالشكل الذي يُنْبِئُ عن تناغمٍ فعلي مع ما طرح نفسه متبنياً له من قيادةٍ للأمة، ففشل في أن يفرض على الإمبريالية بالتالي الأسلوب الجماهيريَّ في المقاومة. وهو الأسلوب الذي لم يبدأ بأخذِ موقعهِ في بُنْيَة الفعل الثوري الجماهيري إلاَّ مؤخرا وبعد سقوط بغداد. في حين كان بإمكانه الحيلولة دون أن يَحدث ما حدث، لو أنه عرف فقط كيف ينقل المعركة لتُخاَضَ في صفوف الجماهير العربية منذ وقتٍ مُبَكِرٍ.
الثانية.. ثبوت فشل النهج الثوري الفوقي النظامي الرَّسمي، الذي لم يَتَكَوَّن أو يتخَلَّق عبر صيرورةٍ وتطورٍ جماهيريين حقيقيين، في أن يتحول إلى هَرَمٍ قِمَّتُهُ ثورية. وفشلُه في النهوض بالإنسان العربي الخارجِ لتَوِّهِ من براثن الاحتلال والجهل والتخلف. وفشله في الرقي بهذا الإنسان ليجعلَ منه سندا فعليا لثورةٍ لأنها لم تبدأ من القاعدة وفيها. فبعد حوالي الستين عاما من الصراع العربي الإمبريالي عبر علاقات الصراع التي أفرزتها "إسرائيل"، و"أنظمة التجزئة"، وجدنا أن معادلة المقاومة بدأت بالكاد تأخذ شكلها الصحيح والطبيعي منهجياً، ببدءِ تبلور البُنَى الثورية الجماهيرية في الأماكن الساخنة من المشرق العربي.
لا يمكن لنظام سياسي ارتقت سِدَّة الحكم فيه فجأة – بشكلٍ أو بآخر – نُخْبَةٌ من الثوار أو من الوطنيين الأشراف الطامحين إلى التغيير الفعال في مجتمعاتهم، أن يقاوم وأن يخوض غمار ثورة جماهيرية حقيقية وشاملة، ما لم يكن نظاما يقود شعبا ثائرا أو شعباً مُهيئا للثورة، اختمرت فيه عبر تراكمٍ زمني كافٍ كل صواعق الانفجار، المتمثلة في وعي ذلك الشعب بقضيته وملابساتها، وفي إدراكه لمفاعيل نهضته وثورته، وفي استشعاره لتناقضاته مع أعدائه الذين سيثور عندما يثور ضدهم، وفي استكماله لعناصر بنائه النفسي والروحي المقاوِم، وبُناَهُ التنظيمية والحركية والمؤسسية القادرة على مُمارسة الفعل الثوري. وهذا ما أظهرت الستون عاما الماضية، أن الجماهير العربية التي بدأت حياتها المتَطَلِّبَة للنضال الفعلي والواعي والناضج، عَقِبَ تَحْقيق استقلالها السياسي غير المكتمل، والمُصاغ في أتون معادلات مرْبِِكَة ومُضطربة من الفوضى السياسية، لم تكن مستعدة له ذلك النوع من الاستعداد الدقيق والقادر على الدفع المستمر بالحراك الثوري نحو تحقيق النصر.
فمنظومة الأنظمة السياسية العربية الوطنية – ونقصد بالأنظمة الوطنية في هذا المقام، تلك التي كانت تعلن عدم قبولها مبدأَ المهادنة مع الإمبريالية وعلاقاتها في المنطقة بالمجان السياسي – التي بدأت مسيرتها بنظام جمال عبد الناصر في مصر، منتهية بنظام صدام حسين في العراق، مرورا بكلٍّ من النظام الجزائري في عهد هواري بومدين، والنظام السوري في عهد "آل الأسد" والنظام الليبي في عهد معمر القذافي. أثبتت جميعُها أن لكلٍّ منها مظاهرَ عَجْزِه الخاصة به في عدم القدرة على تثوير شعوب الأمة العربية، ودفعها إلى الصدام الكامل والعميق مع العلاقات الإمبريالية في منطقة المشرق العربي.
فإذا استثنينا النظام الجزائري الذي يُعَدُّ الوحيدَ في تلك المنظومة الذي تحقق في أرض الواقع بثورةٍ شعبية تحررية شاملة وواسعة، رغم أن الجغرافيا والتاريخ والجيوسِياسَة وقفت وتقف بالضرورة حاجزا يمنع من أن يكون هذا النظام نظاما حاضنا للثورة العربية. فإن الأنظمة الأربعة الأخرى جميعها في واقع الأمر لم تصل إلى سدة السلطة بثوراتٍ من النوع الجزائري، وطني الطابع، أو من النوع الإيراني الاجتماعي الطابع لاحقاً. بل هي كلها قد وصلت بانقلابات عسكرية، حتى ما كان منها عقائديا حزبيا كنظامي البعث في بغداد ودمشق. وبالتالي فليست الشعوب بتراكم نضالاتها وأفعالها الثورية الحتمية، هي التي أوصلت أولئك الثوار إلى قِمَّةِ الهرم السياسي في بلدانهم. كما أن النظام الليبي بالتحديد، انطوى على نفس العناصر الجغرافية والجيوسياسية والتاريخية المعيقة لاحتضانِ دورِ الريادة في المعركة الشاملة ضد الإمبريالية، فضلا عن حُزْمَةٍ من العناصر الاقتصادية والديموغرافية المانعة أيضا.
ما يجعل الأنظمة التي كان من المحتمل أن تحتضن بذور التحشيد الجماهيري الفعلية والفاعلة في مسيرة الثورة العربية، هي "مصر" و"العراق" و"سوريا". وقد بُدِئَ بتحييدها وإبعادها نظاما تلو الآخر، كل بالأسلوب الذي يناسبه، ولم يبق سوى النظام السوري في المرحلة الراهنة، ينتظر مصيرَه في هذه المعركة الحاسمة، التي تهدف الإمبريالية فيها إلى تحييد كل المؤسسات العربية الرسمية ذات الطابع المقاَوِم، إماَّ بتكريس نماذج شبيهة بالنموذج المصري الساداتي، وإما – إذا اضطرت إلى ذلك وقَدِرَت عليه – باللجوء إلى الأسلوب الذي تعاملت به مع النموذج العراقي البعثي الصَّداَّمي.
وإذن فالفجوة السياسية والوعيوية والمؤسسية والنفسية.. إلخ، بين أولئك القادة الثوار وبين شعوبهم كانت قائمة منذ البداية، لا بسبب أن تلك الشعوب لم تكن راضية عن أفعالهم الانقلابية تلك أو عن تداعياتها اللاحقة بالضرورة. بل هي كانت راضية عنهم كل الرِّضى في الغالب، لأنها رأت فيهم نموذجا من نماذج المواجهة التي كانت تطمح إلى تَقَمُّصها ومحاكاتها، وخاصة في البدايات، عندما لم تكن منظوماتُ وحزمُ الأخطاءِ السياسية التكتيكية والإستراتيجية القاتلة قد بدأت تفرض نفسها على أرض الواقع، على شكل مُمارساتٍ متناقضة وغير مفهومة، بسبب ثقلِ الواقع حينا، وعدم اتضاح الرؤية حينا آخر، وتضخم الأنا السياسية الفردية أو الحزبية لأولئك الثوار أحيانا كثيرة.
نقول.. إن الفجوة الكبيرة كانت قائمة لا بسبب ذلك، بل بسبب عدم النضج الكافي للبُنى الجماهيرية وللمؤسسات الثورية في صفوف الجماهير من جهة، وبسبب عدم وعي تلك القيادات بكل تفاصيل العمل الثوري الذي من شأنه أن يسَرِّع في ردم الهوة بينها وبين جماهيرها من جهة أخرى. عدم الوعي هذا دفع برجلٍ مثل جمال عبد الناصر رغم كل وطنيته ونقائه وشعبيته، إلى أن يرتعد خوفا بعد هزيمة 1967، خشية أن تقوم إسرائيل باحتلال القاهرة إثر انهيار الجيش المصري، وعدم وجود قوة عسكرية تدافع عن العاصمة، لولا أن خفف من رعشة الرعب لديه رئيسٌ "مقاتل" مثل هواري بومدين، يقيس الأمور القتالية بمقياس الشعوب والجماهير لا بمقياس الجيوش والعسكرتاريا، عندما فاجأه مفاجأة صَدَمَتْه، بِتَمَنِّيه أن تصل الحماقة والغطرسة بإسرائيل إلى حدٍّ تدفعانها بموجبه إلى فعل ذلك، كي تُعفيَ العرب من مغبة الاضطرار لمناجزتها بالجيوش النظامية عقودا كاملة قادمة من الزمن.
