التحريد/شاكر الغزي

دعا الاستاذ الدكتور صفاء خلوصي الاستاذ في كلية التربية بجامعة بغداد في كتابه(فن التقطيع الشعري ) الى الجمع بين الاضرب في القصيدة الواحدة ، حيث يقول في ص 222- 224 :

(ولقد اقترحنا من هذه الناحية السماح باستعمال الضروب المتقاربة للبحر الواحد في القصيدة الواحدة لتوسيع نطاق القافية من حيث الوزن شريطة ان لا يسمح باستعمال أقل من بيتين متعاقبين للضرب الواحد، وأطلقنا على هذا اسم << مجمع الاضرب >> بيد أن هذا يحتاج الى مدة طويلة ليصبح مألوفاً وينسج على منواله واليك مثالاً مما نظمناه من هذا اللون ( ذكر في الهامش من قصيدة عنوانها ابنتي صدى ) :

لها دمية ٌ في زي عبد ٍ مدلـّل يقعقعُ في طبل ٍ صغير ٍ بمحجن ِ
ويخطو بإيقاع ٍ وينظرُ يمنة ويلحظُ يسراه ُ بلطف ٍ وينحني
وقد صلمت أذناً لهُ لوقوعه على غير ِ ميعاد ٍ صريح ٍ ولا إذن ِ
وفي كل ركن ٍ لعبة ٌ قد تدحرجت وألوانُ أثواب ٍ تبعثرن َ في ركن ِ

في حين ان الضرب في البيت الاول والثاني على وزن ( مفاعلن ) المقبوض فهو في البيت الثالث والرابع على وزن (مفاعيلن) الصحيح ، ومع ان الفرق جزئي طفيف لا يكاد يتعدى حرفاً ساكنا ًفان الاذن تشعر بتغير في الايقاع الموسيقي للقافية ، وعلى ذلك تشدّدَ العرب في الامر وقالوا بضرورة التزام العلة في العروض والضرب ومع أننّا نؤيد فكرة الالتزام في الشطر الاول فإننا لا نرى ضرورة ملحة للالتزام في الشطر الثاني الى هذا الحد ولا سيما اذا كان الضربان متقاربين كما في (مفاعلن) و(مفاعيلن) ولكننا مع ذلك لا نذهب الى حد الدعوة لاستعمال الضرب (مفاعي) المحذوف الى جنب الضربين الاخرين لتباين الايقاع الموسيقي بعض الشيء ولوجود الاعتماد في هذه الحال أي تفعيلة (مفاعي) يستحب ان تكون مسبوقة بتفعيلة (فعول) المقبوضة واستعمالها هنا شبه واجب ) انتهى ما قاله الدكتور صفاء خلوصي .
وفي هامش الصفحتين 222-223 ، قال :
( وقد عرف العرب هذه الظاهرة واوردها المنهوري في الحاشية الكبرى (ص 181 ) وسماها (بالتحريد ) أذ قال : ( فالتحريد تنويع الضرب بالبحر الواحد كخروج الشاعر من احد اضرب الطويل مثلاً الى الاخر، وهو غير جائز للمولدين .... ومما دخله هذا التحريد قول الشاعر من الطويل :
اذا أنت فضلت امرأ ً ذا نباهة ٍ على ناقص ٍ كان المديحُ من النقص ِ
ألمْ ترَ أنّ السيف ينقصُ قدرهُ اذا قيل هذا السيف خيرٌ من العصي

أما الاختلاف في العروض فيعرف (بالاقعاد) ونجده في الكامل وحده بالخروج من العروض السالمة الى الحذاء ، كما في قول الشاعر :

يا ربّ غانيةٍ صرمتُ حبالها ومشيتُ متّئداً على رسلي
الله أنجحَ ما عرفتُ به ِ والبرّ ُ خيرُ حقيبة ِ الرحل ِ ) انتهى الهامش

وقال الاخفش الاوسط ابو الحسن سعيد بن مسعدة في كتاب القوافي ص84 في باب ما يجوز من الساكن مع المتحرك في ضرب واحد ٍ :
( وأما :

لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همُ سمّ ُ العداة وآفة الجزر ِ
الخالطين نحيتـَهم بنُضارهم وذوي الغنى منهم بذي الفـَقـْر ِ

فجُمع في المطلق بين الساكن والمتحرك ، فلأنه صدر متفاعلن ، واسكان ثانيه جائزٌ كثير فلذلك أجازروه ) . انتهى ما قاله الاخفش

