حقيقة قطع النسوة لأيديهن

بسم الله الرحمن الرحيم
يوسف المغلوب على أمره(2) .... والنسوة اللاتي قطع أيديهن
والسؤال الثاني: ما حقيقة قطع النسوة اللاتي خرج عليهن يوسف عليه السلام أيدهن؟
بدا من سلوك امرأت العزيز أنها ذكية، وأنها تخطط للعمل قبل تنفيذه.
أنها لما أرادت مراودة يوسف عليه السلام ودعوته لنفسها؛ أغلقت الأبواب لئلا يفتضح أمرها، وتفاجأ بمن يدخل عليها
: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ... (23) يوسف.
وقد أفشل خطتها امتناع يوسف عليه السلام:
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهـاـنَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف، والهم إحساس بالغم من الشعور بالعجز عن تنفيذ أمر ما يريده، لوجود حائل يحول بينه وبين ما يريد؛
أما الحائل الذي منع امرأت العزيز من نيل مرادها فهو امتناع يوسف عليه السلام،
وأما الحائل الذي حال بين يوسف والاستجابة لرغبة امرأت العزيز فهو برهان ربه،
وبرهان ربه يبينه القرآن بعيدًا عن الإسرائيليات؛

وهو مبينًا في قوله تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّـاـلِمُونَ) يوسف؛
فالحائل كان تعوذه بالله من أن يضعف أمامها، فأعاذه الله تعالى منها،

وأنه استعظم أن يسيء إلى من أحسن له، واستأمنه على أهله، وأبدى رغبة واستعدادًا في اتخاذه ولدًا له، فحال ذلك بينه وبين الفاحشة،
وفي قول تعالى: (وهم بها) لبيان أنه سوي مثل الرجال، ويتأثر بما يتأثرون به، ولولا ذلك لقيل في سبب امتناعه هو ضعفه عن النساء، وليس بسبب تقوى الله تعالى، وبغضه للفاحشة والخيانة؛
فقد قال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَـاـهِلِينَ(33) يوسف.
ولما انتشرت قصة امرأت العزيز، وسمعت بمكر النساء وحطهن من قدرها؛ باتهامها بالضعف والضلال، كان القول من نساء عليا القوم؛

لقوله تعالى: (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً(31) يوسف،....
فدبرت أمرًا يظهرهن فيه أنهن أضعف منها، وأنهن لا يحتملن ما تحتمله هي من إغراء جمال يوسف عليه السلام، الذي يتحرك بين يديها ليل نهار، ويأتمر بما تأمره ... إلا هذه الفاحشة.
ويظهر ذكاء امرأت العزيز مرة أخرى في موقفها مع النسوة، وأخذ الاحتياط اللازم قبل وقوعه،
أنها:
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) قبل قولها: (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ)، يوسف.
لم تنس امرأت العزيز أن يوسف عليه السلام عبد قد اشتروه من السوق بدراهم معدودة، فهو بضاعة تباع وتشترى بالإغراء بسعر مضاعف؛ بالتخجيل، وبالقوة من قوي يرغب فيه،
وهؤلاء النسوة هن نساء عليا القوم، ويملكن المال الكثير، ويستطعن أن يدفعن في يوسف أضعافًًا مضاعفة، ويأخذنه منها بالقوة، وزوجها سيرحب بذلك، فهو لم يمانع من سجنه بعد ذلك ... والحل هو إعطاء كل واحدة منهن سكينًا تستخدمها؛ لأكلها قبل خروج يوسف، وتهدد بها عندما يقع الخلاف بينهن على يوسف عليه السلام .... وقد كان.

قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ(31) يوسف، وفي فهم "أكبرنه" أقوال، وفهم الجذر " كبر" هو الذي يجليها؛
الكبير: يوصف به أسن القوم، وأعلمهم وأقدرهم، لأنه يرجع إليه في أمرهم وشؤونهم؛ إما لأنه أسنهم، فهو أكثرهم علمًا وتجربة، وإما لعلمه، أو قوته، ويسمى المعلم: الكبير، لأنه المرجع الذي يرجع إليه تلاميذه، وكُبْر الرجل أكبر أبنائه من بعده، لأنه يكون المرجع لهم بعد أبيهم، والله تعالى أكبر: لأنه سبحانه وتعالى يُرجع إليه في كل شيء ولا يرجع هو إلى شيء، وهو الكبير أيضًا، وشهادة الله أكبر، لأنها يرجع إليها دون سواها، ولا يجوز تجاوزها إلى غيرها، وأكبره؛ عظمه ووقره، أي جعل مرجعًا يرجع إليه، وأكبرت الأنثى: حاضت: أي خرجت عن حد الصغر ودخلت في الكبر، ووجب تحجبها ولزوم بيتها، وبها فسرت
(أكبرنه): أي حضن، وهذا عجيب غريب وكأن الحيض ليس له دورة، ويأتي متى شاء عند كل النساء، والمرأة في الحيض أبعد ما تكون عن الغلمنة في هذا الموضع، لكن إن أريد أنهن صغيرات سفيهات غير متزنات ولسن بثقيلات، ولا وقورات، فجائز؛ لأن إكبار المرأة هو أول سن المراهقة عندما تخرج بحيضها من حد الصغر.
والكبيرة: الذنوب والآثام العظيمة الثقيلة التي تقعد صاحبها، وتثقله فلم يخرج منها، بالتوبة والاستغفار، وطلب النجاة إلى الله،