إن هذا اللاوعي الثوري الذي كشف عنه عبد الناصر رغم زعامته الكاريزمية الفذَّة، أكد أنه قائد غير محنك في تحويل الجماهير إلى قنابل ثورية تهزم الأعداء عندما يكونون أكثر قوة نظامية منا. إن الأنظمة التي هذا هو نموذجها القائد، وهو نموذج أظهر عجزاً حقيقيا بالمعايير الثورية الشعبية الجماهيرية، ما كان لها أن تجرؤَ على التفكير على طريقة ماو تسي تونغ، أو جياب، أو هوشي منه، أو جيفارا، في مقارعة الإمبريالية، ما جعلها بدل أن تُسهم في عملية ردم الهوة الموجودة بينها وبين جماهيرها على هذا الصعيد، تسهم في توسيعها، بخلق التناقضات التي كانت تبدأ صغيرة لتتفاقم تدريجيا بينها وبين تلك الجماهير، غير مُدْرِكَة أن الإمبريالية نفسها تَهدف فيما تهدف إليه من وراء ضغوطاتها المتلاحقة عليها، إلى إرباكها بالقدر الذي لا يتيح لها فرصة الالتحام بالجماهير بالشكل الدافع بالحركة الثورية الجماهيرية إلى التكَوُّن، فالتطور والنماء، فالاكتمال.
لقد بدا واضحا أنه كلما تم تحييد نظام عربي من تلك الأنظمة التي صُنِّفَت على أنها وطنيةٌ بالمفهوم الذي أوضحناه للوطنية، عن ساحة المواجهة ضد العلاقات الإمبريالية، كلما بدأت تتكون وتتخَلَّق في الواقع عناصر جنينية لبُنْيَةٍ ثورية جماهيرية هنا أو هناك من الوطن العربي، كبديل أو كإرهاصٍ ببديل يَتَشَكَّل. إلى أن غدا من الممكن التأكيد على أن المرحلة القادمة التي يبدو أن الساحة العربية قد تخلو فيها من أي عنصر وطني مقاوِمٍ على مستوى الأنظمة السياسية، بسبب أن آخر تلك الأنظمة هو قيد الترحيل والتحييد في معركةٍ غيرِ واضحةِ المعالم، تُحاكُ خيوطها بهدوءٍ تام وتُدَبّر فصولُها بليلٍ، هي المرحلة التي ستُفْسِحُ فيها فكرة "ثورة الأنظمة" القديمة، المجالَ واسعا لـ "ثورة الشعوب" الجديدة، القائمة على أن الثورة لا يمكنها أن تنجح حتى في أن تَتَخَلَّقَ وتَتَكَوَّن بطريقةٍ سليمة، ناهيك عن أن تنموَ وتتقدمَ في مسيرة التحرير الكبرى من العلاقات الإمبريالية، إلاَّ إذا كانت جماهيريةً تولد في الجماهير، وتسير بها ومعها، وتصل برفقتها إلى النهاية المحتومة.
فغياب نظام عبد الناصر وخروج مصر من اللعبة الوطنية ودخولها الخندق الإمبريالي، ساعد على تفاقم المد الثوري الجماهيري الفلسطيني واللُّبناني في لبنان بعد ضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن. وغياب النظام العراقي باحتلال العراق، فجر ثورةً ومقاومةً جماهيرية عراقية لم يكن يتوقعها أحد، ولا حتى الولايات المتحدة نفسُها التي اعترفت بأنها أعجز ما تكون عن مواجهتها ومنعها من التوسع والانتشار على المدى البعيد، بعد أن دخلت أدواتُها وإستراتيجياتُها المُتَّبَعَة مرحلة النَّوعيَّةِ والتَّمَيُّز الذي غدا مهددا للطيران الحربي الأميركي من مجرد التحليق في أجواء العراق، وبعد أن وصلت إمكانياتُها مرحلة اللاَّعودة واستحالة التقهقر والتراجع إلى الوراء. وهي تُمارس دورا تأثيريا فعاًّلاً غير مباشر على الساحات العربية الساخنة الأخرى مثل لبنان وفلسطيبن. ولا أحد يدري ما الذي يمكنه أن يحصل من تغييرات على مستوى الجماهير العربية إذا تم إطفاء آخر ضوء في النفق العربي الرسمي المظلم ممثلا في تحييد المقاومة البراجماتية الهادئة التي يبديها ويضطلع بها النظام العربي السوري في الوقت الراَّهن.
إننا على صعيد بُنْيَة الذهن المقاوِم للجماهير العربية، نلامس أطراف الحِقْبَةِ الثورية الثالثة التي ستكون الأخيرة حتما في مسيرة مجابهة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي، نظرا لعدم وجود حالةِ مقاومةٍ تمثل حقبةً رابعةً. فالحقبة الأولى التي سلمت فيها الجماهير العربية أمرها وأمر قضاياها ومستقبلِها للأنظمة العربية عموما، وهي مطمئنةٌ إلى وجود منظومةِ أنظمةٍ وطنية تكفل عدم ارتهان مصيرها وإضاعته هدرا، وَلَّت وانتهت بانتكاساتٍ وهزائمَ وخيباتِ أملٍ لا تعد ولا تُحصى، مُنِيَت فيها تلك الجماهير بأقصى وأقسى أنواع الخسارة المُتَصَوَّرَة. بعد أن فشلت الأنظمة الوطنية كلها وبلا استثناء في أن تكون في مستوى تطلعات جماهيرها من جهة أولى، وبعد أن أظهرت التجارب من جهة ثانية، أن الأنظمة غير الوطنية، أي "الرُّغاليَّة"، هي جزء لا يتجزأ وجبهة أكيدة من خندق الإمبريالية التي تعادي الجماهير نفسِها، ما لا يصح معه الاعتماد عليها في استعادة الحقوق، لأن الحقوق هي في الواقع مرتهنة ومعتقلة عندها، الأمر الذي يجب معه أن تُقاوَمَ، شأنُها شأنُ الذراع الآخر الحالي للإمبريالية "إسرائيل".
أما الحقبة الثانية التي راهنت فيها تلك الجماهيبر على المد الثوري الشعبي الفلسطيني في تحقيق آمالها وتطلعاتها الوطنية والقومية، فقد آلت هي أيضا إلى زوالٍ وخيبةِ أملٍ، بعد أن فشلت المقاومة الفلسطينية التي مثلت بحث أم الثورات العالمية، في تعبئةِ وتثويرِ جماهيرِ الأمة العربية في دول الجوار الإسرائيلي وتحشيدها ضد المشروع الإمبريالي، بسبب تَحَوُّلِها إلى النظام العربي الحادي والعشرين، الذي قد يكون أقل رُغاَلِيَّةً من باقي الأنظمة، لكنه نظام عربي على أية حال، رَبَطَ نفسَه وقيَّدَها بالقيود التي لا يمكن للجماهير أن تتحرر على وجه الحقيقة إلاَّ إذا انعتقت منها ابتداءً. لقد تأكدت لدى الجماهير العربية حقيقة الحقائق كلها بعد أكثر من نصف قرن من المعاناة والضياع والتضحيات والخسائر، ألا وهي أن مقاومة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي، لن تنجح إلا إذا تحققت فيها عدة شروطٍ يمكن حصرها في ما يلي..
1 – مقاومة أنظمة التجزئة الرُّغالية، ومواجهة كافة مخططاتها على الصعيدين القطري والقومي، وعمل كل ما في الوسع لانتزاع مواقع متقدمة منها على صعيد الحريات والحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية، وعدم إعطائها أية فرصة لالتقاط الأنفاس، وكشف كافة أساليبها الملتوية ومؤامراتها التي لا تتوقف على ثروات الشعوب العربية، وتعبئة الجماهير ضدها بكل أشكال العمل الجماهيري التعبوي وألوانه، وعدم مهادنتها في تلاعبها بمستقبل الأمة ورهنها لمقدراتها ومقامرتها بها بهذا المستوى غير المسبوق من السَّفَه، والتشهير بكل ما تمارسه من أعمال وما تعقده من اتفاقات خيانية في السِّرِّ والعلن، وحشد كافة ما يتاح من وسائل إعلامية وفكرية وثقافية وفنية وغيرها إن وُجِدَت، لمحاصرتها وتحجيم حيِّز تأثيرها على معادلات الحراك الجماهيري، كي تحقق الجماهير خطواتٍ فاعِلةً في مسيرة النضال والجهاد ضدها. والتنسيق في هذا الشأن مع كل جهة عربية تعمل ضمن نفس الاتجاه وتسعى لتحقيق نفس الأهداف.
