رحلة التحدي والطبيب اليهودي

--------------------------------------------------------------------------------

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

"أنا طبيب عربي، أقضي في أحد السجون فترة عقوبة، تمتد إلى أكثر من سبع سنوات، قضيت منها حتى الآن عامين بتهمة حيازة المخدرات. وقد لا يعلمون في السجن أنني كم فكرت في الهرب خارج الأسوار بحثا عن عقار الهلوسة الذي لم أجده في السجن، ويحتاج له جسدي، لولا حادث هام:

ذات يوم جاء خطيب المسجد، ليلقي على المساجين خطبة الجمعة، وأنا أعرف سلفا ما سوف يقول، فهو يتحدث عن التوبة، والعقاب، والنار، والحرام، ليس جديدا على مسامعي ما سوف يقول خطيب المسجد الجديد، كل الخطب في السجون متشابهة. ولكن.. الرجل مختلف تماما، سواء في طريقة الإلقاء، أو فهمه للقرآن الكريم، لقد تحدث الرجل عن القوة التي وهبها الله – تعالى – للإنسان، والقدرة على التحدي الكامنة في جسده، تحدث عن صبر أيوب، إصرار موسى، وعطاء عيسى، - عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – تحدث الرجل عن عطاء الإنسان للبشرية وقدرته على ذلك، تحدث الرجل عن الاكتشافات والاختراعات عندما استنفر الإنسان قوة التحدي التي وهبها الله – سبحانه – له. تذكرت طفولتي، عندما عبر بي والدي العجوز جسر الحسين الذي يفصل الضفة الغربية عن الشرقية، وصرت لاجئا.. كان ذلك عام 1967، وكنت في ذلك الوقت أبلغ من العمر أربعة عشر عاما. أنا ووالدي تحت سقف خيمة مع عشرات من اللاجئين في أغوار الأردن، نشارك سكان المخيم كسرة الخبز الواحدة، كان أمل والدي العجوز كبيرا في العودة إلى البيت والبيَّارة خلف النهر، وكان كلما فقد الأمل يردد: لماذا خرجت؟.. هنا سأموت، وهناك سأموت، ولكني أفضل الموت في داري. كان والدي يقول لي: إذا عدت، فلا تترك دارك أبدا، دعهم يقتلونك داخلها، ولا تتركها أبدا. ومات والدي حسرة على البيت والبيَّارة، وكان عليَّ أن أواجه الحياة وحدي مبكرا. استنفرت قوة التحدي في داخل جسدي الصغير والنحيف، وقررت ترك مخيم الغوار والاتجاه إلى عمَّان. وفي عمَّان، كنت أجد لي مكانا أبيت فيه خلسة في مخيم الوحدات، وتحت سفح أحد جبال العاصمة الأردنية، قررت الصمود أمام كوني طفلا لاجئا غريبا مرفوضا من المجتمع البشري، ولكن كيف الصمود؟ وضعت هدفا – مهما – في حياتي، أن أتحدث لغة عالمية، لغة مقبولة في أية بقعة من بقاع العالم. وجدت هذه اللغة في أمرين لا ثالث لهما: المال أو العلم – واخترت الأمر الثاني. وبدأت رحلة الصمود.. أستيقظ قبل شروق الشمس، أؤدي صلاة الفجر في المسجد، ثم أذهب إلى جبل عمّان، حيث الطبقة الارستقراطية، وأبحث في القمامة عن الزجاجات الفارغة، وأعود إلى مخيم الوحدات، أنظف تلك الزجاجات تنظيفا جيدا، وأذهب بها إلى الأسواق الشعبية. كنت أبيع يوميا كل ما عندي، وكان عندي مائة زجاجة فارغة في اليوم، كانت حصيلة البيع تكفي لدراستي، وشراء ما أحتاج إليه من كتب، وما تبقى أشتري به غذاءً بسيطا، وأحيانا بعض الملابس المستعملة. على مدى السنوات القليلة، حصلت على الثانوية العامة، فالتحقت بكلية الطب، ثم تخرجت وعملت طبيبا، تعرفت على فتاة من قطاع غزة، والدها يعمل تاجرا مشهورا، وتقدمت إليها وتزوجتها. لم تقف طموحاتي عند هذا الحد، أريد الحصول على الدكتوراه في الطب من الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه تحتاج لأموال لا يسعفني دخلي المحدود بتوفيرها. بحثت عن عقد عمل في دول الخليج، حيث المرتب وفير بالعملة الصعبة، فلم أجد. قمت بمغامرة غريبة، أخذت أوراقي التي تثبت أنني طبيب، وعضويتي في نقابة الأطباء ورحلت إلى الأردن، وهناك التقيت بزعماء تسفير العمالة إلى الخارج بطرق غير شرعية، واتفقنا على الرحيل في سيارة ثلاجة، ركبت بجوار السائق، وعند نقطة الحدود، ارتديت المعاطف الثقيلة، واختفيت في الثلاجة خلف الخضروات المصدرة، كدت أموت خلال عبور نقطة الحدود، وعندما عبرنا النقطة، توقف السائق، وفتح باب الثلاجة، وخرجت سعيدا بحرارة الجو والنجاة من الموت، وأمل العمل في هذه الدولة الخليجية، وجدت عملا، وراتبا، وجئت بأسرتي، وعشنا عامين في هذه الدولة، وأصبح معي ما يكفي لإقامتي في الولايات المتحدة للحصول على الدكتوراه في الطب. عادت زوجتي ورضيعها إلى الأردن للإقامة مع والدها مدة دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية، وطرت في نفس اليوم إلى نيويورك، حيث كانت جامعتي. نيويورك مدينة بلا قلب، فيها سرعة العصر وقسوته، تلعب بالملايين وتترك الملايين بلا عشاء، مدينة شعارها: كم معك؟ كم تساوي؟ لست في حاجة إلى دفء ولا عواطف في هذه المدينة، كل ما أحتاجه عمل شاق حتى أحصل على الدكتوراه وأعود في أسرع وقت ممكن، لذلك كنت أنام قليلا وأستذكر دروسي كثيرا، ولا أعرف اللهو. وذات يوم أصابني أرق شديد، ولم أنم، وذهبت إلى الجامعة مُرهقا، شكوت حالتي لصديقي الأمريكي، فأعطاني حبوبا بيضاء مهدئة، وعندما عدت إلى غرفتي تناولت حبتين، بعد دقائق، شعرت بسعادة وهدوء، ونسيت كل شيء، التفكير في زوجتي وابني الرضيع، ورحت في نوم عميق. وفي الصباح، قمت من النوم بصعوبة، وذهبت إلى الجامعة، وتمكنت من استعادة نشاطي. وعدت إلى الغرفة، استذكرت دروسي، حاولت أن أنام فلم أتمكن. فأخذت حبتين، وهكذا حتى انتهت الحبوب، وفي الجامعة سألت صديقي عن اسم هذه الحبوب لأشتريها من الصيدلية. لست كيميائيا، ولكني طبيب، وأعلم أنَّ هذه الأنواع من الحبوب تندرج تحت أصناف المخدرات، وعدت إلى الكتب لأعرف تأثيرها، فوجدت الآتي: هي مستحضر سام من نبات "الشيلم"، الذي يشبه إلى حد كبير القمح، ومن هذا النبات يُستحضر كيميائيا حمض "الليزرجيك" ومنه يأتي السائل، ثم يتحول السائل إلى تلك الحبوب، والتي يُطلق عليها حبوب الهلوسة. وأنَّ سبب بلاء العالم بهذه الحبوب هو عالم كيميائي ألماني مشهور اسمه هوفمان، حيث قام بدراسة "السائل" على نفسه عام 1943، وكان يعود من معمله إلى منزله مرهق الأعصاب، فيعطي نفسه حقنة من هذا السائل، فيشعر بالسعادة ويذهب في نوم عميق. وهذا السائل اللعين، يُصيب الإنسان بالهلوسة، قد يضحك الإنسان بلا سبب، ثم يصبح غير قادر على الإدراك، ويرى أمامه أشياء غير حقيقية، ويرى الأشياء الحقيقية ضخمة، ذات ألوان زاهية، ويرك الأشياء الثابتة تتحرك. قد يرى – مثلا – حائط الغرفة التي يُقيم فيها يتحرك ويتجه إليه، حتى إن أحد الأمريكيين الذي أخذ حقنة من هذا السائل، وكان يجلس مع أصدقائه، أخبرهم بأن حائط الغرفة يتحرك في اتجاهه، ولم يكن أمامه إلا أن يلقي بنفسه من الشرفة من الدور الرابع والعشرين فسقط قتيلا. يرى المدمن لعقار الهلوسة أنًّ بعض أجزاء