وفي حديث الإفك قال تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) يوسف، أي ألزم نفسه بالإفك الذي كان، ولم يخرج منه بعد بيان الله تعالى لما حدث بأنه إفك، وكذب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والكِبْر والاستكبار، هو رؤية المتكبر لنفسه أن على الناس الرجوع إليه، وليس عليه الرجوع إليهم، محتقرًا لهم، ومقللا من شأنهم، وهذا الشأن في الرجوع هو لله وحدة، لا يجوز لأحد أن ينازع الله فيه، .... راجع لسان العرب وغيره في مادة (كبر) للمزيد فالحديث فيها يطول.
ويفهم من كل ذلك أن أكبرنه، أي هن اللاتي أتينه وأقبل عليه، ولم يأت هو لهن، فالمراودة كانت منهن، وليس منه، وأنهن أثقلنه فثبتنه في مكانه، وهذا من اعتلائهن له، بسبب اختلافهن عليه ... فماذا حدث بعد ذلك؟ ....
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ(31) النور.
فقطعن عنه أيديهن التي امتدت إليه، باختلافهن عليه، وتهديد بعضهن لبعض بالسكاكين التي وزعتها امرأة العزيز عليهن من قبل، فلم يرضين أن تنفرد واحدة منهن به، وتذهب به دونهن،
لأن القطع للأيدي هو البتر والفصل الكامل للأيدي، ومن ذلك قطع يد السارق،
وليس من معاني القطع في اللغة الجرح، أو قطع الأصابع أو أطرافها، ولم تقل به العرب ولا أحتمل القول به،
ومن استعظم قطع الأيدي، فاستبعد القطع المعروف لذلك، وجعل دلالته بغير ما نطقت به العرب، توفيقًا منه بين مدلول الآية، وما استبعده من الفهم .... منهج أحذر منه أيما حذر، مخافة الزلل،
والذي قاد إلى هذا الفهم للحدث هو انحصار التوجه إلى معنى قطع الأيدي عن البدن، وليس قطع الأيدي عما امتدت إليه الأيدي، وكله قطع.
لقد كان القطع عن بدن يوسف عليه السلام الذي امتدت أيديهن إليه، وليس قطع أيديهن عن أبدانهن؛
يقال قُطعت رجله عن المكان، أي لم يعد يدخل فيه، وليس فصلها عن بدنه،
وقُطعت يده عن الوظيفة أو العمل، أي فصل عن أحدهما، ولم يعد يعمل فيه،
وقُطع لسانه عن القول أو الإساءة، أي لم يعد يسيء بلسانه، كما ذكر أن معاوية رضي الله عنه أراد مكافأة شاعر حتى لا يسيء إليه بشعره، وكان رضي الله عنه يخشى ألسنة الشعراء، فأمر أن يؤخذ ويقطع لسانه، فما كان ممن أخذه إلا أن طلب من الشاعر إخراج لسانه ليقطعه، فقال له الشاعر: لم يرد أمير المؤمنين ذلك، إنما أراد أن تكافئني مكافأة كبيرة أمدح لأجلها أمير المؤمنين، وأقطع كل إساءة عنه.
وقد فهم الملك من تقطيع النسوة أيديهن حصول المراودة منهن، فاتهمهن بذلك.
ولا يُعقل أن يكون يوسف عليه السلام أراد من قوله لرسول الملك:
(.... ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّـاـتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) يوسف، أن النساء دهشن، وذهلن من جماله، ففقدن عقولهن، والإحساس بالألم، وهن يجرحن أيديهن، أو يقطعنها، أو يبترن جزءًا منها!
ولو كان الأمر كذلك فهل يعد ذلك مراودة؟!
وهل يتهمهن الملك بالمراودة وفعلهن لم يقع إلا على أنفسهن؟! بقوله
: ((قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رcolor="green"]اوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ(51)
يوسف.
فأي فهم آخر لتقطيع أيديهن خلافًا لما ذكرناه لا يكون فيه مراودة،
حتى ولو كان هذا الفعل في ذلك الزمان يراد به قطع العهد على النفس على تنفيذ هذه الرغبة منهن، فلا دلالة فيه على المراودة.
هذا الفهم للحدث بلغة القرآن بكل تفاصيله، ولغة العرب التي يستبان بها الأمر، ويزول الخلاف،
لقد أظهر هذا الحدث حسن تدبير امرأة العزيز، فأظهرت ضعفهن فقالت لهن
: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ(31)، ولم تستح من الاعتراف أمامهن: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ(32) وللاختصار فقد ربطت سجنه ببراءتها وبراءته: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّـاـغِرِينَ (32) يوسف .... فسجن، لتجعلهن شاهدات على براءتهما، (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ(51) يوسف.
وقد أحسنت عندما اعترفت بفعلها:
(قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّـاـدِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) واستغفرت ربها فأحسنت الاستغفار: (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) يوسف.
أعتذر عن الإطالة، ولكن لم يكن منها بد ؛ لبيان الأمر بكل وضوح .... والله تعالى أعلم.

[/COLOR]