الشعر الغربي بين أزمة النص وأزمة الشكل
بقلم: عصام مفلح
"الشاعر هو الذي يلهم أكثر مما هو الذي يلهم وللقصائد هوامش بيضاء كبيرة من الصمت تحترق فيها الذاكرة المتقدة لتعيد خلق هذيان بلا ماض" بول أيلوار.
ظلت النخبة المثقفة العربية بمختلف اتجاهاتها الفكرية مشدودة على عالم الإبداع الغربي بخيط من الإعجاب الأبدي وصل إلى حد جعل هذا الأخير قريبا إلى الكمال، وظلت أسماء "لوركا" و "رفائيل ألبرتي"و"ماياكوفسكس" و "نيرودا"و "نيرودا" و "أراغون" و "رامبو"...، وغيرها من الأسماء المعروفة في عالم الشعر تردد بوقع الدهشة الأولى والأخيرة، دهشة النص المعجزة، نص البدايات الكاشفة عن قدرة الشاعر الخالدة على جعل الكلمة حية، إما تنبض أو تحترق في دماء القارئ المتأثر بها، إلا أن هذا لا يمنع من أن نكسر قاعدة الدهشة هذه، وننبش ذاكرة الشعر الغربي، وأن نتساءل حول مكانة القصيدة وقيمة الصورة الشعرية عبر مختلف المراحل التي مرت بها تلك المجتمعات الصناعية بالدرجة الأولى، والتي غالبا ما يفتقر قاموسها اللغوي لجماليات الكلمة وللمعاني الدلالية، والتي تميزت معظم أعمال أدبائها وشعرائها بالسرد والإطناب، أليس هذا ما تميزت به قصائد ملاك باريس، فيكتور هيجو؟!.
بدأت أزمة الشعر الغربي في الظهور بداية من بروز الاتجاهات الجديدة التي فرضتها عليه ثورة الحداثة التي عرفها العالم الغربي بداية القرن الماضي، وذلك بقيادة كل من "رامبو" الذي اعتقد وقتاً طويلاً بأنه سيملك العالم بشعره، و "مالارميه" الذي كان مولعا بالرمزية التي اعتمدها في أعماله، ليجعل من الشعر لغة خاصة بالشاعر نفسه نابعة من ذاته، تنطلق منه لكي تعود إليه، هذا ما مهد الطريق أمام ظهور مختلف الاتجاهات الشعرية المعاصرة، وسقوط بعضها في أزمة تناقض النص مع الشكل. وتعتبر الحداثة شكلا من أشكال الثورة الشعرية في الغرب، التي ترمز إلى إيجاد تعريف جديد للنشاط الشعري بكل ما يحمله من معان لغوية وجمالية وفكرية، أي تحديد دور ومكانة الشاعر إزاء العالم الخارجي المتمثل في الجمهور المتلقي... واستمر هذا المشروع الشعري بتأييد الكثير من الشعراء، فاستخدم "كلوديل" المتأثر شديد التأثر "برامبو" شكلا شعريا صار معروفا باسم (الشعر الكلوديلي) مستبعدا عنه قواعد العروض والقافية والأوزان، مستمدا موضوعاته من التطلعات الدينية والروحية الكونية، وارتاب من هذا المذهب الصوفي وسايره في ذلك "سان جون بيرس" الذي كان بدوره متأثرا "بهوميروس" ومقلدا نوعا ما لكلوديل في كتاباته لأشعار مستلهمة من الأطروحات الميتافيزيقية.
كما لقيت مغامرة الحداثة هذا التشجيع من قبل الفرقة الفنية الطلائعية التي برزت خلال القرن الماضي في أوروبا، والتي ضمت أبرز وجوه الشعر الغربي لتلك الحقبة الزمنية، مثل "رينيه ماريا ريلكه" صاحب (كتاب الساعات)، وأحسن وريث لقصيدة النثر التي تميز بها "بودلير" في عصره، و "أبولينير" والشاعر الأمريكي" عزرا باوند" الذين فرضوا هذا النوع من القصيدة (النثر) خاصة بعد صدمة الحرب العالمية الأولى وكل ما نتج عنها من تغيرات جذرية على كافة مستويات الحياة، ومن جانبه جمع "أبولينير" بين الاتجاه المعاصر وقواعد القصيدة التقليدية، كما فعل في كتابه (الأحاجي) الذي تفنن فيه بإدماج الشكل التقليدي الأدبي للقصيدة في قالب التعبيرية والتجريبية المميز لقصيدة النثر، مساعدا بذلك في دفع الميل (الدادائي) و (السيريالي) عبر تمجيد أساليب "رامبو" و "المركيز دوساد" أحد رموز السريالية.