2 – مقاومة المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني "إسرائيل"، بكل ما يتاح من وسائل وأساليب، ودعم كافة مظاهر النضال والجهاد الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بوصف ذلك مظهرا من مظاهر محاصرة الكيان الصهيوني وقصقصة أجنحته وتخفيف حدة تأثيره على الحراك السياسي والعسكري في المنطقة، والحرص على أن لا ينفصل هذا الجانب من جوانب مقاومة علاقات الإمبريالية عن سابقه، كي تحقق الحركة الجماهيرية بهذه الطريقة الشاملة في المقاومة نوعا من التأثير الفعال على الجبهتين، حارمة كل جبهة منهما من قدرتها على رفد الجبهة الأخرى بعناصر المقاومة والصمود والبقاء. والعمل على أن تكون ساحات الجوار المحيطة بكافة الأراضي المحتلة ساحات انطلاقٍ لمسيرة مقاومة ومواجهة استنزافية طويلة لا تنضب للكيان الصهيوني، تَقَدُّماً بمسيرة النضال والجهاد ضده خطواتٍ إلى الأمام للدَّفع باتجاه الحسم النهائي، وطرح كافة ما يساعد على تحقيق كل ما سبق ذكره في هذا البند ضمن البرامج القطرية لكافة حركات التجديد في الوطن العربي، وبالأخص في تلك المجاورة للأراضي المحتلة، وتوضيح الخطط والأساليب التي ستنفذها الحركات إذا ما استلمت السلطة في أي مكان، لرفد هذه الرؤية المُقاوِمة بكل عناصر الديمومة والنماء، حتى تحقيق النصر النهائي.
3 – مقاومة الإمبريالية الأميركية على الصعيد العالمي بالوسائل الإعلامية والسياسية والدبلوماسية والقانونية والاقتصادية، وبعقد التحالفات الثنائية وغير الثنائية مع الدول والمنظمات والهيئات المعادية لها والعاملة في مجال مكافحة مشاريعها وأطماعها في العالم، أيا كانت هذه الأطماع. وتأسيس القنوات التلفزيونية المناسبة شكلا ومضمونا، لتعبئة شعوب العالم، وخاصة الشعوب الأوربية والشعب الأميركي، ضد ممارسات الإمبريالية في العالم، بكشف جرائمها وتدميرها للإنسان وللطبيعة، ومحاربتها للعدل وللحرية على صعيد هذا الكوكب، رهانا على أن تلك الشعوب هي بالقطع مُضَلَّلَة في غالبيتها، الأمر الذي يجعل كشفَ حكومات وإدارات الدول الإمبريالية أمامها يعمل بالضرورة في اتجاه تحقيق النصر النهائي والحاسم على مختلف علاقاتها على مستوى العالم.
4 – تقديم كل أشكال الدعم الممكنة والمتاحة والمقدور عليها والتي لا تسبب المشكلات والإحراجات القانونية، لكل الشعوب والمنظمات الثورية والأحزاب السياسية التي تقاوم الإمبريالية ومشاريعها في كل مكان في العالم، انطلاقا من افتراضٍ صحيحٍ وصادقٍ مفاده أن مثل هذه الأعمال الداعمة لمحاربي الإمبريالية على الصعيد العالمي، ستُسْهِم قطعا في إضعافها وفي هزيمتها في نهاية المطاف.
5 – العمل الدؤوب بحُنْكَةٍ ودرايةٍ ووفقَ منظور إستراتيجي ناضجِ المعايير عميق الرؤى، على خلق القاعدة العربية الثورية الآمنة التي تقدر على احتضان الحركة الثورية العربية المقاوِمَة لكافة العلاقات الإمبريالية في الوطن العربي. على أن تكون هذه القاعدة "الدولة"، نتاجا خالصا لحركة الجماهير في نضالها ضد تلك العلاقات، ضمانا لبقائها في حالة التحامٍ تام ودائم مع باقي فصائل المقاومة والثورة والتغيير في كافة الدول العربية التي يتطلب وضعها ذلك من جهة أولى، ومع القوى المقاوِمَة لإسرائيل في كل مواقع المواجهة من جهة ثانية.
قد يكون إخراجُ سوريا من اللعبةِ وتحييدُها في مواجهة المشروع الإمبريالي في المنطقة العربية، بإعادة الجولان لها ضمن سيناريو مشَرِّف، أمرا مطروحا في المرحلة القادمة، عبر إيجاد حلٍّ يرضيها ويقنعها بأن صبرها الطويل لم يضع هدرا، وبأن سياسة التوازن الإستراتيجي والمقاومة بالوكالة عبر لبنان بسبب عدم الأنسبية الإستراتيجية لجبهة الجولان، قد أسفرتا عن نتائج هامة على صعيد التحرير. ليتم إدخالها في مرحلةِ انفتاح سورِيَّة شبيهة بنظيرتها المصرية الساداتية. وليتم التفرغ بعد ذلك لعناصر القوة المتبقية في الإقليم بالشكل الذي تفرضه طبيعة المعادلات السائدة بعد تَحَقُّق هذا السيناريو الصعبِ صعوبةَ إقناع كل البعثيين السوريين عندئذٍ بأن سوريا قد استعادت أرضها المحتلة وانتهى الأمر، وتحققت لها بالتالي الرسالة الخالدة التي تدعو إليها الأمة العربية الواحدة التي ينادي بها حزب البعث العربي الاشتراكي.
ولنا فيما بدأت تلوح له بوادرٌ في الأفق من تخليقٍ لمعارضةٍ سوريةٍ على الشاكلة العراقية، بعد ظهور شخصية مثل "عبد الحليم خدام" في فرنسا داعيةً إلى إسقاط النظام السوري الذي كان هو أحد أركانه الأساسيين طيلة عقودٍ من تاريخه، لأنه اكتشف فجأة أن هذا النظام كان فاسدا وغير أمين على مستبقل الأمة التي اضطلع بتبني مشروع توحيدها من المحيط إلى الخليج. فضلا عن التقارب المفاجئ بين النظام السوري ونظام بغداد القابع في المنطقة الخضراء، والتحالف الإستراتيجي التاريخي بين دمشق وطهران ما بعد الثورة، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن سوريا يجب أن تختار بين أمرين لا ثالث لهما.
- فهي إماَّ أن تقبل بالحل الساداتي على المقاس السوري ووفق الظروف الدمشقية، حفاظا على السلم والأمن اللذين نعمت بهما مدة طويلة رغم احتلال أراضيها، وطمعا في رفاهية مُتَصورة بالانفتاح على العالم الحر والرأسمالي انفتاحا ساداتيا، وإن يكن بثوب دِمَشقي يستعد لارتدائه كل من يتخندقون الآن وراء صبر الشعب السوري لوراثة آلامه وحرمانه الطويل، مواقعَ اقتصادية تحوِّل سوريا إلى مصر ساداتية جديدة.
- وإما أن تتخندق في خندق الجماهير العربية الذي بدأ يتشكل بوصفه الرافعةَ الوحيدة لمواجهة الأمبريالية بكل أشكالها، وباعتباره حاضنةً مضمونةَ النتائج على المدى البعيد، لكل أيديولوجيات المقاومة ضد كل الأذرع الاستعمارية في المنطقة العربية. لتتحول بالتالي وأياًّ كانت النتائج، إلى قاعدةٍ آمنة لقوى المقاومة والتحرر العربيين بالمعنى الحقيقي وليس المجازي، انسجاما مع الطرح ومع الخطاب القوميين والثوريين المقاوِمَين للقطر العربي السوري ولقيادته، وذلك بالضبط كما كانت فيتنام الشمالية في حينها بالنسبة للشعب الفيتنامي كله. فهل نحن في دمشق على أعتاب ظهور نظام ساداتي جديد، أم نحن على أعتاب ظهور نظام "هو شي مِنَّه" جديد؟!! نترك الإجابة للأيام القادمة، فهي وحدها القادرة على ذلك.


عَوْدٌ على بِدْءٍ..
تَمَكَّنا ونحن نحاول التأكيد على أن ما حدث في واقع النفط العربي، خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان مجرد مؤامرة نفطية على الأمة، استغلت قدرا كبيرا من التواطؤ الرسمي في تنفيذها، فمارس المتآمرون والمتواطئون من "الرغاليين الجدد" في جزيرة العرب مع المُخَطِّطِ الإمبريالي الأميركي بمقتضى تلك المؤامرة أعتى أنواع التضليل المعلوماتي ضد شعوبهم وضد أصحاب الفكر المخلصين في الأمة. نقول.. تَمَكّنا من كشف ما يؤكد لنا صحة منهجنا في تحليل الإستراتيجية الأميركية التي حكمت اقتصاديات النفط في تلك الحقبة، والتي تحكمها في كل حقبة قادمة من حقب الجيوسياسَة النفطية، راسمةً بواسطتها خرائط المنطقة العربية في الشرق الأوسط.