والابيات للخـِرْنـِق بنت بدر بن هفان البكرية ، اخت طرفة بن العبد لأمه ، ومنهم من يسميها الخرنق بنت هفان ،ترثي زوجها بشر وبنيها بن عمرو والقصيدة في تسعة ابيات على وزن الكامل الأحذ المضمر :

متفاعلن متفاعلن فـَعِلـُنْ متفاعلن متفاعلن فـَعْـلـُنْ

كل الابيات على هذا الوزن ما عدا البيت الرابع ( وهو محل الجدل والنقاش عندنا ) ويروى :

الخالطين لجينهم بنضارهم وذوي الغنى منهم بذي الفقر ِ

وفي اشعار النساء (1) ، يروى البيت كما رواه الاخفش وهو خامسُ ستـّة ِ أبيات ٍ .
وكذلك في اللآلي (2) وهو ثالثُ ثلاثة ِ ابيات ٍ ، وقال : وهذا البيت يروى لحاتم الطائي في ابيات اولها :

أن كنت كارهة ً لعيشتنا هاتا فحلـّي في بني بكر ِ

وعلى أية حالٍ فليس قائل الابيات أو عددها هو موضوعنا حديثنا ، ولا استدلال الأخفش بذلك على جواز اجتماع الساكن مع المتحرك في ضرب الكامل لأنه مبنيٌ على أن الضرب هو (الجُزُر ِ) جمعاً للجَزور من الإبل أو (الجَزَر ِ ) جمعاً لجَزَرَة وهي الشاة السمينة التي يمكن أن تجزر اي تذبح ، أما اذا كان ( الجَزْر ) اسماً من الفعل (جَزَرَ ) أو ( الجُزْر ) كما ضبطت في الحماسة البصرية ، فليس هناك شاهدٌ ودليلٌ في البيت ، وانما موضوعنا هو الجمع بين العروض الصحيح ( متفاعلن) في البيت الثاني ( بنضارهم) والعروض الأحذ ( مُتـَفـَا) في البيت الاول ( نَ همُ ) رغم أن الاخفش لم يُشرْ اليه عند ايراده للبيتين .

أما ما ذكره الدمنهوري في الحاشية الكبرى فالبيتين من الكامل لأبي عبدالله الشيعي كما يذكر بن الابار في الحلة السيراء (3) بعد أن ذكر البيت :
يا رب غانية ٍ ........... حيث يقول : ( وابيات القصيدة كلها على خلاف ذلك ) .

أما البيتين مجتمعين فقد رويا لأمرئ القيس بن عابس الكندي الشاعر المخضرم الذي وفد على الرسول (ص) واسلم وما في خلافة عثمان بن عفان ، وهما :

يا ربّ غانية ٍ لهوتُ بها ومشيتُ متّئداً على رسلي
الله أنجحَ ما عرفتُ به ِ والبرّ ُ خيرُ حقيبة ِ الرحل

في قصيدة ٍ تقع في (22) بيتاً ، البيت الاول هو الرابع فيها والبيت الثاني هو الرابع عشر .

وقد مثل ابو العلاء المعري بالبيت :

ولربّ غانية ٍ صرمتُ حبالها ومشيتُ متئداً على رسلي

للكامل ذي الضرب الاحذ المضمر وعروضه ليست بحذاء .(4) ولو كان في القصيدة جمعٌ بين عروضين لما أغلفه ابو العلاء وقال عروضه ليست بحذاء وهو الذي لا تفوته فائتة ٌ في علم العروض.
ولو عدنا الى مقترح الدكتور خلوصي ، حيث دعا الى الجمع بين (مفاعلن ومفاعيلن ) لأن الضربين متقاربان فهو لا يرى ضرورة ملحة في التزام الضرب الواحد في الشطر الثاني وان كان لا يجيز ذلك في الشطر الاول أي في العروض ، على الرغم من أنه يقرّ بأن الاذن تشعر بتغير في الايقاع الموسيقي ولذلك ولوجود الاعتماد فهو لا يدعو الى استخدام الضرب الثالث (فعولن) مع الضربين السابقين ، غير أنه لم يتكلمْ بأي ملاحظة أو اشارة عند ذكره لتشطير عبد الغني النابلسي لبيتين من الشعر(5) :