جسمه تتحرك بعيدا عنه، قد يموت من الرعب عندما يرى أسنانه أمامه، أو يرى عينا من عينيه خرجت من رأسه واتجهت يمينا، والأخرى يسارا، وفي النهاية إن لم يتوقف المدمن عن هذا العقار، فإنه إما أن ينتحر أو يموت. شعرت بالرعب بعد هذه المعرفة، وعدت إلى غرفتي أحاول أن أنام فلم أتمكن، لم أشعر برغبة، أية رغبة في تناول هذا العقار. ذهبت في اليوم التالي إلى الجامعة دون نوم، ولم أتمكن من متابعة تجاربي، فعدت مبكرا إلى غرفتي، ولكني لم أتمكن من النوم، وذهبت إلى الجامعة بعد أرق استمر أكثر من ثمان وأربعين ساعة. وقابلت زميلي الطبيب الأمريكي، ونظر إليّ، وأحسست من نظراته أنني في حالة سيئة للغاية، ولا أدري لماذا شكوت له؟ ثم لا أدري لماذا مددت له ذراعي ليعطيني أول حقنة من هذا العقار اللعين. ربما ضحكت كثيرا بعد أن أخذت هذا العقار اللعين، ربما بكيت، ربما رأيت أطرافي تتراقص أمامي.. ربما.. وربما.. ولكن في النهاية أعترف أنني أدمنت هذا السائل اللعين. في لحظة وعي التقيت بالطبيب، حاولت أن أعاتبه، فنظر إليّ قائلا: ألم تكن تعلم أنني إسرائيلي أحمل الجنسيتين: الأمريكية والإسرائيلية معا. ونظرت إليه في رعب، وشعرت أنني أستحق أكثر من هذا.. فلقد أقلعت عن الصلاة، وأقلعت عن قراءة القرآن، وتذكرت أيام الصبا والفقر في عمَّان، عندما كنت أصلي الفجر حاضرا في المسجد، وأقرأ آيات من القرآن، وأبحث عن الزجاجات الفارغة، وأعيش في فقر وأمل وسعادة حقيقية. والآن، كنت على أبواب الحصول على الدكتوراه، أشعر بهموم الدنيا وتركت المتآمر يتآمر وتنجح مؤامراته، لماذا؟ لأنني تركت العلاج النفسي الحقيقي: الوقوف أمام الله – سبحانه - . ندمت في وقت لا ينفع فيه الندم، وفشلت في الحصول على الدكتوراه، وأدمنت هذا السائل اللعين، وأخذت منه ما أستطيع وعدت إلى الأردن. وصلت مطار عمّان وقابلت زوجتي ووالدها وإخوتها، وأنا أبكي، وددت أن أطير إلى بيتي، ودخلت غرفة النوم, وأخذت جرعة كبيرة في الوريد لأعوض بها ساعات السفر، ودخلت الصالون على زوجتي وأسرتها التي كانت في لقائي، ولا أذكر إلا أنني بعد دقائق من جلوسي معهم ابتسمت بلا سبب، ثم ضحكت ثم قهقهت. ثم روت لفي زوجتي ما حدث. بعد القهقهة، أشرت على والدها بيدي وأنا في غاية السعادة والمرح وقلت: هذا قرد الأسرة، وطلبت منه أن يقفز على الحائط الذي يتحرك، وطلبت من شقيق زوجتي أن يمسك رأسه الذي طار وعُلِّق في السقف. قالت زوجتي عني إنني كنت بهلوانا سخيفا يُثير السخرية والشفقة، وفقدت احترامي أمام زوجتي، واحترامي أمام أسرة زوجتي، زوجتي علمت أنني مدمن مخدرٍ ما، لا تعرف اسمه، ولكنه نوع من أنواع المخدرات. اجتمع مجلس أسرة زوجتي في لحظات وعي مني، وبناء على طلب من زوجتي لبحث قضية إدماني، وعرضوا عليّ بإلحاح وقسوة اختيارين: الأول: العلاج من الإدمان والإقلاع عنه نهائيا. الثاني: الطلاق من زوجتي. وفي حالة الاختيار الثاني: سوف يبلغون الشرطة ونقابة الأطباء، لأنني لن أكون أمينا على المرضى على الرغم مني. تظاهرت بقبول الحل الأول، وانفض المجلس على هذا القرار، على أن يبدأ تنفيذه فور العثور على مكان في أحد المستشفيات الخاصة النائية، وأحسست بالفضيحة تتسرب من زملائي في هذا المستشفى الذي سأدخله مريضا إلى كل أطباء العرب والعالم. لقد ضَخَّم لي هذا العقار أمر هذه الفضيحة، شعرت أن الصحف تتحدث عني، الإذاعة تُذيع نشرات الأخبار مصحوبة بالموسيقى الجاز على إدماني وعلاجي، التليفزيون يقدِّم مسلسلا عن الطبيب الذي أدمن عقار الهلوسة. صورتي على أغلفة المجلات، وباعة الصحف في العالم العربي ينادون على شراء قصة إدمان. إذن.. لماذا اخترت الحل الأول؟.. لماذا لم أُطلِّق زوجتي وأستريح؟ لا أنكر حتى هذه اللحظة أنني أحبها، وأرفض طلاقها. فما هو الحل؟ وجاء عقار الهلوسة بالحل، أن تُدمن زوجتي مثلما أُدمن، ولكن السائل شحيح عندي، لا يكفي لي ولها، وهذا النوع غير متوافر أو موجود، وهناك أنواع أخرى، إذن.. تُدمن هيروين. عرفت أماكن بيع الهيروين، واشتريت كمية منه، ودفعني الشيطان أن أضع هذا المسحوق لزوجتي في الشاي، في الطعام، في أنفها وهي نائمة. كان الشيطان الكامن في عقار الهلوسة هو الذي يدفعني إلى ذلك، حتى إنني فكرت أن أضع لطفلي قليلا من المسحوق في غذائه. وذات يوم.. قالت زوجتي إنها تشعر بآلام في رأسها، وفي كل مفاصلها، فقلت لها: عندي الحل، قالت: ما هو؟، قلت: مسحوق أبيض من الأسبرين "كالنشوق" سيعيد النشاط إليك. أعطيتها جرعة من الهيروين، فأخذتها بنهم، وشمتها، وشعرت براحة وكسل. وفي اليوم التالي، جاءتها نفس الأعراض في الصباح، فاقترحت عليها إذابة المسحوق في ماء وأخذه كحقنة في الوريد. وصاحت زوجتي.. حولتني إلى مدمنة.. وضحكت كثيرا، لقد نجحت خطتي، ورويت لها كيف نجحت في تحويلها إلى مدمنة هيروين، واقترحت عليها أن نأخذ الهيروين معا بعد ذلك. خرجت زوجتي غاضبة، لم أسألها سؤالا واحدا وهي في طريقها إلى الباب، وفي يديها طفلنا. ضحكت – فقط – بينما هي تنظر إليَّ بقرف واحتقار. ودخلت إلى غرفة نومي لأحقن نفسي بسائل الهلوسة، ثم دق جرس الباب، وفتحت باب الشقة، ودخل ضباط وعدة جنود، وامسكوا بي، وبعثروا محتويات الشقة، وعثروا على بقايا سائل الهلوسة، وكمية ضئيلة من بودرة الهيروين، ووضعوا في يدي القيد الحديدي، وأخذوني معهم. علمت بعد ذلك أن أسرة زوجتي هي التي أبلغت عني الشرطة، عندما علمت بالجريمة التي ارتكبتها في حق زوجتي، فإنَّ وكيل النائب العام قد سألني عن الأسباب التي دفعتني إلى دس الهيروين لزوجتي في السوائل والطعام، ولم أعرف ما أجيب به عليه. بعد التحقيق، وبعد وصول تقرير المعمل الجنائي، الذي أكد أنَّ ما عثر عليه الجنود هو مواد مخدرة، قُدِّمتُ إلى المحكمة التي قضت بحبسي هذه المدة. اليوم.. بعد حديث إمام مسجد السجن، اليوم.. فقط، قررت الإقلاع عن كل المخدرات، وقررت الإقلاع عن فكرة الهروب، وقررت أن أقضي مدة العقوبة متنقلا بين مكتبة السجن وبين مسجد السجن. ادعوا الله أن يساعدني على الخروج من جريمة الطبيب الإسرائيلي، ادعوا الله أن يغفر لي ما قدمته، وما اقترفته في حق زوجتي، وفي حق نفسي، قولوا لزوجتي الفاضلة إنني سأبقى طوال العمر مدينا لها، شاعرا بالذنب، ادعوا الله لي في كل صلاة أن يغفر لي. وأخيرا.. هذه قصة من داخل أسوار السجون.. الرجل بطل هذه القصة يطلب من كل الشباب المسلم أن يقرأها بإمعان، وأن يقرأ ما بين سطورها حتى لا يسقط في الكمين، وإذا سقط فعليه أن يسرع بطلب طوق النجاة، قبل أن يغرق، وتقذف به الأمواج إلى القبر.



معليش القصة طويلة شوي بس رجاء قرأتها بتمعن لأن فيها عبر كثيرة
الله يكفيكم شر المخدرات والمصائب .


منقول طبعا-للعبرة