لقد قمنا باحتساب المداخيل النفطية لدول الخليج في الفترة من عام 1979 وإلى عام 1991، وهي فترة تشمل كامل الأعوام التي غطتها المؤامرة النفطية التي افترضناها، إضافة إلى السنوات التي شهدت الحربين اللتين تم التخطيط لهما في قلب المؤامرة، وهما الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأميركية العراقية في الكويت. ثمَّ احتسبنا المبالغ التي أُنْفِقَت على صفقات التسلح التي عقدتها دول الخليج مع الدول الغربية عموما ومع الولايات المتحدة خصوصا في الفترة محل الدراسة، وأضفنا إليها المبالغ التي أُنفقت من قِبَلِ دول الخليج على الحرب العراقية الإيرانية من جهة، وعلى تمويل الحملة الأميركية ضد العراق من جميع جوانبها التي أثارتها من جهة أخرى. والمبالغ التي أعلن الخليجيون أنفسهم أنهم خسروها في أزمات البورصات العالمية التي عصفت بالبورصات الأوربية والأميركية خلال الفترة نفسها.
ولم نُدْخِل في حساباتنا السابقة، النفقات الجارية لتغطية مصاريف تواجد القوات الأميركية في القواعد الخاصة بها على الأراضي الخليجية، والمستمرة منذ عام 1990 وحتى الآن. ولا أدخلنا في هذه الحسابات أيضا، الاقتطاعات الضخمة غير مفهومة المبررات ولا المرجعيات المستندية لمشروعيتها، والتي يقوم بها أمراء وحكام الخليج، سارقين ثروات شعوبهم لحساباتهم الخاصة، وكأن هذا النفط هو ملك آبائهم وأمهاتهم يقتسمونه بوصفه تركةً، لهم فيها كامل الحق، ويتصدقون تَكَرُّماً ومِنَّةً بما تبقى منه بعد توزيع التركة، على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
وعندما احتسبنا المبالغ المتبقية من مداخيل النفط الذي كان مرتفعَ السعر في معظم سنوات المؤامرة، بعد خصم ما تم احتسابه في البنود سالفة الذكر، باعتبار أن كل ذلك عبارة عن خسائر تم التخطيط أميركيا لتكبيدها للدول الخليجية، وجدنا أن تلك المبالغ لو قُسِّمَت على أعداد براميل النفط التي تم إنتاجها وتصديرها خلال الـ "13" عاما محل الدراسة، لكان سعر البرميل الواحد هو "8" دولارات فقط. أي وباختصار شديد فإن مبلغ "36" دولارا الذي وصل إليه سعر البرميل الواحد في حقبة المؤامرة، والمدفوع من جيوب مستهلكين معظمهم ليسوا أميركيين، ضُخَّ في جيوب الأميركيين دون سواهم، ولم يَطُل منه أصحاب العمائم في شبه جزيرة العرب ولا شعوبهم المغلوبة على أمرها، إلاَّ ما أراده صُنَّاع المؤامرة الأساسيين، وهو السعر الذي كان سائدا قبل بدء ارتفاعه في عقد السبعينيات.
أي أن الأنظمة السياسية في الخليج اعْتُمِدَت من قِبَل المركز الإمبريالي في المواجهة ضد الشعوب، شريكة في التواطؤ على تلك الشعوب وعلى ثرواتها الوطنية بالمجان. فإذا علمنا أن سعر البرميل عاد ليهبط إلى ما قيمته "6" دولارات في ذروة الأزمة عام 1986، لفهمنا أن المسألة إنما عادت لوضعها الطبيعي الذي كان الغربيون موافقين عليه قبل أن يبدأ العرب في لعبة النفط شركاء متآمرين مع الأميركيين عقب حرب أكتوبر، التي لا يمكننا أن نُنْكِر أن العرب استغلوا سلاح النفط خلالها استغلالاً كفؤاً حقا لمواجهة الأعداء الذين فرضت عليهم أحداث المعارك في الميدان أن يواجهوهم رغم أنوفهم.
وهذا ما نعتقد جازمين بأنه سوف يتكرر في اللعبة القادمة التي يبدو أنها ستكون أضخمَ بكثير مما حصل في السابق، بحيث تطلبت هذا القدر المهول من الارتفاع في أسعار النفط، لتحقيق فوائض كبيرة تستطيع تغطية متطلبات الخريطة الجديدة التي بدأ الأميركيون في رسمها قبيل احتلال العراق، والتي راحوا يستكملون رسمَها مع كل مستجدٍّ يفرض نفسه على الساحة هنا أو هناك بعد احتلاله مدشِّنين كل ذلك بهذه الصفقات المريبة مع المملكة السعودية هم وحلفاؤهم الإنجليز.
إننا في ضوء ما بدأنا نقرأه من ضخامةٍ في الاستعدادات لرسم الخريطة القادمة عبر تكديس الثروة البترودولارية والأسلحة الأميركية في أيدي الخليجيين، نستطيع تَخَيُّل بعض معالمها الدامية، التي لا نراها ترتسم أو تتشكَّل خطوطُها وألوانُها بعيدا عن..
- إيران في حربٍ مدمرة أو صراع مزمن ضد العرب عبر الساحة العراقية بالدرجة الأولى، وبشكل أو بآخر، يُؤسس له أو لها، طائفيا ومذهبيا بزعامة محفل ادعاء رعاية السنة، والمكون من كل من السعودية رئيسا، ومصر نائبا للرئيس، والأردن عضو شرف مراقب.
- وعن تركيا في البعد الكردي الذي بدأت تتكون معالمه في شمال العراق.
- وعن باكستان النووية في شكل تفعيلٍ مدمر لواقعها ولصراعاتِها غير واضحة المعالم، في بعدها الأفغاني بالدرجة الأولى، مادام الصراع في بعده الهندي أكثر انضباطا، بسبب عقلانية الهنود وعدم تحركهم داخل دوائر القرار الأميركي. ولعل ما تجلت عنه الحالة الباكستانية من اغتيال تراجيدي لزعيمة مهمة من زعماء العمل السياسي في باكستان هي "بي ناظير بوتو"، يؤشر إلى الآفاق المظلمة التي تعد الساحة الباكستانية لها، على الرغم من الهدوء الحذر الذي ساد باكستان بعد الحادثة بسبب قدرة النظام على امتصاص تداعيات الحادث التراجيدي بسيناريو الانتخابات الذي نفس معظم الاحتقانات، ربما إلى حين.
- وعن سوريا في حالة خروجها على الطاعة الأميركية والإسرائيلية، ورفضها لمشروع التحييد واختيارها لفكرة القاعدة الآمنة المحتضِنَة للثورة العربية الكبرى القادمة.
- وعن المقاومة الشعبية في كل من فلسطين والعراق ولبنان، التي علينا أن نتيقن من أنها وحدها تمثل فرس السبق والرهان الناجح للشعوب العربية في مقبل أيامها.
فإذا علمنا أن حكام الولايات المتحدة من الجمهوريين هم عادة ممثلو كارتلات صناعتي النفط والسلاح في معقل الإمبريالية، فهمنا على الفور لماذا يجب أن تكون السياسة الأميركية في عهود حكمهم صارخة في تبنيها لسياساتٍ خارجيةٍ تقوم في جوهرها على لعبتي النفط والسلاح، عبر حروبٍ ُتدار بأسلحةٍ أميركية، مدفوعة الثمن بأموال نفطٍ خليجيةٍ.
فارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، فضلا عن أنه يسهم في زيادة مداخيل أصحاب الكارتلات النفطية الأميركيين حتى من داخل السوق الأميركية نفسها. فإنه يُسهم في زيادة الفوائض في مداخيل الدول النفطية الخليجية التي تُعَدُّ أكثر الدول النفطية في العالم تبعية للإرادة الأميركية وخضوعا لها. ولعل هذه النقطة هي الأهم من بين مجموعة النقاط المشَكِّلَة لموضوع ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية الفورية. ولكن ما هي التركيبة النسبية لمصادر هذه الفوائض النقدية؟!
من الضروري العلم في هذا السياق بأن الولايات المتحدة الأميركية ليست هي السوق الرئيسية للنفط العربي الخليجي. إن الأسواق الرئيسية لهذا النفط، هي الصين واليابان وأوربا الغربية، ثم تأتي بعد ذلك الهند والولايات المتحدة، ومجموعة أخرى من دول العالم الشرقي والجنوبي. أي وبكلمة أخرى فإن مساهمة الولايات المتحدة في تكوين هذه المداخيل والفوائض هي مساهمة ضئيلة. وهنا مكمن الفائدة الحقيقية لها.