كما اتجه العديد من الشعراء الشباب نحو القصيدة المعاصرة (قصيدة النثر) مثل "سندراس" و "ريفيري" و "كوكتو" و "أندريه برتون"، و "بنجامين برييه" من فرنسا، و"أليوت" من إنجلترا، و "فرنندو بيسوا" من البرتغال، و "كفافي" من اليونان، و "مارتين" من المدرسة المستقبلية الإيطالية، و"ماياكوفسكي" من روسيا، فحولت الرغبة في جعل القصيدة صورة وصوتا في آن واحد، قصيدة النثر إلى عروس الشعر الغربي التي كانت تستمد موضوعاتها من الاختراعات الجديدة- هذا هو مطلب المدرسة المستقبلية- وكذا من تفاصيل الحياة اليومية والأحداث السياسية، فقد وجد "خوان رامون خيمينث" الحاصل على جائزة نوبل للشعر عام 1956م، أن الشعر بالنسبة له ليس تراجعا وإنما هو تمثيل للحقيقة ذاتها، وهذا تمهيدا لفتح الطريق أمام القصيدة الملتزمة، ففي الثورة الروسية ظهر الشاعر الكبير "أسانين" ومعه "ماياكوفسكي"، وبعدها ظهر الشاعر "أيفتوشنكو" ضد الستالينية، وظهر إبان الحرب الأهلية الإسبانية 1936م بعد "لوركا" كل من "سيرنودا" و "أنجيل غونزاليث"، وظهر في فرنسا خلال مقاومة النازية "روني شار" و "لويس أراغون" الذي نشر عام 1943م أهم وأبرز أعماله الملتزمة (شرف الشعراء)، كما ظهر في أمريكا اللاتينية ضد الأنظمة الاستبدادية عملاق الشعر الأسباني "بابلو نيرودا".
وتفسر هذه الرغبة في تحديث القصيدة الغربية قدرة الشعراء على الجمع بين المصطلح الشعري وشكل القصيدة، وذلك بالاعتماد على تقنيات الرسم التي تميزت بها المدرسة التكعيبية، والتي تأثر بها الكثير من الشعراء، خاصة فيما يتعلق بتقنية (الكولاج) أو (فن التحليق) التي اعتمدها "ستارنس" في كتابة أعماله، وذلك بحثا عن فضاءات جديدة للنص من الناحية الاستيتيكية، أي في ترتيب وكتابة النص على الصفحة، وهذا طبعا من الجانب الجمالي كما سبق الذكر، هذا ما اتبعه كذلك كل من "ريفيردي" و "أيلوار" بغاية جعل القصيدة نصا شعريا وصورة جمالية تمنح القارئ متعة المعنى والشكل في آن واحد، وهذا التغيير في الشكل جعل الكثير من الشعراء يبحثون عن لغة جديدة تتماشى وطريقة العرض الحديثة، وهذا ما أدخل على القصيدة التقليدية التي تعتمد على القافية والوزن، بكل أحجامها ذات الأربعة عشر أو الاثني عشر بيتا، والتي تتخذ قيمتها الشعرية من طريقة الإلقاء وليس من عرض النص، عالم النسيان.
وأمام هذا التغيير التدريجي الذي عرفته القصيدة الغربية، وجد الشعراء أنفسهم أمام مشكلة أخرى، يمكن تسميتها (أزمة البيت) التي تنبأ بها "مالارميه"، والتي برزت مع تطور قصيدة النثر التي اتخذت شكلا عاما قائما على عدم الالتزام لا بقافية ولا بوزن ولا بحجم الأبيات من حيث عدد الأحرف وعدد الصور الشعرية، متماشية مع كل الأساليب الشعرية المجتهد فيها والمحافظة على وحدة المعنى، وهذا ما تميزت به أشعار "لوركا" الذي عرف كيف يوفق بنجاح كبير بين عدد الأبيات في القصيدة الواحدة- خاصة قصيدة الأربعة عشر بيتا- وبين الأساليب الشعرية الحرة التي يعتمد عليها شعر (البالاد) أو الجوالة والمتداولة بين غجر أسبانيا.