( رأيت خيال الظلّ أكبر َ عبرة ) يلوح بها معنى الكلام لأحداقي
وفي كل موجود ٍ على الحقّ آية ٌ ( لمن هو في علم الحقيقة راقي )
( شخوص ٌ وأشباحٌ تمرّ وتنقضي ) وليس لها ممّـا قضى من واق ِ
لها حركاتٌ ثمّ يبدو سكونها ( وتفنى جميعاً والمحرّك باقي )

والملاحظ أن البيتين من الطويل المحذوف الضرب ( فعولن ) وتشطير النابلسي من الطوبل الصحيح الضرب ، ولعله لم يتنبهْ الى ذلك ، كما لم يفعل غيره ممن ذكروا التشطير المشهور في كتب العروض ، ولم انتبه - شخصياً- الى ذلك - رغم أني قرأت البيتين مذ زمن ٍ بعيد - إلا قبل بعد التمعن في البيتين لبحثٍ أعددته عن التشطير ، والحقيقة أن الاذن لا تشعر بنبو ٍ ولا نشوز ٍ في الكلام وفي الموسيقى ، ثم إن القافية واحدة في الابيات وهي ( داقي ، راقي ، واقي ، باقي ) (/ه/ه) من النوع المتواتر المردوف بالالف ، في حين ان القافية في ابيات د.خلوصي مختلفة وهي ( محجن ِ ، ينحني ) (/ه//ه) و ( أذن ِ ، ركن ِ ) (/ه/ه) والاولى من النوع المتدارك والثانية من النوع المتواتر ، وعلى تسمية الخليل(6) فالقافية الاولى هي (فيعل ) والثانية هي (فيل) وكلٌ منهما قافية منفردة .
ولو تأملنا جيداً في (مفاعيلن ) و( فعولن) وجدنا أن لهما نفس القافية وهي ( عيلن ) و ( عولن ) أو ( /ه/ه ) وعلى حد تسمية الخليل ( فِيل ) ، أما ( مفاعلن) فالقافية فيها ( فاعلن) أو ( /ه//ه ) وعلى حد تسمية الخليل ( فيعل ) ، لذا فلا يمكن الجمع بين ( مفاعلن ) وبين أي ٍ من الضربين
( مفاعيلن و فعولن ) من حيث القافية فضلاً عن تغير الايقاع الصوتي ، في حين يجوز الجمع بين ( مفاعيلن ) و ( فعولن ) من حيث القافية لعدم نبو هما ونشوزهما في السمع وأما الاعتماد فلا يمنع من ذلك وان كنا نراه من لزوم ما لا يلزم وإن قيل أنه شبه واجب ٍ ، غير أن ذلك لا يجوز من حيث الوزن لأن كل ضرب ٍ وزنٌ قائم ٌ بحاله وان كان من ذات البحر .

ونختم حديثنا ( وختامه مسكٌ ) بما قاله ابن طباطبا في كتابه عيار الشعر(7) : (فينبغي للشاعر ....أن لا يضع في نفسه أن الشعر موضع إضطرار ، وأنه يسلك سبيل من كان قبله ، ويحتج بالأبيات التي عيبت على قائلها ، فليس يقتدى بالمسيء وانما الاقتداء بالمحسن ) ، فعلينا أن نستفيد من تجارب من سبقونا في هذا المضمار لنتجنب رديئها ونسلك طريق جيدها ، فليس كل ما ورد عن الاقدمين جيدٌ وصحيحٌ ويجب اتباعه ، فلنا ميزة ٌ بأنـّا تأخرنا عنهم لنرقى بقولنا عن سفساف قولهم ومعيبه ، ولا نتابعهم في فيما سلكوا من خاطئ الطرق .




__________________________________________________ ________

- أشعار النساء / المرزباني / باب بكر بن وائل .
- اللآلي في شرح امالي القالي / البكري / باب ذكر ابو علي خبر ابي الجهم ابن حنيفة مع معاوية .
- الحلة السيراء / ابن الابار / المائة الثالثة / ابو عبدالله الشيعي.
- الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ / ابو العلاء المعري / فصل غايته تاء.
- فن التقطيع الشعري / د. صفاء خلوصي / ص 356-358 .
- القوافي / الاخفش / ص 7 .
- عيار الشعر/ محمد بن احمد بن طباطبا العلوي/ ص 15-16 / شرح وتحقيق عباس عبد الساتر /ط2 – 2005م – طبع دار الكتب العالمية –بيروت .


عن شبكة الفصيح