إذ أن هذه الأموال والثروات التي يُعَدُّ معظمها غيرَ أميركي، ولم يُضَخ إلى الخليج العربي من سوق النقد الأميركي، سيعاد ضَخُّ معظمها إن لم يكن كلها إلى السوق الأميركي وليس إلى غيره، مرتين وبشكلين مختلفين، كلاهما ذو مردود عالي على الناتج الأميركي. المرة الأولى، عندما يتم إيداع معظم هذه المداخيل الفائضة عن الحاجة التنموية والإنفاقية المُشَوَّهَة لتلك الدول، على شكل مُدَّخرات في البنوك الأميركية، وعلى شكل استثمارات في البورصات الكبرى في الولايات المتحدة. والمرة الثانية، عندما تُدفع مبالغ كبيرة جدا منها للإدارة الأميركية على شكل أثمان لصفقات أسلحة، أو على شكل تكاليف حماية وقواعد عسكرية مقامة في الأراضي الخليجية، أو على شكل تغطية نفقات عسكرية لمهام تقوم بها القوات الأميركية لأغراضٍ تُصَنَّف على أنها دفاع عن تلك الدول.. إلخ.
فإذا علمنا أن أن نظام التثمين والتسعير في المسائل العسكرية والدفاعية أبعد ما يكون عن الموضوعية القائمة على منطق الربح المنطقي الذي يُضاف إلى التكلفة الحقيقية، بحيث أن معظم أسعار بيع السلع والخدمات العسكرية المقدمة للدول الخليجية، تعادل ما لا يقل عن عشرين ضعف التكلفة الحقيقية لها. فإن هذا يعني أن الولايات المتحدة تكون قد سرقت أموال النفط العربي الخليجي المحصل عليه من التصدير لدول العالم، بموافقةٍ ورضىً تامين من حكومات تلك الدول، تحت لافتة التسلح والدفاع عن الأمن القومي لها.. هذا أولا..
في حالة نشوب حرب إقليمية في المنطقة، فإن طرفا واحدا على الأقل من الأطراف المتحاربة سيكون مسلحا بالسلاح الأميركي. والذين يدفعون ثمن هذا السلاح بشكل مباشر أو غير مباشر هم الخليجيون، وذلك من فوائض مدخراتهم في الولايات المتحدة وفي غيرها، وتنطبق على مستويات التسعير في هذا المقام، المعايير نفسها التي انطبقت في حال الشراء المباشر للسلع وللخدمات العسكرية.. وهذا ثانيا.. وحتى لو كان أحد الطرفين المتحاربين مكتفيا بذاته، فإن هذا لا يغير من الجوهر شيئا، فما لم تنفقه الدول الخليجية على المسائل العسكرية والحربية والدفاعية، تضيِّعه في البورصات في عمليات التبَخُّر الدورية التي تتعرض لها تلك البورصات في أزماتها المفتعلة من حين لآخر كما مر معنا.. وهذا ثالثا.
وفي هذا الصدد يجدر بنا توضيح مسألة هامة قد تتبادر إلى الذهن، ويحصل بسببها الكثير من الارتباك في التصورات والمفاهيم، وقدر كبير من التَّشَوُّش في فهم صيرورة الأحداث ودلالاتها. فالكثيرون يتساءلون.. إذا كانت شركات النفط في الولايات المتحدة بوصفها أكبر منتج للنفط في العالم، ستبيع نفطها الذي تُنْتِجه كاملا داخل السوق الأميركي، بأسعار السوق السائدة التي وصلت إلى أعتاب الـ (125) دولارا للبرميل في فترات الذروة خلال شهر مايو / أيار 2008، فضلا عما ستشتريه بهذه الأسعار من السوق العالمية. أليس ذلك سببا وجيها لتذمر المستهلك الأميركي شأنه في ذلك شأن بقية مستهلكي العالم، الذين سيعانون من هذا الارتفاع المهول في الأسعار؟!
وإذن فإن الفائدة النسبية المحدودة التي تحققت للكارتل النفطي الأميركي، يقابلها ضرر كبير تعرض له كل الشعب الأميركي الذي سينعكس ارتفاع أسعار النفط على مستوى معيشته في كل جوانبها. أي أن المليارات التي حققها الكارتل النفطي كمكاسب نقدية طارئة بسبب هذا الارتفاع، والتي حصل عليها في واقع الأمر من خلال عملية ترحيل لها من مكان داخل الولايات المتحدة إلى مكان آخر، دون أن تكون لها أية دلالات في زيادة الناتج القومي الأميركي، فهي لم تُنْتِجْ سِلَعاً جديدةً ولا حقَّقَت قيمة مضافة، إنها كميات ثابتة من النفط الخام ارتفع ثمنها، فباعها منتجها بهذا الثمن الجديد إلى مستهلكها الذي دفع أكثر.. نقول.. إن هذه المليارات أليست تدفقا ماليا إضافيا تَكَبَّدَه المستهلك الأميركي من جيبه الخاص بدون تَغَيُّرٍ في دخله الفعلي؟! أو ليس ذلك بالتالي عبئا إستهلاكيا وقع على كاهله، سيثير تَذَمُّرَه من إدارته ويدفعه إلى الحنق والنقمة عليها؟!
في واقع الحال تبدو هذه الأسئلة مشروعة ووجيهة للوهلة الأولى. لكنها لا تلبث أن تظهر سخيفة وبلا معنى عندما نفهم حقيقة السياسة النفطية الأميركية داخل الولايات المتحدة. فمنذ زمن بعيد بدا واضحا للإدارة الأميركية أن واقع الشرق الأوسط وأوضاعه السياسية المتقلبة وغير المنضبطة، قد تتطلب إحداثَ تغييراتٍ تقتضي تراكمَ كمٍّ هائلٍ من الثروة بأيدي العرب الخليجيين، لا يمكن تَحَقُّقُه إلاَّ بارتفاعِ أسعارِ النفط الخام إلى أرقامٍ تقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد، باعتباره ولأجيال قادمة هو مصدر الدخل الأساسي في تلك الدول. وبالتالي فهي كانت تدرك أيضا أن هذا الارتفاع الخيالي إذا لم يتم أخذ الحيطة له منذ ذلك الزمن البعيد، فإن انعكاساتٍ خطيرةً غيرَ مأمونةِ العواقب ستحدث في المجتمع الأميركي بسببه. فماذا فعلت، وبماذا احتاطت، وكيف تصرفت منذ ذلك الوقت، بشكلٍ يَجعل التَّخَوُّفات المحتملة محلولةً بأثرٍ رجعي؟!
منذ وقت مبكر – منتصف السبعينيات تقريبا – فرضت الإدارة الأميركية على النفط الخام ضريبة فدرالية، بنسبةٍ متغيرة لا تعرف الثبات، في ضوء علاقةٍ من نوع غريب بسعرِ برميل النفط، جاعلةً هذه النسبة تتغير صعودا وهبوطا، لتحقق معادلةً سعريةً تَتَّسِم بالثبات المتمحور حول سعر يقارب المائة والخمسين دولارا للبرميل الواحد. ومعنى هذا الكلام أن الإدارة الأميركية حددت سعرا افتراضيا لبرميل النفط بالنسبة للمستهلك الأميركي هو ما يقارب المائة وخمسين دولارا. وكان المستهلك يدفع هذا السعر لثمن البرميل الواحد من النفط الخام، مُقَسِّماً إياَّه إلى جزءين، أحدهما يمثل سعر البرميل الذي يتقاضاه المنتج وهو من حَقَّه، والجزء الثاني ويمثل الفارق بين هذا السعر والسعر الافتراضي، والذي هو المائة وخمسين دولارا تلك، ويُدفَع هذا الجزء كضريبة على النفط الخام، للحكومة الفدرالية.
أي أن المواطن الأميركي كان يتعامل منذ زمن بعيد جدا مع برميلٍ للنفط الخام سعره مائة وخمسون دولارا دون أن ينتبه إلى ذلك أو يعيه، لأن هذا السعر في واقع الحال منطوَىً في كل ما يستهلكه في حياته من سلعٍ وخدمات. وليس هذا السعر بالأمر الجديد عليه من حيث تأثيره في حياته. كل ما في الأمر أن الحكومة الأميركية كلما ارتفع سعر النفط مقتربا من المائة وخمسين دولارا للبرميل الواحد، تُخفِّضُ من نسبة ضريبتها هي. فعندما كان ثمن البرميل أربعين دولارا، كانت الحكومة تتقاضى ستين دولارا، وعندما أصبح ثمنه سبعين دولارا، فإنها راحت تتقاضى ثلاثين دولارا. وإذا أصبح ثمن البرميل مائة وخمسين دولارا، فإن الحكومة الفدرالية لن تتقاضى عنه شيئا. أي أن السعر بالنسبة للمستهلك الآن وغدا وإلى أن يصل السعر إلى مائة وخمسين دولارا، ثابت لم يتغير ولم يحس به على وجه الإطلاق، فيما تكبدته الحكومة على شكل ضرائب تتنازل عنها، كي تلعب لعبتَها في رفع الأسعار بالشكل الذي تريده تنفيذا لسياساتها العالمية والشرق أوسطية، دون أن تثير مخاوف المواطن الأميركي وقلقه. أي أنها راحت تدفع للمواطن ضرائبَ بشكل غير مباشر.