ومن جهة أخرى رفض الكثير من شعراء المدرسة السريالية مثل "أندريه بروتون" و"فيليب سوبولوت" و "بول أيلوار" الشعر كجنس أدبي بحت، وهذا ما جعل أزمة المعنى أكثر تعقيدا، خاصة عندما وجد الشاعر نفسه أمام الرغبة في إطلاق القصيدة في عالم حر مفتوح على آفاق جديدة ومتنوعة ومتعددة دون أدنى قيد بنيوي، وأمام الحنين إلى القصيدة التقليدية. وردا على هذا الوضع اتهم بعض الشعراء مثل "باتريس دولاتور" و "إيف بنغوا" دعاة الحداثة وحملوهم مسؤولية إرباك القصيدة وتفكيك بنيتها، فتدارك "أراغون" مثلاً هذه النقطة الحساسة وأعاد إن صح القول ترميم بنية القصيدة باستخدامه الأبيات الموزونة في قصائده الملتزمة، وهذا ما أكسبها شعبية أكبر وانتشارا أوسع، وقلده في ذلك "ميشو" الذي اهتم كثيرا بالجانب الاستيتيكي للقصيدة مؤكدا على استقلالية الصورة الشعرية عن شكل القصيدة أي بنية القصيدة، وهذا ما خلق جوا من التلاؤم مع الشعراء الذين شجعوا القصيدة الجامعة بين الصورة والموسيقى التي اعتمدها على وجه الخصوص الشاعر "كينو" والشاعر "أليبو" فترة طويلة.
ومع هذا التطور الذي عرفته القصيدة الغربية التي وصلت به إلى التحرر شكلا ومضمونا، أصبحت هويتها ملتصقة بهوية الشاعر الذي كتبها طبعا بعد بروز نوع من الحرية في اختيار الأساليب والأنماط الشعرية التي ظهرت في تلك الفترة، وهذا ما دفع مثلا "سنغور" و "سيزار" من جديد إلى إدخال الوزن والقافية على القصيدة الحرة، فاهتم النقاد بوزن وقافية القصيدة أكثر من اهتمامهم بموضوع القصيدة نفسها، فتحولت هذه الأخيرة من نص شعري يتضمن معاني وصورا جمالية إلى نسق من الكلمات المرتبة الخاضعة لإيقاع موسيقي بحت، وهذا ما حول القصيدة من نص شعري إلى أغنية تعتمد على التلحين أكثر مما تعتمد على فكرة النص، فبرز العديد من المغنين الأوروبيين مثل "ليوفيري" الذي غنى أشعار "روتبون" و"فيليون" و "أبولينير"، وخاصة أشعار "أراغون"، كما غنى "جون فيرا" قصائد "ألبرتو كورتز"، "ياكو إيبانث" من أسبانيا، وغنى "ميكس تيودور إكس" من اليونان قصائد العديد من شعراء بلاده، وأصبحت الموسيقى خاصة في فرنسا أساس الإبداع الشعري، فبرز "فيري" و "براسنس" و "برال" الذي أدرجت أغنياته ضمن موسوعة الشعر المعاصر، كما غنى العديد من المغنين مثل "فليكس لو كلارك" و "جيل فينولت" للشاعر " ليوناردو كوهين" في كندا، ويعتبر " بوب ديلان" في الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز الشعراء الشعبيين.
وتفسر هذه العلاقة الحميمة بين كل من الشعر والموسيقى مدى تطور القصيدة الغربية وإدماجها في المسرح والسينما، وفي مختلف الفنون التعبيرية الأخرى، وأمام هذا الواقع ورغم وجود بعض الآراء المتشائمة فيما يخص صحة الشعر الغربي حاليا، لابد من الاعتراف بأنه لازال لهذا الأخير مكانة في العالم الغربي المعاصر، بكل ما يشهده من تطورات هائلة وعلى شتى مستويات الحياة، إذ هو يبقى إحدى الوسائل الإبداعية والإنسانية الأكثر تعبيرا عن العالم الروحي للفرد الغربي.