ولعل الاضطراد المتواصل في ارتفاع أسعار النفط الخام دون أن نسمع عن مشكلات أو تذمر لدى المستهلك الأميركي من هذا الارتفاع أو من انعكاسه على مستوى معيشته، يثبت لنا ذلك ويؤكده. بل إننا لم نسمع رئيسا أميركيا تحدث عن تأثير سلبي لارتفاع الأسعار على الاستهلاك الأميركي إلا مؤخرا – منتصف شهر مايو / أيار 2008 – عندما أعلن الرئيس جورج بوش بخجل وبمرور عابر، أن بدء ارتفاع أسعار البنزين قد يؤثر على المواطن الأميركي، وهو ما دعاه إلى طمأنة ذلك المواطن بأن المسألة لن تؤثر عليه.. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن الرئيس الأميركي عندما صرح هذا التصريح، فبعد أن أصبح سعر برميل النفط حوالي 125 دولارا، أي بعد أن بدأ يقترب من الخط الأحمر الذي تحدثنا عنه فيما مضى.
أما تعويض هذه المليارات التي ستتكبدها الإدارة الأميركية بتخفيض نسبة ما تحصل عليه من ضرائب على النفط الخام من مواطنيها فأمرها سهل، لأنها ستُسْتَرَد مضاعفة من صفقات التسليح ومن نفقات ومصاريف تمويل الحروب التي ستغطيها الدول الخليجية في الشرق الأوسط.
فلندخل إلى شيء من التفصيل لتوضيح ذلك أكثر.
دعونا نفترض أن السعودية ستصدر ما مجموعه السنوي (2000) مليون برميل من النفط الخام، بواقعٍ يقارب الـ (6) ملايين برميل تقريبا في اليوم. وبسعر يصل فقط إلى (70) دولارا في المتوسط للبرميل الواحد. إن إيراداتِها المُتَأَتِّيَة من هذا الإنتاج خلال سنة واحدة هو (140) مليار دولار، يمكنها أن تتجمع على مدى عشر سنوات لتصبح (1400) مليار دولار. فإذا علمنا مثلا أن المملكة السعودية ستنفق فقط ما مجموعه (400) مليار دولار على موازناتها خلال السنوات العشر، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن فائض في الثروة البترودولارية قدرها "ترليون" دولار على مدى السنوات العشر محل الدراسة تلك.. (هذا مثال افتراضي لشرح الآلية وليس لتوضيح حقيقة الأرقام، لأن الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، مع وصول الأسعار إلى أكثر من 120 دولارا للبرميل وهي في تزايد، ومع استعداد السعودية لإنتاج أكثر من 6 ملايين برميل يوميا لتعويض أي نقص في المتاح من النفط في حال تطبيق عقوبات على إيران، أو في حال حدوث أزمات إقليمية أو دولية تهدد التدفقات النفطية في العالم).
بكل تأكيد فإن هذه المبالغ ستودع في البنوك والبورصات وبيوتات المال الأميركية بالدرجة الأولى، والأوربية بالدرجة الثانية. خلال السنوات العشر فإن السعودية ستشتري أسلحةً بقيمة (150) مليار دولار. وبما أن أسعار الأسلحة غير منطقية وتكافئ حوالي عشرين ضعف ثمنها الفعلي الذي كَلًَّفه إنتاجها. فهذا يعني أن أكثر من (140) مليار دولار ستدخل إلى الولايات المتحدة كمكاسب وأرباح حقيقية من صفقات الأسلحة تلك. وبما أن الحكومة الأميركية بدورها تشتري الأسلحة التي تبيعها لأولئك المغفلين أو المتآمرين، بأثمان مرتفعة من شركات تصنيع الأسلحة الممثلة للكارتل العسكري في الولايات المتحدة، كي يستفيد الجميع من صناعة الموت هذه، فإن هذا المبلغ سيوزع ضمنا وعبر الصفقات التجارية التي ستكون قد تمت بشكل قانوني بين الحكومة وشركات السلاح على الطرفين، بحيث يمكن القول أن الحكومة الأميركية ستحقق مداخيل إلى خزينتها جراء هذه الصفقات لا تقل عن (100) مليار دولار.. هذا جانب واحد من جوانب إمتصاص الفوائض في المداخيل النفطية للدول الخليجية.. وماذا بعد؟!
دعونا نُكْمِل السيناريوهات الافتراضية المُخَطَّط لها أميركيا. ستندلع حرب مدمرة في الإقليم تكلف ما بين أسلحة وذخائر وخدماتٍ عسكرية ودفاعية وغير ذلك ما يقارب الـ (500) مليار دولار. ستُدْفَعُ أيضا من المال السعودي الفائض هذا. ولأن أسعار كافة الأسلحة والخدمات العسكرية والدفاعية غير منطقية كما مر معنا، وأنَّها تكافئ حوالي العشرين ضعف التكلفة الفعلية، فهذا يعني أننا نتحدث عن حربٍ ذات تكلفةٍ فعليةٍ مقدارها (25) مليارا تقريبا، أي أن ما يقارب الـ (475) مليارا من الدولارات، دخلت إلى الولايات المتحدة كأرباح ومكاسب حقيقية من هذه الحرب. وإذا عدنا لتوزيع المكاسب بين الحكومة الأميركية وبين شركات السلاح والخدمات العسكرية المختلفة بنفس نسبة التوزيع السابقة، فإننا نتحدث عن مكاسب ومداخيل صَبَّت في خزينة الحكومة الأميركية مقدارها بسبب هذه الحرب (350) مليار دولار تقريبا.. أي أن إجمالي ما دخل إلى الخزينة الأميركية بسبب الامتصاص العسكري للفوائض السعودية اقترب من النصف تريليون دولار.. ولكن ماذا بعد؟!
ما يزال هناك ما يزيد على النصف تريليون دولار مدَّخرةً في بورصات وبنوك الأميركين والغرب ومسَجَّلَةً كملكيات نقدية للسعوديين. وهذا وضع نشاز وغير مقبول وعلى السعوديين أن يستعدوا لإكمال اللعبة بخصوص هذه الفوائض المتبقية حتى النهاية. كل ما في الأمر أن السعوديين يبدأون في ترتيب أوضاع هذه الملكيات المختلفة الأشكال، لتوضع أمام بوز المدفع "البورصي" الأميركي، لتُطلِقَ عليها البورصات نيران مدافِعِها الحارقة بشكل مدروسٍ يُبَخِّرها، وينتهي الأمر. وهكذا يكون الاقتصاد الأميركي قد ضَخَّ إلى مالكيه ومستثمريه ومواطنيه أكثر من نصف ترليون دولار في رمشة عين، أتاحتها أبخرة المال السعودي الذي اشتعل في محارق البورصات الأميركية. وهو قدر مهولٌ من الدخل لا يُتاح في مثل هذا الوقت القياسي لكل البشرية مجتمعةً. كما أن الحكومة الأميركية تكون عبر لعبة صفقات الأسلحة والحروب الإقليمية المحبوكة قد استعادت أضعاف ما تنازلت عنه من ضرائب للمواطنين الأميركيين بسبب غلاء أسعار النفط الخام. لتكون النتيجة أن كل طرف في الولايات المتحدة كان مستفيدا فيما تضرر كل العالم الذي أرادت الولايات المتحدة أن يتضرر.
خلاصة القول إذن، أن ارتفاع أسعار النفط العالمية لا يعود على العرب بأية منفعة ذات دلالة تنموية مادام الأوصياء على نفطهم هم حكام الخليج سفهاء العصر من الرغاليين الجدد المتحالفين مع المحافظين الجدد. كما أنه لا يتسبب للأميركيين بأية مَضَرَّة، ماداموا سيمتصون كل الفوائض النقدية التي حققها العرب والمتأتية لهم من دول العالم الأخرى، من خلال إستراتيجيتهم العسكرية في المنطقة العربية. وكأن الولايات المتحدة الأميركية تُمَوِّل حروبَها وقواتِها في المنطقة بأموال ليست لها. فتكون بذلك قد حَرَّكَت وأحيت ونشَّطت كارتلين ضخمين من الكارتلات التي تُشَكِّل القوى الأساسية والفاعلة في معقل الإمبريالية، وهما كارتل النفط الذي استفاد أصحابه من ارتفاع الأسعار ابتداء وبشكل مباشر، باعتبار الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط الخام في العالم، عبر عملية إزاحةٍ داخليةٍ لقطعة هامة من الكعكة الأميركية على حساب الخزينة الحكومية الأميركية التي تفعل ذلك حماية للمواطن من جشع المنتج الذي يجب أن يربح ويلبي نهمه إلى المال والثروة، وحماية للمنتج من ثورة المواطن الذي يجب أن يبقى نظام التسعير في حياته الاستهلاكية متوازنا غير مُخِلٍّ بمقدرته الشرائية. وكارتل السلاح الذي استفاد أصحابه من فوائض النفط الخليجي التي مُوِلَت بها مبيعات أسلحتهم وخدماتهم العسكرية المتنوعة.
ولأن معظم هذه المداخيل النفطية الخليجية قد تأَتَّت من كل من الصين والهند واليابان وأوربا الغربية وأوربا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، فهذا يعني عمليا أن الولايات المتحدة برفعها لأسعار النفط إلى هذا الحد إنما تضغط على اقتصاديات تلك الدول بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة من دولة إلى أخري كي تُدًَفٍِّعَها أَتاواتٍ عالمية كما يفعل كلُّ البلطجية والفُتُواَّت في المجتمعات البدائية. مُستهلكو الطاقة في العالم إذن، هم الذين يدفعون ثمن شلالات الدم في الشرق الأوسط عبر أيدي حكام الخليج الذين يقومون بهذا الدور القذر من خلال دفع ثمن أسلحة الموت والدمار التي تريق الدماء في المنطقة من ثمن النفط الذي تمتلكه شعوبهم بعد أن باعوه لأولئك المستهلكين كي يتدفأوا به، لتكون النتيجة الفعلية أنهم يتدفأون بدماء ضحايا الشرق الأوسط.
خاتمة
من الواضح إذن، أن العناصر المُكَوِّنة للصيرورة التاريخية لهذا الإقليم الحساس من الوطن العربي متداخلة بشكل متشابك، وهذه الصيرورة تفرض حراكا مُجتمعيا يأخذ تشابكَ عناصرها بعين الاعتبار. فإذا كانت العلاقات الإمبريالية في الإقليم تربط بين اقتصاديات النفط وبين إشعال الحروب كي تقوم هذه الاقتصاديات وتستمر، وإذا كانت اقتصاديات النفط بشكلها القادر على إشعال الحروب وتبريرها، تتطلب نوعا من التبعية المُشَوِّهَة للتنمية والقادرة على الضلوع في التآمر على الثروات القومية، وإذا كانت الحروب التي يتم إشعالها في سياق إدارة اقتصاديات النفط، تحتاج إلى تأطير معتقدي يبرر الموقف السياسي الرسمي منها، وهو ما يعني التَّنَمْذُج الثقافي القادر على تبرير الخيانة والهزيمة والتبعية والارتهان بشتى أشكال التبرير المُتَصَوَّرَة.
وإذا علمنا أن مُخَلِّقات الثقافة في أمةٍ من الأمم تتمحور حول أنماط التربية، وأشكال التعليم، ومديات الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية، وآفاق حقوق الإنسان وفضاءاتها، والمضامين الحقيقية لفكرة الاستقلالية في وسائل الإعلام المختلفة، ومعاني العدالة الاجتماعية والتكافل، ومفاهيم الولاء والانتماء للوطن، وجوهر العمل الجماعي والتطوعي في المجتمع، وحدود الشعور بالأنا الفردية في تفاعلها وفي استقلالها، أو في تجاذبها وتنافرها مع الأنا الجمعية.. نقول.. إذا علمنا أن كلَّ ذلك يُسْهِم في تخليق المضامين الثقافية لأمة من الأمم. فهل يمكن فصل تلك البُنى المجتمعية التي تمثل مصدر الميكانيزم التًَّخْليقي لتلك المضامين عن البُنى الأخرى في سياق وضع مخططات النهضة والنمو في أمة تتشابك فيها عناصر النهضة بشكل مربك، كما هو حال الأمة العربية؟!
إننا نتحدث في واقع الحال عن تنمية تمثل طريقاً إلى النهضة ورافعةً لها وحاضنة لصيرورتها، ولا نتحدث فقط عن تنميةٍ بديلةٍ لتنميةٍ قائمةٍ وقاصرةٍ عن تحقيق مؤشرات رقمية أفضل، في مسائل التضخم والبطالة وفي مستوى المعيشة وفي التأمينات الاجتماعية وفي غيرها من مؤشرات الحياة المجتمعية الاقتصادية في مجتمعٍ خالٍ من المشكلات ذات الطبيعة غير الاقتصادية، وناهضٍ من أوحال التخلُّف إبتداءً، ويعيش أبناؤه حالة استقرار سياسي تُبْعِد عنه شبحَ الحروب الداخلية والخارجية، وشبح الصراعات الإثنية والمذهبية، وكل مظاهر القمع والاضطهاد.
كما أننا نتحدث عن تنميةٍ لشعوبٍ لا تربطها بأنظمتها السياسية أية روابط انتماء أو ولاء أو تمثيل حقيقية، وتتعارض مصالح الفئات الحاكمة لها مع تطلعاتها إلى حياةٍ أفضل في كل شيء، تعارضاً يرقى إلى حد التناقض الذي يستدعي على الدوام كل أدوات القمع والاضطهاد، لا أدوات الحوار والتنافس النزيه والشريف والديمقراطي لحلِّه. ولسنا نتحدث عن تنميةِ شعبٍ يستطيع بتظاهرةٍ سلمية عزلَ حُكاَّمِه اللصوص والمنحرفين وتقديمهم للمحاكمة، ويستطيع صحفي صادق منه إسقاط حكومة بنشرِ خبر مشين ومسيء لكرامة الشعب الذي اختارها لتنفذ فيه برنامجا ارتضاه وقَبِلَ بها على أساسه.
ومع أن قيام التنمية – أية تنمية في العالم – حتى في الدول المتقدمة والمستقرة سياسيا، والمتحررة من الأزمات الإقليمية والدولية التي قد تفرض عليها تعاطيا مُرْبِكاً معها، لا مفر منه في كل نواحي صيرورتها، يجب أن تأخذ في الاعتبار مبدأ الترابط بين مشكلات المجتمع وبين مختلف قضاياه مَحَلَّ النهوض بها تنمويا. إلاَّ أن ما وددنا التأكيد عليه في حديثنا الذي ربط التنمية في الوطن العربي بفكرة النهضة عموما، هو أن طبيعة المشكلات التي تُكَوِّن حالة التخلُّف والانحدار التي تعاني منها الأمة العربية تتطلب علاقةَ ترابطٍ وتشابكٍ من نوعٍ مختلف بين قضاياها ومشكلاتها، تتجاوز مسألة التأثُّر والتأثير الرقميين اللذين تمكن قراءتهما بوصفهما مؤشرات على حالةٍ كَمِّيَّةٍ قابلة للحساب.
فمشكلة التعليم في الوطن العربي مثلا ليست مجرد تباين كمِّي بين المخرجات التعليمية والمدخلات التشغيلية في المجتمع، سواء تم النظر إلى هذه المخرجات وإلى تلك المدخلات نَوْعِيًّا أو كمِّياًّ بعد ذلك!! إن العنصر الكمي في العملية التعليمية هو عنصر تنظيمي وليس أبدا عنصرا تكوينيا. فالمشكلة التعليمية هي فضلا عن كونها مشكلة تنظيمية، بل وقبل أن تكون كذلك، نتاجُ خللٍ في بُنْيَة الفلسفة التعليمية، التي عجزت بل وعزفت على الدوام عن تنشئةِ وخلقِ المواطن القادر على التفكير البنَّاء، وعلى رفض مبدأ التبعية والتلقين، والتي خلقت شرخا ذهنيا لدى المواطن، لا يمكن علاجه بأية تَغَيُّرات في المؤشرات الرقمية للتنمية التعليمية وغير التعليمية، عندما جعلته يعيش حالةً من التناقض بين عِشْقِه لقيم دينه التي تطلب منه أن يكون شجاعا وصادعا بالحق ومُقبلا على الجهاد في سبيل الله ومقارعة الأعداء ورفض الذل والهوان أو إعطاء الدنية في الدين وفي حب الوطن، لتُعَلِّمَه أنظمته السياسية في الممارسة الحياتية، كيف يكون ذليلا وعبدا وخانعا إلى درجة الاستسلام لشرطي يقوده في الشارع كما النعجة التي تُقاد إلى مذبَحِها. أو عندما جعلت المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، يسكت خانعا حتى عن المطالبة بحقه في أن تكون له نقابة تدافع عن حقوقه المهنية والوظيفية، بينما هو يُدَرِّسُ التلاميذ ليل نهار في مادة التربية الوطنية أننا دولة حق وقانون لا تظلم أحدا وتكره الظلم والظالمين. وهذا التناقض الذي أشرنا إليه هو مجرد مثال عابر من مئات وربما آلاف الأمثلة الدالة على الخلل العميق في البناء الفلسفي للعملية التعليمية في الدول العربية عامة، وفي دول منظومة المحور الأكثر ارتباطا بالإمبريالية، والأكثر تمثيلا لعلاقاتها وتجسيدا لها في المنطقة العربية.
خلاصة القول إذن، هي أن التنمية المستهدفة من قِبَل القوى التي يُفترض أنها تنظر إلى الأمور في الدول العربية بمنظار وطني شامل ومتكامل، على قاعدة أن قضاياه كلَّها تنطوي على بعد تَحَرُّري مُقاَوِم للعلاقات الإمبريالية في المنطقة، تُعْتَبَر تنميةً ذات جوهر نهضوي. لذلك فإننا نستطيع وصف التنمية التي ننادي بها وندعو إليها، سواء على الصعيد العربي القومي أو على الصعيد القطري، بأنها "تنميةٌ نهضويةُ المضمونِ مُقاوِمَة الشِّكلِ".
ومعنى ذلك في البُعْد الشِّكلي المُقاوِم للتنمية، أن كل بند من بنودها التي ستُطرَح، وكل جزئية من جزئياتها التي سيُناَدَى بها، سينطويان على تناقض مباشر وفوري – غالبا وليس دائما – مع بُنْيَة النظام السياسي الذي تُمارَسُ العملية السياسية في مواجهته. وهو ما يُحَتِّم أن يحدث نوع من الاحتكاك – بصرف النظر عن شكله – بين الجماهير التي ستمثِّلها الطليعة المقاوِمَة وبين العلاقات الإمبريالية التي سيمثلها النظام، يُفَعِّل التناقض ويدفع به إلى التفاقم، لتتخذ الصيرورة التاريخية التي تَخلقها حالة الاحتكاك تلك، شكلا جديدا يَمَثِّل حالةً أكثر تقدمية بالنسبة للجماهير، حتى لو كانت هذه التقدمية مُتَمَثِّلَةً في مزيدٍ من الاحتقان وفي مزيدٍ من الاحتكاك بين النقيضين المتصارعين، مادام المزيد منهما يعمل في الاتجاه التقدمي الصاعد والخادم لمسيرة حل التناقض في المُحَصِّلَة.
أما المعنى المُنْطَوَى في المضمون النهضوي للتنمية فهو مثلا، أن نضع الخططَ والبرامج الكفيلة بالنهوض بالعملية التربوية والتعليمية، وأذهاننا تبحث في انعكاسات ذلك على الاقتصاد وعلى الديمقراطية وعلى مقاومة المحتل وعلى الصحة وعلى العدالة الاجتماعية وعلى غيرها من مُكَوِّنات البناء المجتمعي في الوطن، كي نضمن أَنَّ تلك الانعكاسات سوف تُحقق التصور الذي تصبو إليه إرادة الجماهير بهذا الشأن.
وهو يعني أيضا، أن نضع صيغ النهوض بالصناعة وبالزراعة وبعملية الإسكان وبالتشغيل ومعالجة معضلة البطالة، وعيوننا على مستقبلٍ محتملٍ للوطن بوصفه ساحة معركة مرتقبة مع العدو الصهيوني، أو مع شكلٍ متقدمٍ من أشكال الاحتلال الإمبريالي. وهو يعني على سبيل المثال لا الحصر أيضا، أن نضع الحلول لمشكلة الفقر وللتباين الطبقي الاقتصادي الشاسع في المجتمع، دون أن ننسى أن مقاومة العلاقات الإمبريالية في المنطقة وفي الوطن مُمَثَّلَةً في نظام تقسيم العمل والثروة السائد بالارتكاز إلى قواعد وعلاقات اقتصاد السوق، هي المُكَوِّن الأساس للمعركة ضد كل أشكال الفقر والعوز والفاقة في المجتمع، ما يعني مواجهة الخندق المقابل فكراً وبُنْياناً، بكل ما سوف يترتب على تلك المواجهة من تفاقمٍ لحرارة الصدام مع النظام السياسي القائم، يجب الاستعداد الكامل له.
إننا ندعو إلى بنية تنموية ثورية مقاومة قائمة في بعدها القطري والقومي، بل والأممي أيضا على العناصر الاستراتيجية التالية..
- التوقف عن سداد الديون الخارجية العائدة إلى المؤسسات الرأسمالية العالمية وإلى الدول الغربية توقفا تاما، والاستعداد للتكيف مع واقع أن هذه الخطوة سيتبعها انقطاع كامل في الموارد النقدية الخارجية القائمة على مبدإ الاقتراض أو المساعدات الأجنبية المرتبطة بفكرة الديون الخارجية.
- إعادة هيكلة مؤسسات إنتاج السلع والخدمات، لتعود إلى أصلها، مؤسسات إنتاج حاجاتية لا مؤسسات إنتاج تصديرية بالمعنى المعروف للمفهومين.
- عدم تركيز المداخيل الوطنية والقومية في بيوتات المال الأجنبية، واستعادتها إلى الوطن لتدخر أو تستثمر فيه.
- الخروج من قوقعة الصناعة الاستخراجية لتكوين الثروة، والانتقال إلى الصناعة التحويلية، التي لا تصدر المادة الخام إلا بعد تحويلها إلى مادة قابلة للاستهلاك في الصناعة التركيبية، فهذا أكثر جلبا للثروة، وأكثر ضمانا للاستقرار الاقتصادي والنقدي.
- وضع نظام جديد للتسعير في الصناعتين الاستخراجية والتحويلية، يفرق بين دولة وأخرى، بناء على حالتي الفقر والثراء. فالأسعار التي يجب على الدول الغنية أن تدفعها كأثمان لتلك الصناعات يفترض أن تختلف عن الأسعار التي يتم التعامل بها مع الدول الفقيرة. فالغني عادة حتى داخل المجتمع الواحد يدفع أكثر من الفقير، هذا إذا قبلنا أن يدفع الفقير أصلا عندما لا يكون قادرا على الدفع. ولعل هذه الفكرة الجريئة القائمة على إعادة النظر في فلسفة نظام التسعير العالمي، قد تكون مدخلا لاسترجاع فائض القيمة التاريخي الذي تسبب فيه الاستعمار العالمي وما يزال.
- الإكثار من التكتلات والتجمعات ذات الطبيعة الاقتصادية، لضمان فعالية التحركات التي تستهدف تحقيق المبادئ السابقة في مواجهة الغول الاحتكاري العالمي.
- التحول الجاد والحقيقي والعميق نحو الحريات الديمقراطية، كمدخل فعلي يتيح للشعوب الإشراف على إدارة ثرواتها ومقدراتها بنفسها.
- إشراك المرأة في كافة شؤون الحياة بما فيها الشؤون السياسية والاقتصادية، إشراكا حقيقيا وفعالا.
- إعادة بناء أنظمة التربية والتعليم من جديد، انسجاما مع فلسفة المقاومة والمواجهة التي أسهبنا في شرحها وشرح أبعادها على مدى فصول الكتاب.

انتهى
مراجع تم الرجوع إليها في إنجاز هذا الكتاب
1 – النظام الاجتماعي العربي الجديد – تأليف د.سعد الدين إبراهيم – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الثالثة – بيروت – 1985.
2 – ما بعد الحرب الباردة – تأليف روبرت مكنمارا – ترجمة محمد حسين يونس – دار الشروق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى – عمان – 1991.
3 – الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق – تأليف محمد حسنين هيكل – دار الشروق – الطبعة السابعة – القاهرة – 2007.
4 – ستون عاما من الصراع في الشرق الأوسط، شهادات للتاريخ – بطرس غالي وشيمون بيريز – دار الشروق – الطبعة الأولى – القاهرة – 2007.
5 – تاريخ الاستشراق وسياساته، الصراع على تفسير الشرق الأوسط – زكاري لوكمان – ترجمة شريف يونس – دار الشروق – الطبعة الأولى – القاهرة – 2007.
6 – نفط الشرق الأوسط والاحتكارات الدولية – تأليف ألكسندر بريماكوف – ترجمة بسام خليل – دار ألف باء للطباعة والنشر – الطبعة الأولى – بيروت – 1984.
7 – فلسفة لتنمية جديدة – تأليف فرانسوا بيرو – تقديم علال سيناصر – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – الطبعة الأولى – بيروت – 1983.
8 – النفط والوحدة العربية – تأليف د.محمود عبد الفضيل – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الخامسة – بيروت – 1985.
9 – خطط التنمية العربية واتجاهاتها التكاملية والتنافرية – تأليف د.محمود الحمصي – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الثالثة – بيروت – 1984.
10 – إعصار الخليج، رياح الشرق تهب على مستقبل العالم – تأليف أسامة عكنان – مكتبة الكليات – الطبعة الأولى – عمان – 1990.
11 – سيكولوجيا المحارب الإسرائيلي، هكذا يفكرون.. هكذا يستعدون – تأليف أسامة عكنان – دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى – عمان – 2007.